Skip to main content

Full text of "دور المثقف في التحولات التاريخية"

See other formats


دور 1 مث هه ه 
في التحولات التاريخية 





5 0 رك‎ & æ 
ي المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات‎ = à Il 
Arab Center For Research € Policy Studies ru 


دور المثقف 
في التحولات التاريخية 


دور المثقف 


في التحولات التاريخية 


علي الصالح مولى 
فريدريك معتوق 
صسراهد ديائني 
المتجي السريباجي 
ندیم متصوري 
التلور حمطد 
يوسف الشويري 


| المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات 
Arab Center for Research € Policy Studies‏ 


حيدر سعيد 
خالد العسري 
سحيد أقيور 
سعيد بنسعيد العلوي 
شمسى الدين الكيلاني 
عبد اللطيف المتدين 
عيد الوهاب الأفندي 


إعداد وتنسيق 
مراد دياني 


إبراهيم القادري بوتشيش 


مفللح 
الكنبوري 
جبرون 
حميش 
الجموسي 
ضطارق 





الفهرسة في أثناء النشر - إعداد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 


دور المثقف في التحولات التاريخية/ إبراهيم القادري بوتشيش... [وآخ.]؛ إعداد وتنسيق مراددياني. 

7 ص.: إيض.. جداول؟ 24 سم. 

يشتمل على إرجاعات ببليوغرافية وفهرس عام. 

ISBN 978-614-445-132-8 

1. المثقفون العرب - الجوانب السياسية. 2. الهوية - الجوانب الثقافية - البلدان العربية. 
3. الثقافة - الجوانب السياسية - البلدان العربية. 4. البلدان العربية - الحياة الفكرية. 5. الثقافة 
العربية. 6. الاجتماع السياسي» علم. 7. الثورات - البلدان العربية - تاريخ - القرن 21. 
8. المثقفون العرب - النشاط السياسي. أ. بوتشيش. إبراهيم القادري. ب. دياني» مراد. ج. المؤتمر 
السنوي للعلوم الاجتماعية والإنسانية (4: 2015: مراكش - المغرب). 
305.55209174927 

العنوان بالإنكليزية 
The Role of Intellectual‏ 
in Historical Transformations‏ 


by Multiple Authors 
الآراء الواردة في هذا الكتاب لا تعبّر بالضرورة عن‎ 
اتجاهات يتبناها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات‎ 


.ا 


الناشر 


المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات 
Arab Center for Research € Policy Studies‏ 





شارع الطرفة - منطقة 70 
وادي البنات - ص. ب: 10277 - الظعاين» قطر 
هاتف: 40356888 00974 

جادة الجنرال فؤاد شهاب شارع سليم تقلا بناية الصيفي 174 
ص. ب: 4965 11 رياض الصلح بيروت 2180 1107 لبنان 
هاتف: 8 991837 1 00961 قاكس: 1991839 00961 

beirutoffice@dohainstitute.org :, 5.9 =SJY1 2 

www.dohainstitute.org : iy الموقع الإلكتر‎ 


© حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز 
الطبعة الأولى 
بیروت» نیسان/ آبریل 2017 


قائمة الجداول والأشكال D on it‏ 
المساهمون OSA AR D LR Ada‏ 
تقديم: المثقّف والتحوّل التاريخي: مفكرًا وفاعلا لس A‏ 
كلمة الافتتاح: مقاربات نقدية للرائج عن المثقف ام 58 نشارة 33 


القسم الأول 
المثقف العربى وأدواره المتجددة 


جدلية التحوّلات 
الفصل الأول: عن المثقفين وتحولات الهيجمونيا Re‏ بنسالم حميش 43 
الفصل الثانى: المثقف والثورة والجدل الملتبس 
محاولة في التوصيف الثقافي لحدث الثورة seen‏ حسن طارق 67 
الفصل الثالث: دور المثقف العربي في التغييرات التاريخية 
المثقف والمجال الثقافي ERAS an‏ يوسف الشويري 105 


القسم الثاني 
المثقف في السياق العربي - الإسلامي 


الفصل الرابع: الحرية شعارًا ومفهومًا 
خطاب المثقفين العرب فى عصر النهضة ........ سعيد بنسعيد العلوي 127 


5 


الفصل الخامس: حول المثقف الإسلامي 


الوظيفة والمنهج والإشكالات ......................... عبد الوهاب الأفندي 151 
الفصل السادس: المثقف العربي وقضية الإصلاح الديني RS‏ النور حمد 187 
الفصل السابع: المثقف والسلطة غير الشرعية 

دور الفقهاء في دعم الاستبداد e‏ عبد اللطيف المتدين 217 


القسم الثالث 
المثقف العر بی و أدو اره المتحددة 
أسئلة الفكر والممارسة 


الفصل الثامن: هل من حاجة اليوم إلى مثقف هُوّوي؟ 
بحث في تراجع الأدوار التقليدية 


ونظر في البدائل ال ع جه ع ناوي قلي eat‏ 
الفصل التاسع: مثقفو الإنسيكلوبيديا الفرنسية 
ومثقف دائرة المعارف العربية لوقعو نعم د sn‏ فريدريك معتوق 283 
الفصل العاشر: المثقفون العرب والتغيير المجتمعي 
أي قراءة ودور... واستشراف؟ وو عد اميت أحمد مقلع 305 
القسم الرابع 
المثقف والثورات العربية 


أسئلة الهوية والوظائف المفتقدة 


الفصل الحادي عشر: المثقف العربى وإشكال الحرية والهوية 

زمن الموجة الأولى من الربيع العربي ..........................خالد العسري 341 
الفصل الثاني عشر: المثقف العربي وأزمة الهوية 

دراسة فى توتر علاقة المثقف الحداثى 

بالربيع العربي ا يرول 371 


الفصل الثالث عشر: المثقف العربى والوظائف المفتقدة 


في ثورات الربيع العربي لوق ال سعيد أقيور 397 
الفصل الرابع عشر: المثقف العربي 

من محنة الاستتباع إلى سؤال الدور 

فی زمن التحول ES ES aS‏ إدريس الكنبوري 423 


المثقف العربى وأدواره المتجددة 


قضايا وتجارب 
الفصل الخامس عشر: مولد المثقف اللادولتي - 
حالة العراق EE st ant ete der tee Ent Te‏ حيذر سعيد 457 
الفصل السادس عشر دور المثقف فى الثورة السورية 
بين شهيد ومتفكر و abo OTOL env e‏ شمس الدين الكيلانى 473 
ما الذي يجوز لنا أن نأمل؟ ....... المتچى السرباجى 505 
السادس 


أدوار المثقف العربي في العصر الرقمي والشبكي 
الفصل الثامن عشر: عن دور المثقف الشبكي في عصر المعلومات 


ملاحظات وآفاق ses benne messes‏ 537 
الفصل التاسع عشر: المثقف النمطي والمثقف الناشئ 
في العالم السيبراني مم مود سا8 ب تعويعر التحموسي :567 


الفصل العشرون: سؤال تجديد أدوار المثقف في ضوء تحولات الربيع العربي 
دور التواصل الشبكي والميداني 


كخيار استراتيجي RS es‏ إبراهيم القادري بوتشيش 601 
فهرس عام ال 1 ا rene se‏ ا ا ا ا ا OIA‏ 


قائمة الجداول والأشكال 


الجداول 
(1-10): تعريف التغيير المجتمعي عند المثقفين العرب EE‏ 
(2-10): قوى التغيير المجتمعي وعوامله عند المثقفين العرب 32 
(3-10): بلدان المثقفين العرب الذين كتبوا 

عن التغيير المجتمعي ونسبتهم aR‏ 
(4-10): استشراف المثقفين العرب SI SSE‏ 
(1-11): أسباب تفسير معارضة تنحي بشار الأسد e E‏ 
الأشكال 
(1-7): عناصر الخروج على الحاكم a ae‏ 242 


)1-11(: المستجييون المؤيدون والمعارضون 
لعبارة من الأفضل لسورية اليوم 
أن يتنحى بشار الأسد عن السلطة6 لاس ا ا JO‏ 


المساهمون 


إبراهيم القادري بوتشيش 

أستاذ التاريخ والحضارة في جامعة مولاي إسماعيل/ مكناس. رئيس وحدة 
الببحث والتكوين في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للغرب الإسلامي في 
الجامعة نفسها. أستاذ زائر فى بعض الجامعات العربية والأجنبية. صدر له عدد 
من الكتب والبحوث المحكمة. 


مدير شؤون التحرير في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 
(بيروت). حاصل على دبلوم دراسات عليا في التاريخ الحديث والمعاصرء وعلى 
شهادة الدكتوراه في علم اجتماع المعرفة والثقافة. 
إدريس الكنبوري 


كاتب وباحث في الفكر الإسلامي والحركات الإسلامية. حاصل على 
الماجستير فى العقائد والديانات من جامعة محمد الخامس/ الرباط» يعد أطروحة 


دكتوراه فى الحقل نفسه. فى الجامعة نفسها. له عدد من البحوث والدراسات 
المنشورة. 
امحمد جبرون 

أستاذ باحث يُعنى بقضايا التاريخ والفكر السياسي الإسلامي. له عدد من 


11 


الإصدارات والدراسات» آخرها مفهوم الدولة الإسلامية :أزمة الأسس وحتمية 
الحدائة الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات )2014(« ومع 
الإصلاحية العربية فى تمحلاتها (2015). 


بنسالم حميش 

كاتب وأديب ووزير الثقافة المغربي الأسبق. عضو في جمعيات ومؤسسات 
عربية وأوروبية عدة. حاصل على عدد من الجوائز الأدبية على المستوى العربى. 
حاصل على شهادات عليا من جامعتّي الرباط وباريس. 


جوهر الجموسي 

أستاذ التعليم العالي في علم الاجتماع في المعهد العالي لفنون الملتيميديا 
في جامعة منوبة» ورئيس الجمعية التونسية لقانون الإنترنت والملتيميديا. حاصل 
على شهادة الدكتوراه وشهادة التأهيل الجامعي في علم الاجتماع. 


حسن طارق 

أستاذ جامعي في القانون العام والعلوم السياسية في جامعة الحسن الأول/ 
سطات. نائب برلماني وعضو لجنة العدل والتشريع في مجلس النوّاب المغربي. 
مجال القانون الدستوري والعلوم السياسية والسياسات العمومية. 


حيدر سعيد 


باحث وكاتب عراقي. يعمل مستشارًا للمركز العراقي للدراسات الاستراتيجية 
في الآر دن. حاصل على شهادة الدكتوراه في اللسانيات من الجامعة المستنصرية 
في بغداد في عام 2001 . له عدد من البحوث والدراسات. منها: سياسة الرمز: 
عن نهاية ثقافة الدولة الوطنية في العراق (2009). 


12 


خالد العسرى 
الماجستير في القانون العام» ويعدٌ حاليًا رسالة الدكتوراه في القانون الدستوري. 
نشر له عدد من الدراسات. وشارك فى ندوات وطنية ودولية. 
سعيد أقيور 

باحث مهتم بقضايا الفكر والفلسفة. حاصل على الماجستير في أصول 
الدين» وعلى الدكتوراه في تاريخ الأديان والحضارات الشرقية. شارك في ندوات 


وطنية ودولية. ونشر عدد من المقالات. صدر له كتاب بعنوان محاضرات فى 
الفكر والفلسفة. 


أستاذ الفكر السياسي الإسلامي والغربي. عضو اتحاد كتّاب المغرب 
وجمعيات أخرى مغربية ودولية. حاصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة من 
جامعة محمد الخامس في عام 1989. له عدد من الكتب المنشورة. 


باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدد من الدراسات 
الثقافية والسياسية» منها صورة أوروبا عند العرب في العصر الوسيط؟» واصورة 
الشعوب السوداء فى الثقافة العربية» صورة شعوب الشرق الأقصى فى الثقافة 


العربية. 
عبد اللطيف المتدين 


أستاذ القانون العام والعلوم السياسية في جامعة مولاي إسماعيل/ مكناس. 
حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة لافال في كندا. 


13 


عبد الوهاب الأفندى 

باحث سودانى وأستاذ مشارك في العلوم السياسية في مركز دراسات 
الديمقراطية في جامعة وستمنستر في لندن. وهو زميل باحث في برنامج المتغيرات 
الدولية لمراكز البحوث البريطانية. حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية 
من جامعة ريدينغ في بريطانيا. 


1 
الغا دس في كلية الآداب والعلوم الامسانية - صفاقس. sn‏ 
الكتب والدراسات فى مجلات محكمة. 


فريدريك معتوق 

أستاذ متقاعد ومشرف على أطروحات دكتوراه في معهد العلوم الاجتماعية 
في الجامعة اللبنانية. له عدد من الكتب في مجال سوسيولوجيا المعرفة والتراث 
والثقافة في لبنان والعالم العربي؛ إضافة إلى موسوعة وقاموس في علم الاجتماع. 


مراد ديانى 

باحث مشارك في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. حاصل 
على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة ستراسبورغ. يشتغل في مجالات 
الاقتصاد السياسى للمعرفة ونظريات العدالة والديمقراطية والنظريات الارتقائية. 
صدر له عن المركز العربي كتاب حرية» مساواة اندماج اجتماعي: نظرية العدالة 
في النموذج الليبرالي المُستدام. 


المنجي السرباجي 

باحث في مجال الفلسفة السياسية وفلسفة القانون. حاصل على الدكتوراه 
في الفلسفة من جامعة تونس عن أطروحة بعنوان «النموذج الإجرائي للحقٌ عند 
هبرماس». تنصبٌ اهتماماته على قضايا مسائل حقوق الإنسان والعدالة الكونية. 


14 


نديم منصوري 

أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية» ومسؤول المؤتمرات والندوات 
في المجلس النيابي اللبناني. له عدد من المؤلفات والمقالات العلمية المنشورة» 
ولا سيّما في مجال سوسيولوجيا الاتصال؛ آخرها كتاب سوسيولوجيا الإنترنت 
(2014). 


النور حمد 


باحث سوداني في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» ومشرف 
ومدير تحرير مجلة سياسات عربية التي يصدرها المركز. درس في جامعات شرق 
واشنطن ومانسفيلد في الولايات المتحدة الأميركيّة» وعمل رئيسًا لقسم التربية 
الفنية في جامعة قطر. وهو ناشط ثقافي» له عدد من البحوث والدراسات المنشورة. 
أستاذ مشارك في الدراسات الإسلامية في جامعة مانشستر بريطانيا. حصل 
على شهادة الدكتوراه من جامعة كامبردج في بريطانيا. تدور اهتماماته البحثية حول 


التاريخ العربي الحديث والكتابة التاريخية وقضايا الإسلام السياسي والعروبة. 
صدر له عدد من الدراسات والكتب. 


15 


تقديم 


المثقّف والتحول التاريخي: مفكرًا وفاعلا 


مراد دياني 


لم يفتأ المثقف يثير عددًا من الأسئلة في شأن معناه ومحدّداته ووظيفته في 
مجتمعه. ولا سيّما في مرحلة تحوّلات هذا المجتمع؛ مثل التحوّلات الجارية 
اليوم في البلدان العربية على قدم وساقء بوتائر وسيرورات مختلفة» وباحتمالات 
وصيرورات متنوعة. إنها مرحلة تحوّل تاريخي كلي جديدة بكل ما تكتسيه الكلمة 
من معان» وإن كانت لا تزال في أطوار انتقالية» ولم تستقرٌ مآلاتها بعدٌ. ما هو أكيد 
في مرحلة التحوّل التاريخية هذه أن دور المثقف كان - ولا يزال - مركزيّاء وفي 
الآن ذاته ملتبسًا وغير واضح تمامّاء ولا سيّما لجهة أن ليس ثمّة من مفهوم واضح 

لعل من المجدي أن نبدأ من هذا المدخل؛ أي من مدخل التأصيل اللغوي 
لمفهوم «المثقف» بغرض تقريب اكتناه جوهره وأبعاده وحدوده ومهماته» 
والإمساك بتلابيبه بهدف توظيفه التحليلي؛ فشأنه شأن كل مصطلح ils‏ 
بحمولاته المضمّنة لا بلفظه» صاحبت المفهوم إشكالات البيئة حيث نبت» ومنها 
كثرة تعريفاته. 

يدل جذر المفهوم «ثقف» على معان عدة» أهمها الحذق والفهم. وفي 
لسان العرب «ثقف الرجل ثقافة» أي صار حاذقًا ضابطًا... لما يحويه قائمًا به. 


17 


ا ل ا 
ب ووردت مادة «ثقف» في القرآن الكريم «SRE a pa) BU de‏ 

ثُقفواء تَنْقَْنّهم) جاءت دائمًا بمعنى الإحاطة بالشيء والغلبة عليه حسًا - وهو 
mue‏ - من دون الإحاطة بالشيء فهمًا وإدراكاء وهو فرع من الأول تشبيهًا 
للمعقول بالمحسوس توسّعًا وتجوّرًا. 


أما المعنى الاصطلاحيء فاستعمل بمفهوم التأديب والتهذيب؛ إذ جاء في 
أساس البلاغة للزمخشري: «ومن المجاز: أدْبّهِ وتَقّمّه. ولولا تثقيفك وتوقيفك لما 
كنت شيئًا. وهل تهذبتٌ وتثقّفتٌ إلا على يدك»©. وذهب حسين ياغي ومحمد 
غضية إلى أن هذا الاستعمال المجازي لكلمة الثقافة ظهر أول مرة في القرن التاسع 
الميلادي”؛ حين ورد في رسائل الجاحظ: اليس À‏ لصاحب الحرب من الحلم» 
والعلم» والحزم والعزم» والصبر والكتمان» ومن الثقافة وقلة الغفلة ...». و وهو 
بذلك يفيد العلم بأمور ذهنية وعملية» والحذاقة والإتقان فيها؛ وهذا المعنى يقرّينا 
كثيرًا من المعنى المعاصر الذي تُستخدم فيه مفاهيم المثقف والثقافة. 


تبلور مفهوم «المثقف» الحديث مع نهاية القرن التاسع عشرء كمرادف 
للمفهوم الفرنسي اعداءهااءاه1 الذي نشأ مع «قضية دريفوس» في عام 1898 
(وهي القضية التي يعود إليها عدد من الباحثين في هذا الكتاب)؛ وإذ جرى في 
البداية استخدام مفهوم «المثقف» بدلالات قدحية على يد الشعبويين المعادين 
لدريفوس (المثقف بوصفه لاجمًا إلى التجريد؛ ومنقطعًا عن الواقع» وخائضًا في 
موضوعات لا يعرفها جيدًا)» فسرعان ما أصبح المفهوم يُستخدم بشكل إيجابي 
للإشارة إلى شخص يشارك على نحو فاعل في الشأن العام للدفاع عن القيّم. 


(1) «ثقف»» لسان العرب. كوم في: bttpAbitly/ATLgHcL.‏ 

(2) أبو القاسم جار الله محمود ين عمر الزمخشري» أساس البلاغةء تحقيق محمد باسل عيون الود 
(بيروت: دار الكتب العلميةء 1998)ء كتاب الثاء» ص 110. 

(3) حسين ياغى ومحمد غضية: (الثقافة من منظور تاريخى»» المجلة الثقافية العدد 85 (2014)» 
ص 98. 1 ١‏ 

(4) أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظء رسائل الجاحظء تقديم وشرح علي أبو ملحم» 3 ج (بيروت: 
دار ومكتبة الهلال» 2002).» الرسائل السياسية؛ رسالة مناقب التركء ص 511. 


18 


المثقّف الحديث هو إذًا إميل زولا وأوكتاف ميرابو وهما يدافعان عن النقيب 
دريفوس؛ وهو رودولف كليفرنخا الذي يُدين الممارسات النازية من قلب جامعة 
لايدن؛ وهو جون بول سارتر الذي يشجب التعذيب في الجزائر المستعمّرة؛ وهو 
برتراند راسل الذي ينافح عن السلمية في وجه التسلح النووي وحرب فيتنام؟ وهو 
أندريه ساخاروف الذي يدافع عن حقوق الإنسان والحريات المدنية في العهد 
السوفياتي؛ وهو نوام تشومسكي الذي ينتقد بشدة السياسة الخارجية الأميركية؛ 
وهو إدوارد سعيد الذي يحمل لواء الدفاع عن القضية الفلسطينية. 


بيد أن الشروط الذاتية» من جهة «ذات» المثقف وموقفه من قضية عادلة 
أو وضع جائر» لا تكفي لتعريف المفكر أو الفاعل بوصفه مثققًا؛ فهذه الشروط 
الذاتية اجتمعت مثْلًا في حالة الفيلسوف فولتير الذي أدَى دورًا مماثلا في «قضية 
کالاس»» وهي قضية خطأ قضائي جرت في عامي 1 17629 في تولوزء 
جنوب فرنساء على خلفية الصراع الديني بين البروتستانت والكاثوليك. فعلى 
الرغم من أن فولتير تبنى هذه القضية bre‏ واضحًا على الاضطهاد 
الديني» ونشر عنها كتابه رسالة في التسامح في عام 1763» في إثر صدور الحكم 
الجائر على جون كالاس البروتستانتي بتهمة قتله ابنه الذي زُعم أنه كان يرغب 
في اعتناق الكاثوليكية» ومن ثمّ تعذيبه وإعدامه وحرقه؛ فإنه سيكون من الصعب 
وضع فولتير في منزلة المثقف الحديث. في الواقع» لم تكن الشروط الموضوعية 
تسمح بميلاد المثقف الحديث؛ إذ لم يوجد حينئذ «رأي عام“ كما نفهمه اليوم» 
ولا درجة حرية التعبير وفهمها أنفسهماء ولا المنظومة نفسها للحريات العامة 
والحقوق والواجبات للسلطة وللأفراد في آن. 

إجمالاء ثمّة ثمّة اتجاهان في النظر إلى الثقافة وإلى المثقف؛ ينظر أحدهما إلى 
الثقافة على أنها تتكوّن من القيم والمعتقدات والمعايبر والرموز والأيديولوجيات» 
وما شاكلها من المنتوجات العقلية. أما الاتجاه الآخرء فيريط الثقافة بمنظومة 
العلاقات القائمة ونمط الحياة الكلي لمجتمع معيّن» وكذلك العلاقات التي 
تربط بين أفراد هذا المجتمع وتوجهات هؤلاء الأفراد في حياتهم. وحين نأتي 
إلى ربط هذين المنظورين بالمثقف ودوره في التحوّلات التاريخية» فهل ينبغي لنا 


19 


ترجيح تعريف المثقف وضعيًا أنه كل من يمتلك معرفة تخصصية مؤمّلة علميّاء 
مثل المهندسين والتقنيين والأطباء والمحامين والفنانين والكتّاب والباحثين؟ أم 
أنه مفهوم معياري يرتبط محدّده الأساسي بأداء الوظيفة النقدية» وتغيير منظومة 
العلاقات السائدة باتجاه علاقات جديدة؟ وليس هذا الجدل في شأن مفهوم المثتقف 
وأنماطه وأدواره منحصرًا بالمجال العربي» بل يخص المجتمعات الحديثة كلها؛ 
Den‏ يرتبط في جوهره بوظيفة المثقف ومسؤوليته» وطبيعة رؤاه وأفكاره؛ 
أي عما يميّز المثقّف من سائر الفاعلين الاجتماعيين؟ وهل يمكن أو يجوز له 
أن يدير ظهره للتحوّلات التي as‏ بها مجتمعه؛ أو يحسم فيها مصيره التاريخي؟ 
وكانت المجتمعات العربية المعاصرة قد شهدت بعض أنواع هذا الجدل بصيغ 
وأشكال مختلفة» غطت معظم فضاءاتها منذ الإرهاصات النهضوية التنويرية في 
عصر النهضة العربية وحتى اليوم. وعّرت عن تصورات المثقف المسؤول عما 
يجري في مجتمعه؛ واستحداث مجال عام يرتبط بقيم التغيير والحداثة. وارتفعت 
وتيرة هذا الجدل واشتدّت مع تشكل أنماط من مثقفين إصلاحيين وراديكاليين 
قوميين ويساريين وإسلاميين وليبيراليين وديمقراطيين منتجين للأفكار ومفكرين 
بوساطتها بتغيير المجتمع» وزجه في لجة عملية التغيير التاريخي» من خلال 
ممارسة هذه الأفكار ومحاولة تجسيدها فى أشكال العمل الجماعى الحركى أو 
الحزبي أو الأهلي» أو تشكيل الاتجاهات والتيار ات. ١‏ 1 

في سياق التوتر بين المثال الذي ينطلق منه المثقف أو يرومه بوصفه منتجًا 
للرؤى والمعاني والغايات من جهةء والواقع المحقّق من جهة أخرى؛ أي بين 
الأفكار والرؤى الارتقائية من جهة» والواقع المحبط من ge‏ ثانية» أثير عدد 
من الأسئلة عن العلاقة بين المثقف والمعنى في خضم التحولات الاجتماعية؛ 
وعن العلاقة بين إنتاج المثقف العربي الحديث لمعنى التغيير والأيديولوجيات 
التاريخانية» وطرح مشكلات المثقف التبشيري أو الرسولي ومحنهء وإعادة النظر 
في العلاقة بينه وبين منظومة السلطات السائدة. 

تعدّدت مقاريات هذه الأسئلة؛ فعلى خلفية الإحباطات المتكررة والتجارب 
المرة السالفة» طرح بعضهم مفهوم «تجسير الفجوة» بين المثقف» و«السلطة», 


20 


كما طرح آخرون مفهوم «نهاية المثقف». وشهدت مرحلة السيادة النيوليبرالية» 
فى العقود الأخيرة» تغييرات كا في مفهوم المثقف النقدي الحديث على 
Eye alls all agé‏ ت على مستوى دور المثقف في تحوّل طائفة 
واسعة من المثقفين العرب المشبعين بمناهج الثقافة الحديثة وقيّمها إلى نوع من 
أنواع المثقف الخبير الذي ما عاد يرتبط بمخرجات التفكير العلمي بالنسبة إلى 
التغيّر الاجتماعى بقدر ما أضحى يرتبط بمخرجاته فى خدمة الأسواق والشركات 
وعروض برامج السلطات وسياساتها التنموية الاجتماعية السياسية» حتى اندلعت 
شرارات عملية التغيير الاجتماعي الكبرى الجارية في الوطن العربي اليوم؛ وهي 
مرحلة تحوّل تاريخي في تنميط يمكن قبوله بشكل مشروط في مرحلة التحول 
الاجتماعية الثالثة الكبرى في الوطن العربي. وجاءت هذه المرحلة بعد المرحلة 
الأولى التي حدثت في عقب الحرب العالمية الأولى والتحوّل من العثمانية إلى 
نظام الدولء ثم المرحلة الثانية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية واتسمت بحركة 
تفكيك الاستعمار وأنماط الانتداب نصف - الاستعمارية وولادة الدول العربية 
المستقلة. أما في المرحلة الثالثة من التغيّر الاجتماعي الكبير» فتواجه المجتمعات 
العربية إشكالات تاريخنا الجديد بشكل عنيف» بمآزقه السياسية والثقافية 
والتواصلية المختلفة» وتثار الأسئلة عن المواطنة والاندماج الاجتماعي والتنمية 
والمشاركة المجتمعية والحرية والديمقراطية» بشكل غير مسبوق من ناحية حدة 
الأسئلة ونوعيتهاء وحدوث صراع حاد في شأن مضامينها. 
تُعيد مرحلة التغيير الجارية اليوم من جديد. إِذَاء إثارة السؤال المتعلّق بأدوار 
المثقفين العرب في تاريخهم» وشروط هذه العملية وإمكاناتها واحتمالاتها 
التاريخية؛ من أجل معرفة واقع أدوارهم الجديدة في مجتمعات تتغيّر» ومجابهة 
إشكالات الراهن العربي» ومحاولة استكشاف آفاقه. 
من ثم يروم هذا الكتاب تناول عدد من الأسئلة والإشكالات الأساسية» 
ss, 155‏ » ته المثقف ودوره في التحوّلات التاريخيةء مثل: أنماط المثقف 
العربي الحديث والمثقف والتاريخ والتاريخانية والمثقفون العرب والتحؤلاات 
الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية والرمزية والسيموتيقية 


21 


الجارية في المرحلة الراهنة من عملية التغيّر الاجتماعي في الوطن العربي والعالم» 
وعلاقة المثقف بالخبير والباحث وأدواره وأخلاقياته وأسئلة التاريخ ذات الصّلة 
وتحوّل المثقف العربي في زمن العولمة والتنميط الثقافي والإشكالية الأبدية 
له المثقف بالسلطة وتصوّراته ومواقفه وتقاطعاته معهاء وعلاقة المثقف 
العربي بالتجمهوز والثورة والتضال تمن أجل cb an‏ فصلا عن اة كثيرة 
يطرحها بروز المثقف الشبكي وتحؤّلات القيّم والمعنى في عالم متغير. 
يأتي هذا الكتاب ليعالج هذه القضايا والإشكالات على نحو متكامل؛ 
ويستهله عزمي بشارة بكلمة افتتاح يعرض فيها التصورات الرائجة عن المثقف. 
ولا سيّما في التمييز بينه وبين الخبير والمتعلم» حيث يتحايث مفهوم المثقف 
مع الموقف المعياري في المجال العام بالضرورة. ويميّز بشارة في هذا الصَدد 
المثقف من سلفه الديني؟ وهو النمط النقدي من علماء الدين الذي أسس له تقليد 
يقوم على اجتماع المعارف والسلطة الأخلاقيةء ويميّزه من مصطلح الفلاسفة 
الذي استخدمته الكنيسة في وصف مفكري التنوير في القرن الثامن عشر. كما 
يعرض بنظرة نقدية التبلور التاريخي لظاهرة المثقف. مع «الإنتليجنسياة الروسية 
و«الإنتيلكتويل» الفرنسي والأكاديمي المتخصصٌ والمثقف العضوي الغرامشي 
والمثقف النقدي والمثقفين المغتربين والمنفيين داخليًا أو خارجيًا؛ ليخلص إلى 
تمثل المثقف بوصفه من يستخدم المكانة الناجمة عن العمل في المعرفة لاتخاذ 
موقف يؤثر في المجال العام» وهو في الدولة الحديثة مجال سياسي قبل كل شيء؛ 
رابطا إياه بالمرحلة التاريخيّة المفصلية التي تعيشها البلدان والشعوب العربية 
اليوم. 
يتطرق القسم الأول من الكتاب إلى المثقّف العربي وأدواره المتجدّدة 
ليطرح جدلية المثقّف والتحوّلاات» بدءا من تحؤّلات ما يسميه بنسالم حمّيش 
«الهيجمونيا»؛ أي أنظمة «الاستبداد» و بالمفهوم الخلدوني» سواءٌ 
الاستعمارية الجلية منها أم اللينة المخاتلة؛ وإذ يرصد حمّيش طبائع «الهيجمونيا» 
ووظائفها المتحوّلة» وإرادة الهيمنة والقوة الكامنة خلفهاء فإنه يعرض نماذج 
مثقفين وقفوا في وجه أنظمة «الهيجمونيا»؛ مثل فرانز فانون وألبير كامو وإدوارد 
سعيد وإيمانويل تودء ليخلص إلى أن من واجب المثقفين ذوي الإرادات 


22 


الحسنةء بوصفهم نقاد العالم وبناة حداثة فاعلة منفتحة تقلّدوا مهمة رصد أنواع 
الاخحتلالات والخروقات كلها ومناهضتها حيثما وجدت» وذلك بقصد المساهمة 
في التحقيق التدريجي لثقافة السلام الحق التي بمقتضاها تؤسس العلاقات الدولية 
ليس على توازن الرعبء كما كان الشأن إبَان الحرب الباردة» بل على المساواة 
والنذية وتلبية حقوق الشعوب فى الحرية والسيادة» وكذلك على التشاركيات 
البناءة والهويات المحرّرة والمبدعة للقيم الرافعة الإيجابية. أما حسن طارق» 
فيقف عند التوصيف الثقافي لحدث الثورة الذي جعل المثمّف يعيد صوغ الأسئلة 
الأساسية المتعلّقة بالحرية والعدالة والكرامة والدولة والديمقراطية والدين؛ وإذ 
ينطلق طارق من رصد أثر الأيديولوجيا السائدة» والأفكار ومنظومات القيم» في 
حدث الثورة» مفترضًا قابلية الثورات العربية للقراءة الثقافية» فإنه يخلص إلى 
التوصيف الثقافي لحدث الثورة من موشور ثنائية الأيديولوجيا والديمقراطية» أو 
الهوية والمواطنة» الذي يؤسّس لأسئلة الفكر العربي المستجدّة. ولا يفوته ربط 
هذا الموشور ب «درس العروي»؛ بمعنى الحاجة المستمرة والضرورية إلى الثورة 
الثقافية» والحاجة الملحة إلى استئناف أسثلة الإصلاح الثقافي والفكري ضمن 
المعركة الكبرى لاستنبات قيم الحداثة وروح العصرء الأمر الذي يطرح مقاربة 
جديدة للمسألة الثقافية تنقل التفكير من هواجس الهوية إلى آفاق الحرية» لننتقل 
معها من حالة المثقف الهوياتي إلى وضعية المثقف الديمقراطي. ويختم يوسف 
الشويري هذا القسم بإعادة تبيئة الفعل الثقافي ضمن شبكة العلاقات الاجتماعية 
المعقّدة والمتحركة التي يطبعها التنافس. ومن ثم» تنتظم الحياة الثقافية» بحسب 
الشويري» وفقًا لمرامات الحفاظ على البقاء أو التغيير نحو الأفضل؛ مانحة 
الظاهرة الاجتماعية معنى محددّاء وفق أشكال متعددة» كتابة ورسمًا وتصويرًا 
سينمائيًا ونحمًا أو موسيقى. ويبرز الدور الجديد الذي يضطلع به المثقف» بفئاته 
وأصنافه كلهاء في خضم الربيع العربي» وهو يحركه التنافس على استحواذ رأسمال 
رمزي لإعادة استثماره فى نطاقه الاجتماعي. للتأثير الفاعل فى مجريات تطورات 
الديمقراطية ومآلاتها؛ ذلك أن مساهمة المثقف العربى ينبغى» وفقًا للشويري» 
أن تنبع من داخخل المعاناة العربية وكتعبير عن التزام معنوي وأدبي ومحاولة جادة 
لالتقاط ملمح من ملامح الواقع والانتقال به إلى العالم الثقافي» فلا يبقى كما هو 
بل يُضفي عليه معنى خاصًا. 


23 


ينقلنا القسم الثاني إلى دور المثقف في السياق العربي الإسلاميء بدءًا من سعيد 
بنسعيد العلوي الذي ينكب على دراسة خطاب المثقفين العرب في عصر النهضة؛ 
من رجل الدولة الذي يملك التأثير المباشر في الحوادث» إلى المثقف العالِم أو 
المتنوّر القريب من أوساط اتخاذ القرار» أو المفكر الذي لم يكن بالضرورة على 
صلة مع دواليب الدولة. ويسلط الضوء على الناظم المشترك بينهم» وهو صدمة 
تقدم الغرب في مقابل تأخر بلدانهم» وعلى السمة الغالبة عليهم في عصر النهضة» 
وهي الانتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية؛ داعيًا إلى استحضار الفكر العربي في 
زماننا لدرس الفكر العربي في عصر النهضة» من جهة قدرته على المساءلة وقبول 
الاختلاف غير المخالف في الفكر والعقيدة. ويقف العلوي عند دلالات «الحرية 
في خطاب أولئك المثقفين» وإلى الدلالة التي يتخذها لفظ الحرية الدينية عندهم» 
الأمر الذي يتطلب مراجعة الفهم السائد في المجال الثقافي العربي الإسلامي 
لمعنى «الردة» ودلالة «المرتد» وما يوجبه الأمر من مراجعة شاملة للنظر الفقهي. 
ويناقش عبد الوهاب الأفندي دور المثقف بوصفه بطلا وشخصية غير عادية في 
فهمها طبيعة الأشياء من خلال الإلهام» وإخلاصه للحقيقة» وقدرته على مخاطبة 
الآخرين بصورة مقنعةء وتفانيه في سبيل معتقده وفي خدمة الآخرين» وعدم تردده 
في التضحية لتحقيق الغايات العليا. ويخلص إلى مناقشة المثقف في السياق 
العربي الإسلامي؛ إذ يرى دور «المثقف الإسلامي» محوريًا وضروريًا في مرحلة 
الانتقال إلى الحداثة؛ أي في تجسير الهوة بين الماضي والحاضرء وبين الأقطاب 
المتنافرة على ساحات الفكر والسياسة. ويعالج النور حمد الإشكالية نفسها من 
منظور إهمال «المثقفية» العربية البُعد الديني» أو الروحاني» في مقارباتها النهضوية. 
وينطلق الباحث من أن عزلة كبيرة تفصل بين المثقف العربى» خصوصًا المثقف 
الحداثي؛ والدين» ما أحدث فجوة كبيرة بينه وبين الجمهور؛ وذلك بسبب انبتاته 
عن جذوره الحضارية» واعتماده نهج التغيير الفوقي الآتي من أعلى» المتعالي 
على القوى المتشكلة في الواقع» والمتجاهل لدينامياتها. وإذ يرى حمد أن هذا 
الفراغ الذي نشأً قد ملأه اللإسلاميون» فإنه لا يرى لهم مشروعًا إسلاميًا حقيقيًا. 
ومن ثم ينطلق الباحث لسبر أغوار شروط ميلاد رؤية تعيد للمثقف دوره الرسالي 
المفترضء في السياق العربي الإسلامي» بعد أن تعيده من غربته» لتردم الهوة 


24 


الفاصلة بينه وبين جمهوره؛ ولتعيده إلى أم القضايا: قضية الإصلاح الديني. أما 
عبد اللطيف المتدين» فيعرض لدور الفقيه - بوصفه أبرز المثقفين مكانة وأكثرهم 
حظوة وحضورًا في المجالات السياسية والاجتماعية في المجتمعات التي يشكل 
الدين فيها أهم عناصر الهوية - في تحديد مفهوم السلطة في الإسلام؛ أي في 
تحديد موقفهم من تداول السلطة وتولي الحكم بأساليب غير شرعية» وعلاقة 
ذلك بمفاهيم مثل الضرورة والمصلحة واتقاء الفتنة» وفي موقفه من إزاحة الحاكم 
عن منصبه لإخلاله ببنود الأمر المعقود له» أو لانتفاء الشرعية عنه» وتكون إزاحته 
بالتظاهر والاحتجاج أو بالثورة عليه» أو بأساليب أخرى. ويعرض الباحث لمواقف 
عدد من الفقهاء المعاصرين من الثورات العربية» إضافة إلى الماوردي والفرّاء في 
العصور القديمة» معتبرًا أن مركزية المعرفة الدينية داخل المجال السياسى العربى 
الإسلامي مكنت الفقهاء من احتلال مكانة كبيرة في الحياة السياسية» اضطلعوا 
من خلالها بدور مِفْصَلِي في إضفاء الشرعية على الحاكم أو نزعها عنه. لذا كان 
لبعض الفقهاء دور مهم في نقل التغلب من فعل غير شرعي إلى فعل مشروع إذا 
استجمع شروطا معينة» ثم إلى مُواضعة بغير شروط . وفي كثير من الأحيان كانت 
الرعية مستعدة لقبول المتغلب ومناصرته لرغبتها في الاستقرار أكثر من حاجتها 
إلى الشورى؛ فضلًا عمّا يقتضيه ذلك من المواجهة العسكرية مع مغتصبي السلطة. 
ليخلص الباحث إلى أن تفكيك مفهوم التغلب من شأنه أن يسمح بتفكيك البنيات 
التي عوّقت تقدّم الفكر السياسي في البلدان العربية الإسلامية إلى اليوم. 

يستأنف القسم الثالث من الكتاب أسئلة الأدوار المتجدّدة للمثقّف العربي» 
من جهة تجاذب الفكر والممارسة. يستهل علي الصالح مُولى هذه المساءلة 
بسؤال عن تراجع الأدوار التقليدية للمثقف. وتراجع الحاجة اليوم إلى «مثقّف 
هُوَوِي؛» لمصلحة بروز دور «الخبير؟ ف فى «مراكز الخبرة والتفكير»» بوصفه قادرا 
على ملء الفراغ الذي تركه المثّف التقليدي؛ حتى إنه أضحى ضرورة تاريخية 
اليو ماري اللتكبر قف LAS‏ المرب الكبري. ل 
والخبير تتجاوز في العمق وجود هذين الفاعلين وأداءيهما إلى سياق أوسع» وهو 
سياق توزيع الأدوار التاريخية بين الأمم المتحكمة بصوغ مسارات العالم. من 
هناء يرى الباحث أن أحكام إدانة المثقف لامعقولية تاريخية لها لانعدام مفاعيل 


25 


زمن القيمة» ما «مراكز الخبرة والتفكير» فهي ضرورة تاريخية تستمد شرعيتها من 
دخول العالم إلى أفق سيادي آخر هو أفق المصلحة. أما فريدريك معتوق» فيطرح 
سؤال أدوار المثقف العربي في سياق حركة النهضة العربية المماثلة للحركة التي 
حدثت في أوروباء وذلك بغية 5 تحريك الجسم العربي الغارق آنذاك في سّبات 
عثماني عميق alé‏ مكتوق إلى أنتخركة التهضة العربية * تعثّرت أمام التحولاات 
التاريخية التي عاشتهاء وإلى أن «مثة مثقف دائرة ة المعارف العربية» لم يفلح» »على غرار 
نظيره «مثقف الإنسيكلوبيديا الفرنسية»» في توليد التغيبر البنيوي المنشودء وذلك 
لأسباب ثقافية وسياسية واجتماعية عدة» من أهمها «الوضعَة الذهنية» للمثقف 
النهضوي حيال مشروعه الحضاري الكبير» التى غيّبت المتطلبات الأساسية 
للنهضة» الجماعية والمؤسّساتية» لفائدة مقاربة فردية وذاتية» قائمة على قاعدة 
النبوغ والعبقرية الخاصة. ومن ثم» يرى معتوق أن حركة النهضة العربية؛ حركة 
المثقفين العرب الكبرى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن 
العشرين؛ لم تفلح في التأسيس لعصر جديد على الرغم من رغبتها الصادقة في 
الانفتاح على العالم الخارجي؛ ذلك أنها اعتمدت على الموروث الذهني والثقافي 
القديم» بخطاب جديدء لكن من دون أفعال جديدة ومجددة. وينحو أحمد مفلح 
منحى وضعيًا لقراءة دور المثقفين العرب في التغيير المجتمعي ومدى قدرتهم 
على استشرافه» ولا سيما من جهة التنبؤ بثورات الربيع العربي؛ إذ يعمد الباحث 
إلى حصر البحوث والدراسات والمقالات المنشورة في مجلة المستقبل العربي 
التي لها علاقة مباشرة بالتغيير المجتمعي من خلال العناوين الرئيسة أو الفرعية» 
وذلك بين عامّي 1991و2010, أي تلك المساحة الزمنية الحافلة بالحوادث 
والزاخرة بالمحركات أو المعوقات والكوابح السوسيو- معرفية والسياسية 
والاقتصادية والفكرية الدافعة إلى التغيير المجتمعي (سليًا أو إيجابًا). ومن خلال 
الاعتماد على تقنية «تحليل المحتوى)» يستنتج مفلح أن قراءة المثقفين كانت 
د مشوّشة وغير واضحة لمعنى التغيير المجتمعي وعوامله وقواه» وأن دور المثقفين 
ا وليس معدومًاء وسبقتهم قوى المجتمع الشعبية وفجأتهم بثوراتها 
وربيعها العربي. أما بالنسبة إلى | ستشرافهم» فيرى الباحثء أنه وإن كان موجودّاء 
فإنه مشود ش ومغلّف بالتردّد وعدم الثقة. 


26 


يتناول اكاب في الق ai‏ ابن الهوية والوظائف المفتقدة للمثقف 
في خحضم الثورات العربية. ويبدأها خالد العسري بطرح سؤال «من : نحن؟21 وهو 
من الإشكالات المركزية التي تفاعل معها المثقف العربي وهو يسعى إلى تأهيل 
نفسه من جديد بعد أن أسقط الربيع العربي كثيرًا من منسوب ثقة الجمهور فيه. 
ومن ثمّ» يرى العسري أن المسؤولية تقع على عاتق المثقفين لإعادة صوغ بناءات 
فكرية تؤسّس لتوافقات فكرية في شأن قضايا ومفاهيم مشتركة» وأن الأولوية 
ينبغي أن تمنح لإحكام مقدمات بناء نظام ديمقراطي» ومجتمع يقبل التعدّد في 
آرائه وتوجهاته. قبولًا ذهنيًا ونفسيًا غايته تحقيق التسليم بنتائج الاختلاف من 
دون تهديد وحدة الأمة المواطنية أو كيان الدولة المو خد وتأجيل سؤال الهوية 
والقضايا الانقسامية في المجتمع إلى حين إنجاز ذلك. إن ذلك يعني وفقًا 
للباحث» ضرورة إعادة تقويم أداء المثقف إبّان هذه المرحلة وفق انتظارات الناس 
فيها وقضاياها الملحة. والتفكير بصوت جهير وجماعي لإعادة تحديد كثير من 
المفاهيم التي تمسّ حقل الاجتماع السياسي» ما يمكن أن يتوّج بصوغ ما ينعته 
ب «ميثاق المثقف العربي؛ الذي يؤسّس لأعراف الحوار ce‏ والانحياز للقيم؛ 
والعلو على الشعارات التسطيحية والسمو عن الوعي التجزيئي. وفي سياق سؤال 
الهوية نفسه» يرى امحمد جبرون أن الفتور في العلاقة بين مثقفي الحداثة العرب 
وثوران الشارع العربي ليس حدثا عرضيّاء بل هو وصف عام يمتدٌ إلى زمن بعيدء 
ويتصل بهوية المثقف في العالم العربي» وظهوره على مسرح التاريخ العربي 
الحديث والمعاصر. ويجنح الباحث إلى تفسير هذا التوثّر استنادًا إلى فرضية 
رئيسة» تفيد أن هذا التوتر يعود إلى أسباب عميقة وبنيوية» ترتبط بملابسات ظهور 
المثقف في السياق العربي النهضويء وهو المعبّر عنه في البحث ب «أزمة الهوية». 
ومن ثم لا يمكن تجاوز هذه الأزمة» وإعادة الروح لعلاقة المثقف بالجماهير 
من دون إصلاح « هذا العطب الهوياتي» وإعادة النظر في مفهوم المثقف العربي 
ورسالته» يما «Ka‏ من ممارسة سلطته الأدبية والأخلاقية. ومن أهم شروط 
تجديد شرعية المثقف» بحسب الباحث» الحفاظ على استقلاليته» والتحلي 
بأوصاف النزاهة والأصالة» وإعداد منهج يعبر به بين ممرات السلطة التي يوجزها 
في المال والسياسة والجمهور والدين. أما سعيد أقيور» فيطرح سؤال أزمة 


27 


المثقف العربي الذي ارتدّء بوصف الباحث» عن قَيّم الحرية والكرامة والعدالة 
الاجتماعية» ومن ثمَ لم يود الوظائف التقليدية المنوطة به في هذه المرحلة 
المفصلية من تاريخ الشعوب العربية؛ بل على العكس من ذلك» نسجت قطاعات 
واسعة من المثقفين العرب تحالفات سياسية وأيديولوجية مع المؤسسة العسكرية 
والأمنية والمستفيدين من الوضع السابق. لذلك يرى الباحث أن قطاعًا عريضًا من 
المثقفين العرب ليسوا مهيّئين بعد للديمقراطية» وللمساهمة الإيجابية في تثوير 
مجتمعاتهم وتطويرهاء لا فكرًا ولا ممارسة» وذلك في ظل موجات التحرّر التي 
عاشها عالمنا العربي. وإذ يرسم أقيور هذه الصورة القاتمة لأداء المثقف العربي 
في هذه المرحلة فإنه يعدّها موجة أولى فحسب من ثورات الربيع العربي» 
ستتبعها حتمًا موجات أخرى متدققة» يأمل أن يؤدي فيها المثقف أدواره المفتقدة. 

من أجل طرح السؤال نفسه لدور المثقف في زمن التحوّل ومحاولة تجليته» ومن 
منطلق أن منعطف الربيع العربي شكل نوعًا من المحاكمة لمسار المثقف العربي 
في ماضيه» والمساءلة لحاضره» والتحفيز على تجديد دوره انفتاحًا على المستقبل 
المنشود يعود إدريس الكنبوري إلى قراءة سياقات نشأة المثقف الحديث في بنية 
عربية - إسلامية» ابتداء من نهايات القرن التاسع عشرء وليشخص عملية الانتقال 

من البراديغم الذي كان يؤطره الفقيه والعالم بالمفهوم التقليدي؛ ! إلى البراديغم 
الجديد الذي نشأ في ظلّه المثقف الحديث. ومن هذا «التحقيب» القريب من 
اتتحقيب السياسي للأنظمة والمشروعات الأيديولوجية في العالم العربي» يخرج 
الكنبوري بخلاصة أن المطالب التي استقطبت أصوات الاحتجاج في الشارع 
العربي في الأعوام الأخيرة هي مطالب شكلت هواجس للمثقف النهضوي قبل 
نحو قرنين من الزمان؛ بمعنى أنه على المثقف العربي المعاصر استئناف دوره من 
جديد من خلال نزوله إلى الهموم اليومية التي يعيشها المواطن العربي؛ بدلا من 
التنظير الذي يعزله عن الناس. 

يتقى القسم الخامس من الكتاب قضايا وتجارب محدّدة في دور المثقف 
العربي حيال التحوّل التاريخي؛ يستهلها حيدر سعيد بتتبع أحد العناصر الأساسية 
في تجربة المثقف في الحالة العراقية» وهو تبعيّته للسياسي؛ تلك التبعية التي 
رسمت ملامحها الأولى صيخة «المثقف الأيديولوجي الحزبي)» لينتقل المثقف 


28 


إلى أن يكون مثقمًا دولتيّاء بعيدًا عن فكرة «المثقف النقدي». ويرى الباحث أنه يعد 
تسلّم حزب البعث السلطة في العراق» عمد إلى إلحاق المثقفين البعثيين بجهاز 
الدولة» كجزء من عملية «تبعيث) منظمة شهدتها الدولة العراقية» وتحوّلت تبعية 
المثقف للسياسي إلى تبعية للدولة» وتحوّل المثقف من أداة أيديولوجية للحزب 
إلى أداة أيديولوجية للدولة. وفى التسعينيات» شهد العراق العتبة الأولى لتفكيك 
المفهوم التقليدي ل «المثقف» وإعادة صوغ العلاقة بين المثقف والدولة مرجعًا 
هذا إلى انكفاء الدولة الريعية» مع الإنهاك الطويل الذي تعرضت له في إثر حرب 
الثمانينيات» ثم حرب الكويت» والحصار الدولي» وأدّى هذا كله إلى تأكل حضانتها 
للمثقف. المستمدة من التقاليد التاريخية للمثقف العراقى. ليخلص الباحث إلى 
إعادة صوغ العلاقة بين المثقف والدولة في العراق في الفترة التي أعقبت عام 
3 وكانت بمنزلة مخاض المثقف العراقي «اللادولتي»» لإعادة تعريف هويته 
ووظيفته. ويتكب شمس الدين الكيلاني على حالة موقف المثقف السوري ودوره 
في الثورة السورية؛ وإذ يسججل أن ثورة 2011 المجيدة سلطت الضوء مجدّدًا على 
دور المثقفين في التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي» بعد استقالة مديدة لعقود 
طويلة» فإنه يرسم بدقّة أطياف الصور المتعدّدة التي اتخذها المثقفون السوريون أمام 
هذا التحوّل التاريخي الكبير» ويعمد إلى تفكيك الإشكالية التي يتضمّنها تحميل 
المثقف مسؤولية تراجع الوجه المدني والديمقراطي للثورة» لإعادة تركيب صورة 
المثقف السوري في مفهومه وأدواره» وسلوكه النظري والسياسي. ومن جهته. 
يتناول المنجي السرباجي دور المثقف في التأسيس لمشروعية جديدة مستندة 
إلى حقوق الإنسان» ومن ثمّ تأصيلها ثقافيّاء بوصفها أكثر عسرًا من تجربة مقاومة 
الجور السياسي التي ميزت موقف المثقف العربي طوال العقود السابقة. وإذ ينطلق 
السرباجي من فرضية أن المثقف العربي لم يقم بالثورة» من منطلق أن التغيير الفعلي 
تنجزه الحشود لا النخب. فإنه ينقل التحليل من المستوى السياسي إلى المستويات 
الثقافية والاجتماعية» وإلى مستوى العلاقات الدولية» في ظل التوتر القائم بين 
ما هو وضعي (ما هو كائن) وما هو معياري (ما ينبغي أن يكون). وليخلص إلى 
أن المسؤولية الأكثر جسامة الملقاة اليوم على عاتق المثقف العربي - في ضوء 
تطور وسائل الاتصال - هي التزام تثبيت بنية فضاء عمومي تداولي مفتوح» حيث 


29 


يكون المثقف أحد أبرز فاعليه» وهو المطالب بالتحول من «مرحلة المراكمة» إلى 


«مرحلة الإنتاج»» من أجل التعاطي فكريًا وعمليًا مع البنى التسلطية النافذة في ما- 
وراء السياسى» والمساهمة فى التأسيس لثقافة حقوق الإنسان. 


لا يكتمل سؤال المثقف العربي المعاصر ودوره في التحوّلات التاريخية من 
دون وصله بالعصر الرقمي والشبكي الذي يسم عالم اليوم» وله دور أساسي في 
الحراك العربي المعاصر. لا غرو إِذا أن يخصص القسم الأخير من هذا الكتاب 
لدرس هذه الأبعاد الجديدة وتحليلهاء بدءًا من نديم منصوري الذي يعرض 
ضروب المثقف الشبكى» من المثقف «التكنو - شبكى» المتخصّص بتقانة 
المعلومات» والمثقف «الويكي - شبكي» الصحافي والمدون الرقميء والمثقف 
«الثوري - شبكي» الممثل على وجه الخصوص بالقوى الشبابية الصاعدة في 
خلال الانتفاضات العربية. ويناقش منصوري تحديات المثقف الشبكى فى 
عصر المعلومات» من «الاستعمار الإلكتروني» وقوّته الناعمة» إلى «الاستتثار 
الإلكتروني» ومخاطره الجهادية الجمّة. ليخلص الباحث إلى أن المطلوب من 
المثقف الشبكي هو الالتفاف حول القضايا العربية» وتفعيل الدور الإعلامي في 
توعية الأجيال الشبابية» وتوحيد الجهد للتوحد افتراضيًا للوصول إلى التوحد 
العربي الواقعي. ومن جهته يقابل جوهر الجموسي هذا المثقف الناشئ في العالم 
الي اني بالمثقف التقليدي النمطيء معتبرًا أن المثقف التقليدي والنخبة النمطية 
قد تخلفا عن استیعاب متغيّرات المرحلةء ما دفع إلى توظيف اليُعد الافتراضي 
وبروز جيل افتراضي ناشئ» واسع الانتشار عبر الإنترنت وعبر الجماعات 
الافتراضية؛ جيل يمثّل المثقف الجديد والنخبة الجديدة» وقادة التحوّل السياسي 
والمجتمعي. ومن ثمّ» أضحى هذا المثقف السيبراني الناشئع» أو ما يسميه الباحث 
«الميتا - مثقف»» يفتك مساحات واسعة على حساب المثقف النمطىء مثلما 
يفتك المجال العام المكتّف من قبضة السلطة العربية التقليذية الحاكمة» ومن 
سلطة النخب التقليدية» لينتج من خلال جغرافيا الحرية معاني جديدة للسلطة 
والقوة والنفوذ. و والتأثير في العامة» وصناعة الرأي العام» وقيادة الجماهير. وأخيرّاء 
يعالج إبراهيم بود تشيش بدوره تشكيل دور المثقف بفعل ما أحدثه الربيع العربي من 
Y 325‏ وما و التشبيك وتقانة التواصل من تغيّرات على مستوى 


30 


مفاهيم المثقف وأدواره المطلوبة» من منطلق أن كل تحوّل تاريخي انتقالي يستلزم 
إعادة صوغ القول في مفهوم المثقف ودوره. وإذ يؤكد بوتشيش أهمية التشبيك 
في إعادة بناء صورة جديدة للمثقف العربي «الملائم» وتركيبهاء الذي يزاوج بين 
نشر المعرفة» والانخراط في الحراك الاجتماعي عن طريق تنزيل أدوات المعرفة 
وتبسيطها وتوزيعها عبر الوسائط الرقمية» تسهيلا للانتشار والتداول والحشد 
والتعبئة» فإنه يخلص إلى أن انفجار الربيع العربي الذي جاء متساوفًا مع ثورة 
الاتصالات رسم معالم ذهنية عربية جديدة حتمت على المثقف العربي إعادة 
توجيه أدواره أيضًاء وترويضها بما يتلاءم مع مستجدات الواقع» وسياقات التطور 
المعرفى» على نحو لا يكتمل إلا بحضوره فى الميادين والساحات العمومية التى 
تتبح له التنضّت لنبضات المجتمع والتشخيص الدقيق لمشكلاته ومطالبه» قبل 
الكتابة والتنظير واتخاذ المواقف. 

يبدو إذًا أن الحراك العربي الجاري؛ بوصفه مرحلة تحوّل تاريخي كلي» ساهم 
في إعادة تسليط الضوء على دور المثقف العربي في التحوّل التاريخي المعاصرء 
وفي تجديده وترميمه» على نحو موصول بدور مثقف عصر النهضة والمثقف 
العضوي والمثقف النقدي والمثقف الديني والمثقف الشبكي في البيئة الرقمية 
الناشئة. وبهذاء يطرح الوضع العربي المعاصر أسئلة وإشكالات عدةء تضاف إلى 
الأسئلة والإشكالات المعلقة منذ أمد بعيد» وجدير بالمثقف العربي المعاصر أن 
يجتهد في إعداد أجوبة ومواقف متّسقة معها. 


31 


كلمة الافتتاح 
مقاريات نقدية للرائج عن المثقف 


عزمي بشارة 


سبق أن تناولتٌ موضوع المثقف بتوسع في مناقشتي لمسألة المثقف والثورة» 
ما اضطرني إلى العودة إلى التصورات الرائجة عن المثقف. ولا سيما في التميبز 
بينه وبين الخبير والمتعلم. ويلتقي ذلك مع التصور الإيجابي في مقاربة المثقف 
في التقليد الفرنسي منذ عريضة إميل زولا المعروفة «إني أتهم»» الذي تعامل مع 
المثقف بوصفه سلطة ضميرية تستمد شرعيتها ليس من المكانة الاجتماعية القائمة 
على الإنجازات العلمية والأدبية وغيرها فحسب. إنما أيضًا من اتخاذ موقف نقدي 
من ممارسات السلطات أو من الآراء المسبقة الرائجة على مستوى العالم. ويذلك 
يتحايث مفهوم المثقف مع الموقف المعياري في المجال العام بالضرورة. 

أوجرٌ هنا بعض ما توصلتٌ إليه في تلك الدراسة مع بضع إضافات”©: 

- إن سلف المثقف؛ بمعنى الوظيفة العمومية التي تكتسب شرعيتها من 
مكانة متعلقة بالعمل في مجالات الإشارات والمعاني والرموزء كما في العلم 
والثقافة» ليس الشاعر والأديب وكاتب السلطان» بل هو نمط نقدي من علماء 

(1) نشريُها في الطبعة الجديدة من كتاب الثورة والقابلية للثورة» وكذلك في مجلة تبين. انظر: عزمي 
بشارة: في الثورة والقابلية للثورةء ط 2 (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأيحاث ودراسة السياسات» 


2014(# و#عن المثقف والثورة»» مجلة تبين» العدد 4 (ربيع 3) ص ١142-7‏ في: 
hup://bit.Iy/1MAOzdg.‏ 


33 


الدين أسس له تقليد يقوم على اجتماع المعارف والسلطة ass NI‏ ويتلخص 
ب «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»؛ فى مقابل تقليد آخر يتلخص بطاعة 
ولي الأمر» وشرعنة ما يقوم به من ظلم والتمسك بالوضع السائد؛ وهو ما تعبر عنه 
مقولة: «سلطان غشوم خير من فتنة تدوم». وثمة استثناءات بالطبع. 

يختلف المثقف عن هذا السلف في أنه نتاج اجتماع مناهج المعرفة العلمية 
مع شغور وظيفة السلطة الأخلاقية في المجال العموميء بتراجع سلطة الجماعة 
الأهلية والمؤسسة الدينية. كما تنشأ الحاجة إلى هذه الوظيفة مع نشوء المجال 
العمومي في الدولة؛ وتنشأ خارج السلطة في الوقت نفسه» وذلك مع نشوء التمايز 
بين السلطة والدولة. 


ثمة تقليد ممتد أرساه مشقفون «عرب» علمانيون ومتدينون وإصلاحيون 
إسلاميون» استغلوا مكانتهم العلمية والأدبية في التأثير في المجال العام باتجاه 
تنويري» وعلى أساس الجمع بين العقل النقدي والموقف القيمي في آن. ولا يجوز 
تجاهل هذا التقليد الحداثي منذ رفاعة الطهطاوي وفرانسيس المراشء مرورًا 
بالإصلاحيين محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضاء ومثقفي المرحلة 
الليبرالية بين الحربين» وصولًا إلى المشقفين الذين انتقدوا الاستبداد والتخلف في 
مرحلتنا هذه. 


- إذا ميزنا مصطلح المثقفين من مصطلح الفلاسفة الذي استخدمته الكنيسة 
في وصف مفكري التنوير في القرن الثامن عشرء يمكن القول إن ظاهرة | لمثقفير* 
في الغرب نشأت مع نشوء ظاهرة خريجي الجامعات ومع التمايز الحاصل في 
أوساطهم بين المهنيين الخبراء المتخصصين العاملين في خدمة سلك الدولة أو 
غيره» ومن يشكلون المثقفين منهم؛ أي أولئك الذين انطلقوا نحو المساهمة في 
الصراع الفكري والثقافي والسياسي في المجال العام. 

نشأت الحاجة إلى وصف هؤلاء المتعلمين الفاعلين مباشرة في المجال العام 
من دون وساطة مساهمتهم المهنية في روسيا وفرنسا في النصف الثاني من القرن 
التاسع عشر؛ فهي في روسيا «الإنتليجنسيا»» وفي فرنسا «الإنتيلكتويل». من المفيد 
الإشارة هنا إلى أن الإنتليجنسيا في مفهومها الروسي كانت تشتمل على متعلمين 


34 


ذوي مستوى تعليمي متدن أو أشباه متعلمين» لا ما توحيه الكلمة اليوم من معنى؛ 
وتغيّر في وقت لاحق معنى الإنتليجنسيا وأصبحت تشمل فئة المتعلمين والخبراء 
التقنيين عمومًاء بعد أن هيمن المصطلح اللاتيني - الفرنسي» وأصبح عابرًا للغات 
والثقافات بتحوّل باريس القرن التاسع عشر إلى مركز أوروبي للمثقفين المنفيين» 
بمن في ذلك المثقفون اليساريون والديمقراطيون والفوضويون الروس الذي 
لجأوا إلى باريس. 


- إن مصطلح المثقف المقصود هو وصف فئة من البشر تشكلت تاريخيًا. 
وهو ليس مفهومًا علميًا لفهم الظواهر وتحليلهاء بل نحن نصطلح عليها في وصف 
من يستتخدم المكانة الناجمة عن العمل في المترفة اة موقف يؤثر في المجاك 
العام» وهو في الدولة الحديثة مجال سياسي قبل كل شيء. . وسيكون عليئا أن نثبت 
أن مصطلحنا للمثقف هو الأقرب في تحديد خصوصية هذه الفئة. 


- ليس هذا هو مصطاح المثقف العضوي الغرامشي؛ فالأخير يعني تحديدًا 
المثقف المنحاز إلى الطبقة العاملة ومصالحها من دون أن ينتمي إليها فعلاء الذي 
يمكنه اتخاذ مواقف كونية نقدية شاملة لأن مصالح هذه الطبقة كونية شاملة بحسب 
ماركسء وهو الذي يحاول تحقيق هيمنة ثقافية لهذه الطبقة» ويساهم في تحقيق 
انتصارها. هذا المصطلح الذي سحر اليسار الجديد والنقدي الجديد في مرحلة 
ماء هو غير مصطلح المثقف كما نستخدمه. 


- صحيح أن الأكاديمي المتخصص ليس بالضرورة مثقفًا؛ بمعنى أنه ليس 
بالضرورة قادرًا على توظيف معارفه في صنع تعميمات عقلانية يؤسس عليها 
مواقف معيارية تحاول أن تؤثر في المجال العام؛ أو ليس من مصلحته ذلك. لكن 
يصح في المقابل أيضًا أن المثقف في عصرنا ما عاد جامع معارف؛ «من كل بستان 
زهرة»؛ وأنه غالبًا ما يستقي مكانته من إبداع في مجال تخصصه تحديدًا. 

- لا يوجد معنى واضح لمقولة المثقف النقدي» فهذا تعبير غير مفهوم؛ 
فالنظرية الاجتماعية بطبيعتها نقدية» بمعنى أنها تحليلية» ويفترض أن تكون نقدية 
للأيديولوجيا عمومًا. النقد يوجه عادة إلى عالم الأفكار» فيمكن نقد أيديولوجيا 
ما أو نظرية ماء أما نقد العلاقات الاجتماعية فهو الفعل الإرادي نفسه» ويبدأ الفعل 


35 


الإرادي بالموقف. وهناك فرق بين المقولة هذه والقول بالوظيفة النقدية التي 
تشكل الإرادة محددها في التأثير. ويتخذ المثقف مواقف تؤثر في المجال العام 
من منطلق معابيره الأخلاقية. ولا تعد هذه المواقف بالضرورة تعبيرًا عن اغتراب 
أو منفى . وربما تكون المساهمة في نقد الأفكار والتدخل في الأحوال في المجال 
العام محافظة أو إصلاحية أو ثورية. . وبهذا المعنى» فإن موقع المثقف بموجب هذا 
المصطلح ليس بالضرورة موقعًا يساريًا أو ثوريًا أوغيره... كما أنه ليس بالضرورة 
ناجمًا عن اغتراب أو منفى. 

- ثمة مثقفون مغتربون ومنفيون داخليًا أوخارجيّاء أو كلاهما؛ لكن أغلبية من 
ينظرون إلى الاغتراب والمنفى كشرط للمثقف هم أساتذة جامعات اهتموا جدًا 
بترقياتهم أكاديميّاه وفعلوا كل ما يلزم للحصول على الترقية والتزموا قواعد النشر 
الجامعية؛ أي إنهم لم يتصرفوا بوصفهم مغتربين عن المؤسسة؛ بل كمنتمين جدًا 
إليها. وهم يعملون في إطار الهامش الواسع جدًا الذي تتيحه المؤسسة الجامعة 
الغربية لتطوير نظريات نقدية للخطاب الأكاديمي نفسه؛ وذلك بتوسيع ليبراليتها 
وقدرتها على الاحتواء حتى أصبح التيار النقدي في بعض الجامعات الغربية هو 
التيار المركزي في العلوم الاجتماعية. لا منفى هنا ولا اغترابّاء بل ادعاء. 

pp ES A ets ane 
مواقف نقدية جذرية إلى نسبية ثقافية وعملية» طرح أسئلة 25 تنتهي غاليًا بالتسليم‎ 
بالواقع القائم بموازاة الانشغال بنقد النصوصء وهو تعبير عن التوفيق التلفيقي‎ 
بين نقدية الأستاذ الجامعي التي ريما تصل إلى حد العدمية وواقعه المؤسسي الذي‎ 
يصل إلى حد المحافظة وتكريس الانشغال بطقوس الجامعة الأميركية» ودور‎ 
النشر الجامعية» وألقاب الأكاديمية الغربية. الأستاذ الجامعي الذي ينشر نظريات‎ 
مابعد الحداثة هو غالبًا منتم بقوة إلى المؤسسة الأكاديمية ومنشغل بأكثر تفصيلاتها‎ 
الطقسية دقة . هذا على خلاف مثقفي القرن التاسع عشر الذين رفضتهم الجامعة أو‎ 
دخلوا في صراع معها من أمثال فويرباخ وماركس وديفيد ستروس وشتيرئر وياور‎ 

من الهيغليين الشباب» كذلك فى التقليد الفرنسى قل فوكو ودريدا؛ أقصد من 
YS‏ رةه الذين انسحيوا من المؤنسسة 
الجامعية مثل شوبنهاور ونيتشه. 


36 


في أي حالء فإن عددًا من المثقفين الفاعلين في المجال العام» من دون 
ادعاءات» هم من أساتذة الجامعات» وليس بالضرورة من مجالات العلوم 
الاجتماعية: من برتراند راسل وحتى نوام تشومسكي. 

- ثمة علماء كبار ثبت أنهم صغار جدًا في تفصيلات الحياة اليومية. ولا بأس 
في ذلك» ولا علاقة له بعظمة الإنجاز العلمي. لكن بعض المتخصصين بالعلوم 
الاجتماعية والإنسانية غرق فى هذه التفصيلات الصغيرة وجعلها أساس دورانه 
في حلقات مفرغة من نهاية الذات وحتى مابعد البنائية. وفي رأيي» فإن هؤلاء في 
الواقع خبراء» لكنهم خبراء في كيفية تحويل التنظير إلى بديل من النظرية من جهةء 
ومن اتخاذ موقف في المجال العام من جهة أخرى» وذلك بالتشكيك الذي يقود 
إلى العدمية. ويتحول الأخير بسهولة إلى موقف محافظ يدعو إلى عدم فعل شيء؛ 
وإلى الاكتفاء بالجلوس على النقد ككرسي الأستاذية. واتخذت قلة منهم مواقف 
واضحة في المجال العام وأدت دور المثقف المهتم بما يجري الآن وهناء وليس 
بأثره العلمي أو الأدبي الذي يأمل أن تكتشفه الأجيال المقبلة؛ فالأثر العلمي يتعلق 
بمجال التخصص. لا بدور المثقف. 


في المقابل» بغض النظر عن موضوع التخصص. فإن أغلبية الموقعين على 
عرائض موجهة إلى الرأي العام أو لصناع القرار في الدول الديمقراطية هي من 
أساتذة الجامعات ذوي المكانة العلمية» وغالبًا لا تنتتمي إلى مدارس (أو مذاهب) 
فلسفية نقدية على أنواعها. 


- إن ما يصنع المثقف ليس التوجه الذي يدفع إلى تجنب اتخاذ موقف» بل 
الذي يدفع إلى اتخاذه» ولا سيما حين يتحرك الناس ضد الظلم. واتخاذ الموقف 
ضد الظلم ليس مبررًا لعدم اتخاذ مواقف نقدية تجاه حركة المظلومين» وتوجيه 
لنقد إلى الثورة ذاتها. إن ما يدفع إلى ذلك هو المركب العقلاني التحليلي في 
وظيفة المثقف. الذي يشخص الحالة الاجتماعية ويتناول المسار بالتحليل ويضع 
التوقعات» وكذلك المركب الأخلاقي المعياري الذي يدفع المثقف إلى اتخاذ 
مواقف نقدية من ممارسات مدانة في الثورة ذاتها. 


- الفنانون الذين يؤدون أنواعًا مختلفة من مخاطبة الحس الجماليء أو 


37 


مخاطبة الغرائز» ب «الترفيه» والإمتاع أو الاستفزاز الموجه إلى فئات مختلفة على 
أنواعهم يحملون شبهة البراءة في عالم من الصراعات على المصالح» كأن ليس 
لديهم ارتباط بمصالح خاصة. ليس بالضرورة أن يكون هؤلاء مثقفين» ولا حتى 
متعلمين. يأتي الالتزام هنا كوظيفة خارجية للفن» إنها وظيفة الفنان بوصفه مثقفًا 
يقرر أن يؤثر بوساطة الفن» أو إذا أصبح مثقفًا لديه وظيفة أخرى كمواطن لا يكمن 
دوره الفاعل في المجال العام في الفن ذاته» مثلما هي ليست كامنة في أي تخصص 
بحد ذاته. ليس الالتزام بنيويًا للفن الذي يخاطب الحس الجمالي» لكنه يميّز الفنان 
إن كان مثقمًا. ولأن «تخصصه» ذهني» وهو أداة اتصال وتأثير في الوقت نفسه» 
فيمكن أن تؤثر نة فته في فنه كي يؤدي الأخير دورًا في المجال العام. 


- الأعمال المؤثرة الأدبية والفنية والعلمية الكبرى لم تكن ملتزمة المعنى 
الذي ينسب إلى المثقفين في عصرنا. فهؤلاء لم يكتبوا عرائض ولا اتخذوا 
بالضرورة مواقف في المجال العام. ومن هناء فإن موقف المثقف متحرر من 
حسابات ترك أثر ما للأجيال المقبلة» ويفترض أن يكون متحررًا من حسابات 
المكانة العلمية والأدبية. فنحن نتوقع منه أن يتصرف كمواطن يتمتع تع بقدرات معينة 
ne EU‏ قضية راهن ea) OV‏ ایر ری د 
أخرى» أو ما يجري للإنسانية كافة). 


- إن أخطر ما يمكن أن يحدث للمثقفين هو الاستجابة لإغراء التحلل من 
المسؤولية» وذلك تجتبًا لمحاسبة الجمهور. وبهذا المعنى» فإن المسؤول هو 
السياسي والاقتصادي ورجل الأعمال ورجل الأمن» وهم الذين تجب محاسبتهم 
من لدن الجمهور بموجب تحديدات جيرار ليكلرك للنخبة المسؤولة وغير 
المسؤولة. هنا يحاكي المثقف الفنان؛ إذ يريد أن يتحول إلى نجم يستفيد من 
الشهرة ولا يحاسب بموجبهاء وهو يدخل المجال العمومي بهذه الشروط؛ مثل 
الفنانين في إطار النخبة غير المسؤولة. وهنا بالضبط يخون المثقف وظيفته التي 
تقتضي تحمل المسؤولية عن مواقفه في المجال العام. 


(2) جيرار ليكلرك؛ سوسيولوجيا المثقفين» ترجمة جورح كتورة (بيروت: دار الكتاب الجديد» 
8) ص 90. 


38 


- يغيب في العالم العربي التمييز بين المثقف المحافظ الذي يمثل تقاليد 
الدولة ويعارض التغيير المبادر إليه من الشعب ويعتبر الحكمة كامنة في الدولة 
من جهةء ومثقف الأنظمة وأجهزة الأمن الذي يبرر قمع حركة المظلومين من 
جهة أخرى. إن انعدام تقاليد دولة تستند إلى شرعية تمثيل الأمة» غيب دور مثقفي 
الدولة أيضًا؛ فهؤلاء في الوطن العربي هم مثقفو سلطة. 

لن أضيف إلى هذه القضايا إلا مسألة واحدة نظرية سأشتقها من دور المثقف 
العربي في المرحلة التاريخية المفصلية التي تعيشها بلداننا وشعوبناء وأقصد 
تحديدًا تحوّل انتفاضات التغيير والثورات من أجل الحرية إلى حروب أهلية 
في الدول الهشة ذات الجماعات الأهلية القوية» وتسرّب جماعات متطرفة في 
الفراغ الحاصل نتيجة ضعف الدولة وتراجع هيبتها في مرحلة جرى تجاوز حاجز 
الخوف قبل أن يطرح البديل نفسه بقوة. 

تعرفنا إلى نمطين سلوكيين للمثقف في هذه الأوضاع: أولهماء التحول 
إلى الدفاع عن الوضع القائم انطلاقًا من اقتناع أن الكارثة مصدرها محاولة غير 
ناضجة لتغييره. لا يشخص هذا المقف بالتحليل سبب هشاشة الدولةء ولا يحلل 
مسؤولية خيار النظام القمعي عن تحول الثورات إلى العنف؛ الأمر الذي يمكن 
التوصل إليه بالتحليل العقلاني حتى قبل الإدانة الأخلاقية. وبهذا ينسحب من دوره 
الترشيدي العقلاني. ويعد الأمر الأكثر خطورة غياب التضامن مع تطلع الشعوب 
لإنهاء حالة الظلم» وتجنب إدانة النظام الحاكم بوصفه المسؤول عن حالة الظلم 
والفساد» وبوصفه مسؤولا عن تبعات الخيار الأمني القمعي. يجري هنا التهرب 
من مسؤولية الموقف باتهام من تطلعوا إلى التغيير. وهي آلية معروفة في الوعي 
اليومي غير المثقف الذي يزين لذاته أن قبول الوضع القائم والخضوع للظلم هو 
الأمر الطبيعي» وأن محاولة تغييره هي التي تتحمل المسؤولية عن الجرائم التي 
ارتكبت في قمعهاء وليس من ارتكب هذه الجرائم من حراس الوضع القائم الذين 
انضم إليهم هذا المثقف في الواقع 

ثمة مثقف آخر يقف مع الثورة ضد الاستبداد والفساد ويتماهى مع عدالة 
قضيتهاء ويرى مسؤولية الأنظمة التي تسد أفق التغيير وتلجأ إلى العنف عن تدهور 


39 


الثورة في منزلقات الفوضى والتطرف. لكنه يكتفي بشرح أسباب موضوعية 
و rate Aer‏ 


كم الصدعة حي تكتشف عند تحيلموعالمقف أ ف بض احالات 
يتخذ المواقف أعلاه نتيجة مشاركته الواعية أو غير الواعية في عصبيات من أنواع 
مختلفة. إن قدرة المثقف على اتخاذ «مسافة نقدية» من العصبيات القائمة في أي 
مجتمع» أكانت طائفية أم عشائرية أم حتى أيديولوجية حزبية» هي من آهم شروط 
القيام بدوره» بمركبيه العقلاني والمعياري. فالعصبيات التي تعني انحيارًا مسبقًا 
تتناقض مع أحكام العقل» ومع أحكام الأخلاق في الوقت نفسه . إن المشترك الوحيد 
بينهما + كما دو الذي لم يره [يماتويل كانظط - هو تلك المسافة الحاسمة التي 
يجب اتخاذها من العصبيات. وهنا تحديدًا تكمن خصوصية وظيفة المثقف التي 
تميزه من العالم الخبير من جهةء ومن الداعية السياسي أو الديني من جهة أخرى. 

إنها كامنة في الجمع بين ما يفصله نقد العقل البشري» الذي يكشف حدود 
ملكاته المختلفة النظرية والعملية والجمالية. فالعلم وأحكامه منفصلة عن قضايا 
العقائد والأحكام الأخلاقية الحرة. والأحكام الأخلاقية الحرة مفصولة تمامًا عن 
ضرورات العقل. في حين تكمن خصوصية المثقف في الجمع بين الوظيفتين: 
التحليل العقلاني القائم على ملكات العقلء والموقف المعياري القائم على حكم 
أخلاقي حر. 

إنه لا يقوم بتوحيدهماء وإذا حاول فعل ذلك فسيخسرهما معّاء كما يحدث 
لمن يحوّل المواقف الأيديولوجية إلى نظريات علمية بديلة من العلم» أو من يحوّل 
الدين إلى برنامج سياسي... بل يجمع المثقف بينهما في وظيفته الاجتماعية. 
والشرط كي يتمكن من الجمع بين التحليل العقلاني والموقف المعياري هو 
تحرّره من العصبيات التي تخنقهما في المهد. 

ليست المسافة المطلوبة من العصبية هي الخروج عن الانتماء إلى الثقافة 
التي تنتمي إليها الذات Cas Fe)‏ النقد. فالانتماء الثقافي شرط المثقف. 
فلا مثقف من دون ثقافة. كما أن لا وجود لمثقف عالمي إلا كنفي مجردء أو 
كاستغلال لثقافة مهيمنة يبرز المثقف العالمي بسبب هيمنتهاء لا بسبب هيمنته هو. 


40 


المثقف العربي وأدواره المتجددة 
جدلية التحولات 


عن المثقفين وتحولات الهيجمونيا 
بتسالم حميش 


«إن الشعور بالمرارة لا يقل البتة فى البلدان المستعمّرة سابمًا. فلكأن 
حالة الهيمنة لاتفتأ تعيد إنتاج نفسهاء والشباب يعيشونها بالحدة ذاتها 
التي نجدها عند الكبار. صحيح أيضًا أن المستعمر القديم إذا كان 
قد اختفى جسديّاء فإنه ما زال حاضرًا بثقافته ولغته وعقليته في الطبقات 
والإدارة والشارع. وهذا الحضور غير المرغوب فيه؛ والعصي مع ذلك 
على الاجتثاث» هو الذي يديم وضعية تُحبي في كل وقت الجروح 
القديمة». 

«إن طابع الثقافة الأوروبية الجوهري الذي جعلها بالذات مهيمنة في 
أوروبا وخارجهاء هو فكرة هوية أوروبية متفوقة على كل الشعوب 
والثقافات التي ليست أوروبية)©. 


إن المقاربة التي نوليها الأسبقية في طرق الموضوع المعلن هي المقاربة 
الفكرية النقدية؛ فبإعمالها نتوخىء أساسّاء الكشف في مركبات الموضوع عن 
بؤر الصدوع والاختلالات» وعن صنافة للمثقفين في الموضوع نفسه بمقياسّي 
الجودة والتأثير» وهي صنافة من شأنها أيضًا تجنيبنا اختلاط الوجوه والأدوار علينا 
واشتباهها. 


Abdallah Laroui, £squisses historiques (Casablanca: Centre Culturel Arabe, 1992), p. 69. (1) 


Edward W. Saïd, L'Orientalisme: L'Orient créé par l'Occident, Catherine Malamoud {trad et (2) 
adap.) (Paris: Éditions du Seuil, 1980), p. 19. 


43 


تعرف الثقافةء في عصرناء مثل كل حية» تطورات وطفرات فى 
الوضع والوظائف» منها: المساهمة في بناء مجتمع المعرفة وتقوية أساسياتهء ونقد 
تجاوزات العولمة السائبة والرأسمالية اا الافتراضية القائمتين على التحلل 

من الواقع وتجاهلف ومغاذاة مصالح الناسن وحقوقهم» وتمكين منظومات التيير 
والتدبير من وسائل التثقيف والعقلنة والتيسير» ورصد مكامن سلوك التطرف 
والعنف وتشخيص علل تكونها واعتمالها”» بغية معالجتها ومغالبتها وتخليص 
المجتمع والناشئة من تمظهراتها ومخاطرها... وغير ذلك. إنها إجمالا إحدى 
رافعات التنمية البشرية» فالغايات المتوخاة هي التنافسية المبتكرة وترقية الأذواق 
واللغات وحياة اليسر للأفراد والجماعات. وتكمن في هذه الأركان وما يجانسها 
الأفعال القوية لربح رهانات التطور النوعي والانتفاع بخيرات المدنية والحداثة 
وخدماتهما؛ أي رهانات الثقافة التنموية المطردة. 

تعددت تعريفات المثقف وتقاطعت. ولعل أقربها إلى موضوعنا يثوي في 
نظرية جون بول سارتر المتعلقة بالالتزام» ومفادها أن المثقف هو من عليه واجب 
الوفاء لمجموعة سياسية واجتماعية» مع ممارسة حقه في انتقادهاء أو أنه من يتدخل 
في ما لا يعنيه مع استيفاء شرط الخبرة والدراية”. وقد نقول تماشيًا مع موضوعنا: 
إن المثقف هو من يسعى جادًا بعدته المعرفية والفكرية إلى إيقاظ الهمم والضمائرء 
وتحريك سواكن الغفلة والتلهي عن قضايا وأوضاع خطرة جسيمة. 

في القرن العشرين» كان للمثقف الغربي» عمومًاء وضع اعتباري خصوصي» 
أي حتى خارج التكتلات والأحز اب السياسية؛ إذ دأب في اعتماد مواقف وقضايا 
في ضوء فكره ومبادئه» وفي ي العمل» على التعبير عنها بقلمه بالوسائل الإعلامية 
والتواصلية المتاحة. ومن ذلك مثلا دفاع سارتر عن استقلال الجزائر ووقوفه 
مع برتراند راسل ضد الحرب الأميركية على فيتنام» أو مثل معارضة فوكو للأسر 
في مستشفيات الطب العقلي ونظام الاعتقال الحبسيء إضافة إلى أعلام آخرين 
کر را راش الات المتعلقة ع نات ورون م از 


Edward W, Saïd, Culture et résistance: Entretiens avec David Barsamian, Christian Calliyannis (3) 
(trad.) (Paris: Fayard, 2004), chap. 4. 


Jean-Paul Sartre, Plaidoyer pour les intellectuels (Paris: Gallimard, 1972). (4) 


44 


تشومسكي وغوتيسلو وبورديو ودوبريه... وغيرهم ممن يصدرون عن مجال 
تخصص معين وعن ثقافة حية واسعة. أما عربيّاء فإن المثقفين الذين يُدرجون - 
بنحو أو آخر - في هذا التوصيفء ومن أبرزهم: مهدي عامل وحسين مروة 
وإدوارد سعيد وعزمي بشارة وعبد الله العروي ومحمد عايد الجابري والمهدي 
المنجرة ...إلخ. ومن نافلة القول إن ذاك التعريف المبني على التلازم لا يصح في 
شأن المنتمين إلى صنف المثقفين المزيفين. 


إِذاه يفترض فى المثقفين النزهاء أن يكونوا فاعلي الثقافة ومنتجيهاء ومتطابقين 
ما أمكن مع قول لريني ماريا ريلكي: «المثقف هو من يساهم في تحريك البحر 
المتجمد فينا». لكن يحسن دومًا أن ننظر إلى مثل هذا التعريف وما يضاهيه مثالية 
في مرآة واقع الحال والتجربة» ومن خلال نماذج مخصوصة ملموسة. 


حري بالمثقف الأنموذجي» وأولى له» أن يتموقع في المجتمع المدني 
ويظهرء كما أكد ماكس فيبر وأنطونيو غرامشي» وابن خلدون قبلهما“ في مقام 
نقدي لسلطات التشريع والحكم مغاير للسياسي؛ أي إنه» كما ذهب إلى ذلك 
إدوارد سعيد» «هذا الصوت الآخرة (©فاكاد0) الذي ليس مشيد إجماع» بل هو 
فرد يُّلزْم وجودّه ويخاطر به انطلاقًا من حس نقدي مطرد؛ فرد يرفض - مهما يكن 
الثمن - التعابير السهلة والأفكار الجاهزة والمواقف الملتبسة» حيال خطابات 
رجال السلطة وأفعالهم وذوي العقول المتكلسةء وهو لا يرفضها فحسب» بل 
يجهر لهم برفضه PL‏ 


Pascal Boniface, Les {ntellectuels faussaires: Le Triomphe médiatique des experts en mensonge (5) 
(Paris: J.-C. Gawsewitch, 2011), chap. 8. 


(6) أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدونء» مقدمة ابن خلدون» تحقيق عبد الواحد وافيء 3ج 
(بيروت: دار الرشاد الحديثةء 1981)ء «فصل في أن العلماء من بين البشر أيعد عن السياسة ومذاهبهاة» 
ص 247-745. وعزمي بشارة» المجتمع المدني: دراسة نقدية» ط 7 (الدوحة/ بيروت: المركز العربي 
للأبحاث ودراسة السياسات» 2013)» ص 239-229» وكذلك: 

Max Weber, Le Savant et je politique, de Julien Freund (trad.} (Paris: Plon, 1959); Antonio Gramsci, 
Gramsci dans je texte, Jean Bramant [et al.] (trad.) (Paris: Éditions sociales, 1975). 

Edward W. Saïd, Des Intellectuels et du pouvoir, Paul Chemla (Trad.) (Paris: Edition du Seuil, (7) 

1996), p. 39, et Noam Chomsky, Responsabilités des intellectuels, Frédéric Cotton {trad.) (Marseille: 
Agone, 1958), p. 24. 


45 


أولا: المثقفون بين سوء الاعتراف البيني والنزوع الاعتزالي 

ليس ثمة نسيج ثقافي عربي ومغاربي إلا نراه مصابا بالهشاشة والتفكك» 
عمومًا. يجعلنا هذا المعطى نرى أن المثقفين المغاربيين إذا ما التقوا - وقلما 
يلتقون حقا - تبدت مأساة اللاتواصل المستشرية بينهم» مشخصة في واقع التشظي 
اللغوي وسلوك التهاجر والتنابذ وسوء الاعتراف البيني. 


حتى المثقفون من ذوي الأسماء الوازنة» كأننا بهم يتعاهدون على أن يعيشوا 
في علاقتهم سنة التهادن والتساكنء بل التصامُم» يسكتون عما تحويه نصوصهم 
من تعارض وتناقض» ويطول السكوت بهم إلى حد يصح معه أن نتساءل: هل 
يقرأ أحد PES LS Le Le‏ وهكذا يبقى أركون والجابري على طرفي نقيض 
في موضوع مفهوميهما للعقل الإسلامي» وكذلك تبقى على الشاكلة نفسها - ولو 
بنحو أخف - تاريخانية العروي الماركسية ومثالية جعيط التاريخية» ولا تسأل عن 
موقف التاريخاني من «العقلاني» (يتجاهل العروي الجابري تجاهلا تامًا ويغيبه 

إجمالاء لا تسأل عن موقف أي واحدة من كتابات الآخرء فالموقف لا وجود 
له» أو هو في كم الإشارات الخفيفة العابرة التي تكرس حالة سوء الاعتراف 
«الإسلامولوجي» محمد أركون؛ إذ يذكر عرضًا عبد الله العروي وأنور عبد الملك 
وهشام جعيط وإدوارد سعيد» على نحو جملي» من غير وجود دليل على أنه قرأ 
أعمالهم فعلاء فيكتب عن هؤ لاء الأعلام المتفوقين عليه معرفة ودراية قائلًا rép:‏ 
إذ ينتقدون المستشرقين لا يأخذون بعين الاعتبار أنهم ينتمون هم أيضًا إلى نفس 
منهجية العلم الغربي وروحه. ولكنء لأنهم يتكلمون باسم العرب أو المسلمين 
فهم يعتقدون أنهم بمنأى عن الزلل»”*؛ ولا صحة لهذا الزعم مطلمًا. أما طارق 
رمضان في مجمل كتاباته» فإنه يضرب صفحًا عنهم جميعًاء إلا من إشارات إلى 


(8) محمد أركون» تاريخية الفكر العربي الإسلامي» ترجمة هاشم صالح (بيروت: مركز الإنماء 
القوميء 1986)» ص 248-247. 


46 


إدوارد سعيد مشاكسة عابرة غير موثقة» لاتدل على أنه أخذ مؤلفاته بقوة الجد 
(على الرغم من أنها محررة بالإنكليزية). 


حاضرًاء يعاني معظم المثقفين المهمومين بالحقيقة والنقد حالة احتقان 
بليغة؛ ففى وسط سوسيوسياسى يجتر تاريخًا مديدًا من الإخفاقات والخسارات» 
حيث المفاهيم والممارسات (الوظيفية والخصبة في البلدان المتقدمة) تعيش 
دراما النحل والتزييف» لا يمكن لجمهرة المثقفين تأدية أدوار مجدية» ولا معانقة 
«الالتزام» حمًا. إنها حالة تخبط بالمثقفين أو تتربص بهم عند كل تحول تاريخي 
حرج وكل مرحلة مأزومة. وغالبًا ما ترى المرتبطين منهم بأحزاب» يدفعون ثمن 
صراحتهم أو ممارستهم السياسة الحقيقية بوصفها سياسة حقيقة. من جهة أخرى» 
فى أسواق الحسابات والتوافقات» إذا كره المثقفون أن يكونوا خدمًا لأرباب 
السياسة فحسبء أو أن يقيموا في الاستقامة الولائية والامتثالية» فإن استفاقتهم 
من غفلتهم يصحبها شعور مرير» متولد من إدراكهم العدي أنهم لم يكونوا في 
مُصطدم السياسة وتقلباتها سوى مغفلي الحلبةء أو فرسان مُثل طوباوية عصية على 
التحقيق (مثلما حصل - مع وجود فرق - لمحمد عبده وحسن الوزاني وعلال 
الفاسي والجابري والعروي... وغيرهم). 


هكذا يكون على معظم المثقفين في أوساطنا أن يحيّوا حاملين عبءَ شعور 
مأساوي ناتج من أنهم لايكادون يستطيعون أن يفعلوا شيئًا ذا بال من أجل 
شعوبهم. إنهم» مع تفاوت في السياقات والمهمات» يجدون أنهم في وضع أولئك 
الذين تلقوا التفويض وكامل السلطات لخدمة البلاد والعباد؛ غير أن وجه الفرق 
الكبير يقوم في أن عجزهم يؤلمهم ويحزنهم. أما المفوضون وممارسو السلطات 
و«المجالسون»؛ فهم يعيشون عجزهم كأنه همهم الأهون؛ بل طبيعتهم الثانية. 
وما دامت هذه المعطيات لا تعرف تحو لات إيجابية محسوسة في القوام والوظيفة» 
فقد يصعب محاجة من يرى أنه حري بالمثقف. وجدير به أن يكثف اشتغاله في 
حقله» ويقويّ قدراته في البحث والإبداع» وذلك حتى لا يؤول مبدأ «الالتزام عنده 
إلى أفيون» ولا يسقط فجأة» أو بالتدريج» بين كتبة المرميات وأنصاف المثقفين. 
وهذا ما ذهب إليه المفكر التونسي هشام جعيط بقوله: «إن المثقف المبدع يجد 
نفسه محاصرًا من كل الجهات. وعندي أنه لم يبقّ أمامه سوى العودة إلى ذاته 


47 


العميقة» وبالحركة نفسهاء الخروج من إقليميته الثقافية؛ أي الانفتاح على العالمي» 
بسرور وفرح ورغبة». 


من الجائز تفهّم مواقف هشام جعيط وعبد الله العروي وفاطمة المرنيسي 
وعبد الفتاح كليطو وطه عبد الرحمن... وغيرهم, ما داموا يرون أنهم يعيشون في 
مجتمع يُنمّي منسوب تلوث ذهني» وفي سقم ثقافي حاد وأمية متعددة الأشكال 
«lu Vs‏ فيكون الخلاص عندهم في الترقي بالفكر والوجدان إلى مراتع السعة» 
والهواء الطلق المطهرء والعزلة الذكية اليقظة؛ أي إلى مدارج الأحق والأجمل 
والأعدل. ففي خيارهم هذاء والحالة تلك» تكمن سبل اتقاء العبثيات والغباوات 
الزاحفة» والتمثل بسابقيهم الذين ذهبوا تاركين بصمات وآثارًا رائقة مؤثرة» تشهد 
أنهم أعطوا الحياة ما يرفعها ويقويهاء فما ماتوا هباء وسدى. 


إضافة إلى ذلك» ليس علينا أن نلوم فنانًا أو كاتبًا أو فيلسوفًا على الاعتزال في 
"برج عاجي»؛ لكن في المقابل لنا أن نحاسب هؤلاء إذا لم تتمخض عزلتهم عن 
أي شيء شائق ؛ ثمين» ولم يُخرجوا من بروجهم ما يُعجبٌ النفس والعقل» ويكون 
ويبقى من بعدهم فتنة للمتأملين"2. 

أما ما عدا أولئك» فإننا نشهد صنمًا آخر - لعل ممثليه هم الأكثرون - فَقّد 
النزوع إلى المسائلات الجذرية الجريئة» وفقد أيضًا القدرة على البدء والإدهاش. 
فهؤلاء هم على الدوام حيث نتوقعهم ونترقبهم» كأنهم عناصر معدة مبرمجة على 
نحو أو آخر. لهذا لا نجد بينهم رجالا ونساء خارقين للعادة» أو باهرين» على غرار 
محافظ معارض لسلطان الماضي وهيمته ة السلف على الأحياء أو حداثي مقاوم 
لكل تخريب إن كان مفاد ذلك الاستلاب» والولاء التبعي العيلي والحجرء ومن ثم 
العجز عن المبادرة والوبداع. 


(9) هشام جعيطء أزمة الثقافة الإسلامية (بيروت: دار الطليعةء 2000)» ص 183هء انظر قوله: 
#مبدتياء نعم للانفتاح لكن على ألا يتحوّل إلى عزوف عصابي عن الذات وافتتان بالمتغلب الأقوى؛ فاقد 
لحاسة التمييز والنقد». 

(10) من الكتّاب الكبار الذين كانوا على تلك الشاكلة صامويل بكيت وجان ماري غوستاف 
لوكليزيو وياتريك مودييانو (فازوا كلهم بجائزة نوبل) وأمين معلوف الذي فاز بجائزة غونكور الفرنسية. 


48 


هل ننكر أن معظمهم ينغمس في الحياد والخمول» فيقيم تحت قباب السهو 
والغفلة عن الشؤون والهموم الإنسانية والثقافية والعامة. إنهم إجمالا يضاجعون 
الخوف (وفي الأمثال: لا حياة لمن يضاجع الخوف) ويجنحون» ولو من دون 
نضال أو معاناة» إلى الانسحاب المبكر والاعتناء بفلح حدائقهم الخاصة» فيصح 
في شأنهم وصف نيتشه للمنحلين المنهارين: «إنهم أناس متكلسون. تالفون» 
لايخشون إلا شيئًا واحدًا: أن يصيروا واعين»©. هكذا يمسون مُحتّمين 
بمربعاتهم وحيطانهم داخلين أفواجًا في «أسواق رؤوسهم؛ مصابين بتلاش باطني 
وانكماشية صماء وانعزالية عقيمة جدباء كأن أعوامًا جليدية أو أثقالَ جاذبية سالبة 
أدت إلى خصيهم وضربهم بالرهبة والضمور. لكن يلزم أن نستثني الذين شاخوا 
سنًا وفكرّاء أو أحدث لهم الزمان معاطب في أجسامهم. 

من المؤكد أن المعرفة المئيرة المحصلة بقوة البحث والكدء ما عادت 
فرضًا عينيًا عند ممثلي تلك الأكثرية؛ إذ صار يكفيهم أن يدبروا طبخ الإنشائيات 
وترصيعها بغليظ المفاهيم ومّبهمها؛ حتى يطلقوا أقلامهم ويستبيحوا النطق في ما 
يجهلونه أو لا يعرفونه عبر قنوات معوجة أو مبتذلة. والخسارات الناجمة عن ذلك 
وسواه هي ما نلحظه بالعين: فقر النظر وضيقه؛ وغلبة التسطيح المعرفي» ومن ثم 
سوء الإدراك والإرصاد. وعجز عن الفكر ذريع. 

هكذا تنمو تيارات الجذب نحو الأسفل وتتناسل» وتزداد ألسنة التعتيم 
واللامعرفة» مشخصة في أشباه المثقفين و«عرّابي» الشأن الثقافي ومسترزقيهء 
وبينهم لا يعدم خابط ورقًا ولا مدادًاء ولا يسع المثقف الحق إذا ما وُجد عرضًا 
بينهم إلا أن يتكيف مع ضحالتهم» أو أن يسكت مناجيًا نفسه بلسان المعري: 


ولما رأيتٌ الجهل في الناس LG‏ تجاهلتٌ حتى date Go‏ 
مع تلك الأصناف السائدة» تفسد الكلمات والمفاهيم فعلاء وتتفسخ 


حتى تستحيل إلى مسوخها وأضدادها؛ ومنها He‏ لا حصراء التعدد والتنوع 
والاختلاف؛ إذ تُفضي تصريفاتها الذرية اللامراقبة معرفيًا | إلى تكريس واقع 
مجتمعاتنا المسمى» بحسب بعض الدار سين » «(Segmentarism) “lai‏ 


Friedrich Nietzsche, La Généalogie de la morale (Paris: Gallimard, 1971), pp. 178-179, (11) 


49 


أو «العصائبية» بلغة ابن خلدون. ومن المظاهر المأساوية لهذا الأمر القدّدية 
اللغوية واللهجية؛ واحتقان قنوات التواصل وتقوضهاء وشيوع نظام التبعيات 
والولاءات السالبة الضاغطة. 

أما المثقفون الذين باستطاعتهم إقامة ثقافة نقدية فاعلة أو التمهيد لهاء فإنهم 
غالبًا ما يتتهون إلى اعتماد خطابات المداراة والمواربة» أو إلى إعلانها سخطات 
ضاجة» لاوقع اجتماعيّ لها ولاسياسي» ولا تأثير (شأن أدونيس واللعبي 
وآخرين). هذا بالنسبة إلى التيار الأعم الذي يفرز اطراده وتواتره استثناءات مضيئة 
يُشخصها مثقفون مقاومون بمعرفتهم العالية وقوة أعمالهم الفكرية» وإن كانوا 
متفاوتي الحظوة والجرأة والحضور. وعلينا الآن أن ننظر في مواقف بعضهم» وفي 
مقدمهم إدوارد سعيد بوصفه أنموذج المثقف البحاثة والمفكر والمناضل بعمله 
في جبهات عدة» نخص منها جبهتي الثقافة والإمبريالية cé ee‏ 
الإسرائيلي. أما القضية الماثلة للدرس» ولعلها من أكبر القضايا وأعقدهاء فنتعرف 
إليها في ما يلي. 


انيًا: واقع الهيجمونيا وتحو لاتها 

تعني (الهيجمونيا» (20212هع116) لغة» عند الإغريق: الانتشار والاكتساح 
بدافع إرادة القوة والسيطرة؛ وسمّاها كذلك سولون وهيرودوت وتوسيديد. ومن 
مرادفاتها عندهم «القدمية؟ (نطاتة) و«الاستبدادية» (Despotismus)‏ أما أغسطينوس» 
فيُحللها ضمن مقولة «شهوة السیطر ة٩ (Libido dominandi)‏ التی كانت فى تقديره من 
أهم أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية. أما ابن خلدون» فيسميها «الاستبداد؛ 
و«الغلبة4. وفى زمانناء تتمظهر الهيجمونيا فى نظرية «الفوضى الخلاقة» 
و«استراتيجية الدمار» التي صاغها المحافظون الجدد في ظل حكم آل بوش (الأب 
والابن)» ويتمثل مبدأها بالقول: «مالم تستطع أن تملكه. فدّمرهة» ومن ترسانتها 
المفهومية: «الاحتواءة و«محور الشرة و«الدول المارقة» أو «المتصعلكة»» 
و«هاجم» و«الحرب الاستباقية» و#صدام الحضارات» . PA.‏ 


(12) تلك المفاهيم هي في الأصل على التوالي: 


Containment, Axis of Evil, Rogue States, Attack, Preventive War and Clash of Civilizations. 


50 


لتلك النظرية سابقاتها عند كبار الغزاة عبر التاريخ» منهم نابوليون القائل: 
«إني» كما أكد. أنجز سياسة جغرافيتي»» وهتلر من خلال مفهوم «المجال 
الحيوي» وعقيدة تفوق الجنس الآري» ومهندسو حركات الاستعمار ذوو مفهوم 
التوسع والاستغلال والنهب باسم التمدين. وقد نلخص متن النظرية الأساسية 
في شعار سيسل رودس» رجل السياسة والأعمال البريطانى (ت 1902)» حيث 
يقول: «التوسع» كل شيء في التوسع [...] لو استطعت لضممت الكواكب»”©. 

فى الأمس القريبء كان الاستعمار بصنفيه الاستيطانى والحمائى يشتغل 
بآليات العنف الصادم» ويوطد لها بضروب شتى التغطيات والذرائع» ويمكن أن 
نذكر بيبعض أهم تواريخها لمامًا؛ ففي عام 1860 تدخلت فرنسا في لبنان بدعوى 
حماية المسيحيين الموارنة ضد الدروز. وبين عامي 1 188 و2 188» جرت «قنبلة») 
الإسكندرية وسحق الثورة العرابية في التل الكبيرء واحتلال الإنكليز مصر في عهد 
الخديوي توفيق» وهذا كله بعد ما عرفه هذا البلد العربي من تغلغل أوروبي بذريعة 
مراقبة فرنسية - إنكليزية للميزانية المصرية المنهكة بالقروض في عهد الخديوي 
إسماعيل. وفي عام 1888» تسرّب الإنكليز إلى الحجاز بدعوى مساعدة العرب 
بزعامة شرفاء مكة على محاربة العثمانيين. وفي عام 1912» قُرض نظام الحماية 
الفرنسية على المغرب في عهد السلطان المولى حفيظ» بحجة عجز سلفه المولى 
عبد العزيز عن تسديد دين اقترضه من مصرف بارينا ...إلخ. 

أما بُعيد الاستقلال» فإن ما أدرك بوصفه استعمارًا جديدًا (وفي هذا الجانب 
يكمن تحوله الرئيس)» عمل عمّل الهيجمونيا المتلبسة بإرادة إدامة القوة وتصريفها 
بوسائل هيمنة مبتدعة» تروم تفعيل ما سماه إيتيان دو لابويسي منذ أربعة قرون 
ونيف: «العبودية الإرادية» التي هي من أهم شروط إمكان أنواع التسلط والاستبداد 
كلها؛ فالمصابون بها يمدون «أعناقهم للقطع» طواعية» ومن ثم يمسخون طبيعة 
الإنسان الحرة المسؤولة. 


Hannah Arendt, Les Origines du totalitarisme: L'Impérialisme, Martine Leiris (trad.) (Paris: (13) 
Fayard, 1982), p. 13. 


وتضيف أرندت قائلة إن سيسل رودس :كان يعترف في لحظة رشده بأن مبدأ التوسع يقوم على نفي 
العقل نفسه». 


51 


من باب رصد بعض طبائع الهيجمونيا ووظائفها المتحولة» إجمالاء نذكر 
إدوارد سعيد الذي يُعيد في كتابه المميز الإمبريالية والثقافة قراءة أعمال كل من 
أميكار كابرال وسيريل ليونل جيمس ووالتر رودني» خصوصًا معذبو الأرض 
للمارتنيكي فرانز فانون» فيعترف قائلا: «إن كنت قد أسهبت في ذكر فانون؛ فلأنى 
كما أعتقد. يُعبّر مأساويًا وبقوة أكثر من غيره عن الانتقال الثقافى الكبير من حقل 
الاستقلال الوطني إلى المجال النظري للتحرر»*©. ١‏ 


إن إدوارد سعيد إِذاء مُحق في تسليط الضوء على ذلك الكتاب المنشور 
في عام 41961 وهو من أمهات مرجعيات العالم الثالث؛ فهو يقيم نظرية مهمة 
لها راهنية في فصول تصفية الاستعمار» تبقى في أي حال جديرة بالتمثل والتأمل 
في عهد تحول الهيجمونيا من ميدان الاستعمار الاحتلالي العسكري المباشر إلى 
الحقل الذهني والمعرفي» أو ما سمّاه بعض الدارسين» وفي مقدمهم جوزف ناي 
«القوة «(Soft Power) tes Lil‏ فى مقابل القوة الصلبة »50 113:0)» وربما يحسن 
أن نترجم المفهوم الأول بعبار ة «القو ة المتخفية» أو (المتغلغلة». 


إن نقاد فانون من الغربيين» وحتى بعض «العالمثالثيين؟ الذين اتهموه 
بالمغالاة في بعض أطاريحه» خصوصًا في دعوته إلى الإعراض عن منطق ثقافة 
الهيمنة الغربية» إنما أقدموا على ذلك بسبب بقاء وعيهم من دون وعي فانون 
بقدرات أيديولوجيا الاستعمار الفائقة على التحولات المنوّعة الماكرة» وهو الذي 
سجل» منذ أكثر من خمسة عقود خلتء هذا الرصد الثاقب قائلا: «لعل الباحثين 
لم يوضحوا توضيحًا كافيًا حتى الآن أن الاستعمار لا يكتفي بفرض قانونه على 
حاضر البلاد المستعمّرة وعلى مستقبلهاء بإفراغ عقل المستعمّر من كل شكل وكل 
مضمون. بل إنه يتجه أيضًا إلى ماضي الشعب المضطهّدء فيحاول بنوع من فجور 
المنطق أن يهدمه ويشوهه 9 Modes‏ 


أما إدوارد سعيد» فإنه سعى بكثير من الخبرة وسعة النظرء فى مؤلفه المذكورء 
Edward W,. Saïd, Cufture and Imperialism (New York: Vintage Books, 1994), p. 268. (14)‏ 
(15) فرانز فانون» معذبو الأرض. ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي (بيروت: دار 


الطليعةء 1973)ء ص 201. 


52 


إلى. [ظهار العلائق الفعلية المتسترة بين الرق: والعنصرية والاستعماز والقهر 
الإمبريالي» من جهة» وضروب الإنتاج الأدبي والفكري التي تنشأ في المجتمع 
الحاضن لتلك الممارسات من جهة أخرى. إن القراءة التي يقترحها للموضوع 
نفسه هى ما يسميه «القراءة الطباقية» أو (Contrapuntal Reading) (à BUS‏ 51« 
تعنى وظيفيًا باستنطاق النصوص وسبر أغوار خلفياتها وخفاياهاء قصد إدراك ما 
تعمل على تسريبه واستعادته وتقنيعه في أواليات السيطرة والتحكم؛ فهي إِذا توجد 
في موقف تقابل (أو تطابق) بين حركتين اثنتين» لا بد من الأخذ في الحسبان جدلية 
تلازمهما وإبرازهاء وهما حركة الإمبريالية وحركة مقاومتها. ومن ثم» فإن ممارس 
هذه القراءة يعطي الجنس الروائي مكانة مهمة في برهنته؛ ذلك أن «الأوطان هي 
نفسها سرديات؟ فسلطة الحكاية أو منع سرود أخرى من التشكل والظهور هي 
ذات أهمية فائقة بالنسبة إلى الثقافة وكذلك الإمبريالية. إنها تكون إحدى أكبر 
العلاقات E‏ 00 

من أمثلة ما تكشف عنه تلك القراءة ما يتعلق بالكاتب ألبير كامو الذي أعلن 
في غمرة الحرب الفرنسية - الجزائرية أنه يُؤثر أمه على جبهة التحرير الوطني» وقال 
بعبارة صريحة: «إن فرنسيي الجزائر هم أيضًا وبالمعنى القوي سكان أصليون. 
ويلزم ]0 ae de Mn di aus‏ لا يمكنها أن ترقى إلى الاستقلال 
الاقتصادي الذي من دونه لا يكون الاستقلال السياسي سوى وهم»". 


ما ترومه الهيجمونيا ثقافيًا وتسعى إلى تكريسه إجمالاء هو: تعويض ذاكرة 
المستتبّعين بذاكرة الأقوى» وتهجين شخصيتهم بتأجيج الشعور عندهم بالدونية 
والفجاجة» وتعويدهم is sul‏ متمثلا في أن هوياتهم ولغاتهم Mes‏ بخسة 
أو قاصرة. وبهذه الإجراءات الحجرية الضاغطة وغيرهاء عملت الأيديولوجيا 
الاستعمارية المكشوفة أمسء ولا تزال تعمل حاليّاء وإن بأساليب ذهنية متخفية 
(لامادية) ومتطورة. وإن شئنا استعمال صورة مجازية» قلنا إنها تدير سياسة هيمنية 
بيد من حديد في قفاز من حرير. وفي هذا السياق يكتب سارتر في تقديمه المميز 
لكتاب فرانز فانون المذكور: «إن العنف الاستعماري لا يريد إخضاع هؤلاء البشر 


Saïd, Culture and Imperialism, p. xiii. (16) 
Albert Camus, Essais, Bibliothèque de la Pléiade (Paris:Gallimard, 1965), pp. 1012-1013. (17) 


53 


المستعبّدين فحسب. بل يحاول أيضًا تجريدهم من إنسانيتهم. إنه لن يدخر جهدًا 
من أجل أن يقضي على تقاليدهم؛ وأن يحل لغتنا محل لختهم» ومن أجل أن يهدم 
ثقافتهم من دون أن يعطيهم ثقافتناء ومن ثم فإننا نرهقهم تعبًا»". 

على سبيل المثال» كان الاستعمار الفرنسى الاستيطانى طوال 132 عامًا 
يُسخر الجزائر مختبرًا ضخمًا لتفكيك شخصيتها التاريخية والثقافية» وإعطاب 
نوابضها الذاتية ومقوماتها السيادية. فلم تأخذ في تضميد جراحها ولملمة شعثها 
إلا بعد خمسة عقود ونيف من استقلالها. هذا ما حدا بالدولة الجزائرية والمجتمع 
المدني والمثقفين من وارثي فكر الأمير عبد القادر والشيخ عبد الحميد بن 
باديس إلى الطعن في المادة الخامسة من قانون شباط/ فبراير 2005 التي تُسجل 
للاستعمار الفرنسي فضائله وإيجابياته» ووافق عليها برلمان فرنسا بغرفتيه (وأيدها 
حيتئذ محمد أركون)» فلم تُسحب إلا بتدخل الرئيس جاك شيراك الذي استند 
إلى المجلس الدستوري. وبعد ذلك أتت تصريحات قوية للرئيس عبد العزيز 
بوتفليقة» منها ما يرتبط بتعليق توقيع معاهدة الصداقة الفرنسية - الجزائرية» ومنها 
عذه الاستعمار الفرنسى حركة إبادة جماعية ضد هوية الجزائر وثقافتها» ومطالبة 
سياسبي فرنسا بالاعتذار العلني عن جرائم استعمارهاء وهذا ما أبت السلطات 
الفرنسية الإقدام عليه حتى الآن. 

أما المغرب» فنزعت وقتها «لوبياتٌ» فرنسا المحلية فى مجالات المال 
والأعمال والصحافة والثقافةء إلى اتخاذ موقف الممالأة بل قبول تلك 
الإيجابيات والفضائلء متذرعة أن المغرب» على خلاف الجزائرء لم يعرف من 
القوات الفرنسية استعمارًاء بل عرف حماية فحسب. وزكى هذا الطرح مثقفون 
فرنكوفونيون» إما كتابة وإما في حلقاتهم ومنتدياتهم. لکن لم تمض أعوام حتى 
بدأت العلاقات بين البلدين تسوء وتتدهور» وعبر عنها - ولو بنحو تعميمي - 
خطاب الملك محمد السادس فى 24 شباط/ فبراير 2013 فى باماكوء وخطابه 
الذي كان أجرأ وأقوى في الدورة التاسعة والستين للأمم المتحدة في 25 أيلول/ 
سبتمبر 2014» ومنه الفقرة الآتية: 


(18) انظر تقديم جان بول سارتر في: فانون» ص 25. 


54 


«لقد خلف الاستعمار أضرارًا كبيرة للدول التي كانت تخضع لحكمه. فقد 
عرقل مسار التنمية بهاء لسنوات طويلة» واستغل خيراتها وطاقات أبنائهاء وكرس 
تغييرًا عميقًا في عادات وثقافات شعوبها. كما رسخ أسباب التفرقة بين أبناء الشعب 
الواحد» وزرع أسباب النزاع والفتنة بين دول الجوار. فرغم مرور العديد من 
السنوات» فإن الدول الاستعمارية تتحمل مسؤولية تاريخية في الأوضاع الصعبة» 
والمأساوية أحيانّاء التي تعيشها بعض دول الجنوب» وخاصة بأفريقيا»". 

من مظاهر الهيجمونيا اللينة المخاتلة أيضاء النمو اللامتكافئ واختلال 
علاقات القوى وعبارات التبادل اقتصاديًا وتجاريًا*» وبين الهويات والثقافات 
واللغات. وازدواجية المواقف والمعايير التى ترفعها البلدان القوية» سرًا أو جهرّاء 
إلى سدة السياسة المتبحة فى قضايا مجمل بلدان الجنوب ومعضلاتهاء وفى مقدمها 
القضية الفلسطينية. ولو أن أمين معلوف تمثل البُعد التراجيدي لهذه المظاهرء 
وغيره كثر» لربما أضاف إلى كتابه الهويات القاتلة جزءًا آخر متعلقًا بالهويات 
القتيلة أو الجريحة. ولا سيما أنه تساءل في لحظة صحو نيرة: SD‏ لا ينشأ لدينا 
شعور بأننا نعيش في عالم يتملكه الآخرون ونخضع لقواعده التي يُملُونها عالم 
لا نكون فيه إلا كالأيتام» والغرباء» والدخلاء» والمنبوذين؟»*. 


تبيانا لهذا الوضع؛ يدلي إدوارد سعيد بملاحظة دالة مفادها أن عموم القراء 
الأميركيين لا يعرفون من التراث العربي كله إلا كتاب النبي لجبران خليل جبران» 


(19) من الخطاب نفسه هذه الفقرة: إن العالم حاليًا في مفترق الطرقء فإما أن يقوم المجتمع الدولي 
بدعم الدول النامية لتحقيق تقدمها وضمان الأمن والاستقرار بمناطقهاء وإما أننا سنتحمل جميعًا عواقب 
تزايد نزوعات التطرف والعنف والإرهاب. التي يغذّيها الشعور بالظلم والإقصاءء والتي لن يسلم منها أي 
مكان في العالم». وكيف لا يُستحضر في أدبيات تصفية الاستعمار في الستينيات خطاب في الاستعمارية 
لإيمي سيزير وافتقاد العالم لجاك بيرك» وتغريب العالم» وكوكب الغرقى لسيرج لاتوش» وكذلك 
الاستعمار الأسود, المؤلف الجماعي الذي أشرف عليه مارك فيرو . ..إلخ. 

(20) كان ليويولد سيدار سنغور يشكو ذلك الاختلال وينادي إلى إصلاحه. ويوم وفاة هذا 
الرئيس - الشاعر في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2001ء لم يشارك في تشييعه إلى مثواه الأخير أي مسؤول 
في الدولة الفرنسية» لا رئيسها جاك شيراك ولا وزيره ليونيل جوسبان. على الرغم من أن ستغور كان فرنسي 
الهوى ومن كبار دعاة الفرانكوفونية» الأمر الذي أثار غضب الكاتب إيريك أورسينا الذي عبر عن ذلك في 
صحيفة لوموند. 

Amin Maalouf, Les Identités meurtrières (Paris: Grasset, 1965), pp. 101-102. (21) 


55 


المكتوب أصلا بالإنكليزية. ولعل ما يُغني عن الخوض في ضرب الأمثلة هو 
خطاب نجيب محفوظ للأكاديمية السويدية ولجنة نوبل لمناسبة فوزه بهذه الجائزة 
في عام 1988ء حيث جاء في قوله: «سادتي» أخبرني مندوب جريدة أجنبية في 
القاهرة بأن في لحظة إعلان اسمي مقرونًا بالجائزة ساد الصمت وتساءل الكثيرون 
عمن أكون» فاسمحوا لي أن أقدم لكم نفسي بالموضوعية التي تتيحها الطبيعة 
البشرية...» 


من التبعات السلبية لذلك الوضع› في حالة المغرب العربي OÙ‏ ووقوفًا 
على التيار الصلب بدلا من الاستثناءات التي تؤكد القاعدة» قد نزعم أن النبوغ فيه 
تضاءل حتى كأنه أمسى وعدا عرقوبيًا أو كالزيزفون» فانكمش الإبداع في حقول 
ثقافية شتى وتدنى» وذهب الوعاة إلى أن فئات من المثقفين طبعوا الاتباعية» وبها 
حتى الثمالة سكروا. يعيشون Dis‏ للآخر الأقوى. واقعين تحته موقعين» وهم 
يموتون مهزومين مغمورين. هذه حالهم في وطن ما زال محجورًا لسانيًا وثقافيًا. 
ولا فائدة من الاحتجاج بحفنة أسماء صنعتهم أبواق «الطم - الطم» الإعلامي» 
وهم من الشبكيين المتمرسين» ومعظمهم من الكتاب المغاربيين الفرانكوفونيين 
الذين يركبون الكتابة المستقيمة الطيعة فرنسيّاء والقذفية التشهيرية مغاربيًا (بوقف 
ثيماتهم على الفساد والمخدرات والبغاء والتطرف الديني). ويُدرج عبد الله 
العروي أدبهم ضمن تاريخ الأدب الفرنسيء وإن كان أصحابه وُلدوا ونشأوا في 
بلدان المغرب. مثلهم مثل الأدباء الفرنسيين الملقيين باسم «الأرجل السوداء 
كناية عن ولادتهم في هذه البلدان. 

إن الاستلاب اللساني والثقافي وجهان لعملة واحدة» وهما مظهران ناتئان 
متورمان ضمن مظاهر تراكم كبوات تاريخية بقيت فجواتها وفتوقها تنمو وتتفشى» 
حتى بعد الاستقالات السياسية» وهو ما أتاح لقوة أمس المستعمرة أن تعاود 
تغلغلها من جديد» تدعمها في ذلك مراكزها المبثوثة المنتشرة و«اللوبيات» 
المحلية للاقتصاد والمال» وكذلك حركيّوها من الإعلاميين و«المثقفين» 
والوكلاء المدجنين. ومع هؤلاء يتضح تحول آخر للهيجمونيا؛ إذ أصبحوا من 
أعداء مجتمعاتهم الأحماء وعصبَ الفراتكوفونية المستأسدة المعادية للغة العربية 
وثقافتها في المغرب العربي. 


56 


في هذا السياق تكمن معالم وضع مأساوي سالب» ما زالت شرائح من تخب 
الثقافة والفكر لا تُفكر فيه حتى من ذوي القربى. وإذا صارحت هؤلاء بهذا الواقع 
ا 
والنقاش» وانصرفوا إلى ما ندبوا له أنفسهم وتعودوا عليه» غير عارفين بما نبه إليه» 
من باب المعاناة والتجربة» والى مصر محمد علي (الألباني الأصل) من خلال 
قوله: «إنهم [قوى الغرب] لا يريدون أن نشبههم بل أن نطيعهم“*» وقوله أيضًا: 
«إني لست من دينهم» ولكني إنسان مثلهم» ويلزم أن أعامل إنسانيًا». 

في ظل الهيجمونيا الجديدة التي رسمنا بعض أوالياتها وتمظهراتها المتحولة» 
وفي شأن الحوار الحضاري مفهومًا وممارسة» نطرح سؤالا ضروريًا : هل غدا هذا 
الحوار الحضاري (ثقافة وديئًا وسياسة) نوعًا من الملهاة أو الأفيون؟ 


تُجانس كلمة دايلوغ (من اليونانية 218 أي عبر ومن خلال» وومعمآ أي اللغة 
والعقل) عربيًا ألفاظ الحوار والمجادلة والمناظرة. وفي اللغات كلها نعلم فضائل 
هذا المفهوم التنويرية والتوفيقية المهدئة» خصوصًا في أقسى اللحظات والتوترات 
الاجتماعية والدولية. كما أن نمو الثقافات الإنسانية» من خلال لحظاته المزدهرة 
الدافعة» مدين للحوار بوصفه عربون انفتاح وإرادة تواصل» ودينامية منتجة لشروط 
ثقافة التعايش البناء و السلام العادل الدائم**0. والآية البينة في هذا الصدد هي: 
ولا نّستَوي الحسئة لا السيئه ادقع التي هي أحسئٌ كذ لذي بيك وه عداو 
GE‏ 45 (فُصلت: 34(. 


لكن ماذا فى استطاعة أخلاق الحوار فعله تجاه تصاعد الحروب والنزاعات 
التي لم تفتأ بُؤرها ومناطقها تتعدد وتتناسل منذ الحرب العالمية الأولى؛ التي أمل 


Maalouf, p. 104. (22) 

في ما يتعلّق بحالات محمد على ومحمد مصدق ومحمد الثالثء انظر: بنسالم حميش» نقد ثقافة 

الحجر وبداوة الفكر (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي: 2004): ص 43-42. وإن ذلك 

الاختلال الذي سجاه بعض الاقتصاديين التجارة اللامتساوية٠»‏ يمس أيضًا قطاعات المنتوجات الثقافية 

والإعلامية التي تجد في بلدان الجنوب أسواقًا رائجة مربحة حين تكون شمالية» لكنها في الاتجاه المعاكس 
تصير ضئيلة إن لم تكن منعدمةء كما تدل على ذلك بلاغة الأرقام. 

Emmanuel Kant, Projet de la paix perpétuelle (Paris: Garnier, 2002). (23) 


57 


É(La der des ders) 6,21 à, VI» 0 3 of‏ بالنظر إلى الهوة التي تُحمّر 
بين المثقفين والمجتمع المدني من جهة» والسياسيين والفاعلين الاقتصاديين من 
جهة ثانية؛ وبالنظر أيضًا إلى غلبة الصدامات ومنطق الأقوى وقانونه؛ فإنه يُحكم 
في أخلاق الحوار بالركون إلى مجموعة من الأدعية والتمنيات الصالحة:؛ أو على 
الأكثر إلى خطابات طيبة في محاسن الحوار بين الثقافات والحضارات؛ خطابات 
يقدر كل طرف أن يغذيها بحججه وشواهده المستمدة من تراثه الروحى» ومن 
ثم يستعرض ألف دليل ودليل في خدمة القضية النبيلة» داعيًا إلى تخطي واقع 
العقبات والمصاعب» حيث لا بديل من التشبث بحوار الشجعان والسعي الدؤوب 
إلى إنهاء مهلكة الحروب والنزاعات بالتي هي أحسن وأعدل. غير أن ثقافة حوار 
السلام تجد مقوضها في كتلة المعوقات المعقدة المجانسة لواقع الهيجمونياء كما 

وصفناه» بشقيه الظاهر المباشر والماكر المتخفي. 


بعد سقوط جدار برلين وتصدع الاتحاد السوفياتي ونهاية حرب الخليج 
الثانية (1991)») تسنى للولايات المتحدة التى صارت القوة العظمى الوحيدة. 
أن تدعو إلى نظام عالمي onde‏ ترجع لها فيه فعلًا وشرعًا مقاليد القيادة واليد 
العليا (ا0ه85600). وقبل تلك الحوادث الجسام بأعوام» لخص وزير الخارجية 
الأسبق جورج شولتز في أحد تصريحاته (نيسان/ أبريل 1986) الوضع الجديد 
بكلمات تدل على أمور كثيرة في روح السياسة الخارجية الأميركية» بقوله: «إن 
كلمة تفاوض ليست سوى المرادف الملطف («رواممعطما8) للاستسلام إذا لم يبرز 
ظل القوة على الطاولة». ثم إنه قدح في من نادوا بالاحتكام إلى الآليات والهيئات 
الدولية» فيقول: «إن وساطة أطراف ثالثة والأمم المتحدة ومحكمة لاهاي» في 
حال جهل عنصر القوة في المعادلة» تكون وسائل طوباوية وقانونية صورية 
فح )24 , 

هكذاء يؤكد شولتز رجل الدولة في العهد الريغاني» بصراحة وحزم» ما سبق 
أن قاله كييرنان على نحو نقدي منذ عام 1978: «إن أميركا تعشق فكرة أن ما 


Noam Chomsky, «L'Amérique, «État voyous,» Le Monde diplomatique (août 2000), et (24) 
William Blum, L'Etat voyou (Tunis/ Casablanca: Cérès-Tarik Edition, 2002). 


58 


تريده مطابق بالذات لما يريده الجنس Ps EN‏ وذلك» كما جاء Ji‏ على 
لسائّي وزيرة الخارجية سابقًا مادلين أولبرايت والرئيس جورج بوش الأب. لأن 
«الولايات الأميركية المتحدة خيّرة (لدمع (The United States is‏ 


إن إرادة الهيمئة والقوة» من حيث طبيعتهاء لا تتردد إطلاقًا فى الأخذ بالوسائل 
كلها من أجل سيرها واكتمالها. فبصفاتها المكيافيلية المتقلبة و«السينيكية»؛ نراها 
لا ترى سياستها الخارجية» ولا تمارسهاء إلا في ظل مصلحتها الجيوستراتيجية 
والاقتصادية في العالم. وهذه السياسة التي هي خصيصة القوى العظمىء أقر 
بوجودها حتى هنتنغتون» ولو مكرمهًا؛ إذ يقول: «إن ادعاءات العالمية» كما يكتب» 
لا تمنع من الوقوع في النفاق والخطاب المزدوج والاستثناءات. وهكذا تدافع 
[البلدان الغربية] عن الديمقراطية» لكن ليس حينما تأتي بالأصوليين الإسلاميين 
إلى الحكم»ء وتحرم امتلاك السلاح النووي على إيران والعراق» لا على إسرائيل» 
وتعد حقوق الإنسان مشكلة في الصينء لا في المملكة العربية السعودية» وترد 
العدوان عن الكويت الغنى بالنفط» وتتلكأ فى حالة الهجومات على البوسنيين 
الذين ليس لانفط عندهم ...إلخ»9©. 0 


إن مثل هذه المواقف الازدواجية» وغيرها كثير» تعبّر عن أحد الثوابت 
الراسخة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة» بل عن عنصر مستدام» كأنما 
هو منطبع في تراثها الجيني؛ ذلك أنه يعمل في أجهزتها المسؤولة» جمهورية 
أكانت أم ديمقراطية. فلا غروٌ أن تستقوي بها إسرائيل وتتخذ تحت حمايتها 
الدائمة المتواترة سلوك الغطرسة والاستهتار في تعاملها مع السلطة الفلسطينية 
بالضفة الغربية» وفي سعيها المستميت لإخضاع قطاع غزة للحصار المقرون 
من فترة إلى أخرى بحروب قاسية عليها مدمرة» لن تكون آخرها عملية «الجرف 
الصامد» في عام 2014. وإن اعتراف هنتنختون الصريح والجريء لم يلتفت 
إليه عربيّاء بحسب علمناء شأن دعوته تركيا إلى «أن تتخلص من أتاتورك [أي 


Saîd, Culture and Imperialism, p. 287. (25) 


Samuel P. Huntington, Le Choc des civilisations, Jean-Luc Fidel, Geneviève Joublain & (26) 
Patrice Jorland (trad.) (Paris: Odile Jacob, 1997), p. 200. 


59 


اللائكية] بأكثر حزمًا من تخلص روسيا من لينين»» وكذلك ما كتبه عن اليهودية: 
«إن علماء الحضارات لا يصنفون اليهودية بوصفها حضارة متميزة» بل بوصفها 
ديانة فحسب» انصهر أتباعها مواطنين في المجتمعات الإسلامية والمسيحية 
والغربية عمومًا. وإن إنشاء دولة إسرائيل لم يغير من وضع اليهودية في العمق 
APE‏ أما الجدير بالذكر أيضاء فهو حُكمه الصائب في كتاب نهاية التاريخ 
والإنسان الأخير لفرانسيس فوكوياماء القائل ببوار الأنموذج الفوكويامي» ثم 
تحليه بتواضع محمود؛ إذ يقر أن أنموذجه ما زال صالخا لزمانناء لكنه «قد يعرف 


Ha JU 


لا حاجة بنا إلى التعرض لسيل الانتقاد الذي ساهم فيه مثقفون عرب في شأن 
أطروحة هنتنغتون خصوصًا؛ إذ استفرغ أكثرهم جهدًا في ذمهاء بل نفيها جملة 
بكثير من السطحية والسذاجة. وحسبنا في هذا السياق أن نلحظ طابعها الماكرو - 
تاريخي (على طريقة شبنغلر وتوينبي). يُضاف إلى ذلك أن صدام الحضارات 
كشف. في ختام مسوحه الأيديولوجية» عن ورقته الأخيرة وناصية مؤلفه في جملة 
لا لبس فيهاء تبدو مشيرة إلى ركن ركين في تفكيره وبيت القصيد في مبحثه؛ فبعد 
أن شخص أهم المخاطر التي تُهدد سيادة الحضارة الغربية وحكمها (وأعتاها 
«الصحوة الإسلامية» ودينامية آسيا الاقتصادية)» سطر أن في مقدور الغرب أن 
يتغلب عليها «إذا ما عرف نهضة تلغي وهن تأثيره في عالم الأعمالء وتعيد تثبيت 
موقعه زعيمًا تتبعه الحضارات الأخرى وتقلده»*. 

لا غروّ أن يُصدر هنتنغتون أحكامه التعميمية الجزافية في حق الإسلام 
وحضارته» وهو القليل البضاعة المعرفية في الإسلاميات» والمعول فيها 
على مرجعه؛ المستشرق المعروف بدراساته (المجادل في معظمها) للتاريخ 


Ibid, pp. 45 et 251. (27) 
Ibid, p. 32. (28) 
Ibid, p. 334. (29) 


ونقرأ في النص الأصلي: «أو تمكين الغرب أن يمر بمرحلة انبعاث عكسية؛ تُسقط/ تضعف نفوذه 
ومكانته/ تأثيره في القضايا العالمية» بصفته قائدًا على الحضارات الأخرى التي تتّبعه وتحاكيه؟. 


60 


الإسلامي» وكذلك بنزوعه الصهيوني المعلن» وبعدائه الشرس لإدوارد سعيد””)؛ 
وهو برنارد لويس الذي كتب في عام 1990 دراسة عنوانها الأول #جذور السعر 
الإسلامي». وكان له فيها سبق إيراد مفهوم «صراع الحضارات»» حيث قال من 
باب التنبيه والتحذير: «يلزم أن يكون واضحًا منذ الآن أننا نواجه حركة وحالة 
ذهنية تتجاوزان المشكلات والسياسات والحكومات التي تجسدها. فالأمر ليس 
أقل من كونه صدام حضارات. إنه ربما ردة الفعل اللاعقلانية» لكنه قديم قدم 
خصم مناوئ لإرثنا اليهودي - المسيحي [كذا] ولما نحن عليه حاليّاء ولانتشار 
هذا وذاك. من المهم جدًا ألا نسقطء من جهتناء في ردة فعل تكون هي أيضًا 
لاعقلانية وقديمة ضد هذا الخصم“"*. إنها كلمات راجمة» مشحونة بتصور 
حربوي للتاريخ. لاتبشر بأي خير لإعادة تأسيس ثقافة السلام» تكون مخلصة 
أخيرًا من سيكولوجيا الغل والضغينة» ومن أي ذاكرة أحادية البُعده مسكوكة 
بصراعات الماضي وحروبه. 


للتذكير» نشير إلى أن برنارد لويس عارض قيام الدولة الفلسطينية» وأيد غزو 
الجيش الإسرائيلي للبنان فى عام 2 .» وكان مستشار نتنياهو فى أثناء عمله 
سفيرًا فى الأمم المتحدة؛ وعندما أصبح غداة 11 أيلول/ سبتمبر الأب الروحي 
للمحافظين الجدد في البيت الأبيض والبتتاغون» ومرشد الرئيس جورج بوش الأب 
في الشؤون العربية الإسلامية» كانت نصيحته إليه: «عليك بالحزم el‏ المسلمين]ء 
وإلا فتراجع Loi . (Get through or get out)‏ قارئه المتأثر به هنتنغتون. للتذكير La‏ 
فإنه تغرف خبيرًا سابقًا في شؤون قمع التمردات إبان حرب فيتنام في عهد جيمي 
كارتر» ومديرًا سابقًا فى معهد أولين للدراسات الاستراتيجية فى جامعة هارفرد. 


)30( بنسالم حمیش» العرب والإسلام فى مرايا الاستشراق «القاهرة: دار الشروق» 2011))» 
ص 202-189. 
)37( نُشرت مقالة برنار لويس في عام 21990 أي قبل صدور كتاب هتتنغتون المذكور بخمسة 
أعوام ونيف. انظر: 
Bernard Lewis, «The Roots of Muslim Rage: Why so Many Muslims Deeply Resent the West, and why‏ 
their Bitterness will Not Easily be Mollified,» Atlantic Monthly, no. 266 (September 1990).‏ 
انظر أيضًا مقالاته المترجمة إلى الفرنسية في كتابه عودة الإسلام الذي لا يقصد فيه الإسلاموية 


فحسب. 


61 


أما الباحث الفرنسي إيمانويل تود في كتابه مابعد الإمبراطورية» وهو الخبير 
بالديموغرافيا والتاريخ المعاصرء الذي يلتقي مع إدوارد سعيد في نقاط مهمةء 
فذهب إلى أن الولايات المتحدة تسير بدورها إلى المصير نفسه بفعل تناقضات 
وأزمات ذاتية متنامية؛ فهى فى نظره «أصبحت تفتقر قر إلى إدراك متماسك للإنسانية 
والشعوب» ولاتستطيع أن تسود عالمًا متراميًا فائق التنوع؛ فالشعور بالعدل 
سلاح ما عادت تملکه». هکذاء فإنها - على سبيل المثال - تعمى عن انتقاد 
تجاوزات الدولة العبرية وتجبرهاء وعن تعاملها مع الفلسطينيين بأعلى درجات 
العنف والقساوة» تدعمها فى ذلك سياسة السلطات الأميركية بقطبيهاء» مستعملة 
«حق» الفيتو بإفراط» وممكنة ربيبتها من أنواع المساعدات التي يتصدرها التسليح 
الشامل 00 وطء حتى إن الدولة المدللة باتت كأنها الولاية الأميركية الحادية 
والخمسين» أو كأنهاء بحسب تشبيه للباحث» «سفينة حاملة للطائرات» ودولة 
تتمترس خارج القانون» وتخرق المعاهدات والاتفاقات. ثم إنه ينعت سياسييهاء 
بدءًا من أريئيل شارون» في مؤتمر أوسلو 1993. بالتقادم والبوار. وكان إدوارد 
سعيد قد انتقد تنازلات السلطة الفلسطيئية في ذلك المؤتمرء وتنبأ له بالإخفاق. 


في هذا السياق» كما نرى مع إيمانويل تود» يكمن الوجه الارتدادي السيئ 
قة العضوية الملبحية بين القوة الغظمئ وإسرائيل؛ فكل تضدع لثلك القوة 


سينعكس بالضرورة انعكاسًا سلبيًا على classe‏ ويؤثر فى قوامها ووجودها في 
منطقة معادية تاريخيًا وجيوستراتيجيًا لكيان صهيوني مرتكز أصلًا على ذكريات 
توارتية ومنطق القوة المعربدة الضارية. 


إن حس إيمانويل تود الاستشرافي القائم على دراساته المعمقة» جعله يتوقع 
(منذ عام 1976) نهاية الاتحاد السوفياتي في كتابه السقوط النهائي””؛ إذ تمكن 
في مؤلفه المذكور من رصد أمارات ومؤشرات سوسيواقتصادية وسياسية تنبئ 
بدخول القوة العظمى في مرحلة انفلات أسباب القيادة منهاء وتقلص تحكمها 


Emmanuel Todd, Après l'empire: Essai sur la décomposition du système américain (Paris: (32) 
Gallimard, 2008), pp. 134-143. 


Emmanuel Todd, La Chute finale: Essai sur la décomposition de la sphère soviétique (Paris: (3 3) 
Robert Laffont, 1976). 


62 


الأحادي» وذلك لفائدة توجه العالم إلى التعدد القطبي» ممثلًا أساسًا بالصين 
وروسيا والبلدان الصاعدة؛ فى حين أن الولايات المتحدة لن تعرف مصيرًا مشابهًا 
لما حدث للاتحاد السوفياتى» ولما حدث للإمبراطوريات التوسعية القاهرة 
من قبله. لكن لاتقاء ذلك» #عليها أن تعود إلى هويتها بلادًا ديمقراطية» ليبرالية» 
منتجة)*» مع الحرص على ممارسة سياسة الإنصاف والعدل في قضايا العالم 
المستعمرة» تتصدرها في ذلك القضية الفلسطينية. 


نرى أنه يُحسن بالمثقفين العرب وخبرائهم أن يأخذوا في الحسبان والجد 
أعمال خبير كفوء ومثقف مقتدر ثاقب النظرء انطلاقًا من كون صراع البلاد العربية 
والإسلامية» وإن طال أمده» صراعًا ضد تأخرها وتمزق مكوناتها؛ من أجل 
إعادة المناعة والقوة إلى ديناميتها الذاتية ومقدراتها السيادية في مواجهة القوى 
الهيجمونية التي عرضنا بعض أهم ركائزها وتمظهراتها. 


خاتمة 


يقول إميل شييرون: «جريح دومًا هو كبرياء إنسان متحدر من ثقافة صغيرة». 
وعطمًا على هذا نضيف: وأوغر جرحًا وأنكى هو كبرياء إنسان ينتمي إلى ثقافة 
كانت حتى أمس القريب عظيمة» وغدت حاليًا عرضة للتبخيس والتجاهل 
الإرادي؛ وهذا تحت أنظار الهيجمونيا الأحادية الغالبة المزدرية» المدججة بأشد 
الأسلحة عتيّاء برا وبحرًا وجوّاء وبأنجعها في مجالات الهيمنة وإيهان الهويات 


وقهرها. 

بعد عقود أمضتها القوى الهيجمونية» ما زالت تدق في رؤوسنا كلمات 
ونعونًا محبطة» كالتخلف والعجز والدونية» وها نحن أولاء نرى فئات من المثقفين 
والإعلاميين في الخارج» وحتى في الداخل؛ ينقلونها من وضع الصفات العرّضية» 
ومن ثم القابلة بالتدريج للإزالة؛ إلى وضع الماهيات العنيدة المستدامة. فكيف 
لا نكون إِذًا مراضًا بها ولو تأبينا ذلك وكرهناه؟ 


Ibid. (34) 


63 


إن عبارات ملطفة أو توريات من قبيل ابلدان فى طريق النمواء أو «نامية». 
لا تستطيع إخفاء هذا الخلط الواسع الانتشار في الرأي العام الغربي بين التخلف 
المادي - البنيوي» والتخلف الذهني والفكري. بناءً على ذلكء يلزم أن نبذل جهدًا 
كبيرًا لثلا يبقى وجودنا الثقافي» على نحو جائرء ملحمًا بكبواتنا في قطاعات التأهيل 
الاقتصادي والتكنولوجي. وعلينا أن نعي أن التبعية التي يرى بعضهم أنها أمست» 
في ظل العولمة» قصة قديمة أو غير ذات راهنية ومضمونء ما زالت سارية ولو 
بنحو متخف ماكر لكنها في أواليات الكبح والحجر والتهميش» بالغة الإجرائية 
lines‏ ؛ لاايعمى عن تبينها إلا من تعود تمارين الانخداع أو عد تصوراته حقائق 
ها ما تشن لا غه اعمال ثلة من متققينا البارزين من الصنت الذي سبق ذكره؛ 
فتعيننا على الإدراك والمغالبة. 

على الرجال والنساء ذوي الإرادات الحسنة» بصفتهم نقاد العالم كما 
Es‏ عقلانية متضامنة منفتحة» أن يتقلدوا مهمة رصد أنواع الاختلالات 
والخروقات وممارساتها ويناهضوها حيثما وجدت؛ وذلك بقصد المساهمة في 
التشغيل التدريجي لثقافة السلام الحق التي لا يجرى بمقتضاها تأسيس العلاقات 
الدولية على توازن الرعب» كما كان الشأن إبان الحرب الباردةء بل على المساواة 
والندية وتلبية حقوق الشعوب في الحرية والسيادة» وعلى التشاركيات البناءة 
والهويات المحررة والمبدعة للقيم الرافعة الإيجابية. 


1- العربية 
ابن خلدونء أبو زيد عبد الرحمن بن محمد. مقدمة ابن خلدون. تحقيق عبد الواحد 
وافى. 3 ج. بيروت: دار الرشاد الحديثة» 1981. 
أركون» محمد. تاريخية الفكر العربي الإسلامي. ترجمة هاشم صالح. بيروت: 
مركز الإنماء القرمى» 1986. 


64 


بشارة» عزمي. المجتمع المدني: دراسة نقدية. ط 7. الدوحة/ بيروت: المركز 
العربى للأبحاث ودراسة السياسات» 2013. 


جعيط» هشام. أزمة الثقافة الإسلامية. بيروت: دار الطليعة» 2000. 


حميش» بنسالم. العرب والإسلام فى مرايا الاستشراق. القاهرة: دار الشروق» 
2011. 
. نقد ثقافة الحجر وبداوة الفكر. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي 
العربى» 2004. 


فانون» فرانز. معذبو الأرض. ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي. بيروت: دار 
الطليعةء 1973. 


2- الأجنبية 
Arendt, Hannah. Les Origines du totalitarisme: L'Impérialisme. Martine Leiris (trad.).‏ 
Paris: Fayard, 1982.‏ 
Blum, William. L'Etat voyou. Tunis/Casablanca: Cérès-Tarik Edition, 2002.‏ 


Boniface, Pascal. Les Intellectuels faussaires: Le Triomphe médiatique des experts en 
mensonge. Paris: J.-C. Gawsewitch, 2011. 


Camus, Albert. Essais. Bibliothèque de la Pléiade. Paris:Gallimard, 1965. 
Chomsky, Noam. «L'Amérique, «État voyou».» Le Monde diplomatique (août 2000). 


. Responsabilités des intellectuels. Frédéric Cotton (trad.). Marseille: 
Agone, 1998. 


Gramsci, Antonio. Gramsci dans le texte. Jean Bramant [et al.] (trad.). Paris: Éditions 
sociales, 1975. 


Huntington, Samuel P. Le Choc des civilisations. Jean-Luc Fidel, Geneviève Joublain 
& Patrice Jorland (trad.). Paris: Odile Jacob, 1997. 


Kant, Emmanuel. Projet de la paix perpétuelle. Paris: Garnier, 2002. 


Larouïi, Abdallah. Esquisses historiques. Casablanca: Centre Culturel Arabe, 1992. 


65 


Lewis, Bernard. «The Roots of Muslim Rage: Why so Many Muslims Deeply Resent 
the West, and why their Bitterness will Not Easily be Mollified.» Atlantic 
Monthly. no. 266 (September 1990). 


Maalouf, Amin. Les Identités meurtrières. Paris: Grasset, 1965. 
Nietzsche, Friedrich. La Généalogie de la morale. Paris: Gallimard, 1971. 
Saîd, Edward W. Culture and Imperialism. New York: Vintage Books, 1994. 


. Culture et résistance: Entretiens avec David Barsamian. Christian 
Calliyannis (trad.). Paris: Fayard, 2004. 


. Des Intellectuels et du pouvoir. Paul Chemla (trad.). Paris: Edition du 
Seuil, 1996. 


. L'Orientalisme: L'Orient créé par l'Occident. Catherine Malamoud 
(trad. et adap.). Paris: Éditions du Seuil, 1980. 


Sartre, Jean-Paul. Plaidoyer pour les intellectuels. Paris: Gallimard, 1972. 


Todd, Emmanuel. Après l'empire: Essai sur la décomposition du système américain. 
Paris: Gallimard, 2008. 


. La Chute finale: Essai sur la décomposition de la sphère soviétique. Paris: 
Robert Laffont, 1976. 


Weber, Max. Le Savant et le politique. Julien Freund (trad.). Paris: Plon, 1959. 


66 


الفصل الثاني 


المثقف والثورة والجدل الملتبس 
محاولة في التوصيف الثقافي لحدث الثورة 


حسن طارق 


تزامئًا مع التحولات السياسية لما بعد 2011» جسدت عودة التساؤل عن 
دور المُثقف التباسات الفكر والواقع كلها التي لا تزال تطبع وظيفته ومهماته 
داخل المجتمعات العربية» وطبعًا ارتبطت هذه العودة بالحضور الطاغي للأجوبة 
الجاهزة والمّبسطة» وباختلاف زوايا النظر الفكرية والأيديولوجية والمنهجيةء 
لإشكالية مُزمنة في الفكر العربي» هي إشكالية المثقف والسياسة. 


إذا لم يكن ثمة جدال في أن الحوادث إلكبرى تُخلخل الآراء والمواقف 
والأحكام» فالمؤكد أن الانفجارات العربية» في عام 2011؛ بقيت تعمل على 
إعادة صوغ أسئلة أساسية تتعلق بالحرية والعدإلة والكرامة والدولة والديمقراطية 
والدين. وفي خضم هذه «المعمعة» توزعت الآراء في شأن أدوار المفكرين وأداء 
المثقفين''"» حيث تحدث بعضهم عن عودة المثقف إلى الساحات العمومية» وعن 
عودة مفهوم الالتزام النقدي لوظيفته . وفي المقابلء استعار كثر» من جديد» مقولة 
استقالة المثقف من قضايا المُجتمع وغيابه عنهاء في حين عد آخرون أن جزءًا من 
أدواره ومهماته أضحى موكولا إلى فاعلين جُدد» من قبيل وسائل الإعلام ووسائط 
الاتصال الحديثة. 


(1) محمد نور الدين أفاية» «ورقة العمل حول أداء المثقفين في معمعة الأحداث: مُلاحظات 
وتساؤلات»» المستقبل العربي» العدد 415 (أيار/ مايو 2013)؛ ص 106. 


67 


انطلق هذا النقاش من جديد» مستندًا إلى التخمة الفكرية المتضخمة» في 
شأن موضوع المثقف. سواء في السياق العربي أم في السياق الثقافي الغربي؛ حيث 
الأسئلة لا تنقطع في شأن من يكون هذا المثقف» أو أدواره وتحولاته وأصنافه 
وأنواعه واهتماماته وأوهامه» وفي شأن تقاطعاته وعلائقه الملتبسة أو الواضحة 
بالدولة والسلطة والحزب والدين والأيديولوجياء أو حتى في شأن موته ومستقبله 
وخيلة و ی ل د لر واا ا ج ر اب 
بین بعات شتی ؛ من العضوي إلى الخبيرء مرورًا بالنقدي والعمومي والمهني 
(العاري والتحسيس والقوري والسلار» HG O‏ 

في سلسلة من المقالات الصحافية» نشرها الكاتب المصري جلال أمين 
في صيف 72014 » عن دور المُفكرين في الثورات العالمية؛ ثم عن دورهم في 
الثورات المصرية» وصولا إلى دورهم في قيام ثورة 2011ء يطور هذا المثقف 
والجامعي تحليلًا مُشْككا في الفكرة التي نحملها عادة عن الأدوار الكبرى التي 
تنسب إلى المفكرين في قيام الثورات؛ إذ قد يكون ثمة أثر لهم في ما ترفعه هذه 
الثورات من شعارات وما تعلنه من مبادئ» لكن ما يتحقق يكون بعيدًا جدًا عمّا كان 
في آذهان المُفكرين. 

في هذا المقام» لا نعتزم مُناقشة هذه الخلاصةء ولا مُحاورة مقاربتها 
المنهجية» القائمة على بحث الأثر المُفترض لمُثقفين بعينهم عن حدث تاريخي 
معقد ومركب مثل الثورة؛ بالقدر الذي يسمح هذا المثال» بالتفكير في موضوع 
المثقف والثورة» انطلاقًا من زاوية أخرىء. تنطلق من رصد أثر الأيديولوجيا 
السائدة» والأفكار ومنظومات القيم» في حدث الثورة. ويقوم الفرق في المُقاربتين 
على الوعي بنسبية دور المثقفين - ذوانًا وفاعلين - فى تأسيس لحظة تاريخية 
بأبعاد وأسباب وديناميات مُركبة من جهةء وباستحضار الوظيفة الأساسية للبنى 
والإطارات الأيديولوجية في مسار التحولات التي تشهدها المجتمعات العربية 
من جهة أخرى. 


(2) انظر: مقالات جلال آمين في: الشروق (القاهرة)» 2014/7/29« 2014/8/5« 
و19/ 8/ 2014ء وجميعها متوافرة على الموقع الإلكتروني للجريدة» في: http://shoroukrews.com‏ 


68 


العربية» من خلال بحث علاقتها المُفترضة بالفكر العربي المُعاصر» ومع أفكار 
النهضةء ومن خلال تتبع مُخرجاتها الدستورية» في علاقة بانفجار سؤال الهوية 
والانتماء الثقافيء ومن خلال تحولات الأبعاد الثقافية للثورات بين لحظة 
الساحات العمومية والميادين من جهة» واليوم التالي للثورة من جهة أخرى» ثم 
من خلال انشغالات المُثقفين بأسئلة ما بعد الانفجار الكبير في عام 2011. 


إذا كان التفكير فى السياق الثقافى لزمن ما قبل الثورة» يتطلب استحضار 
التحولات ذات الطبيعة الثقافية أو السوسيوثقافية أو القيمية التي ترتبط بمسار 
الولادة العسيرة للفرد داخل المجتمع العربي» وبالنظر إلى أهمية التحولات التي 
أفرزها تطور الوسائط التواصلية فى علاقة باستحداث فضاء عمومي بمواصفات 
تداولية جديدة» وبالنظر أيضًا إلى تقدم الفاعلية المدنية والمواطنية في داخل 
النسيج المجتمعي العربي؛ فبالنسبة إلى قراءة الأثر الثقافي للثورة يمكن إعادة 
تركيبه من خلال التفكير فى المفارقة بين لحظة الساحات العمومية» حيث تحدّث 
بعض التحاليل عن ولادة جيل مابعد «هُووي»؛ ولحظة اليوم التالي للثورة التي 
شهدت البروز الكبير لما يمكن تسميته» بنوع من التجريد» المثقف الهوياتي الذي 
يقدم كل مساهمته العمومية لخدمة ادعاء هوياتي انتمائي ديني أو قومي. 


إن خصوصية الثورات العربية بوصفها ثورات حدثت خارج دائرة 
«السرديات الكبرى2» تجعل من المشروع التساؤل عن مدى إمكان الحديث عن 
وصفها بثورات ديمقراطية. وفى الوقت نفسه» يكون النظر إلى هذه الحوادث 
EL Léo y‏ تاريخيًا لخطاب «النهايات»؛ نهاية المثقف» نهاية السياسةء نهاية 
الأيديولوجياء ونهاية التاريخ أيضًا. 


إضافة إلى ذلك» يطرح التفكير في آفاق السؤال الثقافي لمابعد الثورات 
حاجة ملحة إلى استئناف أسئلة الإصلاح الثقافي والفكري ضمن المعركة الكبرى 
لاستنبات قيم الحداثة وروح العصرء الأمر الذي يطرح مقاربة جديدة للمسألة 
الثقافية تنقل التفكير من هواجس الهوية إلى افاق الحرية» ونتتقل معها من حالة 
المثقف الهوياتي إلى وضعية المثقف الديمقراطي. 


69 


تنطلق فرضية البحثء من قابلية الثورات العربية للقراءة الثقافية» القراءة التي 
e tee‏ 
العربية في عام 2011 . وهو توصيف نرى أنه لا بد أن ينطلق» على الأقل» من 
ثلائة مداخل؛ يتعلق الأول بالمفارقات الثقافية التى يستدعيها سؤال المثقف 
والثورة» سواء بشأن الحديث عن «غياب» المثقف» أو بشأن تأرجحه بين منطقّي 
الثورة والإصلاح» أو بشأن سياق الثورات في علاقة بفكر «النهايات» الل 
الثاني» فيرتبط بالبحث عن الأثر الثقافى للثورات على صعيد التفكير فى الدولة 
المدنيةء والاستقطاب الكبير الذي أضحت تُمارسه أسئلة الهوية. إضافة إلى 
ذلك» يتجه المدخل الثالث نحو قراءة ثقافية للمخرجات الدستورية التى أنتجت 
في سياق الثورة. ثم نتبعه بأسئلة ثقافية لمابعد الثورات» كما برزت في الأقل من 
خلال إنتاجات مُثقفين عرب. ونختم البحث بخاتمة نحملها عنوان «في الحاجة 
إلى العروي». 


أولا: المثقف والثورة 


كان اتساع «الربيع العربي» مفاجنًاء بل صادمّاء للجميع من دون استثناء؛ 
من الإسلامي الذي لو اعتّمدت نتائج الانتخابات التونسية والمغربية والمصرية 
مقياسًا لشعبية معقودة الطرف له منذ عقود. لأحرجه السؤال: ماذا كان يفعل طوال 
هذه الأعوام إذا؟ إلى الليبرالي الذي حمل قنديل ديوجين بحمًا عن «الأفراد»» في 
تراكمها البدائي الأولء فإذا به أمام عودة «الجماهير؟» إلى الممانع الذي حسب أن 
«الجماهير» تتنزل بحسب ركامه العقائدي بادئ ذي بدء» ل «ايتنبه) من ثم» إما إلى 
شبهة تجمع "الربيع العربي» بأنموذج «الثورات المخملية» في شرق أوروباء وهي 
ثورات د تشتبه فيها «نظرية المؤامرة؛ و«أصابع الولايات المتحدة الأميركية»؛ وإما 
إلى شبهة تجعل من هذا الربيع «ثورة إخوانية» شاملة©. 


(3) وسام سعادة؛ «الربيع العربي والفكر العربي: الاستبداد الملتبس و«اللحظة النقدية» المفقودة» 
مجلة كلمن (بيروت): عدد 5 )22 2072( فى: http#bit.Iy/INAoOVA.‏ 


70 


إن تمثل حدث الثورة بوصفه مفاجأة استراتيجية توجد خارج آفق انتظارات 
الفكر العربى بتياراته المختلفة» وهو الذي ولد سلسلة من المفارقات المتعلقة 
بالموضوع» أولها ارتباط الثورة بغياب المثقف الثوري كجزء من منظومة 
أيديولوجية متكاملة» وثانيها تزامن الثورة مع سيادة فكرة الإصلاح السياسي 
المتدرج والديمقراطي» وثالثها يرتبط بتساوق زمن الثورة مع أثر فلسفة مابعد 
الحداثة» خصوصًا ما يتعلق بأطروحة نهاية السرديات الكبرى. 


1 - ثورة من دون مثقف 


ارتبط التفكير في الثورة» بالتفكير في المثقف» بوصفه فاعلية مجتمعية 
حاضرة/ غائبة في حدث الثورة» حيث وجد المثقف نفسه» بخض النظر عن التباس 
علاقته بها كحدث في التاريخ» مُطاليًا بتحليلها وقراءتها؛ خصوصًا أن الثورات 
العربية قدمت نفسها في البداية LS‏ فكري» أمام العجز الفادح للنماذج التحليلية 
التي تقدمها شبكات القراءة المُعتادة والمُستعملة في تحليل الديناميات الثورية. 


في هذا السياق فحسب. يُمكن فهم شيوع مُسمى «الربيع العربي» حتى في 
أوساط المثقفين» حيث استخدمت هذه الاستعارة المقبلة من الصناعة الإعلامية 
الغربية» المبنية على السرعة والسهولة والتنميط؛ لتمنح الباحثين نَفْسّا إضافيًا في 
طريقهم المعقدة لفهم حوادث 2011» وقراءتها وإعادة بناء تركيبها في ضوء 
النماذج التفسيرية الجديدة. 

هكذا جاءت الثورة في الوقت غير المُلائم تمامًا بالنسبة إلى المثقف الثوري 
في الأقل؛ إذ رأى هذا المثقف» تحت تأثير التقائه بفكرة الديمقراطية) أن يظل 
كذلك (أي مثقمًا ثوريًا)» وأصبح أكثر ميلا إلى الإصلاح» LL fc‏ علن Le ji‏ 
فى الرهان على الانتقال الديمقراطى. لذلك» فإن الحديث عن غياب المثقف عن 
الثورة يعني - بالنسبة إلى كثيرين - غياب المثقف الثوري تحديدًاء ما يعني غيابا 
للنظرية الثورية ومرادفاتها الأكثر حميمية: الأيديولوجيا الثورية والحزب الثوري. 

في الواقع» يوضح هذا التحليل كذلك أن استدعاء مقولة غياب المثقف. 
ينطلق من خلفية كاملة للتفكير في موضوعة الثورة» الأمر الذي يجعل هذا التحليل 


71 


نفسه أسيرًا لمقاربة أيديولوجية معينة. بل إن ما هو أكثر من ذلكء أن التفكير في 
سؤال المثقف والثورة يفضي إلى تجاوز صورتين جاهزتين ومتكاملتين» تفرضان 
نفسيهما كجوابين حاسمين» عند استحضار السؤال المذكور. فإحداهما تتعلق 
بصورة «مُتخيلة» للمثقف المُخلص الذي يتقمص روح الأمة وبُّطولتها. أما 
الأخرى» فهي ترتبط بفكرة عامة وسهلة سائدة في شأن «انسحاب المثقف». 

لذلك تحتاج أطروحة «الغياب» نفسها إلى كثير من التنسيب وتجاوز 
الأحكام المُسبقة وفتح مسالك مُغايرة لبحث هذا الغياب كفرضية» لا كمنطلق 
حاسم للتحليلء ما يعني إمكان تقديم قراءة أخرى تعتمد أطروحة التحول بدلا من 
مقولة الغياب» تحول في الوظيفة وفي الأدوار. 


2 - مثقف الإصلاح وزمن الثورة 


يبرز وجه المفارقة الثانية التي تفرض نفسها عند النظر في حدث الثورة 
من زاوية ثقافية/ أيديولوجية» في أن الثورات العربية جاءت تحديدًا في زمن 
تخلى فيه الفكر العربي» بتياراته الكبرى» عن فكرة الثورة. ولعل هذا ما جعل 
بعض الباحثين» ينتبه إلى أن العودة الصاخبة لمعجم الثورة الذي اكتسح من 
جديد خطابات الإعلام والسياسيين والمثقفين» بمنزلة ثأر الثورة لنفسها على 
صعيدين: صعيد الواقع والتاريخ الذي أجل قيامهاء وصعيد الخطاب من الذين 
غيبوهاء بل الذين أعلنوا توبتهم من ذنب الافتتان بهاء في لحظة سلّم فيها الجميع» 
أو كاد. أن عصر الثورات ولى وفات بلا رجعة؛ ذلك أن مسار تطور الأفكار 
السياسية العربية» إلى حدود زمن «الربيع العربي»» بقي يوحي أن تجرية «الثورة» 
آلت إلى الإخفاق في فهم ذاتها وتاريخها ومجتمعها الخاص”*؛ الأمر الذي دفع 
الاتجاهات الأساسية للفكر العربي» إلى عَدَ مفردات «الديمقراطية» و«التوافق» 
و«الانتقال» بدیلا من المعجم الثوري الحافل بالقطائع وبالأيديولوجيات. ويصح 


(4) مرشد القبي» الثورة في الفكر العربي المعاصر (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 
4 ص 215. 

(5) عبد الإله بلقزيزء أسئلة الفكر العربي المعاصر (الدار البيضاء: سلسلة المعرفة للجميع» 1998( 
ص 18. 


72 


ذلك في شأن التيارات الإسلامية والقومية بقدر ما يصح في شأن التيار اليساري؛ 
بما في ذلك حساسياته الأكثر جذرية» مثل الحركة الماركسية العربية التي أصبح 
نشاط معظمها محكومًا بأولوية الديمقراطية والنضال الديمقراطي» بالمعنى 
الليبرالي». 1 

جاءت الثورات فى لحظة عربية مُفارقة» غابت فيها الثورة عن جدول أعمال 
الفاعلين السياسيين» وتخلت فيها النخب الفكرية والسياسية في المجتمعات 
العربية عن تمثلاتها القطعية في شأن التغيير؛ إذ كانت هذه النخبء بيسارييها 
وقومييها وإسلامييهاء قد تخلت» في معظم الأحيان» عن تصورات التغيير 
الثوري» وأصبحت أميل إلى اعتماد مفاهيم المواطنة والمجتمع المدني والانتقال 
الديمقراطى. وبالدرجة التى أصبحت هذه النخب تفكر فى بناء توافقات متبادلة 
بينهاء أصبحت تفكر في الوقت نفسه في إمكانات التوافق مع أنظمة الحكم لإنجاح 
الانتقال المعقد للديمقراطية. 


هناء على المستوى النظري» ركز أصحاب أطروحة الانتقال في الحسابات 
العقلانية التي اتبعتها كل من النخب الحاكمة والنخب المعارضة» بجناحيها 
الراديكالي والمعتدل» التي أدت في النهاية إلى اعتماد انتقال إلى أنظمة مدنية 
ديمقراطية بطريقة سلمية. وكانت نتيجة التوظيف الواسع لأطروحة الانتقال هي 
التخلي عن الاهتمام بالثورة كظاهرة سياسية وكإشكال نظري والاهتمام بدلا منها 
بمراحل ديمقراطية غير ثورية» لصت هذه الوضعية في عبارة «صندوق الاقتراع 
هو كفن الثورات06©. 

إن التفكير اليوم في جدلية الإصلاح والثورة» لا بد من أن ينطلق من 
استنتاجات عدد من الدراسات التي وقفت على أن سلسلة الإصلاحات التي 
عرفتها البلاد العربية على امتداد العقدين السابقين لعام 2011» كان لها أثر واضح 

(6) سلامة كيلة» وضعٌ الثورات العربية ومصيرها (دمشق: خطوات للنشر والتوزيع» 2013)) ص 108. 

(7) عبد الحي مودنء (الرجة الثورية العربية: على ضوء نظريات الثورات والاحتجاجات»». في: 


عبد الحي مودن» وآخرون» a‏ حول انطلاق الربيع العربي (الرياط: منشورات كلية الآداب» 2011(« 
ص 24. 


73 


في وعي المجتمعات العربية» وتطور ثقافتها السياسية» وصولًا إلى لحظة التغيير 
الک ۳ 

إذا كان لا بد من خلاصة فى هذا المستوىء فإن الحاجة إلى إعادة تركيب 
النظر في مقولات الفكر العربي» في ضوء انفجارات 2011» وما تلاها من هزات» 
تتطلب تجاوز المقاربة «المانوية» التي هيمنت كثيرًا على التفكير فني زوجي «الثورة 
ho}‏ . فتطور الوقائع وعنادها أثبت» من دون أي شك أن الثورة ليست بديلًا 
بسيطا من الإصلاح؛ وأن الإصلاح في كثير من حالات ما بعد الثورة يبدو أكثر 
راديكالية وتعقدًا. 


يؤكد عزمي بشارة في هذا الصدد أن لا مبرر لتلك المقابلة بين مفهومّي 
الإصلاح والثورة كأنهما متناقضان إلا تلك الخصومة في داخل الماركسية التي 
أصبحت نقاشًا هامشيًا في عصرنا. فالثوري؛ كما تبيّن لاحقاء يجب أن يكون 
إصلاحيًا يقود إصلاحًا في النهاية» كما يمكن أن يقود الإصلاحي ON EN po‏ 
إذ يقول: إن الثورة لتغيير النظام شرط ضروري في الدول الاستبدادية الرافضة 
للوصلاح. وتغير النظام هو شرط ضروري لكنه غير كاف. فالثورة الديمقراطية 
لا تقود إلى الديمقراطية بفعل واحد هو قلب نظام الحكم» بل من خلال عملية 
إصلاح وبناء طويلة المدى تعقب تغيير نظام OA Sal‏ 


3- ثورة في زمن نهاية الثورات والسرديات الكبرى 

وقفنا على مفارقة الثورات التي حدثت من دون حاجة إلى المثقف الثوري 
المُلهم» على النحو الذي حكم - في مرحلة سابقة - تمقّل المخيال الثقافي 
والسياسي العربي» لأنموذج الثورة» ثم على مفارقة ثانية تمثلت في مجيء الثورات 
في سياق سادت فيه فكرة الإصلاح داخل الفكر العربي المعاصر. وتتجلى المفارقة 


(8) امحمد مالكي» «دور الثقافة السياسية في تفجير الثورات العربية؛» في: مجموعة مؤلفين» 
الانفجار العربي الكبير: في الأبعاد الثقافية والسياسية (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة 
السياسات» 2012)» ص 289. 

(9) عزمي بشارة» في الثورة والقابلية للثورة (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة 
السياسات» 2012( ص 33. 

(10) المرجع نفسه» ص 4. 


74 


الثالثة في قدوم الموجة الثورية العربية في زمن أرخت على مناخه الأيديولوجي 
فكرة النهايات» نهأية الثورة» نهاية التاريخ» نهاية الأيديولوجياء أو حتى الحديث 
عن نهاية المثقف نفسه أو موته"'. وذلك انطلاقًا من تأثير التوجهات العامة 
التي طبعت فكر مابعد الحداثة» بوصفه فكرًا يُنكر النظريات الكبرى التي تحاول 
تقديم تفسير شمولي للظواهر» وتتخذ شكل منظومات كبرى مغلقة نموذجها 
الأيديولوجيات الكبرى”'. 


هنا يكمن وجه المفارقة تحديدًا في القدوم المُجلجل لهذه الموجة الثوريةء 
في زمن سيادة الادعاء المركزي لمابعد الحداثة القائل إن زمن السرديات الكبرى 
(التقدم والتنوير والثورة ...إلخ.) أفل» وإن عصر الثورات انتهى» وإن مستقبل 
الثورات أصبح مشكوكًا فيهء خصوصًا بعد أن تلاشت المرجعيات والمحركات 
والأيديولوجيات والسرديات الثورية الكبرى في IL‏ 


وقف كثير من مراجعات الحداثة على فكرة نهاية الثورة» تحت الكثير من 
المبررات» منها أن الثورات لم تعمل إلا على تكوين السلطة المطلقة للموجهين 
الثوريين الذين «يتماهون» مع طهارة الثورة ووحدتهاء لكنها لم تستطع تحقيق 
وحدة السيرورة التاريخية إلا باستبدال تعددية الفاعلين الاجتماعيين وتعقد 
علاقاتهم من خلال وحدة الأمة والشعب والجماعة المنصهرة؛ إذ تنكرت الثورات 
دائمًا للديمقراطية» وفرضت على مجتمع منوّع منقسم طبقات» وحدة لا يمكن أن 
تكون إلا وحدة دكتاتورية""'. وبالنسبة إلى آلان تورين» فإنه يتمثل» دائمّاء الواجب 
الأول للمثقفين فى الإعلان أن الثورة كانت دائمًا هى عكس الديمقراطية: «ليست 
الحداثة هى انتصار الواحد» ولكن اختفاؤه واستبداله بإدارة العلاقات الصعبة 
والضرورية؛ ومن ثمء بين العقلنة والحرية الفردية والجماعية»9". 

Pierre Nora, «Adieux aux intellectuels?,» Le Débat, no. 110 (mai 2010), p. 4. (11) 


(12) محمد سبيلاء الحدائة وما بعد الحذاثة (الدار البيضاء: دار تويقال للنشرء 2000)» ص 0 7. 
(13) نادر کاظم» «نهاية السرديات الصغرى: فى تجاوز أطروحة ما بعد الحداثة»» تبين» السنة 2» 


العدد 8 (ربيع 2014)» ص 74. 

(14) آلان تورين» نقد الحداثة؛ ترجمة عبد السلام الطويل (الرياط: دار أفريقيا الشرق» 2010)» 
ص 91. 

(15) المرجع نفسه. 


75 


في نُصوص أخرىء يبدو هذا الفيلسوف الفرنسيء أقل إطلاقية؛ إنه يطرح 
مثلا سؤال: هل صحيح أننا خرجنا مما دعاه إريك هوبزباوم «عصر الثورات»؟ 
ثم يستحضر سياق ما بعد ple‏ 61989 المرتبط بانتصار المثال الديمقراطي تقريبًا 
في كل مكانء وعولمة الاقتصاد. وانتشار التقانة الجديدة والمعلومات» والحديث 
عن المجتمع المدني. ومع ذلك يقر تورين أن هذا التفاؤل الديمقراطي في جانبه 
الأعظم تفاؤل وهميء شارحًا ذلك أنه ليس باستمرار النظم الاستبدادية فحسب» 
لكن باتخاذها المظهر الديمقراطى نفسهء فضلا عن انتصار الرأسمالية الجديدة» 
المتخمة بالتحكم الديمقراطي والمنتجة للتهميش. هناء فإن هذه الشروط إذا 
كانت مع ذلك لن تكفي لتقوية الحركات الاجتماعية وتكوين الأحزاب الثورية» 
داخل بلدان المركزء فإنها في البلدان الأخرى» ستسمح ببروز ردات فعل لها طابع 
ثوري. وهناء فإن ما يسميه بعضهم «الإسلامية» ليست حركة دينية أصولية» على 
الرغم من مظهرهاء إنما هي حركة سياسية خالصة تحشد الموارد القومية والدينية 
كي تؤسس بها سلطتها المطلقة9"©. 
عل فحن D pee pl ge den Je cf cost ef É]‏ 
مابعد الحداثة الأول «السرديات الصغيرة»» المحلية والمتعددة والعرضية والموقتة» 
التي تمثل «خطابات تشكلها جماعات أو تجمعات معينة لتحقيق أهداف محددة 
لها طبيعة مرحلية وبراغماتية» ولا تحمل الطابع الشمولي ولا السلطوي القسري 
للسرديات الكبرى؟؟ فهذه السرديات يمكن أن تتحالف على نحو موقت» من جهة 
أن لكل واحدة منها مرجعيتها الفكرية المختلفة عن غيرهاء من دون أن تشكل 
سردية كبرى”"» أم هل أننا في الواقع أمام ثورات تصلح كي تُشكل لحظة تاريخية 
لنهاية السرديات الصغرى كذلكء وتجاورًا لأطروحة مابعد الحداثة؟ انطلاقًا 
من أن هذه السرديات المذكورة وصلت إلى طريق مسدودة» حتى أنها صارت 
عصيةء وأنها بوصفها سعي البشر من أجل «الحظوة الفردية بالسلع» والخدمات 
والخيرات» فهي انفلتت من بين أيدي معظم POS NT‏ 


(16) آلان تورينء «الثورة أم الديمقراطية؟»» ترجمة محمد سيف الثقاقة العالمية» العدد 88 
(حزيران/ يونيو 1998)» ص 45. 

(17) مديحة دبابي» ١ما‏ بعد الحداثة»» في: على عبود المحمداوي» وآخرون» خطابات ال ةما بعد»: 
في استنفاد أو تعديل المشروعات الفلسفية (الرباط: دار الأمان» 2013): ص 154. 

(18) كاظم. 


76 


إننا نميل إلى التفكير في موضوع أطروحة مابعد الحداثة» انطلاقًا من الوعي 
أن اتجاهات أفكارهاء كما وقف على ذلك عزمي بشارة» كانت دائمًا متضلعة من 
إحلال السرديات محل علاقات الواقع» ومعظم الأحيان بررت بذلك سياسات 
محافظة وغير نقدية فى النهاية» تفعل ذلك عندما يُنظر إلى القيمة على أنها هي 
اللاقيمة» وإلى الحل من جهة أنه انعدام القيم والمواقف» وإلى أن السياسة الوحيدة 
الممكنة هى نقد السياسة» وعندما يلجأ المثقف إلى كتابة غير امتثالية» لكنها لا 
تتضمن نقدًا أو مواقف أخلاقية» قد تقود في النهاية إلى الامتثال فما هو قائم على 
علله» بذريعة أن البدائل أسوأء أو أن الصراع ليس بين خير وشرء أو قبيح وحَسَنء 
أو بين عدل وظلم» إنما يحصل بين «تمثلات مختلفة للقوة» أو أن الصراع يحصل 
بين سرديات مختلفة وليس بين ظالم ومظلوهم*". 

إنه الاتجاه الذي لا يبتعد كثيرًا عن تحليل الاقتصادي المصري سمير أمين 
الذي يرى أن مذاهب مابعد الحداثة لا تعدو أن تكون تجليًا طوباويًا سلبيّا كصورة 
عكسية للطوباويات الخلاقة الإيجابية التي تدعو إلى تغيير العالم وتطويره ما 
يجعلها نظريات تقبل في النهاية الخضوع لمقتضيات الاقتصاد السياسي للمرحلة 
الراهنةء فالحداثة لا نهاية لهاء وستبقى ما استمرت الإنسانية*. 


ثانيًا: الأثر الثقافى للثورات 
بين التقاطب والتقاطع الأيديولوجي 

1 - فى أثر «الساحات العمومية»: البحث عن التقاطع؛ حالة مفهوم الدولة 

المدنية 

لا يوجد في علم السياسة مصطلح يسمى «الدولة المدنية». يوجد التعريف 
الكلاسيكي لمفهوم «الدولة»» وهي تتكون من عناصر ثلاثة: أرض وشعب 
ومؤسسات. ويوجد مفهوم #المجتمع المدني»» وهو يتكون من مجمل المؤسسات 

(19) عزمي بشارة» #عن المثقف والثورة»» تبين» السنة 1 العدد 4 (ربيع 2014): ص 14 

(20) سمير أمينء «تجاوز الحداثة أم تطويرها؟»؛ في: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي» ما بعد 


الحداثة (الدار البيضاء: دار تويقال» 2007( 0 1 5. 


77 


غير المنضوية إلى هيكل الدولة”©. إننا أمام تعبير غير مصوغ بطريقة نظرية 
ومفهومية مُجردة» ما يجعلنا لا نتعرف إلى مضمونه تحديدًا كنظام سياسي2©. 

برز الجدل في شأن الدولة المدنيةء كأحد المفاهيم التي شكلت كجزء من 
الارتدادات الفكرية لموجة «الربيع العربي». نعم» كان المصطلح سابقًا بعقود 
حوادث 2011» لکنه ما كان ليحظى بمثل هذا الانتشار والتداول والحضور 
العمومي لولا سياق ما بعد الثورات. وفى هذا السياق» سيتبين أن مكوّنات الدولة 
المدنية تتضمن الديمقراطية والمواطنة وسيادة القانون. فهي الدولة التي يتساوى 
فيها الجميع في الحقوق والواجبات» وهي ي التي تضمن حقوق الأقليات وتضمن 
مشاركتهم في المجال السياسي. إنها دولة عصرية وحديثة تستمد قوتها من دساتير 
وممارسة سياسية قائمة على المساءلة والمحاسبة كما نادت الشعوب العربية في 
الساحات027, 


سيبدو هذا الحضور في الواقع مُواز موضوعي لغياب مفهوم آخر عن التداول 
العام ليس سوى الكلمانيةء حيث لم يفض أكثر من قرن على ولوج الفكرة العلمانية 
في ساحة الفكر العربي إلا إلى تكريس التباساتها الأيديولوجية» وعزلتها كاختيار 
سياسي. وإذا كانت جبهة الحداثة في خريطة التيارات الفكرية العربية المعاصرة 
لم يُجمع على اعتمادها بوصفها إحدى مقومات النهضة الممكنة» إما بدعوى أنها 
فكرة مستوردة (برهان غليون)» أو أنها ليست مطابقة للحاجة التاريخية العربية» 
مثل مطلبي الديمقراطية والعقلانية (عابد الجابري)» فإن الرهان على مسار «علمنة 
موضوعية صامتة» قادرة على فرض طابع «الزمنية» على الدولة الوطنية» تعرض 
هو نفسه لإخفاق ذريع. 

هذا ما جعل الجهد الفكري المنافح عن مشروع العلمانية يعيش على إيقاع 


(1) عطالله السليم» «بحث حول الدولة المدنية؟» في: آفاق الدولة المدنية بعد الانتفاضات العربية 
(بيروت: معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية» 20173( ص 13. 
Fadma Aïtmos & Driss Ksiks, «Dialogue avec Rahma Bourquia,» dans: Fadma Aitmos & (22)‏ 


Driss Ksiks, Le Métier d'intellectuel: Dialogues avec Quinze Penseurs du Maroc (Casablanca: En Toutes 
Lettres, 2014), p. 260. 


(23) السليم» ص 29. 


78 


تصاعد التقليد والمحافظة والإسلام السياسي في المجتمعات العربية» سياق جعل 
العَلمانية تصبح بتعبير جورج طرابيشي كلمة ارجيمة؟ في سوق التداول المفاهيمي 
العربي. وربما يكون مثل هذا الوضع هو ما جعل التيارات التقدمية» في ساحات 
التغيير العربية» تشاطر التيارات الإسلامية شعار الدولة المدنية» وهو شعار يحفظ 
للعلمانيين دفاعهم عن مجال سياسي بشري» ووضعيء تسوده النسبية وشرعية 
الاقتراع العام» ويجنبهم صدامية الدعوة المباشرة إلى العَلمانية» ويجسد خطوة 
مهمة في إطار مراجعات الفكر السياسي للحركات الإسلامية وتكيفه مع متطلبات 
تذبير الشأن العام. 


في هذا الصدد. نق رأفي البرنامج الانتخابي لحزب «الحرية والعدالة» المصري 
الذي خاضت باسمه جماعة الإخوان المسلمين الانتخابات التشريعية في عام 
Lu ,x5 «2012‏ لخصائص الدولة المرجوة» بوصفها كذلك دولة مدنية. فالدولة 
الإسلامية مدنية بطبيعتهاء وهي ليست دولة عسكرية يحكمها الجيش» ويُتوصل 
فيها إلى الحكم بالانقلابات Dos cu Li LS çà ua‏ أمنية تهيمن عليها 
أجهزة الأمن» كما أنها ليست دولة «ثيوقراطية» تحكمها طبقة رجال الدين» فضلا 
عن أن تُحكم باسم الحق الإلهي. ولعدم وجود أشخاص معصومين يحتكرون 
تفسير القرآن ويخوضون في التشريع للأمة ويتصفون بالقداسة» فإن الحكام في 
هذه الدولة مواطنون منتخبون وفق الإرادة الشعبيةء والأمة هى مصدر السلطات 
وأساس تولي الوظائف المختلفة فيهاء هي الكفاءة والخبرة والأمانة. 


بالنسبة إلى الفقيه المقاصدي أحمد الريسوني» فإن الإسلاميين المتحفظين 
على مصطلح «الدولة المدنية»» موافقون ومتفقون تمامًا على رفض ما يُضاد 
الدولة المدنية» خصوصًا الدولة الثيوقراطية» بكل مفاهيمها ونماذجها المعروفة 
في الثقافة المسيحية وفي التاريخ المسيحي الأوروبي؛ فالدولة التي يؤمن بها 
الإسلاميون بمدارسهم كلها با ي pile Je dire o AL els‏ 
«الدولة المدنية» - ليس لأحد فيها قداسة أو عصمة أو سلطة مطلقة» وليس فيها 
من يأتي إلى الحكم أو يمارسه بتّسب إلهيء أو بتفويض إلهي**. لذلك يمكن 


(24) أحمد الريسونيء فقه الثورة: مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي (القاهرة: دار الكلمة للنشر 
والتوزيع» 7373 )حص 97. 


79 


قراءة مطلب الدولة المدنية في ضوء السياق السياسي» كصيغة توافقية تعززت في 
ظل ملابسات تقارب العَلمانيين والإسلاميين في ساحات الربيع العربي. 

على أن الاختبار الأول لهذا التوافق كان - على نحو ما سنراه لاحقًا فى 
هذه الدراسة - لحظة كتابة دستور «أنظمة» ما بعد الربيع العربي» حيث برزت 
قضايا الهوية» وتوصيف الدولة في علاقة بالدين» وموقع الشريعة في عملية 
صوغ القوانين» إحدى أسئلة دستورانية الربيع العربي؛ إذ أعادت الثورات العربية 
ودساتيرهاء موضعة «الدولة المدنية» بوصفها شعارًا مرحليًا يسمح بتوافق 
الاتجاهات الأساسية عند كل من الإسلاميين والعَلمانيين. والواقع أن الطابع 
التكتيكي والسياسي لمضمون «الدولة المدنية»» سيبرز قابليته الكبيرة للتأويل» 
خصوصا من بعض تيارات الإسلام السياسي» وهي التي دافعت مثلا عن تصور 
الشيخ القرضاوي الذي تحدث عن «الدولة المدنية بالمرجعية الإسلامية». 

هناء ترجع هشاشة المضمون السياسي الذي جرى منحه لهذا المفهوم» في 
الوقت نفسه لارتهانه بمعطيات السياق السياسي» خصوصًا مع بعض المآلات 
غير السعيدة لوحدة «النضال الميداني؟ بين الإسلاميين والعَلمانيين» فى لحظة 
«الساحات العمومية»؛ الأمر الذي je‏ الأسئلة العميقة في شأن علاقة الدين 
بالسياسة» والحداثة السياسية والإصلاح الديني والمواطنة» تعود لتظهر من جديد» 
كاشفة عن الحدود التي يحملها مفهوم «الدولة المدنية» نفسه. 


2- في أثر اليوم التالي للثورة: شرخ الهوية/ تقاطعات الأيديولوجيا 


أ- قلق الهوية 

فى كتابه أمريكا: الأنا والآخر» من نحن: الحدل الكبير فى أمريكا”. ينطلق 
هنتنغتون من الإقرار أن أزمات الهوية أصبحت ظاهرة كونية» على الرغم من 
الاختلاف في الشكل والجوهر والحدة. لذلك يرى أن تعريف «من هو الشعب؟6 

(25) صامويل هتتنغتون» أمريكا: الأنا والآخرء من نحن: الجدل الكبير في أمريكاء ترجمة عثمان 


الجبالي المثلوتي (طرابلس: منشورات المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر. 2006). 


80 


أمر غير قابل للالتفاف» وأن الجواب ضروريء أكان نتيجة تقليد عريق وراسخ» أم 
حصيلة حرب أو غزوء أم خلاصة استفتاء أم صوغ دستوري أم غير ذلك. المؤكد 
أن جدل الهوية كثيرًا ما يطفو على السطح في حالة التحولات الكبرى للمجتمعات 
والشعوب والدول. وضمن هذه الخلفية» كان من الطبيعي أن يُبرز سؤال الهوية كأثر 
مُباشر للثورات العربية» وأن تطرح الشعوب السؤال الصعب والخطر والضروري: 
لامن نحن؟0؟ وأن تتنافس الادعاءات الهوياتية في تقديم مشروعات الأجوبة» وهو 
أمر من شأنه أن يُضاعف الإشكالية ليُحولها من أزمة هوية إلى أزمة خطابات في 
شأن الهوية. 


إن الهوية هي مجموعة السمات الثقافية التي تمثل الحد الأدنى المشترك 
بين جميع الذين ينتمون إليهاء التي تجعلهم يعرفون ويتميزون بصفاتهم تلك 
من سواهم من أفراد الأمم والجماعات الأخرى. وقد تتطور الهوية بالانفتاح 
على غير» وقد تنكمش (تتحدد أو تنقلص/ تنحصر أو تنتشر) لكنها - من دون 
أدنى شك - تغتني بتجارب الناس ومعاناتهم وانتصاراتهم وآمالهم» وتتأثر سلبًا 
وإيجابًا بالعلاقة بالآخر©"©. لذلكء فالهوية ليست معطى جاهرًا ونهائيّاء إنما هى 
عمل يجب إكماله دائمًا؛ فالتغيير هو الذي يطبع الهوية لا الثبات» والتفاعل لا 
الانعزال”*» أو ما يسميه كمال عبد اللطيف «معطى التجاوز والانفلات» كمحدد 
أساسي في فهم الهوية. 

إن الهوية ليست وعيًا بماهية خالصة» جوهريةء ميتافيزيقية ومطلقة» بل هي 
نتاج سيرورة تاريخية"* من التحول والتجدد وإعادة التعريف وتغيير دوائر الاثتماء 
والتطور المستمر. وتتجلى خطورة الخطابات في شأن الهوية في قابلية الانزياح 
للمنطق الحربي وللثنائيات الحادة» ولتبرير الإقصاء والتفوق والتراتبية والكراهية 
والكصدرية عل نتكوما يسمية أمين معلوف«الهويات القائلةة: 

Le (26)‏ الحسين شعبانء جدل الهويات في العراق: الدولة والمواطنة (بيروت: الدار العربية 
للعلوم — 60 59« 2010( ص 71. 


(27) المرجع نقسه. 
(28) رضوان سليم» الشورة الديمقراطية (الرباط: منشورات الجدلء 2013)» ص 157. 


81 


إن الهوية رابطة» أو نتاج رابطة» لذلك لا يمكن تصور الإعلان عنها بشكل 
أحادي» كما هو شأن كثير من الادعاءات الهوياتية التى برزت فى لحظة ما بعد 
الثورة. وهناء فإن الحديث عن رابطة الاعتراف يفترض أن عناصر الهوية تتشابك» 
وتتداخل وتتقاطع”*. لذلك» فإن جزءًا من الصراع في شأن سياسات الهويةء 
في لحظة ما بعد الثورات العربية» كان يكمن تحديدًا في اختزال الهوية في بُعد 
واحد» وتأسيس الانتماء على ذلك البعد ما من شأنه ألا يحترم تعقد واقع الهوية 
وتشابكه02. وفي لحظة التقاطب والتفاوض والتنافس بين الادعاءات الهوياتية» 
برز الرهان على الجواب الدستوري؛ الأمر الذي أضاف إلى مسار الدسترة 
المعقدة» فى المرحلة الانتقالية التى تلت الثورات» سببًا جديدًا للتوتر» هو سؤال 
الف" ١‏ 

هناء فإن قضية الديمقراطية توجد في قلب التدبير السياسي لهذا السؤال 
الثقافي؛ ذلك أن على الدستور» في نهاية التحليل» أن يعكس الخطاطة العامة 
للصورة التي تتمثلها الدولة لنفسهاء في لحظة تاريخية معينة» وهي الصورة التي 
تتطلب إقرار المجتمع بمكوّناته المنوعة والمختلفة» بل المتصارعة أيضًا(:©, 
وهي التي يفترض ديمقراطيًا أن «تتماهى» كلها مع التعريف الجماعي الذي يقدمه 
الدستور إلى هذه الدولة وهذا المجتمع. 


ننطلق» فى هذه القراءة» من عرض تقاطعات الحالة الثوريةء وانفجار سؤال 
الهوية» على أن نميّز بين صيغتين لحضور هذا السؤال: أولًا فى لحظة «الذروة» 
الثورية» في فورة الساحات العامة» وثانيًا في لحظة اليوم التالي للثورة» داخل 
تقاطبات الادعاءات الهوياتية الحادة. 


(29) محمد نور الدين أفاية» الديمقراطية المنقوصة: في ممكنات الخروج من التسلطية وعوائقه 
(بيروت: منتدى المعارف» 2013)» ص 48. 

(30) عبد الصمد الديالمى» «الهوية والدين»» آفاق العدد 74 (حزيران/ يونيو 2007)» ص 92-79. 

(31) سعيد بنسعيد العلوي» «الهوية المغربية: الثابت البنيوي والفاعل التاريخي»» ورقة مُمَدَمة 
في: الهوية المغربية في ضوء محدداتها الدستورية: ندوة أكاديمية المملكة المغربية» الرباط: 9-8 أكتوبر 
22-2 ذو القعدة 1433ه سلسلة الندوات (الرباط: مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية» 
73) ص 147. 


82 


ب- في الثورة والهوية 

ارتبط» في التاريخ السياسيء انتعاش مسألة الهوية بتفكك الأنظمة الشمولية» 
وشعور بعض الكيانات الخاصة بالانعتاق» وتطلعها لَتَمَلك شكل من أشكال 
الاستقلالية والخصوصية2©؛ ذلك أن الانطلاق من التعريف الدقيق الذي يقدمه 
أنتوني غدنز للهوية» بوصفها منظومة من التفاهمات بين مجموعة من البشر في 
شأن ماهيتهم والمعاني الكبرى ذات الدلالة بالنسبة إليههم””» يجعل من لحظات 
التحول السياسي الكبرى تكثيقًا لتحولات اجتماعية وثقافية عميقة» ومُناسبة 
مثالية لإعادة تعريف مكونات الهوية وعناصرها. لذلك» يرتبط سؤال الهوية دائمًا 
بالتحديات التي تواجهها المجتمعات» أكانت تحديات داخلية أم خارجية. كما 
يرتبط بمراحل التحول والانتقال التي يترتب عليها انقطاع في السياسات» وتشكيل 
أنظمة سياسية جديدة*. 


ضمن هذا الأفق» يكون من الطبيعي أن يذهب بعضهم إلى حد أن «الربيع 
العربي» نفسه. في جوانب عدة منه» ليس سوى إثارة - حادة - لقضية الهويةء 
وليس سوى تعبير عن نوع من أنواع القلق» والخوف عليها””؟ إذ تزامن مُسلسل 
التشكيك والاهتزاز الذي تعرضت له الهوية المركزية المُملاة من الدولة التسلطية» 
في لحظة ما بعد الحراك العربي» مع مسار من تصاعد ما يسميه نور الدين أفاية 
الادعاءات الهوياتية المنوعة والمتنافسة** التي حوّلت كل بلد من البلدان العربية 
التي شهدت ذلك الحراك إلى ما يشبه مختبرًا يعجٌ بالمطالب الهوياتية التي تحتاج 
إلى معالجة ملائمة”. وهذا ما يبدو طبيعيًا؛ فالجدل فى شأن الكيفية التى يمكن 
بها تحديد الهوية كثيرًا ما يطفو على السطح عندما تتحول النظم الأوتوقراطية 


(32) شعبان» ص 16. 

(33) أنتوني غدنزء علم الاجتماع» ترجمة وتقديم فايز الصياغ (بيروت: المنظمة العربية للترجمة 
2005( 5 112. 

(34) عبد العليم محمد «البحث عن هوية جديدة»: الديمقراطية العدد 47 )2012( ص 41. 

(35) سعيد بنسعيد العلوي» «الهوية والعولمة والأيديولوجيا»؛ الشرق الأوسط. 10/ 5/ 2012. 

(36) أفاية» الديمقراطية المنقوصة» ص 42. 

(37) المرجع نفسه. ص 50. 


83 


إلى ديمقراطيات» أو عندما تواجه الديمقراطيات مطالبين ججددًا يرغيون فى 
المواطنة. 1 


إن الثورة تقر أء هناء بوصفها إمكان تحول جذري في سياسة عربية راهنت 
مطوّلا على تشظي الروابط الاجتماعية في المجتمع؛ من خلال تجفيف منابع هذه 
الروابط» ودفعها إلى الذبول» بجعل السلطة المركزية الرابطة الوحيدة الممكنة التي 
تقود إلى الاندماج» وعبر هدم الأطر السوسيوثقافية للمجتمع ليبقى الأفراد» خارج 
العلاقة مع النظام السياسي» مجردين من كل انتماء» ومن كل مرجعية تمنحهم أفقا 
تاریخيًا مغایرٌ ا . 

إن الإقرار بالعلاقة بين الثورة وانتعاش الادعاءات الهوياتية لايعنى بالضرورة 
أن التأثير الذي تحدثه الحالة الثورية في هوية المجتمعات أمر محسوم. نعم إن 
الخطابات في شأن الهوية تتكائر وتتطورء تحت أثر الثورات؛ لكن خخارج خخطابات 
النخب» يجب تنسيب الأثر الفعلى للثورات فى الهويات. 

إن الأثر المباشر للثورة يهم دائرة الثقافة السياسية السائدة. أما الأبعاد الشاملة 
والعميقة والمركبة الهوية فتبقى أكثر رسوححا وتجذرًاء من دون أن ننفي نهائيًا إمكان 
تأثير الثورات فى عناصر معينة من الهوية؛ كتأكيد الذات الجماعية والثقة الفردية 
والجماعية في الذات» وإضافة معالم جديدة لتمثل الجماعة ذاتها*. 


ج- في لحظة الساحات العمومية: من الهوية إلى الذوات الفاعلة 


بالنسبة إلى تورين» الذات الفاعلة ليست من يتكلم بصيغة المتكلم المفرد )١(‏ 
فحسب» بل من يعى حقه فى استعمال هذه الصيغة“. وهى بذلك als‏ عند 
هذا المفكر عن «الأناك» بل وعن «الذات» كذلك. أما فتحى المسكينى» فيميز 


(38) هنتنغتون» ص 34. 

(39) لحسن خو خو خليل» «الربيع العربي: أفكار سوسيولوجية»» ورقة مقَّدّمة في: المثقف وتحولات 
الربيع العربي» سلسلة الندوات 34 (الرباط: كلية الآداب والعلوم الإنسانية - مكناس»ء 2013)» ص 137. 

(40) عبد العليم» ص 275. 


Alain Touraine, Un Nouveau paradigme: Pour comprendre le monde aujourd'hui (Paris: (41) 
Fayard, 2005). 


84 


بين الذات الفاعلة والهوية» انطلاقًا من أن الهوية هي ما #نحن» من دون أي جهد 
وجودي خاصء في حين أن الذات هي ما نستطيع أن نكون, لكن لم نجرؤ بعد 
على الاضطلاع به كأفق حر ووحيد لأنفسن(2». لذلك» ضمن الأفق التحليلي 
نفسه. يؤكد المفكر تورين أن هاجس الهوية يُفسد فكرة الذات الفاعلة» تمامًا مثل 
ظواهر الاستبداد والجهل والانعزال التي تشكل معوقات أمام عملية إنتاجها. 

في السياق العربي» تحيل القطيعة المستعملة داخل الزوج هوية/ ذات فاعلة 
كذلك على طابع الهيمنة الذي حكم هذه العلاقة. فالكائن العربي لم ينتزع فرديته 
أو صفته كمواطن؛ ذلك أن الاستبداد والتسلطية جعلتاه سجين «هوية هلامية» 
تحكمها أسطورة الجماعة و«المتخيل الديني والثقافي»“. 

نأتى إِذّا إلى السؤال الذي نعبر عنه بالصيغة الآتية: هل شكلت لحظة 
الساحات العمومية والانفجار الثوري لحظة انتصار الذوات الفاعلة على 
المحددات الهوياتية؟ تختلف الإجابات بالطبع؛ ما يسمح للفيلسوف بِعَدٌ شباب 
الساحات العمومية جيلا «مابعد هُووَّي!؛ لأنه لم يدافع عن أي مدونة أيديولوجية 
أو رابطة قومية أو منظومة عقدية بعينها**»» حيث انتفض من دون الدفاع عن أي 
«جدار هُورّي» نهائي لنفسه”“» بل ذلك كذوات حرة وكجموع حُرة» حيث لا 
علاقة لمعنى الحريةء هناء بأي معيارية قانونية أو قومية أو دينية©*)» وحيث لا تقدم 
هذه الانتفاضات أي تصور «هووي» جاهز لنفسها. لذلك فهي لا تفرض نمطا من 
الحكم أو جهارًا للثورة أو قيادة منظمة بالمعنى التقليدي”“. فهل يعني هذاء ضمن 
هذا التفكير الفلسفي» أننا كنا آمام ولادة صعبة ومتأخرة للمواطن داخل الساحات 
العمومية في ربيع 2011؟ 


(42) فتحي المسكيني» #الهوية والحرية نحو أنوار جديدة»؛ جداول (شباط/ فبراير 2011)؛ ص 13. 
(43) أفاية» الديمقراطية المنقوصة؛ ص 41. 

(44) المسكيني» ص 240. 

(45) المرجع نفسه» ص 243. 

(46) المرجع نفسه» ص 245. 

(47) المرجع نفسه» ص 242. 


85 


في الواقع» إن حماسة التحليل الفلسفي لا تصل إلى هذه القناعة» ذلك أن 
المواطنة لا تزال» في ثقافتناء فكرة هلامية فارغة من أي مُحتوى حقيقى. باختصار 
وقطعية» يُجيب الفيلسوف: لا وجود لدينا لأي مواطن ناشط بالمعنى الكانطي: 
المواطن الذي يُشارك في صُنع الحالة القانونية كجزء جوهري من حقه في الحرية 
الموجبة"“ رأي لا يشاطره الجميع. فبالنسبة إلى كمال عبد اللطيف» يمكن أن 
نتحدث عن ميلاد الفرد العربى» فى قلب الانفجارات الاحتجاجية الصانعة 
التحولات التي تحققت في المجتمعات العربية» في أثناء de Le «472011 ple‏ 
طريقًا مفتوحة عن إمكان ميلاد مجتمع المواطنة6. 


د- في لحظة اليوم التالي للثورة: من الذوات الفاعلة 
إلى تقاطب/ تفاوض الهويات 
(1) في السياق 


رُبما يكون غياب «المساء الكبير» أحد عناوين اختلاف الثورات العربية عن 
النموذج المرجعي المُتَحَيل للثورة في الفكر السياسي العربي. وفي المقابل؛ يشكل 
تحليل لحظة «اليوم التالي للثورة» أحد مفاتيح قراءة ديناميات ما بعد «الانفجار 
العربي الكبير» الذي شهدته الساحات العمومية في عام 2011. وتُوضح إعادة بناء 
لحظة «اليوم التالي للثورة» طبيعة القوى السياسية التي احتلت المشهد الجديدء 
وطبيعة موازين العلاقة بينهاء ونوعية التحالفات الممكنة والمستبعدة داخل هذه 
القوى» وعلاقاتها بأوساط نفوذ الأنظمة «السابقة» وبالقوى الثورية. 

يرتبط تعقد مسارات ما بعد الثورة» بالطبيعة غير الكلاسيكية لهذه الحوادث» 
من خلال غياب «الحزب الثوري المنظم؟ء ومن حيث الطبيعة غير الأيديولوجية 
لهذه الثورات ...إلخ. وهذه العوامل كلها جعلت سؤال الأيديولوجياء وفي خلفيته 

(48) كمال عبد اللطيف, الثورات العربية: تحديات جديدة ومعارك مرتقبة (الرباط: كلية الآداب 
والعلوم الإنسانية بالرباطء 2013)» ص 49. 


(49) المرجع نفسه» ص 50. 
(50) المرجع نفسه» ص 277. 


86 


قضية الهوية» من الإشكاليات المؤجلة لتدافعات «اليوم التالي للثورة» وتفاوضاته 
وتقاطعاته. وهناء بالنسبة إلى بعض الباحثين» وخلال كثير من محطات هذه 
المسارات المعقدة» كادت الهوية تصبح نقيضًا أخلاقيًا مطلقًا للثورة» وللمعنى 
الذي أنتجته في الساحات العامة» عندما سجل الخطاب في شأن الهوية بعض 
الانزياحات الطائفية المناهضة للاختلاف. فداخل الحالة المصرية» برز انقسام 
واستقطاب ثقافي كبير بين أنصار الحداثة والدولة المدنية من جهة» وأنصار الدولة 
المدنية بالمرجعية الإسلامية من جهة ثائيةء وأعيد طرح قضية هوية مصرء وطرحت 
الأسئلة القلقة: هل الوطنية المصرية كافية بوصفها رابطة عامة؟ أم هل أن هناك 
رابطة أوسع ودائرة انتماء أعم؟ وطرحت مسألة حقوق المسيحيين وواجباتهم 
بصفتهم مواطنين أو ذميين”". وأعيد إبراز السؤال المحوري في هذا الموضوع: 
هل تُوَّسِسٌ الهوية على الانتماء الديني فحسب؟ وهل استطاع المكون الديني أن 
ينفيّ باقي المكونات والأبعاد في المجتمعات والدول التي تدين الأغلبية الساحقة 
فيها بالإسلام أو المسيحية أو البوذية2©؟ 


هكذاء كان للظهور القوي لتيار الإسلام السياسي مُباشرة بعد الثورة أثره 
الحاسم في إعادة طرح السؤال فى شأن هوية مصر؛ إذ حمل هذا التيار خطابًا 


- 


بطابع هوياتي واضح» مع مطلب ضرورة استعادة PLU NI lus pes‏ 
وإن كان بعضهم يرى أن الانزلاق إلى التقاطب الهوياتي مسؤولية مشتركة بين 
التيارين الإسلامي والليبرالي!*؛ ذلك أنه نجح في صرف الإعلام والرأي العام 


(51) محمد شومان. «الجوانب الثقافية في الثورة المصرية؛» في: محموعة مؤلفينء الانقجار 
العربي الكبير: في الأبعاد الثقافية والسياسية (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» 
2). ص 128. 

js (52)‏ عبد الفتاح» النخبة والثورة: الدولة والإسلام السياسي والقومية والليبرالية (القاهرة: دار 
العين للنشرء 2013)» ص 118 

(53) عبد العليم» ص 45. 

(54) طارق البشري؛ «علاقة الدين بالدولة: حالة مصر بعد الثورة»» ورقة مُقدّمة فى: الدين والدولة 
في الوطن العربي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع 
المعهد السويدي بالإسكندرية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيةء 2013)» ص 496 


87 


عن قضايا السياسات التي يجب أن تتبع بعد الثورة» مُركرًا في قضية واحدة تتعلق 
بهوية الدولة المصرية: أتكون دينية أم مدنية؟”*» جاعلا منها بؤرة الاهتمام العام؛ 
وأساس الاستقطاب السياسي. 


لم تسجل الحالة التونسية اختلافا عما سبق ذكره» إلا في التفصيلات. فمباشرة 
بعد انهيار نظام بن علي» تفجر صراع بين النخب السياسية والثقافية في شأن طبيعة 
العلاقة بين الدين والدولة. وبدلا من أن تجري التهيئة الهادئة والعميقة لمناقشة 
هذه القضية الحساسة؛ اكتسى الحديث عنها صبغة حادة لم تخل من تشنج وتباذل 
اتهامات بين الإسلاميين والعَلمانييه ©6, 


من وجهة نظر أحد الباحثين» من العَلمانيين ممن رأوا أن الفرصة قد تكون 
سانحةء بعد الثورةء للدفع نحو ما لم يجرؤ عليه بورقيبة» أي التنصيص الدستوري 
على لائكية الدولة والمجتمع. وفي مقابل ذلك اعتقد معظم الإسلاميين أن 
اختفاء السلطة القاهرة يسمح بأن يقع «تصحيح التاريخ؟ الذي انحرف به بورقيبة 
عن مساره» بعد أن انفرد بالسلطة وبالقرار في إثر استقلال البلاد؛ ويجري ذلك 
من خلال تحقيق المصالحة بين الدولة والدين؛ بالإعلان عن إسلامية الدولة 
التونسية. 

هل يتعلق الأمر إذاء بادعاءات هوياتية غير مُطابقة لمتطلبات المرحلة 
وضرورات التاريخ؟ وهل أن الأمر لا يعدو أن يكون قضايا مغلوطة ومزايدات 
أيديولوجية؟ مهما يكن الجواب. فإن كثيرين عدّوا هذا التقاطب حالة ثقافية» ثم 
استحقاقًا طبيعيًا لمرحلة طويلة من التفاعلات التي تجاهلتها أنظمة ماقبل الثورات؛ 
ومن ثم لابّد من النظر إلى الجانب الإيجابي في إعادة طرح هذه الموضوعا ت١6‏ 
التي يجب أن تكون موضوع توافق يؤسّس وفقّه عقد اجتماعي جديد. 


(55) المرجع نفسه. ص 493. 
(56) صلاح الدين الجورشي» #الدين والدولة في تونس بعد الثورة»» في: الدين والدولةء ص 561. 
(57) المرجع نفسه» ص 493. 


(58) محمد شومان» «الجوانب الثقافية في الثورة المصرية»» في: الانفجار العربي الكبير» ص 143. 


88 


)2( في محاولة للتفسير 

في موسوعة كاميردج للتاريخ» تحديدًا في المجلد الثاني المخصص للفكر 
السياسي في القرن العشرين» يقدم أستاذ الفلسفة جيمس تللي» شبكة تحليلية 
لقراءة تفاعلات ما يسميه «سياسات الهوية٠»‏ بوصفها مجموعة من أنواع النشاط 
والصراعات والتفاوضات السياسية“. ففي البداية» ينطلق هذا الباحث من تعقد 
هذه الصراعات» وتنوعهاء وعدم انسجامهاء وتجاوزها النمط التقليدي المبني على 
البعد القومي كمحدد للسعي إلى الاعتراف؛ إذ أصبح الأمر يتعلق بمطالب تتحقق 
في مجموعات شديدة التباين والتنوع بين الانتماءات القومية والثقافية والدينية 
والإثنية واللغوية والجندرية. فأعضاء أي مجموعة تطالب بالاعتراف» سيجدون» 
في ما بعد» بينهم أناسًا منهم لهم انتماءات أخرى في جوانب من هويتهم. وهذه 
الخاصية غير مهمة» إلا عندما ترتبط بخاصية أخرى» هي الدينامية التي تجعل 
الجماعات تنفق على إعطاء الأولوية لأحد هذه الجوانب المتعددة للهوية. 

لذلك» تتكوّن سياسات الهوية من ثلاث عمليات تفاوضية دائمة ومتفاعلة فى 
ما بينها على نحو معقد: تهم العملية الأولى الدينامية الداخلية للجماعات الحاملة 
لمطالب الاعتراف» وتهم الثانية العلاقة بين أعضاء هذه الجماعة والجماعات 
المُطاليّة بالاعتراف. في حين تهم الثالثة دينامية العلاقة بين أعضاء الجماعات 
الأخيرة الذين سوف تتأثر هوياتهم هم أنفسهم» نتيجة هذا الصراع/ التفاوض. 

في مستوى آخر من التحليل» تُقدم هذه القراءة تصنيفًا لثلاثة أنماط من 
المطالب الهوياتية؛ يرتبط النمط الأول بمطلب التنوع الثقافي الذي يهم تدبير 
الاختلاف والاحترام المتبادل بين المكونات الثقافية» في حين يرتبط النمط الثاني 
بمطلب المواطنة المتعددة الثقافات والإثنيات» وهو يهم مشاركة جميع المواطنين 
والأقليات في مختلف مناحي المجتمع على قدم المساواة. أما النمط الثالث» وهو 
الأشد تعقيدّاء فيرتبط بمطلب تقرير المصير تحت مظلة القانون الدولي» ويهم 


)59( جيمس تللي» #سياسات الهوية»» في: تيرئس بول وريتشارد بيللامي (محرران)» الفكر 
السياسي في القرن العشرين»ء ترجمة مي مقلد» مراجعة طلعت الشايب» موسوعة كمبريدج للتاريخ» 2ج 
(القاهرة: المركز القومى للترجمة» g(2010‏ 2 ص 284-265. 


89 


تغيير الهندسة الدستورية في أفق استقلالية أكبر» أو اقتسام السلطة ضمن صيغ 
قانونية وسياسية ملائمة. 


SS 
شأن سياسات الهوية لا تتوافق» بالضرورة» مع مبدأ الإجماع؛ ذلك أنها مو‎ 
N ودورية ومرحلية» وتتضمن «حلولا وسطى»» وتحتاج إلى مراجعة.‎ 
التفاوض يجري في سياقات يدتعت عط الوكاقم» فهو غير بعيك عن‎ 
علاقات القوة» وربما لا يُرجى خلاله الإنصات إلى الأصوات كلها. كما أن‎ 
الحلول الوسطى التي يقترحها قد لا تكون مقبولة من الأطراف كلها.‎ 

تتشكل الهويات في إطار النزاعات؛ لذلك فإن علاقات الاعتراف المتبادل 
ليست بنّاء ثابنًا. فالهوية الأصيلة والثابتة لا توجد في الواقع» لذلك فهي دائمًا 
موضع مُساءلة ديمقراطية» ما يجعلها قابلة دائمًا للتطور والتجاوز. وتقدم هذه 
القراءة التحليلية إمكانات تفسيرية لظاهرة التقاطب الهوياتى الحاد الذي عرفته 
«لحظة اليوم التالي للثورة». هناء يبدو مناخ الحرية حاسمًا في التحليل» ذلك أن 
سياسات الهوية ترتبط أساسًا بالحرية الديمقراطية للشعوب» وترتبط درجة هذه 
الحرية بتغيير قواعد الاعتراف العام داخلها”. لذلك. فاليوم التالي للثورة يُمكن 
النظر إليه كلحظة حادة للتفاوض وإعادة التفاوض فى شأن الهوية» وكانفجار 
كبير للإرادات الجماعية الراغبة فى الانقلاب الجذري على سياسات الانتماء 
«القديمة»» وإعادة ترتيب دوائر هذا الانتماء. 


إن لحظة ما بعد الثورة هى لحظة مُحَملة برهانات السلطةء لذلك فهى تحمل 
دائما مخاطر تصدر القضايا الأيديولوجية للنقاش العمومي“. هناء يرتبط هرس 
الهويات طبيعيًا بهذا الانزياح الأيديولوجي للنقاش؛ إذ إن الهوية» في الواقع» 
بحسب تورين» ليست إلا بناء أيديولوجيًا. 

من جهة أخرىء يرتبط انفجار الهويات المُتقاطبة برغبة القوى السياسية التي 
تشعر بأنها قوية في طرح قضاياها ومواقفها الأيديولوجية للحسم» قبل ترسيخها 


(60) المرجع نفسه» ص 284. 
(61) بشارةء في الثورة والقابلية للثورة» ص 91. 


90 


قواعد النظام والديمقراطية. على أن من الواضح أن موضوع الادعاءات الهوياتية» 
في مرحلة ما بعد الثورات» انصب أساسًا على إعادة تعريف الهوية الوطنية في 
علاقة بالبعد الديني أساسّاء ما انعكس على حالة التوتر بين دعاة الدولة المدنية 
والمدافعين عن المرجعية الإسلامية. ومن المؤكد أن هذا التوتر شكل هاجسًا 
أساسيًا في أثناء عملية صوغ الدساتير في أنظمة «الربيع العربي». 

لا شك في أن التصنيف الثلائي لعمليات التفاوض يسمح بقراءة التفاوتات 
في ذالخل كتلة الإمتلاسيين في تقدير الموقف السباني من المرخلة؛ عموماء ومن 
إشكالية الهوية تحديدًاء وأساسًا من خلال الانتباه إلى الخطابات السلفية التي 
أخذت مسافة كافية تجاه الفاعل الإسلامي التقليديء بوصفها تندرج في خانة 
تفاعل الديناميات الداخلية للجماعات الحاملة الادعاء الهوياتي نفسه. 


في المقايل» يسمح التصنيف نفسه بموضعة ردات فعل النخب العلمانية أو 
الليبرالية والأقليات الدينية» ضمن تفاعلات عملية التفاوض الثالثة» وهي تهم 
دينامية العلاقة بين أعضاء الجماعات المُطالبَة بالاعتراف عندما يشعرون بأن 
هوياتهم هم أنفسهم ستتأثر جراء الصراع/ التفاوض في شأن طبيعة حضور البعد 
الديني داخل الهوية الوطنية التي يُعاد تعريفها وبناؤها وصوغها. 

من جهة أخرى» يوضح اختلاف الأنماط الثلاثة للصراع في شأن سياسات 
الهوية المخاطر التي صاحبت مسار التفاوض المتعلق بالهوية الوطنية في بلدان 
«الربيع العربي: التي كثيرًا ما كانت مهددة بالانزلاق من النمطين الأول والثاني 
المتعلقين بالتنوع الثقافي وبالمواطنة المتعددة الثقافات. إلى النمط الثالث الذي 
يحمل تهديدات للوحدة الوطنية» ويذكر بالمخاوف الحاضرة في الحالتين السورية 
والليبية. 


à‏ المُخرجات الثقافية للثورات 
بحثا عن دستور ثقافي 
شكلت دستورانية «الربيع العربي» تركيبًا تاريخيًا بين أربعة أصناف من 
الكتابة الدستورية: الدستور السياسي» والدستور الحقوقيء ودستور السياسات 
العامة» والدستور الثقافي. وإذا كان الأول قد اهتم بسؤال السلطة ونمط توزيعهاء 


91 


مُحتملة لسياسات عامة» تحت ضغط الاحتجاج» فإن الدستور الثقافي يعبر عن 
إعادة اكتشاف المتن الدستوري العربى لقلق الهوية وهواجسها. 


بعيدًا عن أي تجريد في وصف طبيعة تفاعل الوثائق الدستورية مع الادعاءات 
الهوياتية المنفجرة» بعد الثورات» يمكن التعرض للحالات الثلاث المتحققة 
إلى حد الآن: حالة الدستور المصري الأول بعد الثورة» حيث مُحاولة دسترة 
الادعاءات الهوياتية للفاعلين «المهيمنين» أيديولوجيًا ضمن خريطة موازين 
القوى. ثم حالة الدستور المصري الثاني» حيث يحضر هاجس تعطيل مظاهر 
«الدستور الثقافي» الحاضرة في دستور 2012. ثم حالة الدستور التونسي الذي 
يقدم معالجة توافقية بين الادعاءات الهوياتية المتقاطبة» ويُغلب روح التسوية على 
منطقي الهيمنة والغلبة. 


1 - دستور الهيمنة الثقافية 

ارتبط صوغ دستور الجمهورية الثانية» أو دستور الثورة المصرية؛ في عام 
2 ؛ بسياق لم يسمح بانتصار فكرة صنع الدستور كبناء استراتيجي ومجتمعي 
يسمو على التحولات اليومية للعملية السياسية» بقدر ما أنتج مقاربة تكتيكية 
دبرت ما سمته البلاغة السائدة» في مرحلة ما بعد 25 يناير «معركة الدستور»» وفق 
توازنات القوى السياسية» الأمر الذي حكم عملية صنع الدستور بمنطق الصفقات 
السياسية القصيرة الأمدء بدلا من النظر إليها كبناء لعقد اجتماعي طويل الأمد*“. 


لعل هذا المنطق هو الذي ساعد القوى المهيمنة» في مشهد ما بعد 25 ينايرء 
على التفاوض في شأن المكتسبات الظرفية التي تأمل تحقيقها من الدستور. وهنا 
انصب اهتمام القوى الإسلامية» خصوصًا التيار السلفي؛ على المواد الخاصة 
بمقومات الدولة والمجتمع» الي زات اا تس فر تعر . وهذا کله نتج 
دستورًا يُجسّد الهيمنة الأيديولوجية» ورسخ تجسيدا للوثيقة الدستورية Le‏ 
بالخطابات واللغة الأخلاقية والهواجس الهوياتية. 


(62) ياسمين فاروق» «صئع دستور الثورة المصرية بين العقد الاجتماعي والتعاقد السياسي8؛ مبادرة 
الإصلاح العربي (آب/ أغسطس 2013( في: http://ari-3.eweev.com/ar/node/537.‏ 
(63) المرجع نفسه. 


92 


هكذاء ستعرّف المادة الأولى من دستور 2012 الشعب المصري كجزء من 
«الأمتين العربية والإسلامية»» وستسجل اعتزازه بانتمائه إلى حوض النيل والقارة 
الأفريقية» وبامتداده الآسيوي. كما نصت المادة الرابعة من هذا الدستور على أن 
«الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة جامعة... يتولى نشر الدعوة الإسلامية 
وعلوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم. ويُؤخذ رأي هيئة كبار العلماء 
بالأزهر الشريف في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية6. وعدت المادة السادسة 
أن النظام السياسي (المصري) يقوم على مبادئ الديمقراطية والشورى. وستنص 
المادة العاشرة على أن الأسرة أساس المجتمع» قوامها الدين والأخلاق والوطنية. 
كما أن الدولة والمجتمع يحرصان على التزام الطابع الأصيل للأسرة المصريةء 
وعلى تماسكها واستقرارهاء وترسيخ قيمها الأخلاقية قية وحمايتها. كما أن الدولة 
ترعی» وفقًا للمادة الحادية عشرة» الأخلاق والآداب والنظام العام» والمستوى 
الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية العربية. وسيحظر دستور 2012 أيضًاء في 
فصله الثاني المخصص للحقوق المدنية والسياسية» الإساءة أو التعريض بالرسل 
والأنبياء كافة» كما سيربط بين كفالة حرية الصحافة والطباعة والنشر من der‏ 
وتأطير ذلك ضمن المقومات الأساسية للدولة والمجتمع من جهة أخرى. 


ربما تكون المادة 219» من هذا الدستورء الأكثر إثارة للنقاش والتحليل 
في شأن رهاناتها؛ إذ نصت على أن مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل «أدلتها 
الكلية» وقواعدها الأصولية والفقهية» ومصادرها المعتبرة» فى مذاهب أهل السنة 
والجماعة»؛ وذلك درءًا لأي تأويل من شأنه التضييق من مفهوم مبادئ الشريعة 
مصدرًا رئيسًا للتشريع. 


2 - دستور الغلبة الثقافية 
Fe ۰‏ على العلاقة بميزان القوى السياسي الذي أنتج وثيقة الدستور المصري 
Rs «2014‏ القول إنه دستور الغلبة”“» أكان بالنظر إلى الشروط الديمقراطية 


(64) أوّل من استعمل هذا المفهوم هو المفكر المصري سمير مرقص للدلالة على انفراد تيار 
سياسي بعملية صوغ الدستور. انظر: #دستور بالغلبة : نظرة مُقارنة بين دستور 2012 ومشروع دستور 2014 


في مصر؟» المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» وحدة تحليل السياسات» 15/ 1/ 2014 في: 
http://bit.1y/20pZFoC.‏ 


93 


التي لم تتوافر في تشكيل لجنة الخمسينء أو من خلال الإقصاء المتعمد لأي 
تمثيلية سياسية للتيار «الإخواني»» أو حتى من جانب غياب شفافية عمل النخبة 
وتواصلها ونشر أعمالها. 


المؤكد أن الطابع الجوهري للدستور المصري المذكور يبرز أساسًا من 
خلال إعادة النظر فى المواد المتعلقة بالهوية التى جاء بها الدستور «المعطل» وفمًا 
للتوصيف السياسي السائد عند جزء من النخب المصرية؛ أي دستور 2012ء سواء 
بتأثير الحالة السياسية لما بعد ثورة 25 يناير» بضَّغط كبير من أنصار التيار السلفي. 
هكذا ألغيت الصيغة المثيرة للجدل التي تضمنها دستور 2012ء واشتر ترطت أن 
يُستشار الأزهر في المسائل المتعلقة بالشريعة الإسلامية“. 


قبل ذلك» جرى تغيير صوغ الفصل الأول الذي بدلا من أن ينص على 
أن الشعب المصري جزء من الأمتين العربية والإسلامية» أصبح يُعرف الشعب 
المصري بوصفه جزءًا من الأمة العربية؛ إذ يعمل على تكاملها ووحدتهاء عادًا أن 
مصر جزء من العالم (وليس الأمة) الإسلامي» تنتمي إلى القارة الأفريقية» وتعتز 
بامتدادها الآسيوي» وتساهم في بناء الحضارة الإنسانية. 

اختفت الصيغة الواردة فى المادة السادسة من الدستور السابق» التى تحدثت 
عن الديمقراطية والشورى كمُقَومَين للنظام السياسي بمصر؛ إذ أصبحت المادة 
الخامسة من دستور 2014 تعد أن هذا النظام السياسي يقوم على أساس التعددية 
السياسية والحزبية» والتداول السلمي للسلطةء والفصل بين السلطات والتوازن 
بينهاء وتلازم المسؤولية مع السلطةء واحترام حقوق الإنسان وحرياته. 

إضافة إلى ذلك» جرى استبعاد أحد التغييرات الرئيسة التى أدخلت فى دستور 
2. فمنذ عام 1980» أكدّت جميع دساتير مصر أن مبادئ الشريعة الإسلامية 
هي المصدر الرئيس للتشريع. لكن مع الدستور السابق الذكرء أدرجت المادة 

(65) من المهم الإشارة في هذا السياق إلى أن كثيرًا من القوى المدنية والليبرالية كانت قد دافعت 
عن هذه الصيغة في سياق محاولة تطويق احتكار القوى الإسلامية تأويل النص الديني. انظر: ناثان ج. براون 


وميشيل دن» «مشروع الدستور المصري يكافئ الجيش والسلطة القضائية»» مركز كارنيغي للشرق الأوسطء 
http://ceip.org/I WMgx6K. :5«2013/12/4‏ 


94 


المعروفة التي أضافت تعريمًا فقهيًا وافيّا للشريعة الإسلامية؛ بناءٌ على إصرار من 
لا يثقون بالكيفية التي سبق أن عرفت بها المحكمة الدستورية العُليا هذا الموضوع 
في الماضي. وإذا لم يكن تسارع الحوادث قد سمح باختبار حدود التأثير الفعلي 
والقانوني للمادة 219 من دستور 2012» فإن دستور 2014 لم يعمل على إلغاء 
هذه الصيغة فحسب» بل إن ديباجته التي هي جزء من النص الدستوري؛ عدت أن 
المرجع في تفسير مبادئ الشريعة» كمصدر للتشريع» هو ما تضمنته مجموع أحكام 
المحكمة الدستورية العليا فى هذا الشأن““. 


من حيث اللغة» جردت صيغة دستور 2014 الدستور السابق من الكثير من 
اللغة الاجتماعية والأخلاقية المتحفظة» حتى عندما يحضر هذا الطابع اللغوي 
فإنه يبدو رمزيًا أكثر مما هو قانونى0». وضمن هذا السياق» اختفى التنصيص 
السابق على التزام الدولة والمجتمع ترسيخ القيم الأخلاقية للأسرة المصرية 
وحمايتهاء وعلى رعاية الدولة للأخلاق والآداب والنظام العام» والمستوى الرفيع 
للتربية والقيم الدينية والوطنية» وعلى حماية الدولة للمقومات الثقافية والحضارية 
واللغوية للمجتمع. 

هل يمكن. مع التعديلات كلهاء عَدَ دستور 2014 دستورًا للدولة المدنية؟ 
إن الجواب عن هذا السؤال ليس مؤكدًا. فبعضهم يرى أن لجنة الخمسين التي 
يُفترض أنها ذات أغلبية مدنية» ضحت بالدولة المدنية» فى مقابل تعديلات 
متوسطة الأهمية تلائم موقفها من التيار الإسلامي؛ وأنها في المقابل» سلّمت 
البلاد» في سبيل ذلك» إلى الدولة العميقة كي تعيد كتابة دستورها“؟. 


3- دستور التسوية الثقافية 

قياسًا على دستوري مصر لعامي 2012 و2014» يمكن أن يوصف الدستور 
التونسي بأنه دستور التسوية بامتياز. 

(66) المرجع نقسه. 


(67) المرجع نقسه. 
(68) #دستور بالغلبة»» ص 6. 


95 


بالطبع» لا يعني هذا الأمر أن الحالة التونسية لم تعرف انفجار سؤال الهوية» 
كعامل مُهيكل للحظة ما بعد الثورة» وأنها لم تشهد انفلاتات حادة للتقاطبات 
السياسية. لكنها استطاعت» في نهاية مسار الدسترة المعقدء أن تُنتج وثيقة توافقية 
تُمثل خلاصة جدل وسجال وخلاف, ووفاق وتنازلات متبادلة» من لذن الشرائح 
الأوسع تمثيلا للمواطنين التونسيين”6. 

لعل هذا النجاح يشكل امتدادًا لطابع التوافق العام الذي ظل يَسمء عمومّاء 
في مرحلة ما بعد الثورة» علاقة النخبة بعضها ببعض» وجعلها تلتقي في القواعد 
الأساسية للعمل المشترك. لقد كنا أمام توافق مزدوج. فهو من جهة؛ يشمل مكوّنات 
النخبة المقبلة حديئًا إلى الدولة؛ على الرغم من اختلاف أيديولوجياتها ومواقعها 
الاجتماعية وخياراتها السياسية والفكرية» الأمر الذي ساهمت التجربة المشتركة 
والطويلة» في معارضة النظام القديم» في تأسيسه. ومن جهة أخرى» يشمل علاقة 
هذه النخبة ببقايا النخبة الخارجة من الحكم في إثر الثورة» الأمر الذي تطلب قدرًا 
غير يسير من المفاوضات والتفاهمات والتنازلات2©. وضمن هذه الخلفية» وفى 
إطار هذا السياق» دبر الدستور التونسى الأسثلة الملتهبة فى شأن الهو ية Jos‏ 
الدولة المدينة» وعلاقة الشريعة الإسلامية بالقانون. ٠‏ 


(69) خالد الرحموني» «فرادة الخبرة التونسية في بناء الوفاق الوطني٠»‏ هسبريس» 28/ 3/ 2014ء 


في: hup/www.hespress.com/writers/166421 html.‏ 
(70) عز الدين عبد المولى؛ «أضواء على التجربة التونسية فى الانتقال الديمقراطي»» الجزيرة نت» 
4 2/ 2013»ءفى: hup//bit.ly/ImyA2Do.‏ 


(21) يبرز جزء كبير من الحسن التوافقي» في تدبير قضايا الهوية داخل المسألة الدستورية؛ من خلال 
تحليلات زعيم حركة النهضة. راشد الغنوشي؛ من ذلك الكلمة التي ألقاها في مركز كارنيغي» في واشنطن» 
عندما عبر عن رفض تياره السياسي خيار الاستقطاب الأيديولوجي؛ لأنه خطر على الوحدة الوطنية» 
وعن رفض حسم الخلافات في الشارع وتقسيم التونسيين» وعن الحرص على فتح قنوات الاتصال مع 
المعارضين؛ منعًا للقطيعة» وتجنبًا لمنطق الصراع والصدام. ثم عندما داقع عن فكرة مقادها أن الدستور 
التونسي يتبغي ألا يكون دستورًا للأغلبية فحسب. بل إنه دستور لكل التونسيين من دون استثناء» وأنه يتسنى 
لجميع التونسيين أن يروا أنفسهم فيهء وأن يشعروا بأنه يمثلهمء أغلبية كانوا أو أقلية؛ بوصفه تعبيرًا عن تعايش 
صعب بين الإسلاميين والعلمانيين» وترجمة إمكان الجمع بين الإسلام والديمقراطية. انظر: راشد الغنوشي» 


«نص كلمة راشد الغنوشي أمام مركز كارينجي للدراسات بواشنطن»» الشروق؛ 27/ 2/ 2014» في: 
http://bit.Iy/OFU9id.‏ 


96 


هكذاء رَّاوَّجَ الدستور التونسي» في توصيفه الدولة» بين رؤيته إياها دولة حرة 
مستقلة ذات سيادة» الإسلام ديئها والعربية لغتّها والجمهورية نظامها (الفصل 
الأول) من جهةء ورؤيته إياها دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب» 
وعُلوية القانرن من جهة أخرى (الفصل الثاني). 

إن الدولة المدنية هنا تعني» بمنطوق توطئة الدستورء الدولة حيث الحكم 
للقانون» والسيادة للشعب من خلال التداول السلمي على الحكم بوساطة 
الانتخابات الحرة» و en‏ الفصل بين السلطات والتوازن بينها. 
وسنجد التوازن نفسه في مة مقتضى آخرء يُنظر إليه من جهة الدولة الراعية للدين 
من ناحيةء والكافلة حرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية» والحامية 
المقدسات» والضامنة حيادية المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبى من 
ناحية أخرى. ١‏ 


ولم يَخْلَّ تحديد دوائر الانتماء» هو الآخرء من فكرة التوازن. ذلك أن 
الدستور يُعلن الانتماء الثقافى والحضاري إلى الأمة العربية والإسلامية» وينطلق 
من الوحدة الوطنية القائمة على المواطنة والأخوة والتكافل والعدالة الاجتماعية» 
ليدعم الوحدة المغاربية بوصفها خطوة نحو تحقيق À‏ يق الوحدة العربية» والتكامل مع 
الشعوب الإسلامية والشعوب الأفريقية: والتعاون مع شعوب العالم. 

إنه منطق التسوية داخل وثيقة دستورية تريد أن تجعل منطلقاتها ومرجعياتها 
التأسيسية معتمدة على «تعاليم الإسلام ومقاصده المتسمة بالتفتح والاعتدال» 
وعلى القيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان الكونية السامية»» وعلى تراث 
الحركة الإصلاحية المستنيرة المستندة إلى مقومات الهوية العربية الإسلامية» 
وإلى الكسب الحضاري الإنساني. 

تابعنا فى هذا المبحث من الدراسة» وفق القراءة السابقة» كيف أن انفجار 
سؤال الهوية شكل أثْرًا مُباشرًا للحالة الثورية» وكيف أن سياسات الهوية عادت 
بقوة لتطبع النقاش العام. وكان لافنا التفاوت في حضور معطى الادعاءات 
الهوياتية بين زمن الثورة ولحظة الساحات العمومية» كلحظة للفرز العابر الذوات 
الفاعلة من جهة» وزمن «اليوم التالي للثورة»» كلحظة للتقاطب والتفاوض بين 


97 


«الهويات» المتنافسةء ثم بين زمن الدسترة» كلحظة للتسوية بين الادعاءات 
الهوياتية المتقاطبة أو كلحظة للهيمنة الهوياتية أو للغلبة السياسية من جهة أخرى. 
ويعيدنا هذا التمفصل بين اللحظات الثلاث إلى حقيقة قضية الهوية بوصفهاء وفقًا 
لتعبير شهير للمفكر جون رولزء «قضية سياسية وليست ميتافيزيقية)2©. 


إذا كان سياق دستورانية الربيع قد حَمّل الوثائق التأسيسية وزر الجواب عن 
إشكاليات ثقافية ومجتمعية عميقة ومعقدة» فلا بد من التساؤل عن حدود هذه 
المعالجات القانونية/ الدستورية/ السياسية» للتقاطبات الهوياتية» سواء انطلقت 
هذه المعالجات من هاجس التسويات التكتيكية» أو من هاجس دسترة الادعاءات 
الهوياتية للفاعل المُنتصر في جولة التدافع السياسي لمرحلة ما بعد «اليوم التالي 
للثورة». 
خاتمة: في الحاجة إلى العروي 

م سمّح التركيب السابق لإشكاليات الموضوع. بالوقوف على السطوة الجديدة 

التي باتت تحتلها قضية الهوية داخل الحوار العمومي وسط المُجتمعات العربيةءما 
أفرز حالة من التقاطب الأيديولوجي الحاد الذي شكل تحديًا لإحدى الخلاصات 
السهلة التي رافقت التفكير فى انفجارات 2011» فى شأن غياب الأيديولوجياء 
بقدر ما شكل تهديدًا للطابع الديمقراطي للثورات العربية. 

إن ثنائية الأيديولوجيا والديمقراطية» أو الهوية والمواطنة» شكلت إحدى 
ممكنات التوصيف الثقافي لحدث الثورةء كما جسدت في الآن نفسه خلفية 
للتدافعات التي صنعها راك المثقفين تفاعلا مع زمن الثورة وما بعدهاء وهو 
الحراك الذي يكثفه الصراع بين نموذجين من المواقف والمواقع والحُجج لكل 
من المثقف الهوياتي والمثقف الديمقراطي. 

هناء من الواضح أن المُعالجات الدستورية التي كان عليها تدبير هذه 
التقاطبات الثقافية تبقى محدودة وهشةء إذ ليس على القانون بسهولة أن يجد 


(72) بول وبيللامي (محرران)» ص 276. 


98 


حلولًا فورية لمعضلات معقدة وعميقة في الثقافة والمجتمع» مستمرة في التوغل 
داخل نسيج المجتمعات العربية المعاصرة. 

لا شك في أن هذا التفاعل ب بين الثنائيات المذكورة» سيبقى مؤسسًا لأسئلة 
وقضايا الفكر العربي في تمظهراته الجديدة. وفي سياق التوتر بين رهان تأصيل 
فكرة الحرية» وبين 5 تثبيت منطق الهوية» وضمن هذا الأفق» فإن المعارك الفكرية 
المقبلةء ts‏ اف متواتر لمعارك ومنازلات النهضة» ستحمل في هذه 
اللحظة الراهنةء صرائًا حاسمًا فى شأن «المعنى» الذي يجب منحه انفجارات 
الربيع العربي» وفي شأن تحديد ما المقصود تحديدًا بمفهوم اثورة 2011»؟ 

لا بد في الأخير» من أن نعود في هذه الخلاصات» إلى استحضار الدرس 
الأول للمفكر عبد الله العروي» من خلال التفكير في الحاجة المستمرة والضرورية 
إلى الثورة الثقافية التى وحدها يمكن أن تسند أقوى حالات التحول السياسي» 
حتى لو اتخذت صيغة ثورات عاصفة أطاحت الأنظمة والمؤسسات. وإن التفكير 
في مآلات ما بعد 2011ء يستدعى بقوة الرهان المتجدد على الأنماط العميقة 
للتحديث الثقافي» وعلى تغيير حاسم على مُستو ى الذهنيات والأفكار والتمثلات»› 
ما يسمح بتجاوز حالة التأخر التاريخي التي تعرفها المجتمعات العربية المعاصرة. 


لم يسمح تصميم هذا البحث» بفتح الإشكالية المَّدروسة على أسئلة قريبة 
من الإطار العام للموضوع» لعل أهمها هو التفكير في فرضية الأثر المُباشر 
للتحولات السياسية التي رافقت انفجارات 2011 فى مضامين الممارسة الثقافية 
وبنياتها وتوجهاتهاء بأبعادها الفنية والأدبية والدرامية» على الشاكلة التي عرفها 
بعض الانتقالات الديمقراطية» كما هو الشأن مثلًا في إسبانياء في حالة الحراك 
الثقافي والفني الشهير «لاموفيدا»» أو التفكير كذلك في مضمون تحولات الثقافة 
السياسية للفاعلين في خضم ما بعد زمن 1 1» فضلا عن طرح الأوجه الجديدة 
لإشكالية علاقة السياسة بالثقافة في ضوء الثورات. أو حتى التفكير في الموقع 
الجديد الذي بات يحتله المثقف العمومي» في لحظة انبثاق «ديمقراطية الرأي؟ 
التي تعتمد على الأجيال الجديدة للتواصل والتأثير» التي لم تستحضرها الخطاطة 
الأولى للديمقراطية التمثيلية. 


99 


على أن خلاصات هذا البحث تبقى مرتبطة أشد الارتباط بإشكالية نرجو أن 
نعود إليها في مقام آخر؛ إنها التأمل في ما يُمكنٌ نعيّه بالأثر الاستراتيجي لحدث 
الربيع العربي في البنيات العميقة للأيديولوجيا العربية المعاصرة: بتياراتها الكبرى؟ 
إذ من المؤكد أن التمئلات التي تحملها هذه التيارات لقضايا الدولة والديمقراطية 
والدين والوطن والحداثة والهوية» لن تكون هي نفسهاء بعد انفجارات 2011. 


المراجع 


1- العربية 
أفاية» محمد نور الدين. الديمقراطية المنقوصة: في ممكنات الخروج من التسلطية 
وعوائقه. بيروت: منتدى المعارف» 2013. 
. «ورقة العمل حول أداء المثقفين في معمعة الأحداث: مُلاحظات 
وتساؤلات». المستقبل العربى. العدد 415 (أيار/ مايو 2013). 
أمين» سمير. «تجاوز الحداثة أم تطويرها؟». فى: محمد سبيلا وعبد السلام 
بنعبد العالى. ما بعد الحداثة. الدار البيضاء: دار توبقال» 2007. 
بشارة» عزمى. «عن المثقف والثورة». تبين: السنة 1» العدد 4 ربيع 2014. 


. في الثورة والقابلية للثورة. بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث 
ودراسة السياسات» 2012. 





البشري» طارق. «علاقة الدين بالدولة: حالة مصر بعد الثورة». ورقة مقدمة في: 
الدين والدولة فى الوطن العربى: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التى نظمها 
مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية. 
بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 2013. 


100 


بلقزيزء عبد الإله. أسئلة الفكر العربى المعاصر. الدار البيضاء: سلسلة المعرفة 
للجميع» 8 . 


تللي» جيمس. «سياسات الهوية». في: تيرنس بول وريتشارد بيللامي (محرران). 
موسوعة كمبريدج للتاريخ. 2 ج. القاهرة: المركز القومى للترجمة. 2010. 


تورين» آلان. «الثورة أم الديمقراطية؟». ترجمة محمد سيف. الثقافة العالمية. 


العدد 88» حزيران/ يونيو 1998. 
. نقد الحداثة. ترجمة عبد السلام الطويل. الرباط: دار أفريقيا الشرق» 
2010. 


خليل» لحسن خوخو. «الربيع العربي: أفكار سوسيولوجية». ورقة مُقَدّمة في: 
المثقف وتحولات الربيع العربي. سلسلة الندوات 4. الرباط: كلية الآداب 
والعلوم الإنسانية - مكناس» 2013. 

دبابى» مديحة. «ما بعد الحداثة». فى: على عبود المحمداوي؛ وآخرون. خطابات 
ال «ما بعدا: فى استنفاد أو تعديل المشروعات الفلسفية. الرباط: دار الأمان» 
2013. 

«دستور بالغلبة: نظرة مقارنة بين دستور 2012 ومشروع دستور 2014 في مصرا. 
المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات» وحدة تحليل السياسات. 
5 44 فى: http:/bit.ly/20pZFoC.‏ 

الديالمى» عبد الصمد. «الهوية والدين». آفاق. العدد 74 (حزيران/ يونيو 2007). 


الرحمونى» خالد. «فرادة الخبرة التونسية فى بناء الوفاق الوطنى». هسيريس : 
8 هه فى: http:/www.hespress.com/writers/166421.html.‏ 


الريسوني؛ أحمد. فقه الثورة: مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي. القاهرة: دار 
الكلمة للنشر والتوزيع» 2013. 
سبيلاء محمد. الحداثة وما بعد الحداثة. الدار البيضاء: دار توبقال للنشر» 2000. 


101 


سعادة» وسام. «الربيع العربي والفكر العربي: الاستيداد الملتبس و«اللحظة 
النقدية» المفقودة». مجلة كلمن (بيروت). عدد 5 (شتاء 2012)» فى: 
http://bit.ly/INAoOVA.‏ 


سليم» رضوان. الثورة الديمقراطية. الرباط: منشورات الجدل» 2013. 
السليم» عطالله. «بحث حول الدولة المدنية». فى: آفاق الدولة المدنية بعد 


الانتفاضات العربية. بيروت: معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون 
الدوليةء 2013. 


العربية للعلوم - ناشرون» 2010. 

شومان» محمد. «الجوانب الثقافية فى الثورة المصرية». فى: مجموعة مؤلفين. 
الانفجار العربى الكبير: فى الأبعاد الثقافية والسياسية. بيروت/ الدوحة: 
المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات» 2012. 


Le‏ الفتاح» نبيل. النخبة والثورة: الدولة والإسلام السياسى والقومية والليبرالية. 
القاهرة: دار العين للنشرء 2013. 

عبد اللطيف» كمال. الثورات العربية: تحديات جديدة ومعارك مرتقبة. الرباط: 
كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط» 2013. 


العلوي؛ سعيد بنسعيد. «الهوية المغربية: الثابت البنيوي والفاعل التاريخى». 
ورقة مُقَدّمة في: الهوية المغربية فى ضوء محدداتها الدستورية: ندوة 
أكاديمية المملكة المغربية» الرباط: 9-8 أكتوبر 2012م/ 22-21 ذو القعدة 
3ه. سالسلة الندوات. الرباط: مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية» 
2013. 


غدنزء أنتوني. علم الاجتماع. ترجمة وتقديم فايز الصياغ. بيروت: المنظمة العربية 


للترجمة. 2005. 
القبي» مرشد. الثورة في الفكر العربي المعاصر. بيروت/ الدار البيضاء: المركز 
الثقافي العربي» 2014. 


102 


کاظم» نادر. «نهاية السرديات الصغرى: في تجاوز أطروحة ما بعد الحداثة». تبين 
السنة 2. العدد 8 (ربيع 2014). 


كيلة» سلامة. وضع م الثورات العربية ومصيرها. د مشق: خطوات للنشر والتوزيع» 
3. 


مالكى» امحمد. «دور الثقافة السياسية فى تفجير الثورات العربية؛. فى: مجموعة 
مؤلفين. الانفجار العربي الكبير: في الأبعاد الثقافية والسياسية. بيروت/ 
الدوحة: المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات» 2012. 

محمد عبد العليم. «البحث عن هوية جديدة». الديمقراطية. العدد 47 (2012). 


المسكيني» فتحي. «الهوية والحرية نحو أنوار جديدة». جداول. (شباط/ فبراير 
01). 


مودن» عبد الحى. «الرجة الثورية العربية: على ضوء نظريات الثورات 
والاحتجاجات). في: Le‏ الحي مودن وآخرون. أسئلة حول انطلاق الربيع 
العربي. الرباط: منشورات كلية الآداب» 2011. 


هنتنغتون» صامويل. أمريكا: الأنا والآخر. من نحن: الجدل الكبير في أمريكا. 
ترجمة عثمان الجبالي المثلوتي. طرابلس: منشورات المركز العالمي 
لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر» 2006. 


- الأجنبية 


Aïtmos, Fadma & Driss Ksiks. «Dialogue avec Rahma Bourquia.» dans: Fadma 
Aitmos & Driss Ksiks. Le Métier d'intellectuel: Dialogues avec Quinze Penseurs 
du Maroc. Casablanca: En Toutes Lettres, 2014. 


Nora, Pierre. «Adieux aux intellectuels?.» Le Débat. no. 110 (mai 2010). 


Touraine, Alain. Un Nouveau paradigme: Pour comprendre le monde aujourd'hui. 
Paris: Fayard, 2005. 


103 


الفصل الثالث 


دور المثقف العربي في التغييرات التاريخية 
المثقف والمجال الثقافي 


يوسف الشويري 


يتميز الحقل الثقافي بشبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية التي تتيح إمكان 
إنتاج النصوص أو أي شكل ثقافي آخر. كما يتميز بتحكم التنافس بالعاملين في 
مجاله» ومن ثم فإن أي إنتاج ثقافي هو نتيجة هذه العلاقات الاجتماعية الْمُتحركة 
التي يطبعها التنافس. كما أن هذا الإنتاج يجد علته في تطلع صاحبه إلى استثماره 
كقيمة رمزية تتحول مع الزمن إلى رأسمال اجتماعي يُعاد استثماره ومُضاعفة 
عوائده. 

لذلك» فإن هذا الحقل الثقافي الذي يجد فيه الفرد نفسه فاعلا ضمن شبكة 
العلاقات التنافسية» يحدد غالبًا كيفية إقدام هذا المثقف أو ذاك. أكان من أجل 
الحفاظ على البقاء آم التغيير نحو الأفضل. وتنتظم الحياة الثقافية بهذا المعنى في 
عوامل اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية» نجدها إما مجتمعة في مجتمع متقدم» 
وإما مبعثرة عندما يكون المجتمع أقل تبلورًا في مؤسساته ومستوى تطوره. 

هكذا تغدو شروط النص الاجتماعية المحدد شبه - النهائي لكيفية صوغه 
وتداوله وتقويمه واستهلاكه. وهنا نطل على المؤسسة كإطار يُجيز العمل 
الأدبي أو الفني ويمنحه صدقيته وهويته. غير أن الحقل الثقافي مثل كل حقل له 


105 


استقلاليته» فهو ليس طبقة أو كيانًا سوسيولوجيًا متجانسّاء ومن ثم فهو يمتلك 
منطقه الخاص”". فلا ينبغي وفقًا لذلك الغرق في النص ودراسة دلالاته خارج 
إطار التنافس الاجتماعي والصراع على السلطة والمؤسسة التي تحدد إلى حد 
بعيد البعد المعرفي. ويمكننا تبعًا لذلك استخدام التعريف الا تي: إن الثقافة هي كل 
ما يهدف إلى (أو يُساهم في) تفسير ظاهرة اجتماعية» أو عزلهاء أو تركيز الأنظار 
عليها ومنحها معنى محددًا ووضعها في سياق أوسع» حيث تغدو صراحة أو ضمنًا 
جزءًا من بنية أو منظومة تضفي عليها قيمتها وتحدد لها دورها. 

ربما تتخذ هذه الأهداف والمساهمات أشكالا عدة» كتابة ورسمًا وتصويدًا 
سينمائيًا ونحتًا أو موسيقى؛ أي إن تجسيد التعبير الثقافي لا يقتصر على شكل 
أو وسيلة واحدة» ولا يمكن اختزاله بأداة وحيدة. كما أن هذا التعبير يفترض 
مسبقًا عملية أو عمليات ذهنية تستخدم العقل والعمل المنظم والمثابرة والعاطفة 
الهادفة. وعلينا أن نحدد منذ البداية لا وظيفة المثقف فحسب» بل المجال الذي 
يجعلنا نطلق لقب المثقف على أحد من الناس. وكانت الأدبيات العربية غالبًا ما 
عمدت إلى تسليط الأضواء على المثقف بوصفه كائنًا بشريًا فريدًا من نوعه له 
مواصفات خارقة» لكنه شبه معلّق في الفضاءء ومن دون التنبه إلى أن هذه الصفة» 
أي صفة المثقف» ألصقت أو لصق به لأن مهمته أو وظيفته ترتبط بحقله ومجاله؛ 
ومن ثم؛ فلا معنى للقبه من دون الانتماء إلى مجال حقله. 

بكلمات أخرى» علينا دراسة الثقافة وتعريفها قبل دراسة دور المثقف. ويُتيح 
لنا ذلك إعطاء الأولوية للحقل الذي ينشط فيه المثقف» فنفهم دوره في الحقل 
الثقافي الأوسع. فنحن لا ندرس وظيفة الطبيب مثلاء بمعزل عن فهم مهنة الطب 
وتعريفهاء أو مهمة المهندس من دون استحضار علم الهندسة أولاء وقس على ذلك 
باقي التخصصات والممارسات وأصناف النشاط المهني والفني والعلمي. وإذا 
كان من الصحيح القول إن دراسة الشاعر لا بد من أن تقودنا إلى التركيز على دور 

(1) لا يلغي هذا تداخل النصوص حيث نفهم ذلك بمعنيين متكاملين؛ أي ورود المعنى نفسه أو 
المصطلحات المتشابهة في نص فلسقي وآخر أدبي» وذلك نتيجة وحدة الخطاب المسبقة عند كاتبين 


106 


وحقولها. ولا نُخطئ في الإشارة هنا إلى أن لهذه الحقول مدارس تنضوي إليهاء 
أكان في الشعر أم الأدب أم الفلسفة أم الرسم أم الموسيقى أ م العلوم الاجتماعية. 
TS‏ 
واحدة» ومبادئ ومفاهيم ومصطلحات متماثلة. ولعل قيمة قيمة الفلسفة الإغر 
AT NE‏ 
فكري؛ أي إن محاولة ذ فهم الشيء يجب أن تجري وفق قواعد ونماذج مسبقة. 
وينطبق الأمر نفسه على مجالات الفئون والنشاط الفكري. فالمرء يدرك مسبقًا أن 
ما يقرأه ينتمي إلى نص فلسفي أو شعري» وأن ما يقوله النص يقع في خطاب أعم 
هو المدرسة التي تحدد أو تقرر ما يُفصح عنه أو ينطق به. 


يجب أن نميز الثقافة من المعرفة؛ إذ غالبا ما يبدو أن المعرفة هى التى يتوخاها 
الذين يدرسون دور المثقف في المجتمع؛ أي إن بث المعرفة أو المعارف هو غاية 
المثقف ومبرر وجوده. ويغدو وجوده جزءًا من الثقافة. والمفكر مثقف. ونتيجة 
ذلك خرج إلى الوجود في العصر الحديث» خصوصًا منذ القرن الثامن عشر©. 

قبل أن ننتقل إلى التركيز على دور المثقف في التغبيرات التاريخية أو 
المنعطفات الاجتماعية المفصلية» من المفيد أن نتو قف قليلا عند مقاربات ميشيل 
فوكو الثقافية والاجتماعية؛ إذ يبدو أن الخطاب العربي المعاصر أصبح يحتضن 
بفضله مقولتين اثنتين انطوت عليهما تحليلاته» خصوصًا في كتابه الكلمات 
والأشياء الذي صدر في عام 1966. 1 


المقولة الأولى التي نراها بارزة على نحو لافت» بمعناها الإيجابي أو 
السلبي» هي مقولة القطيعة أو الانقطاع. ويترتب علينا توقع ظهور حقول جديدة 


(2) التاريخ الذي يحدده بيبر بورديو وغيره من علماء الاجتماع. انظر مثلا: 
Pierre Bourdieu, The Field of Cultural Production, Randal Johnson (ed.) (Cambridge, MA: Polity‏ 
Press, 1993), pp. 112-114 and 194-202.‏ 


(3) يستعيد علي أومليل في عدد من مؤلفاته هذا المعنى للقطيعة رابطًا إياها بالولادة الحديثة 
للمثقف. انظر مثلا: على أومليل» السلطة الثقافية والسلطة السياسية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 
8) ص 10-9 و246-229. 


107 


تضبطها قواعد وأوضاع خاصة. ويساعدنا هذا المفهوم على تجنب الوقوع تحت 
سطوة التشابه أو التمائل في المجتمع أو عالم الإنتاج الثقافي. لذلك فإن مفهوم 
القطيعة أو الانقطاع بين عصرين أو زمنين تاريخيين هو الذي يُنير أمامنا الطريق 
لتكوين رؤية تجعل من مسألة الاستمرار والتكرار وعودة التاريخ مرة تلو الأخرى 
شأنًا مستحيلا. فإذا أردنا دراسة دور الفرد أو القومية أو الجماعة أو مؤسسة من 
المؤسسات» مثل السجن أو الملكية» فإن تشابه ألفاظ الدلالة على مدلول معين 
واستخدامها فى فترات متباعدة» لا يعنى أن الظاهرة تعيد تكرار نفسها مرة تلو 
الأخرى؛ ولا جديد تحت الشمس. بل علينا أن نكتشف السياق التاريخى فى أبعاده 
الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية» فنحدد مغزاها ووظيفتها ضمن نطاق 
هذه البنية المتكاملة» مستحضرين فى الآن نفسه كيفية ترابط عناصرها وتفاعلها فى 
تركيبتها الشاملة. 1 | 
Li‏ المقولة الثانية فهي التنبه إلى قر قيمة الإبداع*» وذلك وفق منحيين اثنين: 


- يُركز المنحى الأول الأنظار على الانقطاع التاريخي أو القطيعة الثقافية بين 
عصر وآخرء ومن ثم عدم الانخداع بالتواصل والاستمرارية والتشابه والتماثل؛ 
ما لا يكون عادة على صعيد المصطلحات بل على صعيد وظيفة العناصر مجتمعة 
في بنية متكاملة» وحيث يؤدي تفاعلها واتصال عناصرها وظيفة تتغاير عما سبقها 
على الرغم من استخدام الألفاظ المتشابهة؛ أي إن استخدام مفاهيم مألوفة ضمن 
شبكة منظومة معرفية جديدة يدل على بروز ظواهر أو وحدات دراسة كانت بمنزلة 
اللامفكر فيه في الماضيء مثل نظرية النشوء والارتقاء أو مفهوم التقدم أو معنى 
الوطنية وسيادة الؤرادة الشعبية. 


- المنحى الثاني» ويعنينا هنا من حيث دور المثقف في المنعطفات التاريخية» 
فهو الإدراك الواضح أن الإنتاج الثقافي أو الفكري الفاعل» سواء ما قبل الحدث 
(4) تتكرّر مقولة الإبداع في أدبيات المثقفين العرب على نحو شيه إجماعي» مع أن علي حرب في 
كتابه أوهام النخبة أو نقد المثقف يعتقد أنه أوّل من اكتشف هذه القيمة الفريدة ويدعو إلى تعميمها في الثقافة 


العربية. انظر: علي حربء أوهام النخبة أو نقد المثقف (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 
2 )») ص 112. 


108 


المفصل أو بالترافق معه أو بعد وقوعه» يأتي نتيجة تقديم ما هو جديد أو غير 
مسبوق» ولم تجر معالجته أو التطرق إليه على نحو متناسق ومتماسك. 


لكن لا بد وقد بلغنا هذا المنعطف» من الإشارة إلى أن الدور المحوري 
الذي كان يحظى به المثقف أو يشار إليه كتوقع وترقب» ولا سيما في السياقين 
العربي والفرنسي» أخذ يخضع للتساؤل حتى قبل سطوع نجم جان بول سارتر 
كعنوان ورمز لما يجب أن يكون عليه دور المثقف في خضم الحوادث. ويمكن 
اعتباره (أي سارتر) آخر ممثل للمثقف العضوي الذي تخيل وظيفته المثلى 
وصاغها أنطونيو غرامشي. ونجد في الحالة العربية أن أسماء كثيرة تعرضت 
للأفول» خصوصًا مع بداية هذا القرن. 


هكذا نجد فوكو يدعو إلى الإقلاع عن فكرة المثقف في الوسط الفرنسي 
والاكتفاء بالمثقف ذي التخصص المحدد. ولعل ما اجتهد عبد الإله بلقزيز في 
التشديد عليه في أطروحته؛ نهاية الداعية» هو ما يتوافق مع المفهوم الخاص 
للمثقف”©. والذي يعنيه هذا التحول في الدور» يجعل من مقولة «المثقف 
العضوي» مقولة نافلة» ويحل محلها مفهوم العطاء الحر الذي يراكم الأفكار 
والمعارف من خلال البحث والاستقصاء والدراسة الدؤوبة وتوظيف رأسماله 
الاجتماعي المعرفي في قضايا الدفاع عن حرية الرأي والاستقلال المهني. 


نحن نعرف أن «الربيع العربي» في عامه الأول وإبان هبوب نُسيماته الرحيمة» 
وقبل اصطباغ أزاهيره ومروجه باللون الأرجواني وتلوث جداوله وأنهاره بأوحال 
المستنقعات» أخرج مفهوم «المثقف العضوي» من التداول» فلم نعرف عن اسم 
أو أسماء ارتبطت به أو بها تحركات الشباب العربى فى ميادينه المتعددة. ولعل 
الوضع الجديد في ظل شبكة المعلومات وعصر العولمة الإلكترونية جعل السلطة 


(5) عبد الإله بلقزيزء نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين (بيروت/ الدار الييضاء: 
المركز الثقافي العربي» 2000). يدعو بلقزيز إلى استبدال الداعية» أي المثقف كما عرفته ثقافتنا حتى الآن» 
ب «المثقف الباحث» (ص 8). وعن رأي فوكوء انظر: 

Michel Foucault, Power/Knowledge: Selected Interviews and Other Writings, 1972-1977 (Brighton: 


Harvester Press, 1980), and Michel Foucault, «Truth and Power,» in: Paul Rabinow (ed.), The Foucault 
Reader (Middlesex: Penguin Books, 1984), pp. 51-75. 


109 


الثقافية التقليدية القائمة على التلقين والوعظ أو الحشد غير ممكنة؛ أو أنها ما 
عادت صالحة للتعبئة والدعوة إلى الاحتشاد فى الأمكنة العامة. 


غير أن انكفاء دور المثقف العضوي لا يعني نهاية دوره؛ بل ضرورة إعادة رسم 
ملامح هذا الدور ضمن السياق الوطني والعالمي الذي ولدته ثورة المعلومات. 
لذلك» فإن محاولة إلغاء دور المثقف لن يُكتب لها النجاح؛ إذ هي تخلط بين 
انتهاء شكل من أشكال وظيفته» وضرورة المواظبة على إعلاء شأن دوره فى نطاق 
المجتمع والدولة والمؤسسات المدنية والدينية. | 


لذلك» نرى أن الذين يدرسون الفكر العربي المعاصرء وهي في عمقها دراسة 
تدور حول المثقف في الوقت الراهن» يُلونون مقارباتهم بأسلوب أقرب إلى 
التبسيط والاختزال وإطلاق الأحكام الاعتباطية التي قد تدل على جرأة صاحبها 
وإتقانه صوغ علامات الاستنكار والتعجب والتأفف والاستهزاء؛ لكنها تبقى مجرد 
عبارات وصفية» في معظم الأحيان. لا تقدم أو تؤخر في إلقاء الأضواء على مغزى 
الخطاب العربي المعاصر أو التعرف إلى القواعد المعرفية التى تضبط أجزاء هذا 
الخطاب©». ويتخيل هذا الباحث أن الفكر العربى المعاصر هو خليط عجيب من 
الأصالة والحداثة أو السلفية والعصريةء أو أنه يتغذى باستمرار من ينابيع الأولى 
(الأصالة والسلفية) أو الثانية (الحداثة والعصرية) ومواردها. 


غالبًا ما تكون هذه الدراسة أشبه بحوار يقوم على تمثل مثقف عربي لا يفكر 
أو ينطق بكلمة أو ينسج خطابًا معيئًا إلا بناء على قرار مسبق يستند في تعليل حيثياته 
إلى ما تجود به مراجعه ومكتبته السلفية أو العصرية؛ فهو قبل أن يدلي برأي ماء إذا 
كان سلفيّاه يبحث عن سلفيته فى مؤلفات الغزالى أو الشافعى”» وإذا كان مؤمءًا 
بالحداثة ينقب عن حداثته في كتب هذا المفكر الغربي أو ذاك. 


(6) انظرء مثلا: محمد عابد الجابري» الخطاب العربى المعاصر (ييروت: مركز دراسات الوحدة 
العربية» 4(2007 إِذ تبدو مقولات المثقفين العرب ومساهماتهم على امتداد قرن من الزمن مجرد هلوسات 
فكرية تتميز باللاعقلانية والعاطفية المفرطة والتناقض الفاضح واللامتطق الفاقع. وهو فكر تحكمه إما 
الاستعارة من أوروبا أو سلطة الإسلام «الوسيطي» (ص 199-8). 

(7) يُحمل نصر حامد أبو زيد في عدد من كتاباته الشافعي مسؤولية جمود الفكر الفقهي حتى يومنا هذا. 
انظر: نصر حامد أبو زيد. الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسيطة (القاهرة: مكتبة مدبولي؛ 1996). 


110 


تؤدي هذه العملية المزدوجة إلى إلغاء المثقف الفرد ككيان مستقل يتفاعل 

م بيثته أو ينطلق منهاء وعى ذلك أم لم يعه. ويؤدي هذا الإلغاء للفرد في وجوده 
Fee‏ إلى استنتاجات متسرعة تطلق أحكامًا جائرة أو شبه عشوائية» إذ 
يُصبح كل ما تقوله مجرد اختزالات لا سند لها في العالم الحي للمثقف ودوره 
المطلق أو الخاص. ويهدف تحليل النصوص ومقارنتها بنصوص أخرى إلى 
محاولة اكتشاف مدى مطابقة الفكر العربي لما يقوله فقيه إسلامي أو عالم غربي. 
وتكون نتيجة هذه المقارنة ذات البعد الواحد الحكم بإخفاق الفكر العربي ماضيًا 
وحاضرًاء ومرة تلو الأخرى©. 

بتعبير آخر» يعود الإخفاق في إدراك المعنى الفعلي لمقولات مثل المجتمع 
المدنىء أو الديمقراطية أو الدولة الوطنية» إلى إغفال السياق التاريخي الخاص 
بهذه المفاهيم. ومن ثم» تغيب الإشكاليات الفكرية الخاصة بالثقافة العربية» ما 
دامت إشكاليات مزيفة المصدر والتموضع والتوجهه أو لأنها ثقافة ضحلة تسبح 
في فراغ مجرد من المادة والتاريخ (التولد والتزامن)ء والامتداد عرضًا وطولا. .ولا 
يسعنا إلا الاستنتاج» انسجامًا مع تحليل هذه المدرسة» أن أدوار المثقفين لا تعدو 
ا ر ت ا ا 
متأنية. 

إذا كان الإخفاق المتتالى ينشب أظافره فى أرجاء العصرية أو الحداثة الهجينة» 
فإن النجاح يكون عادة حظوة من يحاول فك ألغاز نصوص ترائه لأنه أقرب إلى 

فهمه» فيستطيع التجول في رحاب التراث بحرية شبه مطلقة» خصوصًا أنه يستنطق 
هذه النصوص بلغته التي يتقنها منذ زمن الطفولة. غير أن هذا النجاح ليس سوى 
وهم خادع هو الآخر؛ إذإنه لايعرف أن ما do Fi jeudis‏ أضحى هو الآخر 
مجرد ذكرى باهتة وحنين آفل وماض بعيد» خآفته وراءها حضارة العالم المعاصر. 


(8) هكذا يحكم علي أومليل على مجمل الفكر العربي الفلسفي والسياسي والفقهي» لأنه فكر 
يُغرّد خارج سرب الإنتاج التاريخي للأفكار التي استند إليهاء سواء تعلق الأمر يابن رشد (أرسطو) أو طه 
حسين (الليبرالية). انظر: أومليلء السلطة الثقافية والسلطة السياسية» ص 221-198 (عن اين رشد)» وعلي 
أومليل؛ الإصلاحية العربية والدولة الوطنية» ط 2 (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 2005)» 
ص 142-115 (عن طه حسين). 


وهو وضع حياتي وذهني يطلق عليه عبد الله العروي مصطلح «المفارقات!» وهي 
«مفارقات» تخترق الثقافة العربية منذ النهضة. بكلمات أخرى. إن ما ينطق به 
المثقفون العرب ينطوي على هدفين يناقض أحدهما الآخر. كما أن «المفارقة» قد 
تعني الازدواجية اللامنطقية واللاعقلانية» مثل محاولة دمج الأصالة والمعاصرة 
كما حاول تحقيقه محمد عبده وغيره من الإصلاحيين العرب والمسلمينت©. 
ويقترح العروي الخروج من إشكالية المفارقات هذه من خلال تنمية ما يدعوه 
«الوعي التاريخي»» وهو وعي يعتقد أن اعتماده يغير رؤيتنا إلى الأشياء وطريقة 
تعاملنا مع غيرنا كجماعة وأفراد. 


لعل ما تمخضت عنه الثقافة المصرية» ومن ثم العربية» في عشرينيات القرن 
الماضي وثلاثينياته» يُعتبر من المفارقات التى ما فتئ دارسو تلك الفترة يعودون 
إليها للإشارة إلى الارتداد الذي اكتسح هذه الثقافة ونكوصها عن الفكر التنويري 
النقدي الذي كان قد طبع عقد العشرينيات» وذلك بما كان ينشر من آراء ونقاشات 
تطرح علامات شك أو تساؤل في شأن مسلمات التراث مثل رسوخ مؤسسة 
الخلافة» كفريضة لا بد من التزامها وتطبيقهاء أو وجود فاصل واضح بين حياة 
الجاهلية وما أعقبها من تنظيم وإعادة بناء في إثر هبوط الوحي وانتصار الإسلام 
النهائي". ويأتي الحديث عن الارتداد والتكوص لما بدأ بنشره طه حسين في 
الثلاثينيات من دراسات أدبية مثالية النزعة وذات نبرة أخلاقية مباشرة عن السيرة 
النبوية وحوادث الفتنة الكبرى. 

تكمن المفارقة كما عاينها مؤرخون غربيون وعرب فى أنه بعد أن كان طه 
حسين يدعو إلى نشر التراث اليوناني وإحيائه في حلة عربية سليمة» ويعتبر الثقافة 


)9( عبد الله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 
3» ص 176. مفهوم العقل (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 1996( ص 104-23 . 

(10) عن الخلافة» نشر علي عبد الرازق كتاب قدم فيه الدلائل على وجود مؤسسة الخلافة كظاهرة 
طارئة في الإسلام وهيء أي الخلافةء لا علاقة لها بأصوله إذ لم يرد في شأنها نص في القرآن. انظر: علي 
عبد الرازق» أصول الحكم قي الإسلام ([د. م: د. ن.]» 1925) 

أما قضية الجاهليةء فإن طه حسين نشر في العقد نفسه (1926) كتابه في الشعر الجاهلي طارحًا 
الشكوك في شأن صحة نسبة هذا الشعر إلى الجاهلية. 


112 


الفرنسية قمة العطاء الفكري في عصره» ويدعو إلى تعميم JS‏ منهما كمقدمة 
لنهضة عربية حقيقية» نراه بعد حين يلجأ إلى التركيز على حوادث فاصلة في 
التاريخ الإسلامي» مثل كتابه على هامش السيرة. وفعل الأمر نفسه محمد حسين 
هيكل» القيادي فى حزب الأحرار الدستوريين» عندما كتب دراسة موسعة بعنوان 
choose Le‏ في عام 5. وتكمن المفارقة في انتقال المثقفين المصريين 
البارزين والعَلمانيين من الدعوة إلى تبني الفكر الغربي بأصوله اليونانية إلى العودة 
نحو التراث الإسلامي ومحاولة إحيائه» والإشادة بما يكتنفه من إيجابيات ومكارم 
أخلاق ومزايا حضارية. 

لكننا نرى أن هذه العودة لا تمثل ارتدادًا أو نكوصًاء بل كانت تطبيقًا جديدًا 
للمنهج الفكري نفسه الذي زاوج بين إحياء التراث اليوناني في أورويا ونهضتها 
الحديثة» باعتبار أن في إمكان العرب والمسلمين سلوك طريق مشابه» حيث 
يعودون إلى دراسة تراثهم كما فعل الأوروبيون بميراثهم وكما تخيلوه» وذلك 
كمقدمة للنهوض الوطني والديني. واعتقد المثقف العربي في الثلاثينيات أنه 
إذا سلك حيال تراثه نهجا مماثلا للنهج الذي سلكه المثقف الغربي؛ فلا بد لهذا 
السلوك من أن يؤدي إلى نتائج متشابهة. من هناء إذا نظرنا إلى علاقة التراث 
بالمعاصرة من هذه الزاوية» وحيث تطغى المعاصرة على التراث أو تعيد تشكيله 
وتبويبه وإضفاء شكل ومضمون جديدين على تاريخه» ترتفع إشكالية المفارقة 
أو تتحول إلى إشكالية أخرى ليست الثنائية» أو الازدواجية» أو التناقضاتء أول 
Le‏ يميزها ويطبعها بطابع خاص. 

مع ذلك» تبقى مهمة شحذ الوعي والنقد التاريخيين مهمة ملحة كجزء 
أساسى من دور المثقف العربى فى ظل التطورات المتلاحقة. ولا يعني ذلك 
العمل المتقطع والمقتضب والموسمي؛ بل لا بد من اختراق هذا الوعي؛ ببعده 
النقدي التاريخي أوساط المثقفين بتخصصاتهم وشرائحهم وتوجهاتهم المختلفة. 


غير أن ثقافتنا المعاصرة» كما يراها المثقفون العرب» لا تزال تعيش فى 
الماضي على الرغم من اعتناق دعاتها مفاهيم ومصطلحات ومفاتيح نظرية حديثة؛ 
إذ إن هذه المفاهيم الحديثة تصطدم عادة بما تمخض عنه التطور التاريخي من 


113 


انتصار الاتجاه السني وتضاؤل أفكار إخوان الصفا أو أعمال ابن الراوندي”"2. 
ويوجز العروي هذه المفارقة بقوله: «... إن المثقفين يفكرون حسب منطقين: 
القسم الأكبر منهم حسب الفكر التقليدي السلفيء والقسم الباقي حسب الفكر 
الانتقائى»» ومضيمًا «أن الاتجاهين الاثنين يوصلان إلى حذف ونفى العمق 
التارد يعخي1200). وتقع المفارقة هنا في أن الفكر اللاتاريخي أو اللاتاري يخاني لا 
يلاحظ أن الواقع العملي كتب تاريخه الفعلي» أي سجل انتماءه إلى الحاضر على 
الرغم من سلفية المثقف أو انتقائيته. 

هكذاء إن الفكر التاريخي هو الذي يستمد ملكة الوعي بالأبعاد المتداخلة 
للتطور الزمني وسلسلة الحوادث من خلال مسؤولية الفرد لدوره كصانع للتاريخ» 
وتوجيه التطور التاريخي وفق قوانين ثابتة تنطلق من الماضي إلى المستقبل بغية 
تحقيق طفرة اجتماعية لاختصار الزمان وتفويت التخاف('. 

يلاحظ القارئ أننا حتى الآن أفضنا في الإشارة إلى عدد من مثقفي المغرب» 
وكدنا أن نهمل من عداهم من المثقفين العرب. فنحن نلاحظ» أولاء أن الإنتاج 
الفكري والأدبي المغربي يدور في موضوعاته العامة في شأن المثقفين كفئة 
اجتماعية وهمومهم ومواقعهم وأفراحهم وأحزانهم» وذلك مقارنة بالفئات 
الاجتماعية الأخرى. وهي حالة سوسيولوجية وسيكولوجية تستحق التوقف 
عندها. وثانياء يلقى إنتاج هؤلاء المثقفين انتشارًا في العقود الأخيرة يفوق انتشار 
إنتاج مثقفين عرب من بلدان أخرى. I‏ لا بد من طرح السؤال التالي والإجابة 
عنه: لماذا المغرب وليس تونس والجزائر؟ ونحن إذا استطعنا فك لغز الدور 
المتضخم للمثقف المغربي؛ ربما نتمكن من تحديد ما نعنيه بوظائفية الثقافة» 
من جهة؛ وبالتغييرات التاريخية» من جهة أخرى. لنحاول تقديم تعليل لظاهرة 


(11) يقول العروي» مثلاء «علاقتنا الحقيقية ليست مع الفلاسفة المسلمين أو المعتزلة أو دعاة 
الباطنيةء لأن هؤلاء كلهم أصبحوا تقريبًا أجانب في ثقافتناة. بل إن ما تغلغل في الفكر العربي واستمر حتى 
الآن هو «فقه الخليل ونحو ابن مالك»ء أي التراث السني. انظر: عبد الله العروي» العرب والفكر التاريخي 
(بيروت: دار الحقيقة» 3 197)» ص 43 1ء الهامش 22. 

(12) المرجع نفسه» ص 186-185. 

(13) المرجع نفسه. ص 187 


114 


المثقف في المغرب الأقصىء وافتراقها عن كل من الجزائر وتونس وعدد من 
الدول العربية الأخرى. 

نلاحظء أول ما نلاحظء أن الاستعمار الفرنسي احتل كلا من الجزائر وتونس 
فى مرحلة مبكرة (1830 و1 188)» ودمر البّنى التقليدية لهذه المجتمعات» Los‏ 
فيها أنظمتها وأعرافها ومؤسساتها الدينية. أمافي المغرب: فإن الاستعمار الفرنسي» 
بعد أن دخلها في عام 1912» أبقى على العائلة المالكة وأناط بها الشؤون الدينية 
ورعاية الأوقاف وحق الإشراف على أجهزة التربية الدينية ومدارسها وجوامعها 
ومساجدها. بيد أن الاستعمار الفرنسي حاولء بعد أن لمس أبعادها الوطنية 
العملية» إلغاء هذه الحالة بالتدريج» فعمد إلى محاولة فصل الأمازيغ (البربر) عن 
تطبيق الشريعة الإسلامية بحجة أن عاداتهم العرفية الخاصة بهم هي التي يلتزمونها 
ويطبقونهاء لا فرائض الشريعة. 

خن ترت ر ال ف احرف بالظلوين اوور الذي أغلق في 16 LA‏ 
مايو 1930» حين تراجعت السلطات الفرنسية عن محاولتها هذه نتيجة ردة الفعل 
الوطنية العامة» واستمر السلطان المغربي بالاستحواذ على الشؤون الدينية كحق 
تابع لسلطته؛ لا بل إن وضع السلطان كأمير للمؤمنين زاد ثقله المعنوي والعملي 
بعد محاولة نفيه في عام 1953 في إثر نمو المطالبة باستقلال المغرب وانضمام 
السلطان محمد الخامس لهذه المطالب. وهكذا بعد أن رفعته الحركة الوطنية 
المغربية إلى بطل قومى ومناط استقطابها ومناضل من أجل الاستقلال» اضطرت 
السلطات الفرنسية بعد عامين إلى إعادته وإقرار سلطاته الشرعية كلها كممثل 
للوطن والشعب*". 


في حين أن الجزائر وتونس تحولتا بعل الاستقلال إلى النظام الجمهوري. 
احتفظ المغرب بملكيته وأصبح مملكة يدير شؤونها أمير المؤمنين. لذلك نرى 
أن دراسة التاريخ أو التراث في الثقافة المغربية (خصوصًا عند الجابري والعروي 

(14) عن تطور الحركة الوطنية في المغرب» انظر: امحمد مالكي» الح ركات الوطنية والاستعمار في 


المغرب العربى (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 1994). 


115 


وأومليل) دراسة تقوم على المقارنة الدائمة بين الإسلام والحضارة الأوروبية من 
جهة» وتتعقب تطور الإسلام كدين ودولة وثقافة عبر العصور من جهة أخرى. 
ولا تتوقف في استقصائها هذا إلى أن تقول لنا ما الذي تبقى من تراثناء أو كيفية 
استمراريته في حياتنا ثم الخروج بتوصية عامة تنجز تجاوز التراث وتاريخه أو 
إقصاء كل ما يزخر به وينبث في حياتنا المعاصرة. التاريخانية هي توصية العروي» 
والعقلانية هي الترياق الذي يبشر به الجابري» والديمقراطية يمعناها الشامل 
الحديث قبلة وصايا أومليل. ويقوم هؤلاء بهذه المهمات متعددة الوجوه من 
أجل إظهار معنى الانقطاع أو التواصل بيننا وبين تراثنا. ولكأن فرنسا تمثل في 
تجربتها الاستعمارية القطيعة في التاريخ المغربي ويجسد سلطانه تواصله. لكن 
قبل الخروج باستنتاجات عامة فلتتوجه صوب المشهد الثقافي التونسي 


في تونس مثلاء نرى أن هشام + جعيط يولي اهتمامه البحثي والفكري لنشوء 
المدينة العربية الإسلامية فى الكوفة» ويتعمق فى استكشاف أبعاد الفتنة الكبرى 
الاجتماعية والسياسية» أو يلتفت إلى الإسلام في نشأته المبكرة. وتبدو كتاباته 
التاريخية الصرف كأنها لا تحركها حوافز تراثية أو محاولة إثبات مدى انقطاع 
أو استمرار تراثنا في مجتمعنا وحياتنا الراهنة. وفي حين ترتدي قراءة التراث 
الإسلامي. ومن ثم ثقافته العربية» طابعًا كونيًا تحرريًا وإصلاحيًا شاملا في 
المغرب» نجد أن تونس» كما يمثلها جعيط تقرأ التراث وثقافته كشأن ذاتي يطمح 
إلى تعميق المعرفة» معتبرًا أن الاستمرارية التاريخية مسألة بديهية» فلا تؤرق 
مضاجع بحوثه نظريات القطيعة والسلفية والانتقائية”". والأهم من ذلك هو 
التنبه إلى أن المسار الذي يحدد علاقة الدين بالدولة فى تونس يعود فى تجذره 
وتبلور معالمه إلى متتصف القرن التاسع عشر. وتنهض هذه البدايات الجديدة 
على اطراد التحولات الاجتماعية والاقتصادية التى أطلقها أصحاب الشأن» 
وتولت رعايتها أجهزة الحكم في أعقاب غزو فرنسا للجزائر في ple‏ 1830« 
وتمثلًا لتجربة محمد علي في مصر وتيار التنظيمات في الدولة العثمانية. يكلمات 


(15) انظر مثلًا: هشام جعيطء الفتئة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكرء ط 6 (بيروت: دار 
الطليعةء 2008). 


116 


أخرى» دخلت الحداثة المجتمع التونسي منذ وقت مبكرء واعتنقها وشجعها عدد 
من الإصلاحيين المؤمنين بالتطور والتقدم» وفي طليعتهم خير الدين التونسي. 
هكذاء فإن الحداثة ذات الحضور المتنامي في تونس هي التي مهدت الطريق 
في النهاية لإقرار قوانين الأحوال الشخصية في عام 1956» وأتاحت لرئيس 
الجمهورية الجديد اتخاذ إجراءات عدة حددت على نحو واضح وظيفة الدولة في 
توحيد القضاء وطبعه بطابع مدني عصريء وذلك في ظل نظام تربوي عام سيتسم 
هو الآخر بعلمانية الدولة والحقل التعليمي2". 

تدل نظرية القطيعة في سياقها المغربي على تجذر ظاهرة الشد والجذب بين 
الثقافة الفرنسية وثقافة المخزن أو الملكية» أو إمارة المؤمنين» ومن دون أن تؤدي 
هذه الظاهرة إلى إنهاء وجود هذه أو تلك. ولعل الحالة المغربية» مع خصوصياتهاء 
هي الأقرب إلى الوضع العربي العام من الحالة التونسية أو الجزائرية. لذلك 
يبدو دور المثقف في خضم التغييرات التاريخية التي عصفت وتعصف وسوف 
تعصف بالوطن العربي هو إيجاد معادلة نظرية وعملية لتجاوز إشكالية القطيعة 
أو الاستمرارية» ومن ثم الإقلاع عن محاولة مزاوجة التراث بالحداثة أو السلفية 
بالمعاصرة؛ إذ إن الحداثة تنهض بين ظهرانينا وتنتشر وتتمدد في شرايين حياتنا 
بأوجهها ووظائفها وتفرعاتها كلها. 


لا بده إِذَاء للفكر العربي» ومن ثم لحامله؛ من الالتحاق بهذا الواقع والإصغاء 
إلى نبض حداثته وخفقان عصريته. وإذا كان لنا أن نوجز معالم هذا الدورء فنورد 


مايلى: 
- للمثقف دور مركزي فى غمرة الحوادث والتطورات السياسية والاجتماعية 
والاقتصادية. 


(16) انظر في ذلك مثلا: أحمد خواجة» «مجلة الأحوال الشخصية في تونس ما- بعد الاستقلال؛ أو 
إلى أي مدى تتغير المجتمعات الإنسانية بالأحكام القضائية؟»: في: عبد الحميد هنية (مشرف)» مسار مؤرخ 
وتحربة تأريخية: أعمال مهداة إلى محمد الهادي الشريف (تونس: جامعة تونس - مركز النشر الجامعي» 
2008( ص 161-159 1 


117 


- يتلخص هذا الدور استهلالا بصوغ رؤية فكرية تتميز بالتناسق والتماسك» 
وذلك عند المباشرة بوصف تغير تاريخى معين» وسرد حوادثه وتعليل منعطفاته. 

- لا بد من أن تؤدي هذه القراءة المتناسقة إلى تعيين عدد من الأهداف 
المباشرة وبعيدة الأمد» تنبع من صميم الحدث التاريخي وتحديد مغزاه في سياقه 
الراهن. 

- يعقب تعيين الأهداف عادة وصف مركز للخطوات العملية التي يتعين 
اتباعها من أجل بلوغ الهدف. 

2 يضفى المثقف على تسلسل هذه العمليات والخطوات قيمة واضحة 
باستناده إلى منهج فكري» وذلك في سبيل التصنيف والتحقيب والتوصيف وربط 
الوقائع وموضعة المعطيات في بنيتها العامة» فيكون ما يقوم به أبعد من تقرير تقني» 
وأكثر فائدة من نظرية مجردة. 


- الشعور الذاتي بالحرية بما فيها حرية الوجدان وإبداء الرأي. 


في نهاية كتابه الخطاب العربي المعاصرء يدعو الجابري إلى وصف الواقع. 
فعوض التحليق في الهواء فوق الواقع والوقائع» وعلى الرغم من أنه يستند في 
استنتاجاته في شأن الفكر العربي المعاصر وخطابه إلى مقولات غرامشية باتت 
متداولة على نطاق واسعء فإنه يدعو إلى الاستقلال في المنهج والمقارية ومعرفة 
كيفية استنطاق أو ضاعنا العربية. لعل الاستقلال الفكري يعني الابتكار والإبداعء 
أي إن مساهمة المثقف العربي يجب أن تنبع من داخل المعاناة العربية» وكتعبير 
عن التزام معنوي وأدبي ومحاولة جادة لالتقاط ملمح من ملامح الواقع والانتقال 
به إلى العالم الثقافي؛ فلا يبقى كما هوء بل يُضْفي عليه معنى خاصًاء أكان شعرًا 
أم نحمًا أم فلسفة أم علمًا اجتماعيًا. ويعني الإبداع في هذا السياق الاستقلال 
الفكري بأبعاده النفسية والذهنية والنظرية حيث تغدو المادة التى عمد المثقف 
إلى إنتاجها معلمًا جديدًا من معالم ثقافته في ماضييها وحاضرها وركنًا أساسيًا 
من أركان تشييد مستقبلها تشييدًا ينطق بالجدة والتناسق وتسكنه شمولية الحياة 
وتكامل عناصرها. 


إذا كان الإبداع يستلزم الاستقلال الفكري» فإن هذا الاستقلال لا يعني 
الانغلاق أو الغرق في متاهات «الأصالة والحداثة»؛ بل التزام مبادئ القواعد 
العلمية أو الفنية أو المتعارف عليهاء ثم التطرق إلى موضوع من الموضوعات 
بحرية تشمل الفكر وإبداء الرأي والتحصن ضد الرقابة الرسمية أو الرقابة الذاتية. 
لعل الرقابة الذاتية هي أفضح ضررًا وأشد انتشارًا من زميلتها الرسمية» وهي 
تمارس ضررها انطلاقا من تضبيق نطاق الموضوع وكيفية معالجته ومدى نقد 
عوامل تكونه وتطوره ومآلاته؛ إذ إن الإبداع يعلن حضوره من دون الالتفات إلى 
عواقب الأمور وعقاب الضمير. 


إذا كان لنا أن نتوصل إلى استنتاج عام؛ فإن مقولة تكرار ما يقوله المفكرون 
والمثقفون العرب جيلا بعد جيل» خير دليل على اتساع الهوة بين ما نعيشه وما 
نصبو إليه. ويحضرنا في هذا المقام ما كتبه جبران خليل جبران في عام 1910» 
فصنف المثقفين العرب إلى محافظين وعصريين ومستقلين» وقد عمد إلى تعيين 
مواقعهم الاجتماعية» إضافة إلى أفكارهم وعقائدهم. وإذ به مثلما يفعل بعضنا 
اليوم؛ يعلن انتماءه إلى فئة المستقلين التي يقول إن «الحكم النيابي» هو ما ترمي 
إلى تحقيقه هذه الفئة» أي الديمقراطية كما ما زلنا ننادي بها اليوم. وهذا ما قاله 
جبران خليل جبران قبل أكثر من مئة عام كأنه يُشخص دور المثقف في أوضاعنا 
التاريخية الراهنة: «إن المحافظين في سوريا هم رؤساء الأديان ووجهاء القبائل 
وشيوخ الأسر القديمة. فرؤساء الأديان يحافظون على التقاليدء لا حبًا بجمالها 
وبساطتهاء بل لأنهم يجدون بالمحافظة عليها بقاء سلطتهم. أما وجهاء القبائل 
وشيوخ الأسر القديمة فهم» كوصفائهم في كل بلاد يميلون بالطبع إلى تأييد 
نفوذهم بمصارعتهم كل روح جديدة تجيء سوريا من الغرب. ولا لوم عليهم 
لأن الأرواح الجديدة التي يرونها مرفرفة في فضاء بلادهم تستبيح حرمة الآداب 
الشرقية بمغالبتها الخرافات وتمزق نقاب المجد عن وجه سوريا بتمزيقها أثواب 
الغباوة عن جسدها. أما العصريون الذين تخرجوا في مدارس الإفرنج» أو الذين 
هاجروا إلى العالم الجديد فأكثرهم كالثمار في حديقة العالم الأدنى ذات منظر 
بهيج» لكنها ملوثة بالدخان» غير أنهم أقل ضررًا من المحافظين لأن تأثرهم أوهى. 
وظلهم أقصرء ومطامعهم أقل. لكن سيدتي تعلم أن في سوريا طبقة ثالثة أوسع 


119 


فكرًا من المحافظين وأكثر حكمة من العصريين المقلدين. وهؤلاء هم الذين نبذوا 
سلطة رؤساء الأديان حبا بجمال الدين نفسه» ونفروا من الانقياد إلى أبناء الشرف 
الموروث احترامًا لشرف النفسء وابتعدوا عن تقليد عوائد الإفرنج القبيحة ت توصلا 
إلى معارفهم وآدابهم المستحبة. ولا أدعو هذه الطبقة بالمعتدلة» لأنها لا تريد أن 
توفق بين فضائل عبيد التقاليد ومحاسن أبناء التقليد لعلمها بأن الورد لا يجنى من 
القطرب. والخمر لا يعصر من الأشواك. be‏ بالمتساهلة لأنها لا ترفق 
بالمستسلمين إلى خرافات الشرق» ولا تشفق على المنغمسين برذائل الغرب 
لإدراكها جهالة هؤلاء وانحطاط أولئك. بل هي طبقة مستقلة بأخلاقها ومداركها 
ومزاياها شرقية بأميالها وأهوائهاء تتكلم العربية في مجتمعاتها لأنها تحسن 
اللغة العربية» وتتعمق في درس اللغتين الإفرنسية والإنكليزية» لا حبًا بالروايات 
السافلة والقصص القذرة التي تقذفها جوانب باريس ولندن» بل شغْمًا بآداب 
فرنسا العالية وعلوم إنكلترا النبيلة. فهي لا تعرف شيئًا عن مؤاني نوادر العشاق 
وحكايات المتهتكين في أوروبا. لكنها تعرف كل شيء عن شكسبير وغوته ودانتي 
وبلزاك... هذه هي الطبقة التي تمتاز بها سوريا عن البلاد الشرقية وهؤلاء الرجال 
الذين أحدثوا النهضة الأدبية في مصر والشام. هؤلاء هم الذين أوجدوا في نفوس 
الشرقيين استعدادًا لقبول الحكم النيابي»”". 

غير أن هذا الاستقلال الفكري عند جبران يتمسك هو الا خر بأصالة وحصافة 
لا تزالان تقضان مضاجعنا. فبعد أن أشاد بشكسبير وغوته ودانتي وبلزاك أبدى 
عدم التفاته «إلى ما تذيعه الصحف عن غرائب التمدن الحديث التي أوجدها 
داروين وكانط ونيتشه ورنان» (ص 263). وهو رأي ملتبس لا يزال يلقي بالتباسه 
ظلالا حول المثقف في سياقه العربي ودوره حتى يومنا هذا. 


)17( رئيف خوري» الفكر العربى الحديث (بيروت: دار المكشوف» 1943(« ص 263-2. 
ويشأن «الاستقلال التاريخي التام». انظر: الجابري» الخطاب العربي المعاصر» ص 206-84 وهو ينسب 
هذا الخيار إلى غرامشي من دون ذكر مرجع. ويمككن الرجوع أيضا إلى: 

Antonio Gramsci, The Modern Prince and Other Writings (New York: International Publishers, 1970), 
pp- 82-89; 97-98 and 118-123. 


120 


خلاصة 

ليس المثقف عالمًا قائمًا بذاته منفصلًا عما حوله ونائيًا عن مجتمعه؛ فهو 
بمجرد طرقه باب الإنتاج الثقافي يجد نفسه داخل شبكة تنقاطع في خيوطها 
ونسيجها ومداراتها مجالات الثقافة العامة والخاصة. بدءًا من التراث والجماعة 
الوطنية؛ ووصول إلى مايقع تحت تخصص محدد. مثل الرسم والنحت والهندسة. 
a‏ 
مستتر أو مُعلن» يحركه التنافس على استحواذ رأسمال رمزي لإعادة استثماره في 
نطاقه الاجتماعي. En‏ ا 
به بعضهم يكاد يفوق قدرات أجهزة دولة بكاملها. فهناك من يريده أن يعتنق النقد 
التاريخي والوعي بتاريخية الظاهرة أو المفاهيم» وذلك بغية تجاوز التراث أو 
إحداث القطيعة الفعلية معه. أي التمهيد لدخول الحداثة إلى مجتمعاتنا التي يقال 
إنها لم د تستوعب معانيها الحقيقية حتى الآن. لذلك تطغى سيول الاتهامات لهؤلاء 
المثقفين ورميهم بالسطحية واللاعقلانية والضحالة والإدقاع الفكري. ويحظى 
التراث بأهمية خاصة لأن قراءته» وفي بعض الأحيان إعادة إحيائه وتطبيق بعض 
مآثره» مثل الأصول الفقهية والأحكام الشرعية» تعود إلى تأويل فئة معينة من هؤلاء 
المثقفين؛ ونعثر في هذا المجال على الخانات التصنيفية التي نحشر فيها مثقفينا؛ 
فهم إما سلفيون أو انتقائيون أو مستغربون مستلبون. es‏ 
ما تفوح منها روائح لا يستسيغها الذين يرهقون المثقفين بأوزار تخلفنا وتلكؤنا 
عن استيعاب الحداثة. وننتهي نتيجة ذلك إلى وضع تتقابل فيه النتصوصء La ju‏ 
ومعاصرهاء فيطغى النص كمدار الرؤية والتحليل والتعليل» ويتحول إلى ساحة 
عراك يحجب غباره تضاريس الأرض التي يقف عليها. 

لا شك في أن الربيع العربي ساهم إلى حد بعيد في إخراجنا من هذه الحلقة 
المفرغة؛ إذإنه أعاد تحديد الدور الجديد الذي يضطلع به المثقفء بفئاته وأصنافه» 
ووضعنا بعد طول جدل لا طائل تحته في موقعنا الصحيح» إذ غدت الديمقراطية 
بمعناها الأرقى والأشد التصاقًا بثقافة العصر وحداثته. جزءًا من ثقافتنا وتراثنا 
الحي وحياتنا اليومية. هكذاء على الرغم من غياب الحضور الواضح للمثقف 


121 


العربي في التدخل الفاعل للتأثير في مجريات تطورات الديمقراطية ومآلاتها 
إبان انطلاق شراراتها الأولى» وتداعياتهاء فإن دوره أضحى في الوقت الراهن 
والمرحلة المقبلة أمرًا لا مفرّ منه. 


المراجع 
55-5 


أبو زيد» نصر حامد. الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسيطة. القاهرة: 
مكتبة مدبولى» 1996. 

أومليل؛ علي. الإصلاحية العربية والدولة الوطنية. ط 2. بيروت/ الدار البيضاء: 
المركز الثقافى العربى؛ 2005. 

. السلطة الثقافية والسلطة السياسية. بيروت: مركز دراسات الوحدة 

العربية» 2008. 

بلقزيزء عبد الإله. نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين. بيروت/ 
الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 2000. 

الجابري» محمد عابد. الخطاب العربى المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة 
العربية» 2007. 

char‏ هشام. الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر. ط 6. بيروت: دار 
الطليعة» 2008. 

حرب» علي. أوهام النخبة أو نقد المثقف. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي 
العربي» 2012 . 

خواجة» أحمد. «مجلة الأحوال الشخصية فى تونس ما - بعد الاستقلال» أو إلى 
أي مدى تتغير المجتمعات الإنسانية بالأحكام القضائية؟». في: عبد الحميد 
هنية (مشرف). مسار مؤرخ وتجربة تأريخية: أعمال مهداة إلى محمد الهادي 
الشريف. تونس: جامعة تونس - مركز النشر الجامعى»› 2008. 


122 


خوري» رئيف. الفكر العربي الحديث. بيروت: دار المكشوف» 1943 
عبد الرازق» علي. أصول الحكم في الإسلام. [د. م: د. ن.]ء 1925. 
العرويء عبد الله. ثقافتنا في ضوء التاريخ. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي 
العربي» 1983. 
_. العرب والفكر التاريخي. بيروت: دار الحقيقة» 1973. 
._.مفهوم العقل. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 1996. 
مالكي» امحنمد. الح ر كات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي. بيروت: مركز 
دراسات الوحدة العربية» 1994. 
2- الأجنبية 


Bourdieu, Pierre. The Field of Cultural Production. Randal Johnson (ed.). Cambridge, 
MA: Polity Press, 1993. 


Foucault, Michel. Power/Knowledge: Selected Interviews and Other Writings, 1972- 
1977. Brighton: Harvester Press, 1980. 


. «Truth and Power.» in: Paul Rabinow (ed.). The Foucault Reader. 
Middlesex: Penguin Books, 1984. 


Gramsci, Antonio. The Modern Prince and Other Writings. New York: International 
Publishers, 1970. 


123 


المثقف في السياق الحربي - الإسلامي 


الفصل الرابع 


الحرية شعارا ومفهوما 
خطاب المثقفين العرب في عصر النهضة 
سعيد بنسعيد العلوي 


«النهضة» و«اليقظة» و«الانبعاث» مفاهيم ثلاثة أخذ بها الدارسون والمؤرخون 
في الحديث عن الفكر العربي في الفترة الزمنية التي تبدأ من مطلع القرن التاسع 
عشر» وتنتهي في أربعينيات القرن العشرين أو خمسينياته عند بعضهم» وتمتد عند 
آخرين إلى سبعينيات القرن المذكور. غير أن النعت الذي غلب في الحديث عن 
الحقبة المشار إليها هو النهضة» ومن ثم الكلام على «عصر النهضة». 


لا يتسع مجال الحديث عن «عصر النهضة» وسماته وعن القضايا 
والإشكالات التي أثارها حديث العصر والقول فيه؛ إذ كتب الدارسون عن هذا 
الموضوع كثيرًا وكان لناء بدورناء رأي أظهرناه في بعض الكتابات”» فلن نتوسع 
في الحديث في الموضوع. غير أننا نجمل القول على النحو الذي يتطلبه خوضنا 


(1) انظر مثلا: سعيد بنسعيد العلوي: الإيديولوجيا والحداثة: قراءات في الفكر العربي المعاصر 
(بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربيء 1987)؟ الاجتهاد والتحديث: دراسة في أصول الفكر 
الفلسفي في المغرب (مالطا: مركز دراسات العالم الإسلاميء 2 ») والوطنية والتحديثية في المغرب: 
مجموعة دراسات حول الفكر الوطنى وسيرورة التحديث فى المغرب المعاصر (بيروت: مركز دراسات 
الوحدة العربيق 1997). ١‏ 1 


127 


في هذا الحديث فنقول» إجمالاء إن لعصر النهضة جملة سمات يلتقي الدارسون» 
على اختلاف مشاربهم» في إقرارها. 


- السمة الأولى التي يتميز بها عصر النهضة هي التي ننعتها بحضور الوعي 
الحاد بالتأخر المزدوج لأهل الإسلام؛ تأخر عن ركب الإنسانية المتقدمة ممثلة 
في الغرب وقد سار على درب التطور والتقدم خطوات بعيدة» في مقابل تقاعس 
العرب والمسلمين عن اللحاق بقافلة التقدم؛ وتأخر المسلمين عما كانوا عليه في 
أزمنة القوة والمجد. وهى تلك التى يصفها العرب فى حديث الشوق والحنين 
ب «العصر الذهبي». 2 1 ١‏ 


- السمة الثانية التي يتميز بها عصر النهضة من المراحل التي سلكها الفكر 
العربي هي القول عن القرون الكثيرة التي تفصل العرب عن «العصر الذهبي©؛ 
إنها عهود الانحطاط أو إنهاء متى عددناها ليلا بهيمًا متصلاء عصر الانحطاط. 
ويعني هذا القول عندنا أن وعي التأخر المزدوج يتضمن وعيًا بأسباب طبيعية 
أسلمت إلى التأخرء وهي الانحطاط. وربما يجب التنبيه إلى أن نعت «الانحطاط» 


ربما كان يرد على لسان المفكرين العرب أول ما يرد في عصر النهضة. نعم 
هنالك جراثيم لفكرة الانحطاط عند ابن خلدون هي التي يفيدها معنى الهرم عنده. 
وهي ما وجدناه يصف بها حال الحكمة في عصره". غير أننا لا نعرف لكلمة 


(2) لا يتعلّق الأمر بمرحلة زمنية محدّدة (عصر التدوين كما يذهب إلى ذلك محمد عابد الجابري 
مثلاء أو بالقرن الرابع للهجرة؛ كما يؤكّد ذلك محمد أركون في أكثر من دراسة» ويوافقه على ذلك كثيرون)» 
إنما العصر الذهبي - كما نتحدّث عنه - تركيب مثالي (هو نوع من التركيب الذهني النموذجي كما يتحدّث 
عنه ماكس فيبر)» فيه تركيب من كل مراحل القوة والتفوق في الإسلام؛ وكذا الشأن بالنسية إلى الحواضر 
المعروفة في مراحل تاريخية تختلف بين الضعف والقوة (بغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة وفاس 
ومراكش ...إلخ). 

(3) انظر قول عبد الرحمن ابن خلدون: «ثم إن المغرب والأندلس» لما ركدت ريح العمران بهما 
وتناقصت العلوم بتناقصه» اضمحل ذلك منها إلا قليل من رسومه تجدها في تفاريق من الناس وتحت رقبة 
من علماء السنة (...) كذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الفرنجة من أرض رومة وما إليها 
من العدوة الشمالية نافقة الأسواق» وأن رسومها هناك متعدّدة» ودواوينها جامعة متوافرة» وطلبتها مكثرة. 
والله أعلم بما هنالك» وهو يخلق ما يشاء ويختار». انظر: أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون» مقدمة 
ابن خلدون؛ دراسة وتحقيق علي عبد الواحد وافي» 3 ج» ط 2 (القاهرة: منشورات مكتبة الأسرة» 2006)» 
ج 3ءص 1011. 


128 


«الانحطاط» (في المعنى الذي نقصده اليوم) تداو لا قبل عصر النهضة. وهذا أمر 
له دلالته الواضحة؛ وهوء كما نؤكد ذلك؛ يتصل بما نقول عنه إنه وعي «التأخر 
المزدوج ». ولا يعني الانحطاط (كما يرد عند ابن منظور) النزول رتبة أو درجة؛ 
وإنما لا يملك الانحطاط أن ينفك من حكم معياري على حال لا مبرر للرضا 
عنهاء بل هيأ حقب الإدانة والرفض 


- السمة الثالثة التى نجد أنها ميزت الفكر العربى فى عصر النهضة هي سمة 
القول بالأخذ مما عند الغرب» مما كان سببا في وصوله إلى الرتبة التي أدركها. 
ونقصد بقولنا هذا إن مفكري عصر النهضة»ء ومنهم أولئك الذين يعدون من 
رافضي الحضارة الغربيةء أكان الرفض بدعوى أن من شأن ذلك الأخذ أن يبعد 
بنا عن النهج القويم» أو كان بحجة أسبقية سبقية أهل ملة الإسلام لما «يتبجح to‏ 
بنسبته إلى نفسه. فعند هذين الصنفين الأخبير ين (خلا استثناءات يُمثل شذودًا) 
كانوا لا يرون حرجا فى الأخذ بأفضل مما عند الغرب» محتجين في ذلك أن 
عمر بن الخطاب - على سبيل المثال والاقتداء معًا - لم يتوانٌ عن اقتباس كثير من 
نُظم الدولة الإسلامية من الفرس 

عرف عصر النهضة ظهورًا وتداولا لمفاهيم جديدة أكسبت الألفاظ دلالات 
جديدة غير مألوفة» غير مفكر فيها. ونود» في قول وجيزء أن نعيد التذكير بالفروق 
الإبيستمولوجية التي تقوم بين اللفظ والمفهوم. ذلك أن المفهوم يرتبط» جملة» 
باكتشاف جديدء بل ربما يكون إيذانًا بميلاد علم جديد: ذلك هو الشأن مثلا في 
الارتباط القائم بين اكتشاف الأكسجين وميلاد الكيمياء علمًا جديدًا. وكان لفظ 
«الصلاة» يعني الدعاء في التداول العربي السابق على الإسلام» ليغدو مع ظهور 
الإسلام مفهومًا جديدًا يرتبط بالدين الإسلامي» وليكون ركنًا من أركانه. 

كذلك هو الشأن بالنسبة إلى هذه الكلمات: الإصلاح والتقدم والاقتباس 
والمدنية والحرية. فهناك فرق بين دلالة لفظ الإصلاح في النص القرآنيء والمقصود 
منه عند مفكري الإصلاح في عصر النهضة. . فالمصلح» في القول القرآني» هو 
نقيض المقسد. والمصلح في المعنى الذي يقصده محمد عبده وتلامذته يفيد 
إصلاح التعليم» وإصلاح النظم والمؤسسات» ويفيد تقويم ما اعوج من أمور 
الدين. وغدا التقدم نعتًا لحال حضارية وفكرية» فما عادت للألفاظ المعاني التي 


129 


كان العرب يقفون عندها على نحو ما ألفناه» والحكم ذاته يصدق على كل من 
الدلالات الجديدة» غير المألوفة» لمعانى الاقتباس والمدنية والحرية. وإن أحد 
الأهداف التي تتوخاها هذه الدراسة ف الإبانة عن الجدة التامة لمعنى الحرية 
خصوصًّاء وللدلالة التي تكتسبها الحرية بحسبانها مفهومًا يعبر عن حال جديدة 
في الوعي الثقافي العربي الإسلامي خصوصًا. 


أما الفئة التي يصح نعتها بجماعات المثقفين في عصر النهضة» أي تلك 
التي تسر ما تمتلكه من أدوات معرفية من أجل فهم الواقع أولّاء ثم العمل على 
التأثير فيه بغية المساهمة في تغييره» وذلك بالتنبيه إلى مظاهر السلب والقصور 
من جانب أولء واقتراح حلول أو الاستدلال على الطريق الكفيلة بسلوك طريق 
الحل من جانب ثان» فهي تضم أصناقًا منوعة في الواقع؛ إذ نجد فيهاء حيئًاه رجل 
الدولة الذي يملك التأثير المباشر في الحوادث (وتلك هي الحال عند خير الدين 
التونسي» على سبيل المثال)» وحيئًا آخر يفيد المثقف العالم أو المتنور القريب من 
أوساط اتخاذ القرار» أو من الذين يرتبطون بتلك الأوساط بأكثر من سبب (ذلك 
هو الشأن» على سبيل المثال» في الرحالين الذين توجهوا إلى أوروبا في رحلات 
سفارية - كما هي الحال بالنسبة إلى الصفار والعمراوي والطاهر الفاسي وأضرابهم 
بدءًا من أربعينيات القرن التاسع عشر - أو ذهبوا إلى البلاد الأوروبية طلبًا للمعرفة 
بتوجيه من الدولة» ويبقى رفاعة رافع الطهطاوي المثال الأقوى في ذلك). وطورًا 
ثالثًا تعني كلمة «المثقفين» جماعة المفكرين الذين لم يكونواء بالضرورة» على 
صلة بدواليب الدولة» بل ربما كانوا في نفور منهاء أو في خصومة معهاء بيد أنهم 
كانوا مهمومين بشؤون بلدانهم ومتطلعين إلى تغيير حال لا يرضون عنها. ولعلنا 
نذكر في هذا الصدد الشامي عبد الرحمن ن الكواكبي» وزمرة من المصريين. 

هذه الأصناف من المثقفين يجمع بينها ناظم واحد هو الصدمة بين ما رأوا 
من تقدم الغرب وما كانوا يحكمون به على بلدانهم من تأخر. وكان السؤال عند 
المثقفين العرب في عصر النهضة سؤالا واحدًا في عمقه (وإن اختلفت صيغ طرحه 
في بعض الأحيان): لماذا كان الغرب متقدمّاء وكان العالم العربي (أو الإسلامي) 
غير ذلك؟ أما الجواب عن هذا السؤال» فكان مختلفًا بحسب المواقع التي ينتتمي 


130 


عنها السائل واختلاف المرجعية التي يحتكم إليها. كذلك نجد الناظرين في 
الفكر العربي المعاصر يصنفون المفكرين العرب» أول الأمر» في عصر النهضة 
إلى سلفبين وليبراليين» ثم إلى مثقفين ماركسيين وآخرين قوميين» وغير ذلك في 
KG Jo ea Bd‏ 278 الاير 


أيّا تكن التصنيفات التي يمكن الأخذ بها في النظر إلى حال المثقفين العرب 
في عصر النهضة» فنحن نجد أننا أمام ضرورة التسليم بأنها مرحلة سمّتها الكبرى 
المميزة للفكر العربي في المرحلة التي هي موضوع النظر هي سمة بواقع التحول 
التاريخي» حصو صًاء سمة الوعي بحال الأزمة التي تنطق بوجوب التفاعل والقلق 
بين حالين: حال أولى مرفوضة»ء أي حال التأخر المزدوج كما أشرنا إلى ذلك 
وحال ثانية مأمولة» حال مجاوزة واقع لا يمكن الرضا عنهاء نحو حال حري أن 
يكون عليها العرب وأهل ملة الإسلام. 


ما غلب على المثقفين فى عصر النهضة هو الانتماء إلى الثقافة العربية 
الإسلاميةء على النحو الذي كانت تعمل به مراكز الإعداد العلمي على تكوين 
أولئك المثقفين (الأزهر والزيتونة والقرويين ومعاهد ومتتديات للتكوين الديني 
في الشام وفي القدس وفي الحجاز) . ويعني هذا التقرير آن سواد المثقفين العرب 
في عصر النهضة كان يتصل» بنحو أو آخرء بما ينعته ألبرت حوراني مثلا بالمنحى 
السلفي. وربما ينبغي القول في هذا الصدد إن الفئة التي كانت» بموجب التصنيف 
الذي يأخذ به مؤلف الفكر العربي في عصر النهضة (وهو الكتاب الذي غداء 
منذ عقود عدة في الواقع» أحد المراجع الكلاسيكية في التأريخ للفكر العربي 
المعاصر)؛ وكذا الأغلبية العظمى من الدارسين العرب وغير العرب» تعد الفكر 
الليبرالي الفكر النقيض أو المغاير في الأقل لما سار عليه المنتسبون إلى المدرسة 
السلفية. ويبقى هذا الرأي في حاجة إلى الأخذ بما يستلزمه واقع المثقفين العرب 
في الفترة التي هي موضوع الدراسة من النسبية والحرص على الاقتصاد في إغداق 
النعوت والصفات. 


نجد نوعًا من القلق أو الحرج في إطلاق نعت المفكر الليبرالي على مفكر 
مثل لطفي السيد» أو على تلميذه طه حسين» متى حرصنا على مراعاة اجتماع 


131 


الشروط الكفيلة التي تفي بصفة المفكر الليبرالي. والصحيح عندنا أن طه حسين 
وأستاذه يبقيان على روابط عميقة بالفكرة الدينية» وبالفكر الذي يرى حوراني أن 
صفات السلفية تجتمع فيه. . ومن ثم» فنحن نرى أن «مفكري الإسلام في عصر 
النهضة» (كما في عبارة فهمي جدعان مثلا) هم الفئة الأكثر تمثيلية لمعاناة ما يقال 
عنه إنه صدمة الحداثة. أو ننعته بوعي التأخر المزدوج. . ومن ثم» فإن النماذج التي 
نقترح الوقوف عندها في هذه الدراسة تند تنتمي جميعها إلى المنحى «السلفي»» ومرة 
أخرى نقول إننا نأخذ النعت في المعنى الذي يذهب إليه حورانى فى كتابه الذي 
أسلفنا الإشارة إليه. 1 0 


أولا: الحرية فى خطاب المثقفين العرب 

في عصر النهضة - شعارًا ومفهومًا 
في دراسة لنا عن «القيّم في المجال الثقافي الإسلامي“”» ذكرنا أن القيم 
في المجال الثقافي الإسلامي تقتضي» ضرورة:» الحديث عن القيم من حيث 
صلتها بالإسلام اعتقادًا وشريعة» وهذا من جانب أول» كما تقتضي» من جانب 
ثان» التسليم أن القيم (في المجال الثقافي الإسلاميء شأن القيّم في المجالات 
الثقافية عمومًا) تخضع للتاريخ وجويّاء مثلما أنها تتأثر بالأمكنة وبالتنظيمات 
الاجتماعية. ومن ثمء فلا مندوحة للقيم» من جهة المضامين التي تحمل - لا 
من جهة الصور والصيغ - من الخضوع لشرط أول هو التاريخية» ولشرط ثان هو 
النسبية. وإذا كان كذلك؛ فإن كل عصر من العصورء وكل مرحلة تاريخية تتميز 
من غيرها بفعل عوامل موضوعية فاعلة؛ ما يجعل للقيم العليا (الثابتة من الناحية 
الصورية) مضامين تتأثر بالعصر الذي تظهر فيه فيكون لهذه القيمة أو تلك الغلبة 
والسيادة أكثر من غيرها من القيم الأخرى» وربما تضاءلت قيم أخرى كانت لها 

الغلبة والذيوع من قبل» بل ربما تختفي وتزول من حياة الناس. 


لنقل» بعبارة أخرىء إن لكل مرحلة من المراحل التاريخية منظومة من القيم 


(4) سعيد بنسعيد العلويء «القيّم في المجال الثقافي الإسلامي»؛ مؤمئون بلا حدود (مؤسسة 
دراسات وأبحاث)» 3/20/ 2015« 9 htp:/bit.ly/1Si40rv.‏ 


132 


تت تترجم ذلك العصر وتعبر عن آلامه وأماله. . وحيث إن الأمر كذلك» فليس للمجال 
الثقافي العربي أن يشذ عن هذه القاعدة» أو أن يخرج عن هذا القانون الكوني. ومن 
ثم» فإن السؤال المتعلق بالقيم السائدة في هذه المرحلة أو تلك من مراحل التطور 
والتغير التي عرفها المجال الثقافي الإسلامي لا يكون سؤالًا مشروعًا فحسب» بل 
يغدو سالا ضرورتًا أيضًا. 

إذا قمنا بعملية ربط بين الفكرة المعبر عنها سابقًا وما عرضنا له في المقدمة 
الثانية من هذا البحث» فنحن نصير إلى تقرير أن ظهور منظومة جديدة من القيم 
(في عصر من العصور» بعد أن تكتمل للعصر خصائصه التي تميزه من غيره من 
العصور السابقة له» فهي عنوان له وهي دال GLS Les Joe cale‏ مفهوم 
جديد أو مفاهيم جديدة. ومتى سعينا إلى القيام بنوع من المماثلة المعقولة بين 
ما يجري في مجال العلوم وما يحدث في المجالات الإنسانية (ومن ثم في مجال 
العلوم الإنسانية)» ومتى كان نظرنا متجهًا إلى عصر النهضة بحسبانه عصر تحول 
تاريخي في تاريخ الفكر العربي» فإنه يحق لنا التساؤل عما حدث بالنسبة إلى 
منظومة القيم في عصر النهضة. وبالرجوع. ثانية» إلى ما لمّحنا إليه» فإننا نكون 
أمام ضرورة الجواب عن السؤال: ما دمنا قد لمحنا إلى سمة الجدة التامة في 
تداول لفظ «الحرية» (مفهومًا لا لفظا فحسب) في خطاب المثقفين العرب في 
عصر النهضة:؛ فما سمة تلك الجدة؟ وما مبررات الحديث عنها؟ وما تجلياتها في 
خطابات أولئك المثقفين؟ 5 


إذا ما رجعنا إلى الفكر العربي الإسلامي في المرحلة التي نقول عنها إنها 
مرحلة العصر الكلاسيكي» فنحن نلاحظ آن لفظ «الحرية» يحمل مضامين هي» 
في قول جامع» مغايرة للمعاني التي يكتسيها اللفظ في الفكر العربي الإسلامي 
المعاصر فعلا. ولننظر في مكوّنين أساسيين من مكوّنات المرجعية الثقافية 
الإسلامية في العصر الكلاسيكي: الفقه وعلم الكلام؛ فماذا نجد؟ 

نجد أن الحرية تعني في النظام المعرفي الفقهي الإسلامي حالا واحدة 
لاغير» هي انتفاء العبودية. فالحر هو من لم يكن عبدًا مملوكا لغيره؛ ومن ثم؛ فإن 
الأحرار في مقابل العبيدء والإماء في مقابل الحرائر» ولكل من حال الرق وحال 


133 


الحرية أحكام فقهية معلومة من جهة التكاليف الشرعية. ومن ذلك» مثلاء أن إسناد 

بعض الوظائف الشرعية داخل المدينة الإسلامية إلى شخص ما يستلزم الخروج 
من تال الوق كل ى كان علا ذلك الف فهذا أبو الحسن الماوردي. 
في تشريعه لأحكام الإمامة العظمى» > فهو وإن لم ينص على الحرية شرطا في 
انعقاد الإمامة للرجل من «أهل الإمامة»» فإن الشروط السبعة التي يذكرها في 
صحة الإمامة توجب وجود الحرية بداهة» بالنظر إلى أن الإمامة عقد والعقد 
لا يمكن لأحد طرفيه أن يكون فاقدًا الحرية بموجب حال الرق التى تغل العبد 
المملوك. وكذلك نجد من الفقهاء من أفتى ببطلان حكم المماليك بداعي خلو 
حالهم من شرط الحريةء فهم رقيق لم يعتقوا. ومن ذلك أن التكليف الشرعي الذي 
يلزم المسلمين جميعًا (كما هي الحال في الحج» وهو الركن الخامس من أركان 
الإسلام)؛ يسقط عن المسلم المملوك لغيره. 

خارجًا عن انتفاء الرق والعبودية فإن الحرية» فى تصور الفقهاء فى الثقافة 
الإسلامية» لا تخلو من حمولة سلبية» بل مستهجنة أيضًا؛ إذ إنها تفيد الاستخفاف 
بأحكام الشرع» أو تعني التساهل في مراعاة تنفيذ تلك الأحكام من دون مبرر ولا 
ضابط من ضوابط الشرع» وكلا الأمرين منبوذان. ولا غرابة ذا أن نجد فقيهًا مؤرححا 
لا يعد في زمرة الفقهاء الذين يحملون على الغلو في الدين هو خالد الناصري 
صاحب كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب ب الأقصى؛ إذ يقول: «واعلم أن هذه 
الحرية التي أحدثها il‏ في :هله الاين غي من وضع الزنادقة قطعًاء لأنها 
تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسًا (...) واعلم 
أن الحرية الشرعية هي التي ذكرها الله في كتابه وبينها رسول الله لأمته وحررها 
الفقهاء في باب الحجر من كتبهم:. ‏ - 

أما في مصنفات علم الكلام» فلا ترد الحرية لفظاء إنما يرد معناها. - فهي 
الإرادة طورًاء وهي القدرة طورًا Gb‏ وهي الاستطاعة طورًاء وهي الاختيار 
ومشتقاته طورًا آخر. لذلك فإن الزوج المفاهيمي الأساسي في علم الكلام في 
الإسلام يكون الجبر والاختيار» لا الحرية والجبر مثلا. ونجد عند أبي الحسن 


(5) أبو العباس أحمد بن خالد الناصري» الاستقصا لأخبار دول المغرب الأتصى» تحقيق وتعليق 
جعفر الناصري ومحمد الناصري» 9 ج (الدار البيضاء: دار الكتاب» 1956)ء» ص 115-114. 


134 


الأشعري في مقالات الإسلاميين (وهو الكتاب المعروف الذي ألفه صاحبه في 
تصنيف الفرق الكلامية الإسلامية) تنسييًا إلى الجبر (- المجبرة)» وإلى القول 
بالقدر (- القدرية)» لكن لن نجد عند الأشعري تنسيبًا إلى الحرية (كأن يقول 
«الحريون» مثلًا أو القائلون بالحرية)؛ وما نقوله عن الأشعري يصدق في شأن 
عموم مؤرخي الفرق الكلامية في الإسلام. 

من الأمور التي أثارت انتباهنا قديمّاء وأنا أقرأ مع طلابي في الجامعة 
ترجمة إسحق بن حنين لكتاب الأخلاق النيقوماخية» حيرة المترجم العربي في 
بيت الحكمة أمام حديث أرسطو عن المسرح والخشبة والممثل» وعن المشاهد 
والفرجة. ذلك أن المترجم كان يقرأ عند المعلم الأول ما لا يعرفه في ثقافته العربية؛ 
إذإن أرسطو الذي كان يتحدث عن أمور مألوفة عند القارئ اليوناني في عصره كان 
ينطق - بالنسبة إلى المترجم العربي - بكلام غير مألوف؛ غريب عن الأذن العربية. 
لذا كان كلامًا عصيًا على الإدراك السهل؛ ومن ثم» كان اجتهاده الغريب والعجيب 
في جعل كل الحديث مشتقًا من فعل الرؤية (الرائي ي بدلا من المتفرج» والرؤية بدلا 

من المسرحية» وجهة الرؤية بدلا من خشبة المسرح)ء عصيًا على الفهم وممتنعًا 
عن الإدراك©. 

يحملنا السياق نفسه (حيرة المتحدث العربى فى الحديث الواصف لما كان 
غريبًا عن ثقافته كذلك) على استحضار الحال التي وجد فيها الشيخ رفاعة رافع 
الطهطاوي نفسه حين كان شاهدًا على حوادث الثورة في باريس في عام 1830» 
وما رأت عيناه من خروج المتظاهرين من أنصار الجمهورية. وحيث إن الحرية 
كانت الشعار الأقوى الذي رفعه أولئك المتظاهرونء وإذ كان القاموس العربي 
الذي يلجأ إليه إمام البعثة المصرية خلوًا من مفهوم «الجمهورية» (بل إن الاشتقاق 
نفسه لم يكن مألوفًا في ثقافته» حيث كان المألوف والمتداول هو لفظ «الجمهورة؛ 
بل إن كلمة الجمهور نفسها كانت تطلق على العلماء أو الفقهاء فحسبء فهي لا 
تفيد البتة المعنى الذي تحضر به حاليًا في الوعي العربي) فإن كل ما استطاع اجتهاد 
الطهطاوي أن يسلمه إليه هو أن ينسب أنصار الجمهورية في التظاهرات الباريسية 


(6) أرسطوطاليسء الأخلاق. ترجمة إسحق بن حنين» تحقيق وشرح وتقديم عبد الرحمن بدوي 
(الكويت: وكالة المطبوعات؛ 1979)» ص 71. 


135 


إلى الحرية» فيقول في الحديث عنهم إنهم «الحريون» (نسبة إلى الحرية). ثم لما 
كان في حاجة إلى أن يطمثن إلى ما هو مألوف غير غريب عن وعيه المصري» 
مضى يقارن بين دعاة الحرية كما شاهدهم في باريس وأصحاب الشيخ همام الذي 
قاد ثورة في الصعيد. فقال إن «الهماميين؟ (نسبة إلى الشيخ همام) يصح نعتهم 
بالحريين أيضا. 


سنلاحظ في النصوص العربية اللاحقة في مصنف الطهطاوي الذي لمحنا 
إليه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)» تطويرًا في استعمال لفظ الحرية في معنى 
تقترب فيه نوعًا من الدلالة الجديدة للكلمة في الوعي العربي: ذاك الذي سيجري 
بموجبه نقلها من اللفظ الذي يفيد معنى إلى لفظ يعبر عن مفهوم جديد لم يكن 
مألوفًا من قبله» بل ربما كان ينضح بمعان مناقضة أو بعيدة تمام البعد عن الفهم 
الجديد. ذلك ما نجده أول ما نجده في النصوص العربية الأولى التي يرد فيها ذكر 
الحرية فى اللغة العربية. 

أفاد اللفظ دلالات جديدة في ما أحسبء ولعلنا غير مخطئين في ذلك» عند 
خير الدين التونسي في مؤلفه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك. ويتساءل 
«الجنرال» التونسي عن الأسباب التي جعلت العالم الغربي على ما رأى التونسي 
أن عليه من القوة في مقابل ما أدرك مما كان عليه العالم العربي من الضعف 
والتأخر فيكتب: «ولا سبب لما ذكرناه إلا تقدم الإفرنج في المعارف الناتجة عن 
التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية». غير أن التونسي لا يكتفي بتقرير أمر 
واقعء بل إنه يقوم بتدشين تقليد جديد في النظر المقارن بين حال الغرب في زمانه 
وحال المسلمين في العصر «الذهبي» فيسجل» غير متردد «وهل يتيسر ذلك التقدم 
من دون إجراء تنظيمات سياسية تناسب التنظيمات التي نشاهدها عند غيرنا في 
التأسس على دعامتي العدل والحرية اللذين هما أصلان في شريعتناء ولا يخفى 
أنهما ملاك القوة والاستقامة في جميع الممالك»*. 


(2) خير الدين التونسي» أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك تمهيد وتحقيق المنصف الشنوفي» 
2 ج (بيروت: دار الكتاب اللبتاني» 2012(« 14. 
(8) المرجع نفسهء ص 16. 


136 


إضافة إلى ذلك لا نجدء عند اللاحقين لخير الدين التونسي» استساغة وقبولًا 
للحرية في معنى جديد بالنسبة إلى الوعي الإسلامي» ولا نلفي عندهم تأكيدًا على 
سبق الفكر الإسلامي ورجاله للمضامين التي تكتسيها الحرية في الفكر الغربي» 
وإنما نجد تبيئة تامة للمفهوم عند المثقفين العرب في عصر النهضة الذي نحن 
بصدد القول فيه. ومن بين الشواهد الكثيرة التي نملك أن نحتج بها على ما نقول 
نقترح وقفة قصيرة عند نموذجين اثنين من نماذج الخطاب التمجيدي للحرية في 
الفكر العربي المعاصر. 

نتابع عبد الرحمن الكواكبي في فحصه لما ينعته بداء الاستبداد المستشري في 
الجسد الشرقيء فنجد أن صاحب طبائع الاستبداد لا يكتفي بالقول إن الاستبداد 
يتنافى مع جوهر الإسلام (وذلك ما يؤكده عموم مفكري الإسلام من بعده)» بل إنه 
يذهب إلى «أن الإسلامية مؤسسة على أصول الحرية برفعها كل سيطرة وتحكم» 
بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء». 


ا ا الو ل 
فخاض في المسألة بالعمل السياسي مناضلا من sean‏ 
الحرية مدارًا لنظريته في امقاصد الشريعة»» ثم عرض لها في أحاديث شتی قبل أن 
يُفرد لهاء في ستينيات القرن الماضيء مؤلفًا خاصًاء والقصد بالمفكر الذي نشير 
إليه هو الزعيم السياسي المغربي والعالم الديني علال الفاسي. . فلا يكتفي الفاسي 
بتطوير المعنى الذي ذهب إليه التونسي في القول إن في الإسلام دعوة أصيلة إلى 
الحرية ودفاعًا عنهاء ولا يقنع بالقول إن الحرية ركن مكين في دعوة الإسلام؛ 
على غرار ما يفعل المفكرون السلفيون في عصر النهضة. » بل إنه يدشن أفمًا جديدًا 
للنظر أفمًا غير مألوف في الواقع» فهو يقول: «المفهوم الإسلامي للحرية عند 
التطبيق واجب التحقيق» أي إن الحرية في الإسلام ليست حمًا من حقوق الإنسان» 
ولكن واجبة عليه»'. 


(9) عبد الرحمن الكواكبي» طبائع الاستبداد ومصارع الأستعباد وهي كلمة حق وصرخة في واد إن 
ذهبت اليوم مع الريح» فقد تذهب غَدًا بالأوتادء تقديم آبو المظفر سعيد محمد السناري (دمشق: دار الكتاب 
العربيء 2017)» ص 34. 

(10) علال الفاسيء الحرية (الرباط: مطبعة الرسالةء 1977). 


137 


جرت تبيئة المفهوم الجديد في معناه ومضامينه. فنحن بعيدون كلية عن 
المعنى الأصلي الذي كان فقهاء الإسلام يقصدونه. أما المعنى الفقهي الأصلي 
فكان يفيدء كما لمحنا إلى ذلك» انتفاء حالة الرق من جانب أول» وارتفاع حال 
الحجر والقصور التي تكون لغير البالغ من جانب ثان. ولم يفرغ مصطلح الحرية 
من الحمولة القدحية التي رأينا الناصري يغلفه بهاء بل إنها مضت خطوات على 
درب الإيجاب والتأييدء ثم إلى أن الحرية لا تكتفي في الفكر العربي الإسلامي 
بارتداء لباس جذاب» على نحو ما نرى عند الفقيه والزعيم السياسي المغربي» بل 
إنها تأخذ كيمًا جديدًا من النظر. ويتعلق الأمر في الواقع بميلاد مفهوم جديد تمامًا؛ 
مفهوم يترجم مضامين جديدة عند المثقف العربي في عصر النهضة. تتسم بالتطلع 
إلى أفق جديدء مثلما أصبحت شعارًا يوجه الفعل» ودعوة إلى القيام بمراجعات 
شاملة للآراء والمعتقدات. 


الحرية أصل للتقدم وتفسير له» وذلك ما أدركه كل من التونسي والكواكبي 
بكيفيتين مختلفتين. والحرية» على النحو الذي يتغنى به المثقف الغربي» تجد 
أصلها المكين في الإسلام؛ وذلك ما سيؤكده محمد عبده في الإسلام والنصرانية 
وفي غيره من المؤلفات التي لا يسمح لنا المقام بالتوسع فيه. وقول عبده في الحرية 
وفي مكانتها في الإسلام هي «النغمة» التي سيعزف عليها كل الذين ينتسبون إلى 
مدرسته ومدرسة رفيقه وأستاذه جمال الدين الأفغاني. الحرية مطلب ومفهوم 
يتعين الأخذ بهما من أجل تجديد فعلي في الدين وسعيًا نحو ارتياد آفاق جديدة 
في فهم الشرع الإسلامي. وذلك ما سيسعى محمد الطاهر بن عاشور إلى الإبانة 
عنه في أحاديثه في مقاصد الشريعة» وما سيمضي فيه إلى الأمام معاصره وصاحبه 
المغربي علال الفاسي في مؤلفه الذي يوافق عنوانه عنوان كتاب الفقيه التونسي 
مقاصد الشريعة الإسلامية. 

يعي المثقف العربي» ذو المنحى الإسلاميء أن الإقبال على الأزمنة 
المعاصرة وخوض معركة التغيير بغية مجاوزة حال التخلف المزدوج يوجب 
القيام يمراجعات شاملة لما جمد عليه رجال الدين الإسلامي قرونًا عدة. فلم يكن 
من الممكن في عصر النهضة التفوه بعبارة «قراءة جديدة»؛ بل إن هذا القول سيأ خذ 


138 


في الظهور عقودًا ستة بعد وفاة محمد عبده. غير أن الطريق التي سلكها المتنورون 
من مثقفي الإسلام في عصر النهضة كانت أمورًا تطفح بمعاني الدعوة إلى القراءة 
الجديدة لكل من الكتاب والسنة. وأدركت الفئة التي نلمح إليها أن عمق المشكلة 
يتصل بالحداثة وأسبابها ومقوماتهاء وشعر المثقف العربي أن العناصر الكبرى 
في دعوى التحديث (وكذا التجديد في الدين) ترجع إلى قضية الحرية إجمالاء 
العمل على رفع ما توه من تعارض بين الحري ادن وهذا من جانب آوله 
وكذا الدفاع عن الفكرة التي تة تقضى أن حرية الاعتقاد وكيفية التدين لا تتعارض 
مع جوهر الدين الإسلامي؛ وهذا من جانب ثان. . ثم وجوب الإبانة عن الحدود 
الواجب رسمها بين مجال الدين ومجال السياسة» وهذا من جانب ثالث. 


«جبهات» ثلاث انتصب مثقفنا العربي ذو المنحى الإسلامي للحرب فيها 
الحرية» وحرية الاعتقاد» والفصل بين الدين والسياسة ثقف إِذَّا مم مثقفنا هذا عند 
قضية الحرية» ثم عند مسألة الحرية الدينية في الإسلام؛ على أن نرجئ القول في 
المسألة الثالثة إلى فرصة أخرى. 


ثانيًا: الحرية والفطرة 

في بداية القرن العشرين (1905)» قدم الشيخ عبد العزيز جاويش في مؤتمر 
المستشرقين في الجزائر بحا بعنوان «الإسلام دين الفطرة والحرية». ربما كانت 
تلك هي المرة الأولى التي يستمع فيها الناس إلى متحدث يقرن بين الفطرة والحرية 
لفظًا لا معنى بل ربما بين الدين والحرية إجمالًا . وكان لفظ الحرية لا يزال يحتفظ 
بالحمولة السلبية القديمة في الوعي الإسلامي» مثلما كانت مفاهيم أخرى (التقدم 
والنهضة. والمدنية ...إلخ) تتسم بالدلالة على معان سلبية» أو كانت تفيد دلالات 
بعيدة عن المعاني التي ستفيدها بضعة قرون بعد ذلك. والشيخ جاويش من تلامذة 
محمد عبده الذين يصح القول إن فكرهم امتداد لمدرسته. 


غير أن جاويش كان قد حظي بما لم ينله كثير من نظرائه؛ ذلك أنه استطاع 
الظفر بمنحة دراسية حكومية مكنته من الدراسة فى أكسفورد ومن الإقامة في 
أوروبا مدة سنحت له فيها فرصة زيارة ألمانيا وسويسرا والذهاب عدد من المرات 


139 


إلى تركيا في المرحلة الحرجة التي سبقت انصرام عقد الخلافة العثمانية. كما أن 
هذه الفترة من شباب الشيخ الأزهري/ الطالب في الجامعة الغربية واكبت عنفوان 
الهيمنة البريطانية على مصر وعاصرت انبثاق العمل الوطنى» وكذا بداية تطور 
الصحافة في أرض الكنانة» وهذه كلها - بطبيعة الحال - عناصر إيجابية فعلت 
فعلها في بلورة تكوين الشاب الأزهري وفي تطوير فكره. 

ما يعنينا ممّا تقدم هو الإشارة إلى وجود حركية سياسية فكرية جعلت 
المثقف العربي في خضم المعارك المحتدمة؛ وعملت على بلورة خطاب التجديد 
الديني الذي كان على دعاته» حملة الدعوة إلى الإصلاح» أن يخوضوا الحرب 
على جبهتين. الجبهة الأولى هي جبهة خصوم الإسلام من الغربيين من الذين «لا 
يكادون يفقهون للإسلام معنى سوى أنه الاسترقاق والطلاق وتعدد الزوجات» 
وأن المسلمين يعبدون محمدًا كما يعبد النصارى المسيح ابن مريم“""» والجبهة 
الثانية» أقوى وأشد. هي جبهة الغلاة المتزمتين من أهل ملة الإسلام من الشيوخ 
الذين كان محمد عبده ينعتهم ب «حملة العمائم». ومغزى النعت المذكور أن 
صاحب الإسلام والرد على منتقديه كان يربأ بأولئك الشيوخ أن يُدرجوا في سلك 
علماء الإسلام. والناظم بين الخصوم في الجبهتين هو عند محمد عبده وأتباعه 
من بعده» الجهل بالإسلام روحًا وتعاليم معّاء الأمر الذي يستلزم التجرد لإشاعة 
الفهم الصحيح بالدين الإسلامي؛ أي ما عرف في تاريخ سلفية الأفغاني وعبده 
وممن ساروا في إثرهما بالحرب ضد «الجحود والجمود؛ في آن. أما الجحود. 
في القاموس السلفي عند من نشير إليهم» فهو القول إن الإسلام لا شأن له بكل 
ما سيعرفه الغرب الأوروبي من أسباب التقدم والتحرر الاجتماعي والسياسي. 
وأما الجمود» فهو «الجمود على التقليد»» تقليد من سَلَفَ فى عصور الانحطاط 
والقصور عن إدراك معاني النصوص الأصلية» بل إنه أيضًا الابتعاد عما جاء به 
القرآن وأكدته السنة. ٠‏ 


يمكن القول إن «الإصلاح؟ أو «التجديد الديني» مشروع مزدوج» وفهم 


(0 )عبد العزيز جاويش» الإسلام: دين الفطرة والحرية» تقديم مجدي سعيد (بيروت/ القاهرة: دار 
الكتاب اللبناني/ دار الكتاب المصري» 7 )ص 51. 


140 


تعاليم الأفغاني وعبده والكواكبي وجاويش والطاهر الحداد والحجوي وعلال 
الفاسي ونظرائهم يوجب الانتباه إلى عمق النضال الفكري ومغزاه (والسياسي 
أيضًا عند بعض من ذكرنا) على الجبهتين معًا: خارج الدائرة الإسلامية» وفي داخل 
دائرة الإسلام وبين أهله. وبالنسبة إلى ما نحن بصدده من قولء يتعين علينا كذلك 
أن نقرأ خطاب الفطرة والحرية» وذلك ما سنحاول القيام به من خلال وقفة عند 
كتاب الشيخ جاويش المذكور. 


القول إن الإسلام دين الفطرة يفيد» عند صاحب الإسلام دين الفطرة والحرية 
«أن السبيل التي جاء بها الشرع الإسلامي في الإيمان بالله وتقديسه عن الحلول 
ومشابهة الغير وتوحيده بالعبادة من دون كائن غيره هي السبيل التي يصل إليها 
الإنسان بقطرته متى حلي وشأنه» غير مضلل ببعض الأباطيل ولا مدفوع إلى غير 
ذلك». فالفطرة التي يتحدث عنها الشيخ المصري توافق كلية التعريف الذي يقدمه 
الجرجاني للفطرة؛ إذ يقول «الفطرة» الجبلة المتهيئة لقبول الدين»”". الفطرة 
إِذّا استعداد طبيعي يعمل بموجب قوانين كلية خارجة عن إرادة الإنسان» وتلك 
القوانين الكلية خالدة ثابتة» والإسلام في نظر جاويش «لم يخالف في شيء من 
أصوله وقواعده سنن الله الفطرية التي فطر العالم عليها»". 


إذا كان الأمر كذلكء فإنه يتعين أن نفهم القول القرآني على حقيقته» فلا 
نخرج به عن دلالة الخطاب وسياقه (أي أسباب نزول الآية)؛ ولا نتوهم في القرآن 
ما ليس فيه أو ما لا يقصده الخطاب الإلهي. كما يتعين علينا أن نتبين المغزى 
الحقيقي للرسالة والوظيفة الحق التي يُكلف الرسل بتحمل أعبائها. 


أما المطلب القرآني الأول والأساسيء فهو توجيه البشر نحو معرفة الخالق» 
وهو الإعلان عن سبيل التوحيد الحق» غير أن الكثيرين» لاامن عموم الناس 
فحسب» بل من علماء الدين الذين عرضوا للقرآن بالتفسير»ء حادوا عن هذا المعنى 
كثيرًا فارتكبوا أخطاء شنيعة نتيجة ذلك؛ من ذلك أنهم «استعملوا آيات من القرآن 


(12) علي بن محمد الشريف الجرجاني» كتاب التعريفات (بيروت: مكتبة لبنان» 1978)» ص 75 
(13) جاويشء ص 116. 


141 


في غير ما وضعت له؛ فاتخذوها للتطبيب والفتك بالأعداء» وكشف عالّم الغيب 
وقضاء الحاجات وحل الطلسمات وتسخير الجن وتوسيع الرزق»*". ومن ذلك 
أيضًا أنهم اتخذوا من القرآن الكريم موسوعة تُحصي من العلوم أصنافًا «فقالوا 
إن القرآن لم يترك فنًا من الفنون العلمية إلا أتى بشيء من مسائله» فجعلوه ه كتاب 
جغرافيا وتاريخ وطبيعة ورياضة وهلم جرا. وادعوا أنه أتى من كل فن بطرف» 
فحملوا من التأويل ما ينبو عنه ثم ذيلوا آياته بأشياء أملاها عليهم جهلهم»". 
ومن ذلك أيضًا أن هنالك من ادعى أن للقرآن تفسيرين: أحدهما ظاهري» يمكن 
أن يبلّغه العالم بالعلم» والآخر باطني لا يدركه إلا الذين اختصوا بالعصمة من 
«أهل الباطن». . وذهلوا عن أسباب النزول فسقطوا في سوء فهم لمعاني القتال 
واللجوء إلى السيف» مثلما ضلوا السبيل كلية في إدراك معنى الردة عن الدينء 
ودلالة المرتدين الذين يوجب القرآن الكريم قتلهم. 

أما المطلب الثاني للقرآنء فهو أن يدرك الناس أن الغاية من الرسالة وبعث 
الرسل والأنبياء هي الهداية والإرشادء لا حمل الناس بالقوة والعنف على التسليم 
والإيمان» وحتى في ما يتعلق بالخوارق والمعجزات التي يرى فيها بعضهم أنها 
عوامل تكفي بمفردها على حمل الناس على الإيمان والتصديق» فإنه «لا علاقة 
عقلية بين دعوى الرسالة والقدرة على شق الأرض ونحوه من المعجزات»9". ثم 
إن الشيخ جاويش يمضي فيؤكد أن الشأن لو كان كذلك لآمن جميع الأقوام الذين 
بعث الله فيهم الأنبياء والرسلء بيد أن الأمر كان غير ذلك. وبموجب المنطق 
ذاته يوضح صاحب الإسلام دين الفطرة والحرية أنه يتعين التسليم أن ليس من 
شأن النبي أن يجيب عن الأسئلة التي تتعلق بالغيب؛ إذ إن «وظيفة الرسل الإنذار 
وتحذير العالم من تلك الساعة التي هي آنية لا ريب فيهاء وليس وظيفتهم تعيين 
وقتها»'. 


(14) المرجع نفسه» ص 67. 
(15) المرجع نفسه. ص 76. 
(16) المرجع نفسه. ص 61. 
(17) المرجع نفسه» ص 78. 


سن الخالق للكون سئنًا يسير بموجبهاء وهذا من مستلزمات الفطرة 
ومتعلقاتهاء على نحو ما ذكر الشيخ» وهو يؤكده في شرحه للآية لوَعِندَةٌ ä‏ 
الكتاب) [الرعد: 39]. ف «معنى أم الكتاب أصله» وأصله هو العلم القديم الذي 
لا تتعلتى قدرة ولا إرادة بشىء إلا طبقًا له»“". وإِذّاء فإن القول بالفطرة لا يتعارض 
مع التسليم بما يوجبه حكم العقل. وحيث إن الإسلام في عمقه لا يعارض منطق 
العقل ولا بتعارض معهء إن صاحب الإسلام دين الفطرة والحرية يرى أن أحد 
الأصول التي يقوم عليها الدين الإسلامي (من أحد عشر أصلا) هو الأصل السادس 
الذي يقرر وجوب «تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض». ومتى دفعنا 
بالاقتضاء المنطقي إلى غايته القصوىء فنحن نصير إلى التسليم أن «دين الفطرة» 
لا يكون البتة في تعارض مع العقل وموجباته. وتلك» كما هو معلوم» دعوى 
محورية في الخطاب الإسلامي المعاصرء انبرى جميع المثقفين الإصلاحيين 
المسلمين لشرحها والدفاع عنهاء وسلك فيها الشيخ عبد العزيز المسلك الذي 
سلكه في كتابه المذكور. 


إن القول بعدم التعارض د بين الفطرة والعقل قول يُفيد خلو الإنسان من أشكال 
الضغط والإكراه اللذين يكون من شأنهما أن ينالا من إرادة الإنسان الحرة في 
اخختيار ما يشاء من الاعتقادات. فهل يملك الإنسان في الإسلام حمًا حرية الاختيار 
بين أن يكون مسلمًا أو أن يكون غير ذلك؟ وهل يملك الفرد حرية استبدال دين 
آخر بالإسلام» أو التنصل من الأديان جميعًاء بعد أن يكون قد بقي على الديانة 
المحمدية ردحًا من الزمن؟ هل يملك أن يفعل ذلك من دون أن يخشى على نفسه 
أن يدخل تحت طائلة الردة وما توجبه عند الفقهاء من حكم الإعدام؟ 0 

الحرية صنو الفطرة والعلامة الدالة عليهاء والحرية» متى قامت صدقًا لا 
توهمًا هي المناخ الذي يتنفس فيه العقل» وهي التربة التي يملك العقل أن يحيا 
فيها ويتغذى من مكوناتها. فهل يملك المفكر المسلم أن يقول إن الحرية الدينية 
مكفولة في الإسلام؟ 


(18) المرجع نفسه» ص 74. 


ثالثا: الحرية الدينية في الإسلام 


ينحو المفكر الإسلامي المعاصر في الإجابة عن السؤال المتقدم» في 
ا ل ا 
الأول بالقول إنه لا مجال للتردد في الحكم أن حرية الاعتقاد مكفولة في الإسلام 
بنصوص صريحة لا تحتمل لبسًا. . ويقتضي المسلك الثاني في مقابل ذلك إدانة 
صريحة لكل من يتنصل من الدين الإسلامي بعد أن اعتنقه أمدًا معلومّاء ثم الحكم 
عليه بتنفيذ القتل فيه بعد ذلك. ويحتج العالم المسلم في ذلك بآيتين معلومتين 
من القرآن الكريم» سنعرض لهما بعد قليل. والحق أنه يتعين أن تُبدي احتياطا 
في القول» فلا نجعل حال الاضطراب بين رأيين متناقضين حالًا تصدق في شأن 
مفكري الإسلام كافة. ذلك أن الأمر كان مثار خلاف بين علماء الإسلام في قضايا 
ا 

تثير مسألة الردة» كما هو معلوم» Le se Vue‏ الإسلام في فهم الآيات 
à‏ ا 
a bn ui‏ 
بالمنع لأسباب يجتهدون في توضيحهاء وإن كانت هذه الفئة الأخيرة قلة في 
الواقع من جهة أخرى. والجدل بين علماء الإسلام في مسألة الردة ومعناها على 
الحقيقة يتعلق بالسياق الذي نزلت فيه تلك الآيات» وهذه ترجع إلى مباحث 
أسباب التزول؛ وهذا فرع من المعرفة الشرعية يستلزم ! إحاطة غير يسيرة بعلوم 
اللغة والبلاغة» فضلا عن المعرفة الواسعة بالسيرة النبوية» وبدقائق التاريخ في 
صدر الإسلام. 


لا معنى للقول إن الإسلام "دين الفطرة والحرية» ما لم يكن الدين الإسلامي 
يفيد في حقيقته التسليم بالحظوة بالحرية كاملة في اعتناق الإسلام أو عدم اعتناقه 
مثلما يعني» من حيث منطق الحكم» إباحة «الارتداده لمن شاء أن يفعل. ذلك ما 
أدركه تمامّ الإدراك الشيخ عبد المتعال الصعيدي؛ إذ قال في عبارة لا لبس فيها 
ولا غموض «إكراه المرتد على الإسلام بالقتل أو الحبس داخل قطعًا في عموم 
قوله تعالى الا إِكْرَاة في الدّين) [البقرة: 256]» لأن الإكراه في الدين كما يكون 


144 


في الابتداء يكون في الدوام. وكما لا يصح الإكراه على الدين في الابتداء لأن 
الإسلام الذي يكون به يكون فاسدًاء كذلك اللإكراه على الدين لا يصح في الدوام 
لأن الإسلام الذي يكون به يكون فاسدًا““'. فكيف السبيل إلى رفع الإشكال 
الذي يجابه المفكر الإسلامي في عصر النهضة؟ وما القول في التقليد الفقهي 
الذي سار عليه علماء الإسلام قرونا كثيرة في الأخذ بمنطوق الآيات التي تدعو 
إلى محاربة الردة وقتل الذي يرتد عن الإسلام؟ 

الحق أن القول بالحرية الدينية يستلزم أن تكون حرية الاعتقاد من مشمولات 
تلك الحرية ومقتضياتهاء وهذا ما أدركه المتنورون من مفكري الإسلام في عصر 
النهضة. وإذا كنا قد رأينا في المبحث السابق أن هذا المفكر يميز من خصوم 
الإسلام نوعين (خصوم من خارج الملة» وخصوم من داخل ملة الإسلام)» فإن 
الشيخ الصعيدي يرى أن الأولى بالخطاب هي هذه الفئة الثانية من الخصوم. 
وحيث إن الدليل يقوم على أن الإسلام لا يعارض العقل ولا يتناقض مع الفطرة» 
ومن ثم مع الحرية» فإن أصل الخلاف لا يعدو أن يكون سوءة 9 
تصورًا في الفهه مصدره الجهل بأسباب النزول من جانب ا والذهول عن 
إدراك المرامي البعيدة للخطاب القرآني والحديث التبوي من جانب ls. ob‏ فإن 
الحاجة تغدو ملحة إلى إعادة نظر شاملة في الكيفية التي يجري بها إدراك الخطاب 
الشرعي في الإسلام. 


يجد الشيخ الصعيدي آن الفئة التي يصح نعتها بالجمود على التقليد وبالبعد 
عن إدراك مقاصد الشرع» فضلا عن الخلو من المعرفة الكاملة (على نحو ما جرت 
الإشارة إليه) تلجأ إلى الحجة التالية: إن من شأن التساهل في أمر الردة والتقاعس 
عن محاربة المرتدين (على النحو الذي يظنون أن القول القرآني يعنيه بكيفية 
مباشرة في الحديث عن الردة إجمالا) أن يجعل الوهن والضعف يتسربان إلى 
الإسلام» ومن ثم يقع يقع التفريط في الدين. والاعتراض عند داعية التجديد الديني» 
المنافح عن الحرية الدينية في الإسلام؛ لا يشكو من التردد ولا من الغموض. 


(19) انظر: عيد المتعال الصعيدي. الحرية الدينية فى الإسلام (القاهرة: دار الكتاب المصري» 
72) ص 106. 


145 


فهو يقول في عبارة صريحة: «الإسلام من القوة بحيث لا يُخشى عليه من موافقة 
الداعين في هذا العصر إلى حرية الاعتقاد» بل نرى أن حرية الاعتقاد تفيده وحده 
لأنه أصح الأديان وأكثرها موافقة للفطرة السليمة»*. 


متى تقررت حجية صدور الدين الإسلامي عن الفطرة» وتبين انتصاره 
للحرية ومراعاته لهاء وهذا من جانب أولء ثم إذا ظهر ضعف الرأي الذي يحتج 
تاجرد ع كر لمر راش وين الا تجا بلي من ف ار 
غير حسن معرفة بأحكام التنزيل ومقتضيات الخطاب القرآني» وهذا من جانب 
ثان - متى كان كذلك - لا يسع من كان ينشد الفقه في الدين إلا أن يراجع ما درج 
المتفقهة في الدين على ترويجه وما استقر التقليد على التسليم به من أحكام الردة 
والمرتدين في الإسلام. وذلك ما ننتهي إليه من تبين الخلاصات التي ينتهي إليها 
الشيخان جاويش والصعيدي» مع التباين في الطريق ق التي سلكها كل منهماء ومع 
الاختلاف في زمن الكتابة عند كل منهماء وكذا الدواعي التي حملت كلا منهما 
على الخوض في الموضوع على النحو الذي خاض فيه" . 


يحتكم القائلون بوجوب تطبيق حد الإعدام في حق المرتد عن الإسلام 
إلى آبتين من القرآن الكريم» كما لمحنا إلى ذلك. الآية الأولى هي: رلا يَرَالُونَ 
LS ÈS‏ ب يروم ڪن وينم إن استطاعٌوا وَمَن يرد منَكُمْ عن دينه كَيمْتْ 
def, 58 545‏ حبطث أعْمَاهُمْ في الدثيا وال خِرّة وَأُولئِكَ أَصْحَابٌ الثَارِ هُمْ 
فيهَا حَالِدُونَ4 [البقرة : 217].. والآية الثانية هي: Ga LA‏ آمُوا من يَوْتدٌ 
AU GS ee 5 qi‏ بهم يبوت وله عى لزني أ de és‏ 
da Ga‏ 6 في سيل AV‏ 36 ائم ذلك قَضل الله ويه ن 
ياء وَاللَهُوَا سِمٌ عَلِيم» [المائدة: 54[ 


لصاحب الإسلام دين الفطرة والحرية تفسير للآيتين الكريمتين نسوقه من 
أقواله مختصرًا على النحو التالي؛ «وظاهر أن هاتين الآيتين لا تدلان على معاملة 


(20) المرجع نفسهء ص 18. 
0 )انظر في هذا السياق: طه جابر العلواني» إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم: 
لا إكراه في الدين (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 2014). 


146 


أهل الردة بما أفتى به الفقهاء من القتل» لمجرد الرجوع عن الدين. وكل ما دلت 
عليه آية البقرة أن المرتدين مطرودون من رحمة الله. ومعنى الردة هنا (على ما 
يظهر من سياق الآية ومن روح الكلمة) أن معناها الارتداد عن منازلة الأعداء 
الذين كانوا لا يفتّؤون يقاتلون الرسول وأتباعه ليفتنوهم عن دينهم ويرجعوهم 
كفارًا بعد إذ آمنوا22!0. 


يستدل الشيخ جاويش على صحة نظره بالرجوع إلى الآية السابقة للآية 
المذكورة من سورة البقرة. وهي تتحدث عن قوم بادروا بالقتال في المسجد 
الحرام؛ وحيث إن الأمر كان كذلكء فإن قتالهم عند الشيخ جاويش يغدو دفاعًا 
عن النفس؛ لا يقاتلهم المسلمونء إِذَاء لأنهم أعلنوا الارتداد عن الإسلام؛ بل 
لأنهم قوم بادروا إلى القتال. أضف إلى ذلك أن القوم الذين تتحدث عنهم الآية 
التي يحتج بها دعاة وجوب قتل المرتدين» وكذا ما يستنبط منها بموجب أحكام 
اللغة والبلاغة» هو «أنها نزلت في قوم من المسلمين كانوا يهمون بالكف عن 
القتال (...) وما علموا لجهلهم أنه ليس وراء إخلادهم إلى العدو وإعراضهم عن 
صده سوى أن يستذلهم ذلك العدو ويتعبدهم» وأن الموت الذي يفرون منه لا بد 
أنه ملاقيهم“*. والخلاصة عند الشيخ جاويش أن «الردة في هذه الآية الكريمة 
ليست الفسوق عن العقائد الإسلامية لشبهة قامت بأنفس المرتدين» ولكنها ردتهم 
عن نصرة الإسلام وتخلفهم بأنفسهم عن تأييده (...) بينما أعداؤه لا Ds‏ 
يناوثونه70). وأما القول في الآية الأخرى من سورة المائدة» «فإن المتدبر للآيات 
السابقة لها في القرآن الكريم يتبين أنها لا تكاد تخرج عن المعنى الذي نزلت به 
في آية البقرة (...) فالارتداد في آية المائدة إنما أريد به تولي أولئك المرتدين عن 
نصرة الإسلام والتخلف عن درء الأذى عن إخوانهم المسلمين تاركيهم لغارات 
أعدائهم». 


(22) جاویش» ص 222. 
(23) المرجع نفسه. 

(24) المرجع نفسه» ص 224. 
(25) المرجع نفسه» ص 226. 


147 


أما صاحب الحرية الدينية في الإسلام فهو بعد أن يذهب إلى ما ذهب إليه 
سلفه الشيخ عبد العزيز جاويش (من دون أن يفصح عن ذلك) يضيف» في مزيد 
من التوضيح» أن المسلمين كانواء أيام نزول الآيتين من البقرة والمائدة» في «حالة 
حربء وكان من يرتد ينضم فعلا إلى من يقاتلهم من الكفار أو ينتهز الفرصة 
للانضمام فيكون قتله لئلا ينضم إلى من يحاربهم. ولحالة الحرب أوضاعها 
الخاصة بهاء فلا يصح أن يقاس عليها ارتداد من يرتد في حال السلم» لأنه في حال 
السلم لا يخشى منه قتال» بل يكون المسلمون في حالة أمن فلا يؤثر فيهم شخص 
ارتد من بينهم وهو عاجز عن أن يُلحق أَذّى بهم91©. 


إضافة إلى ذلك» يتصدى الشيخ الصعيدي بالاعتراض على المدافعين عن 
مبدأ وجوب قتل المرتد» سواء الذين يرون وجوب ذلك القتل بعد استتابة المرتده 
أو الذين يشتطون فيقولون بالقتل من دون حاجة إلى الاستتابة؛ والرأي عنده أن 
«المرتد يُستتاب أبدًا ولا يُقتل»» وأن أمره يُترك إلى الله يوم القيامة» إن شاء عذبه 
وإن شاء غفر له ما لم يكن للمسلمين محاريّاء ليتتهي إلى القول «فإذا كان هناك 
عقاب دنيوي على الاعتقاد» لم تكن هناك حرية دينية» وإذا لم يكن هناك عقاب 
دنيوي كانت هناك حرية دينية»*. 


خاتمة 


تُغني النتيجة التي ينتهي إليها صاحب الحرية الدينية في الإسلام عن قول 
الكثير في الصورة البهية التي كان عليها الفكر العربي الإسلامي في عصر النهضة: 
سعة صدر وقدرة على استقبال معاني ومفاهيم جديدة كانت بالنسبة إلى الفكر 
الإسلامي - عهودًا طويلة متصلة - غير مفكر فيهاء أو لنقل من دون حاجة إلى 
التلاعب بالكلمات. وإن التفكير فيها لم يكن ممكنا بفعل عوامل سلبية عدة 
استطاعت أن تتسلل إلى المجال الثقافى الإسلامىء وأن تغله بأغلال من العمى 
الأيديولوجي ومن القصورء لا عن إدراك المقاصد البعيدة للخطاب الإلهي في 


(26) الصعيدي» ص 108. 
(27) المرجع تفسه» ص 183. 


الإسلام والذهول عن إدراك معانيه وكذا مراكمة الجهل بالتاريخ وبأسباب التزول» 


استطاع ميلاد مفهوم جديد» هو الحرية» لم يكن مألوفًا من قبل في القول 
الإسلامى السابق على المرحلة الموسومة بعصر النهضة» أن يحدث في كيف ما 
هو النظر دينامية جديدة» وأن يحدث خلخلة قوية في منظومة القيم التي كانت لا 
تزال متداولة» والتي ستكون «النهضة» إيذانًا ببحوث الخلل والارتباك فيها. وإذاء 
فإن فكر النهضة. في تجلياته عموماء وعند مفكري الإسلام المعاصرين خصوصًاء 
أبان عن مقدرة على المساءلة» وعلى معاودة الاتصال بالفكر العربي الإسلامي 
في العصر الكلاسيكي؛ ذاك الفكر الذي كان يجيز الاختلاف ويفتح الباب على 
مصراعيه لقبول غيرهم المخالف في الفكر والعقيدة. 


يعيش الفكر العربي» في زماننا هذاء حالا يشكو فيها من الهزال الفكري 
أحسب من قبيل اللغو ولا المغالاة أن نقول: ما أشد حاجتنا اليوم إلى استحضار 


علي عبد الواحد وافي. 3 ج. ط 2. القاهرة: منشورات مكتبة الأسرة» 2006. 


أرسطوطاليس. الأخلاق. ترجمة إسحق بن حنين. تحقيق وشرح وتقديم عبد الرحمن 
بدوي. الكويت: وكالة المطبوعات» 1979. 


التونسي» خير الدين. أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك. تمهيد وتحقيق 
المنصف الشنوفي. 2 ج. بيروت. دار الكتاب اللبنانى» 2012. 


جاويش» عبد العزيز. الوسلام: دين الفطرة والحرية. تقديم مجدي سعيد. بيروت: 
دار الكتاب اللبنانى؛ القاهرة: دار الكتاب المصري»› 2011. 


149 


1978. 
الصعيدي» عبد المتعال. الحرية الدينية في الإسلام. القاهرة: دار الكتاب المصري. 
2012. 


العلواني» طه جابر. إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم: لا إكراه 
في الدين. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 2014. 

العلوي» سعيد بنسعيد. الاجتهاد والتحديث: دراسة في أصول الفكر الفلسفي في 
المغرب. مالطا: مركز دراسات العالم الإسلامي» 1992. 

| الإيديولوجيا والحداثة: قراءات في الفكر العربى المعاصر. بيروت؟ 
الدار البيضاء: المركز الثقافى العربى» 1987. 

. الوطنية والتحديثية في المغرب: مجموعة دراسات حول الفكر الوطني 
وسيرورة التحديث في المغرب المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة 
العربية» 1997. 

الفاسي» علال. الحرية. الرباط: مطبعة الرسالة» 1977. 


الكواكبي» عبد الرحمن. طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد وهي كلمة حق 
وصرخة في واد إن ذهبت اليوم مع الريح» فقد تذهب غدًا بالأوتاد. تقديم 
أبو المظفر سعيد محمد السناري. دمشق: دار الكتاب العربي» 2011. 

الناصري» أبو العباس أحمد بن خالد. الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى. 
تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري. و ج. الدار البيضاء: دار 
الكتاب» 1956. 


حول المثقف الإسلامي 
الوظيفة والمنهج وال#شكالات 


عيد الوهاب الأفندي 


اللافت في دائرة السجال الدائمة الاتساع في شأن ظاهرة المثقف. هو كثرة 
الأعمال التي تنعي المثقف وتتحسر على غيابه أو تغييبه» أو «خيانته دوره». وكان 
من أوائل «نعي» هذا النوع وأبرزه هو كتاب جوليان بندا المعروف خيانة المثقفين 
الذي صدر في عام 1927» واتهم فيه المثقفين بالتنازل عن دورهم بوصفهم ضمير 
الأمة وحراس القيّم الأزلية» لمصلحة النعرات الطائفية والكيانات المصلحية 
والغوغائية”". وتنبع أهمية هذا العمل من أنه جاء بعد فترة قصيرة من تبلور ظاهرة 
«المثقف؛ في آخر القرن التاسع عشر» من حيث هو شخصية عامة لها وزن ودور» 
وتحديدًا في فرنسا موطن بنداء وذلك على خلفية حادثة دريفوس المعروفة (اتهام 
الضابط اليهودي دريفوس ظلمًا بالتجسس لمصلحة ألمانيا). وفي تلك الواقعة» 
اضطلعت كوكبة من المثقفين» وفي مقدمهم الروائي فكتور هوغوء بدور فاعل في 
الحملة الشعبية التي أدت إلى تبرئة دريفوس ورد الاعتبار إليه©. 


Julien Benda, The Treason of the Intellectuals (New Brunswick, NJ: Transaction Publishers, (1) 
2011), and Edward W. Said, Representations of the Intellectual: The 1993 Reith Lectures (New York: 
Vintage Books, 1996) pp. 4-7. 


Tom Conner, The Dreyfus Affair and the Rise of the French Public Intellectual (Jefferson, NC: (2) 
McFarland, 2014). 


أولا: ملامح المثقف 

تجلت في واقعة دريفوس الملامح العامة لدور «المثقف العام»ء» بوصفه 
شخصية حازت قدرًا من النجومية والنفوذ الشعبي» > فضلا عن كونها من النخبة» 
ما يسبغ عليها من جهة بعض الصدقية» ومن جهة أأخرى قدرًا من الحصانة. . وتمنح 
هذه الخصائص «المثقف العام حق تحدي أصحاب السلطة والنفوذ» باسم الحق 
والفضيلة؛ وتُمكنه من الانتصار في الأغلب. ويُذكرنا هذا بنبوءة توماس كارلايل 
في محاضراته المعروفة في عام 1840 بدور مفتاحي ل «رجل القلم بطلا». 
وكان كارلايل قد استند في تحليلاته إلى محاضرات سابقة للفيلسوف الألماني 
فيخته عن «مهمة رجل العلم»» كانت بدورها نتاج تبلور رؤية عصر الأنوار لدور 
المثقف العَلماني الجديد. وبحسب كارلايل؛ فإن هذا الدور نتاج عصر الحداثة» 
وتحديدًا نتاج عصر الطباعة. ويوافق كارلايل فيخته على أن مهمة رجل القلم هي 
وراثة النبوةه لأن جل القلم الحقيقي يطلع من جوهر الأمور و«الفكرة الإيةة 
لج وود E O BN RS‏ 
جهده *. ويخلص كارلايل إلى أن رجل القلم أصبح صاحب آهم وظيفة وأكثرها 
تأثيرًا في الحياة المعاصرة» يستوي في ذلك كاتب الرواية الشعبية التي تشكل 
أفكار العوام» والصحافي الذي يمثل وباقي أهل الفكر «السلطة الرابعة»» وكذلك 
الفيلسوف وقائد الفكر. فمجرد شيوع الكتابة والطباعة يفرض الديمقراطية فرضًاء 
ومعها نفوذ أصحاب القلم. لكن كارلايل يعترف أن نبوءته لم تتحقق في الواقع؛ 
وأن الشخصيات التي عدّدها جونسون وبيرنز وروسوء لم ينجحوا في مسعاهم في 
«جلب الضوء» إلى الحياة المعاصرةء لكنهم كانوا باحثين جادين عن الحقيقة لم 
يحالفهم الحظ . ويضيف أن واقع رجل الفكر في عصره كان واقعًا تسوده الفوضى 
ويفت في عضده الفقر والبؤسء وإن لم ير ضرورة تقديم دعم مادي من الدولة 
للكتاب» لأن الفقر قد يكون بدوره مدرسة لهه©. 


Daniel Breazeale & Tom Rockmore (eds.), Fichtes Vocation of Man: New Interpretive and (3) 
Critical Essays (Albany, NY: SUNY Press, 2013), pp. 1-18. 


Thomas Carlyle, On Heroes, Hero-Worship, and the Heroic in History (Hazleton, PA: PSU- (4) 
Hazleton, 2001), pp. 121-135. 


Ibid, pp. 138-144, and David R. Sorensen & Brent E. Kilner (eds.), Thomas Carlyle, On Heroes, (5) 
Hero-Worship, and the Heroic in History (Yale, NH: Yale University Press, 2013), pp. 12-13. 


Carlyle, pp.135-142. (6) 


152 


غني عن القول إن الزمن عالج هذه المعضلة؛ في الأقل لقطاع مهم من 
أصحاب القلم؛ إذ تكفلت معاهد العلم ودور النشر بمعاش المثقف. ولقي مفهوم 
رجل القلم أو المثقف أو المفكر بوصفه شخصية ملهمة وفاعلة اعتراقًا متزايداء 
على كثرة النعاة وتكرار النعي. نلحظ هذا في إعادة تأكيد المفكر العربي إدوارد 
سعيد هذا الدور في «محاضرات ريث؟ التي ألقاها في ضيافة بي بي سي في عام 
3 . وهنا فاضل سعيد بين مقولة أنطونيو غرامشي إن كل إنسان هو مفكر» 
وإن لم يكن كل فرد يضطلع بدور المفكرء ورؤية بندا للمفكر بوصفه شخصية 
ذات موهبة نادرة وتفوق أخلاقي» مفضلا تعريف غرامشي» خصوصًا لجهة تمبيزه 
بين المثقف العضوي والتقليدي. فالثاني (مثل المعلم والقسيس والإؤداري) يؤدي 
أدوارًا Lo)‏ تحافظ على الوضع القائم» بينما يقود الأول التغيير» ويلتصق 
بالجماهير» ويُعبر عن الأفكار الجديدة©. 


لكن المتعمق في نص سعيد يجد أنه في الواقع يستعيد رؤية بندا للمثقف 
بوصفه شخصية استثنائية» ويكاد يذهب إلى مقولة كارلايل وفيخته إن المثقف 
نبي العصر. فالمثقف عنده شخص يملك «سلطة» (أخلاقية قية)» ومهمته الترفع على 
Sul‏ ئق الدنيوية (بحسب تعبير الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال)» من ولاء 
قومي أو طائفي أو مؤسسيء أو ارتهان لسلطة مال أو حكم. وهو «ينتج لغة تصدع 
بالحق في وجه السلطان)'". . وهو = ee Las‏ مسي على D‏ 
لن أضحات الجا وينحاز خصوصًا إلى جانب المستضعفين مُعيرًا عن آلامهم 
وآمالهم» ويقف باستمرار ضد العقائد والآراء السائدة والأيديولوجيات» ولا 
ينتجها. كما أنه - تعريفًا - صاحب رسالة» حيث لا يوجد مثقف إلا وهو شخصية 


عامة» وصاحب مهمه ة لا تخصه Pod‏ 


هكذا يمضى سعيد فى تعداد «مناقب» المثقف». مقتيسًا ومبتدرًا؛ فالمثقف 
(اقتباسًا عن شيلز)» من ضمن أقلية دائمة الفضول؛ وذات حساسية خاصة تجاه 
المقدس» ومّيل غير اعتيادي للتفكر في طبيعة الكون وطبائع المجتمعات؛ «وهذه 
الحاجة الداخلية لاختراق حجب العادي والآني» هي ما يميزه. وهو يمثل التحرر 


Said, pp. 3-9. (7) 
Ibid, p. xvi. (3) 
Ibid, pp. 11-12. (9) 


والاستنارة أيضاء لكن ليس بصورة مجردة» إنما بالانحياز إلى المستضعفين. وهو 
يتحدى كل سلطان: المقدس والزمني» ولا يتخذ لنفسه آلهة من أي صنف”'. 

إذا كانت هذه صفة المثقف وخصاله» فلا غرو أن كر التحسر على غيابه 
وكسوف شمسه. وبناء عليه نجد أن كل نعى للمثقف. بداية من صرخة بندا فى 
العشرينيات» ينطلق من التحسر على عهد ذهبي سابق كان فيه مثل هذا المثقف 
المتفرد؛ المتمتع بالحكمة والاستقلالية والصلابة الأخلاقية» ملء ء السمع والبصرء 
ثم حَلّف من بعدهم خلف قصروا عن شأوهم. هكذا نجد جوليان بندا يذم ولوغ 
مثقفي عهده في الولاءات القومية والعنصرية الحزبية والمذهبية» وإعلاء العمل 
على الفكرء والتهجم على عصر التنوير ونزعاته الكونية» ويمتدح في المقابل 
شخصيات مثالية جسدت الترفع على مثل هذه الولاءات» ونصبت نفسها ميزانًا 
لمكارم الأخلاق» مثل سقراط والمسيح. 

في المقابل» نجد رسل جاكوبي في كتابه المثير للجدل آخر المفكرين في 
عام 1997ء ينظر إلى حقبة ذهبية أخرى انصرمت مع نهاية الخمسينيات؛ كان 
فيها المثقف يتمتع باستقلالية ونظرة عالمية» ويخاطب الرأي العام بلغة يفهمهاء 
ويحظى بنفوذ وهو يتصدى لقضايا العصر. أما في الحقبة التي تلت» فتحول 
المثقف إلى «متخصص)»ء ملتحمًا فى الأغلب بالمؤسسات الأكاديمية وغيرها من 
الجهات التي تستخدمه وتقيده. ولم يفقد المثقف استقلاله بالتحول إلى متخصص 
أو أكاديمي فحسب» بل فقد قدرته ورغبته في مخاطبة الجماهير أيضاء حيث طور 
هؤلاء «المتخصصون» لغة لا يفهمها غيرهم» وتحولوا إلى فئة مغلقة على نفسها 
واهتماماتها البعيدة كل البعد عن قضايا النامر ”“. 


في هجائية أخرىء يكرر ريتشارد بوزنر تهمة تحوّل المثقفين إلى أكاديميين 
متتخصصين» وتمترسهم خلف هذا التخصص الذي لايفهمه سواهم» حيث يصعب 
على الرأي العام مناقشتهم الحساب. ويعجز الإعلام بدوره عن المحاسبة» وذلك 


Ibid, p. 35, 109 and 113. (10) 


Russell Jacoby, The Last Intellectuals: American Culture in the Age of Academe (New York: (11) 
Basic Books, 1987). 


154 


المثقف في أمور بعيدة عن تخصصه بلا حسيب أو رقيب2". 


لكن معظم تعريفات المثقف تشير إلى أنه غالبًا ما يتتحدث في أمور خارج 
مجال تخصصه» وهو في الأرجح غير متخصص. لکن» لعل الأدق أن يقال إن 
«المثقف» فى صورته المثالية عند سعيد أو بندا أو الناعين الكث» هو شخص 
حقق النجومية تحديدًا لتألقه في مجال تخصص معين. على سبيل المثال» نجد 
أن هوغو تألق روائيّاء وسارتر فيلسوفا وأديبّا ورورتي فيلسوفًا وكاتباء وسعيد 
أكاديميًا وناقدا. بل إن آينشتاين مثلا حقق شهرته في مجال الفيزياء» لكن الكثيرين 
كانوا يطلبون رأيه في السياسية والأخلاق والدين وأمور أخرىء بينما برز نوام 
تشومسكي عالم لغويات» لكن شهرته بصفته مثقفا تتعلق براديكاليته السياسية. 
وبالقدر نفسه» اشتهر الروسى أندريه سخاروف بوصفه أب القنبلة الهيدروجينية 
السوفياتية» ما منحه حصانة نسبية في النظام السوفياتي مكنته من تحدي النظام 
والإفتاء في قضايا حقوق الإنسان (بدعم غربي عزز حصانته). 


لعل أهم خصائص المثقف أنه شخص بنى رصيدًا مركبًا: نجاحًا في مجال ماء 
وشهرة أو نجومية» عضده بمواقف أخلاقية عرزت الثقة في شخصه. وهو يستند 
إلى هذا الرصيد لاتخاذ موقف فى شتى القضايا. وكذا نجد الحائزين جائزة نوبل 
في الاقتصاد يتحدثون عن الاضطهاد السياسي أو الديمقراطية» ومشاهير الأطباء 
يتحدثون عن البيئة» والأدباء يتحدثون عن كل شيء. وكان بيار بورديو قد انتقد هذه 
«العمومية» أو وظيفة «المثقف الشامل» بحسب سارتر» مفضلا أن يقتصر تأثيره في 
مجال تخصصه. كما انتقد أيضًا رؤية غرامشي لدور «المثقف العضوي». لأنها قد 
تجعل المثقف «طائفيًا؛ بالتصاقه أكثر من اللازم من جهة؛ وربما تجعله استعلائيا 
من جهة أخرى» حين يفرض قيادته على الطبقات المستضعفة. ويفضل بناء اثتلاف 
من العلماء والمفكرين يؤدي دور المثقف العام بصورة Lee‏ 


Richard Posner, Public Intellectuals: À Study of Decline (Cambridge, MA: Harvard University (1 2) 
Press, 2001). 


David L. Swaniz, Symbolic Power Politics, and Intellectuals: The Political Sociology of (13) 
Pierre Bourdieu (Chicago, IL: University of Chicago Press, 2013), pp. 170-190. 


155 


ثانيًا: بين | لمثقف والمحترف 


حينما يصدر نقد أو نعي للمثقف عن «مثقفين» بارزين» من أمثال الفيلسوف 
«النجم؟ الراحل ريتشارد رورتي» فإن هذا النقد يكشف» كما أشار عدد من 
المعلقين» عن ادعاء مبطن من الناقد أنه بريء مما يتهم به الآخرين» أي إنه آخر 
المثقفين «الحقيقيين» أو آخر الفلاسفة. فمن يعلن «سقوط» الآخرين» يؤكد 
ضمنيًا أنه لم يسقط معهم» وهو بذلك يطلق صرخة استغاثة بوصفه آخر من بقي 
من تلك الفئة الناجية”*'2. وقد يوشك بعضهم أن يجعل هذا الأداء صريححاء وذلك 
بالزعم أن أفول شأن المثقف العالم هو انعكاس لأفول نجم الثقافة والفكر عمومّاء 
وتدهور مكانة العلم في المجتمع. وهذا هو تحديدًا ما ذهب إليه فرانك فرودي 
في كتابه أين مضى كل المثقفين؟؛ إذ أشار إلى أن المشكلة هي أن المجتمع أصبح 
لا يُقدر الثقافة والعلم» وأن المسؤولين في الحكومات والمؤسسات الثقافية 
والتعليمية ما عادوا يؤمنون بقيمة العلم والثقافة لذاتيهماء إنما وسيلة لغايات 
اقتصادية واجتماعية وسياسية. وباسم توسيع دائرة المستفيدين» أصبح التوجه هو 
اختيار القاسم المشترك الأدنى» والتعامل مع كل متلقي العلم والثقافة على أنهم 
أطفال أو أشباه أميين. وهذا هو تحديدا ما أذن بأفول شمس المثقف؛ إذ لا يبقى له 
دور في غياب الثقافة'. 


هكذا نجد ما يشبه التوافق بين النعاة على أن المثقف «الحقيقى» ليس هو 
ملتزم القيم العليا وحادي المجتمع ووريث الأنبياء فحسبء بل يستمد نفوذه أيضًا 
من سمو الثقافة وتجسيدها لكل ما هو راق وحضاري في المجتمع. إلا أن بعضهم 
مع ذلك يجتهد في التمييز بين «طبقات» المثقفين. على سبيل المثال» نجد فيبر 
يوافق غرامشى بصورة غير مباشرة حين يفرق بين المثقف (اهدداءه1ء)12) وعضو 
طبقة المتثاقفين (Intellegentsia)‏ فالأو ل هو نظير المثقف العضوي عند غرامشي» 
والثاني نظير المثقف التقليدي. وقد طور أحمد صدري تصنيفات فيبر مبتدعًا 


Bruce Robbins, Secular Vocations: {ntellectuats, Professionalism, Culture (London: Verso, (14) 
1993), pp. 14-25. 


Frank Furedi, Where Have All the Intellectuals Gone?: Confronting 21° Century Philistinism (15) 
(London: Continuum, 2005). 


156 


تقسيمًا أفقيًا بين العالم وصاحب القلم من جهة» والمثقف الملتزم من جهة أخرى؛ 
ويهتم الأول بالأفكار والعلم والإبداع لذاتهاء بينما يرتبط الثاني بالجماهير وينذر 
نفسه لخدمتها. في الطائفة الأولى» نجد العلماء النظريين والمخترعين والأنبياء 
العظام» وفي الثانية نجد المخترعين والمصلحين والثوار وبعض الرسل. لكن 
هناك أيضًا تقسيم «رأسي» بين المفكرين من جهة والإنتليجنسيا من جهة أخرى. 
هكذا نجد في الطائفة الأولى أصحاب الفكر المجرد, ممن نذروا أنفسهم للحقيقة 
والمعرفة والجمالء بعيدًا عن الجماهير» مثل الخبير والباحث وعالم اللاهوت 
أو الراهب والمتصوف, وأخيرًا رجل العلم أو الناقد. أما الفئة الواقعة تحت قادة 
الفكر الملتزمين الجمهورء فيمثلها المهندس والطبيب وباقي المهنيين» أو القديس 
والمعلم» وأخيرًا الناشط والبيروقراطي والصحافي©". 

لهذه التقسيمات والتفريعات فائدتها؛ لكن غنى عن القول إن «المثقف» 
الذي يثير هذا الجدل كله هو من ينتمى إلى فئة «المثقف» عند فيبر» أو «المثقف 
العضوي؛ عند غرامشي؛ أما المثقف موضع السجال فهو صاحب الرسالةء المرتبط 
بالجماهير عوضًا عن اعتصامه ببرجه العاجي. 


ثالثا: المشهد العربى - الإسلامى 
شهد المجال العربي اقتباس لفظ «المثقف» أو «المفكر»ء الذي كثيرًا ما 
يستخدم مرادفا له» عن الفكر الغربي؛ ومن ثم فقد استصح بالسجالات المشكلة 
لهذا المفهوم. بل إن شخصيات غربية بعينهاء مثل جان بول سارترء نماذج لما 
ينبغي أن يكون عليه دور المثقف. 


من هذا المنطلق» يوافق علي أومليل إدوارد سعيد جزئيًا (في كتاب صدر في 
العام نفسه) على أن الحديث عن دور المثقف يحيل على مفهوم الكاتب بوصفه 
«صانع الأفكار ومروجها'» إضافة إلى وعيه بتأثيره الإيجابي في اتجاه التغيير نحو 
الأفضل. ويلاحظ أومليل ظاهرة عربية موازية للسجال في الغرب بشأن دور 


Ahmad Sadri, Max Weber š Sociology of Intellectuals (New York: Oxford University Press, (16) 
1992), pp. 108-114. 


157 


المثقف» تتلخص هنا في تأكيد المثقفين العرب دورهم الرائد» مع تحسرهم في 
الوقت نفسه على عدم الاعتراف بهذا الدور وحرمانهم من التأثير المرجو”". 


يطرح أومليل ملاحظات مهمة في الفئات التي كانت تؤدي الوظائف التي 
يضطلع بها المفكر الحديث في حقب ماقبل الحداثة. فعلى الرغم من اعتراف 
الجميع أن المثقف ظاهرة حديثة» فإن معظم المعالجات تورد نماذج سابقة لهذا 
الدور في المجتمعات التقليدية» حيث كان رجال الدين من قسيسين وأحبار 
ورهبان» والحكماء والفلاسفةء يتولون مهمة صوغ القيم والأفكار المشكلة للواقع 
الاجتماعي والموجهة له وتطويرها. ويقع الحديث عن أدوار مماثلة للمعلمين 
والشعراء والقصاصين ورواة الأخبار أيضًاء حين كانت هذه الفئات تنسج - متفرقة 
ومجتمعة وفي تعاون أو تنافر أو تنافس - الروايات المشكلة الهوية عن أصل 
الكون والقوى المهيمنة عليه» وأصل الجماعة وتاريخهاء وعن مستقبل الحياة 
على كوكب الأرض. وتقوم هذه الفئات بإعلاء بعض القيم والممارسات» والتنفير 
من أخرى. على سبيل المثال» نجد ماكس فيبر ومنظرين آخرين يتناولون أدوار 
الطبقات المثقفة في الصين والهند في العصور القديمة» ويوازنون بين هذه الأدوار 
وأدوار النخب المثقفة في الغرب أو بين أتباع الديانة اليهودية9"©. 


يرى أومليل أن السلطة الثقافية - السياسية في صدر الإسلام تركزت عند 
الفقهاء» خصوصًا بعدما ساد الشعور بانفصال السلطتين السياسية والدينية 
بعد الخلافة الراشدة» واستمرار الحنين إلى إعادة توحيدهما؛ إذ ظهرت أولا 
جماعة «القرّاء؛ الذين يصفهم أومليل أنهم «أسلاف الأصوليين»؛ لتدعي السلطة 
الدينية - الأخلاقية باسم القرآن الذي تحمله. ثم ظهر الفقهاء حملة العلم الديني 
الأشمل بالدعوى نفسها بوصفهم الأوصياء على تطبيق الشريعة. وبرزت بصورة 
متزامنة أيضا فئات أخرى تنازع الفقيه دعواه» ومنها طوائف المتكلمين والمتصوفة» 
قبل أن تظهر فئات الكتّاب والأدباء والفلاسفة. ويرى أومليل أن الكتّاب كان 


(17) علي أومليل؛ السلطة الثقافية والسلطة السياسية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 
6 ) ص 9. 
Sadri, pp. 46-56. (18)‏ 


لهم أثر سلبي؛ حيث روج معظمهم للاستبداد ونظروا له معتمدين على النماذج 
الإمبراطورية» خصوصًا الفارسية. أما الفلاسفة» فكان تأثيرهم محدودًا بسبب 
توجهاتهم النخبوية وعدم ميلهم أو قدرتهم على مخاطبة الجماهير» ما دفعهم إلى 
الاحتماء بالحكام؛ فأصبح دورهم داعمًا للسلطة السياسية الاستبدادية أيضًا9"©. 
ونتيجة هذا «ظل الفقيه يحتكر السلطة العلمية في غياب منافس جدي من بين 
أصئاف حملة العلم الآخرين» ويبسطها على العامة ويفاوض بها الحاكم أو يلزمه 
بها حسب > FU‏ 


لم يتطرق أومليل إلى الشعراء مع أن هناك دلائل كثيرة على عظم تأثيرهم 
المباشر في الساحات السياسية والاجتماعيةء وفي تشكيل الأذواق والقيم أيضًا. 
على سبيل المثال» برز تلازم واضح بين زيادة نفوذ الشعراء وعودة القبلية والتفاخر 
بالأنساب إلى الصدارة في العهد الأموي» في مخالفة واضحة لتعاليم الإسلام. 
ولعل دور الشعراء (ومعهم بدرجة أقل الخطباء) في صوغ الهوية السياسية 
والاجتماعية للمجتمع العربي - الإسلامي تفوق كثيرًا على دور باقي قطاعات 
المثقفين» بما في ذلك «الكتّاب» المقربين من الحكام. ذلك أن الشعراء كانوا 
قادة الرأي العام بلا منازع» وكانوا من يرسم الصورة المثالية للرجل والمرأة He‏ 
وللحاكم (كزعيم قبيلة)» ومن يروج للقبلية والشوفينية العرقية والثقافية"*. 


على الرغم من أن أومليل عدّد نماذج كثيرة أدت دور المثقف في المجتمع 
الإسلامي قبل الحداثة» فإنه يخلص إلى أن أيّا من هذه النماذج لا يصلح أن 
يستهدي به #الكاتب العربي وهو يطمح إلى أن يؤسس سلطته الفكرية» ولا سيما 
إذا كان حاملا للحداثة الثقافية وداعيًا إلى التحديث الاجتماعي والسياسي». 
ويرجع أومليل هذه الإشكالية إلى سببين؛ الأول هو أن مثل هذا المثقف «ليس 
وراءه سند من تراث يتعزز به4» ذلك أن «السلطة الوحيدة التي استقرت في تراثنا 


(19) أومليل» ص 26-10. 

(20) المرجع نفسه» ص 24. 

(21) انظر: عبد الوهاب الأفندي؛ «الشعراء أقدم أجهزة إعلام عرفها العرب»» مجلة العربي 
(كانون الأول/ ديسمبر 1976). 


159 


الثقافي هي سلطة الفقيه أو صاحب العلم الديني». ونجحت التيارات (الأصولية» 
في إعادة القيمة إلى هذه السلطة واستثمارها؛ وثانيّاء لأن هؤلاء الكتاب أضاعوا 
الوقت والجهد «حين غَيّبوا قضية الديمقراطية أو أغرقوها في ما ليس منهاء أو حين 
أعطوا أسبقية لشعارات أخرى كالوحدة والاشتراكية ومحاربة الإمبريالية». 
فالديمقراطية هي «الشرط الأساسي لجعل مهنة الكتابة ممكنة»؛ إذ لا كتابة من 


(22) . 


دون حرية تعبير 

اللافت أن أومليل» على الرغم من وجاهة انتقاده المثقفين بتغييب الديمقراطية 
(اتباعا لسنة أسلافهم من الكتاب والفلاسفة الذين تحالفوا مع الاستبداد)» فإنه 
يحكم ضمنيًا باستحالة وجود «مثقف إسلامي» يجيّر لمصلحته السلطة الثقافية 
الدينية. فالمثقف عنده - تعريفا - علماني مجرد من السلطة الدينية» إن لم يكن 
معاديًا لها. لكن هذه تحديدًا النقطة التي نتصدى لها في هذه الدراسة. 


رابعًا: تحديات الحداثة 

إذا كانت ظاهرة المثقف الحديث قد بدأت تتشكل في الغرب في القرن 
الثامن عشرء فإنها في العالم الإسلامي لم تبرز إلا بعد أكثر من قرن. ففي الغرب» 
أخذ دور المثقف العَلماني يتبلور مع تراجع دور رجل الدين» بل كانت هناك 
مساهمة مباشرة لهؤلاء المثقفين في الحرب على النفوذ الديني» كما كان شأن 
فولتير وروسو وماركس ونيتشه وغيرهم. وبدا عليه أن تميز المثقف من أسلافه 
من الفلاسفة والحكماء ورجال الدين يتركز فى رفضه سلطان الأعراف والتقاليد 
السائدة» إذ يفخر بمعالجة مشكلات العالم كلها اعتمادًا على عقله وفكره 
المجرد» من دون الحاجة إلى هداية من أرض أو سماء. «فبخلاف أسلافهم من 
المتصدين لهداية البشرء لا يرى هؤلاء أنفسهم خدامًا للآلهة ومفسرين لتعاليمهاء 
إنما بدياد منها. وبطلهم هو بروميثيوس الذي سرق النار السماوية وأتى بها إلى 
الأرض»*. 


.25-24 أومليل» ص‎ )22( 
Paul Johnson, Intellectuals (New York: Harper & Row, 1988), pp. 2-3. (23) 


160 


في المقابل» على الرغم من استثناءات بارزة من أمثال صادق جلال العظم 
وأدونيس وآخرين» فإن المفكر العربي - المسلم لم يطرح نفسه عدوا للدين» 
حتى حين يعبر عن العداء لرجاله. وفي كثير من الأحيان» تراجع المقكرون 
الذين لامسوا هذا الطرح حتى عن ثوراتهم المحدودة» كما حدث مع طه حسين» 
أو فضلوا السكوت. وفى المقابل» نجد رواد التفكير الحداثي في العالم العربي» 
من رفاعة الطهطاوي وخير الدين والتونسي ومحمد عبده ومن تبعهم من مفكري 
«عصر النهضة»» ركّزوا على المواءمة بين تعاليم الدين وقيم الحداثة. 


يختلف الوضع الإسلامي في أن ظاهرة المثقف الحديث لم تتبلور من داخل 
المنظومة الفكرية والثقافية القائمة» شانها ذ في الغرب» إنما بتأثير خارجي. . وهي 
تختلف في هذا حتى عن ظاهرة الفلاسفة المسلمين الأوائل الذين تأثروا بدورهم 
بالفلسفة اليونانية» واتخذها بعضهم مرجعية منافسة للمرجعية الدينية» بل أحيانًا 
مفضلة عليها. ذلك أن الفلسفة اليونانية نقلت إلى الفضاء الثقافي الإسلامي بعد 
أن تشكل ونضج. واستّوعبت في إطار ذلك التراث بصفته مدرسة من مدارسه؛ مع 
أن إشكالات عدة أشار إليها جمال الدين الأفغانى وأكدها فى ما بعد محمد عابد 
الجابري. وتتعلق هذه الإشكالية بتعامل معظم الفلاسفة مع النصوص الإغريقية 
كما لو كانت نصوصًا مقدسة. حتى إنهم كانوا يتهيبون نقدها حتى حين تكون 
مقو لاتها بينة الخلل أو متناقضة مع نفسها*©. وعلق الجابري في الاتجاه نفسه. 
واصمًا ما حصّله الفلاسفة المسلمون من فهم للفلسفة الإغريقية ب «اللامعقول 
العقلي»؛ أي لاعقلانية تتلبس لبوس العقل» وتصور خرافات مثل التنجيم 
والتخمينات الروحانية على أنها هي عين العقل”. 


حقّقت مساعى استيعاب الفكر الفلسفي اليوناني في المنظومة الفكرية 
الإسلامية تقدمًا ففى وقت لاحق عند ابن رشد وغيره» ما صحح من الإشكالات 
أعلاه. أما فى الحقبة المعاصرة» فإن الحداثة واجهت الثقافة الإسلامية بمعضلة 


Homa Pakdaman, Djamal-el-Din Assad Abadi, dit Afghani (Paris: Maisonneuvre et Larose, (24) 
1986), pp. 280-282. 


)25( محمد عابد الجابري»› تكوين العقل العربي» نقد العقل العربي 1» ط 10 (بيروت: مركز 
دراسات الوحدة العربية» 2009). 


لا سابقة لها؛ إذ كانت أشبه بطوفان اكتسح المعارف الإسلامية في المجال 
الدنيوي» بكاملها تقريبًاء وجعلها بلا قيمة بين عشية وضحاها؛ إذ احتاج المسلمون 
إلى الاستغناء بالكامل تقريبًا عن معارفهم في مجالات الطب والهندسة والعلوم 
العسكرية» واحتاجوا إلى مراجعة شاملة للفكر والممارسة القانونية. وتزامن 
هذا مع الهجمة الاستعمارية التي لم تجعل اكتساب العلوم الجديدة ترفًا وتنعمًا 
حضاريًاء كما كانت الحال في العصر العباسي» إنما هي مسألة حياة أو موت. 


إلا أن المنظومة الدينية - الثقافية التقليدية القائمة» على الرغم من عجزها عن 
تقديم أي مساهمة تساعد في التصدي لتحديات الحداثةء فإنها كانت قادرة على 
تعويق الجهد التحديثي والتحالف مع القوى الرافضة لها من أصحاب المصالح. 
ولهذا السبب فإن معظم المبادرات التي تصدت لهذه المهمات قام بها عسكريون. 
بما أن الجيوش كانت أول المؤسسات التى مسها التحديث» ولضرورتها لحماية 
المجتمعات من الفوضى الداخلية والاستباحة الخارجية. ولهذا تصدر الساحة 
أمثال محمد علي باشا في مصرء ومحمود الثاني ثم مصطفى كمال في اسطنبول» 
وخير الدين التونسي في تونس» ورضا شاه في إيران. وكانت المهمة التي تصدى 
لها هؤلاء هي مهمة إسعاف أولي إن صح التعبير: حماية الإقليم المعني من 
التهديدات الخارجيةء وبناء مؤسسات إدارية تفى بالحد الأدنى من الحفاظ على 
الأمن والنظام ومعايش الناس. ١‏ 


لكن الحفاظ على الكيانات ما كان ليُغني عن مهمة البحث عن إجابات 
للشكل الذي ينبغي للأوضاع السياسية والاجتماعية أن تتخذه في ظل المتغيرات 
غير المسبوقة. ولم يكن القادة الجدد مؤهلين للإجابة عن هذه الأسئلة» خصوصًا 
أن ثقافتهم لم تكن تقليدية فحسب (ومنهم مصطفى كمال)»؛ بل إن معظمهم 
كانوا (باستثناء التونسي) على قدر ضئيل حتى من تلك الثقافةء إن لم يكونوا من 
أشباه الأميين. إلا أن معظمهم كان من الحكمة ويُعد النظر حيث أنشأ المدارس 
الحديثة» كما قام بإرسال طلائع من الدارسين إلى أوروبا. وفي وقت لاحق» جرت 
محاولات لإصلاح مؤسسات التعليم التقليدية» إلا أن النجاح المحدود في هذا 
المجال دفع بأهل الشأن إلى تجاوز هذه المؤسسات وإنشاء مدارس وجامعات 
على الطراز الغربي. ولا تزال هذه المؤسسات القديمة والحديثة تواجه أزمات 


162 


عميقة ليس هذا مجال الخوض فيها. لكن محصلة هذا الجهد كان ظهور المثقف 
الحديث على شاكلة نظيره الغربي» وبدأ في الاضطلاع بدور مماثل. 

هكذا برز الكتاب والأدباء والفلاسفة والدارسون في قطاع واسع من 
مجالات العلم الحديث» وشارك هؤلاء بالرأي في القضايا العامة كافة. وكان من 
الطبيعي أن يكون توجه الجيل الأول من هؤلاء من ذوي التوجهات التقليديةء وأن 
ينصب جهدهم على التوفيق بين الحديث والقديم. . لكن الأجيال التالية كانت أكثر 
راديكالية في دعمها التحديث ومضاهاة الغرب» وشهد معظم الدول الإسلامية 
تنفيذ سياسات فى هذا الاتجاه» أدت بدورها إلى ردة فعل من القوى التقليدية 
أولاء ثم من العناصر التي مثلت ما سمي الحركات الإسلامية ثانًا. 


خامسًا: بين العالم والمفكر الإسلامي 
تُعد الحركات الإسلامية ظاهرة مهمة فى حد ذاتهاء لأنها تمثل جهدًا جماعيًا 
يهدف إلى التصدي لواقع العّلمنة الزاحفة والتيارات السياسية - الفكرية الداعمة 
لها. لكن ظاهرة المثقف أو المفكر الإسلامي تبقى ظاهرة متميزة وقائمة بذاتهاء ولا 
تتطابق تمامًا مع ظاهرة الناشط الإسلامي أو المفكر العلماني. فشخصية الداعية 
الإسلامي» كما تجسدت في حسن البنا وقادة الحركات الإسلامية ومفكريهاء من 
أمثال حسن الترابي ويوسف القرضاوي ومحمد الغزالي وأمثالهم؛ ترى نفسها 
امتدادًا لشخصية العالم التقليدي» مهمتها الأساسية هي تفسير التعاليم الدينيةء 
وإعادة ترجمتها بما يتلاءم مع العصر. ويمكن أن ندرج في هذه الفثة «مفكرين» 
سبقوا اللإسلام الحركي» من أمثال خير الدين التونسي ومحمد عبده ورشيد رضا 

وشكيب أرسلان وابن باديس والطاهر بن عاشور... وغيرهم. 
تُجمع وجهتا نظر متناقضتان على استحالة فكرة المثقف أو المفكر الإسلامي؛ 
تنطلق الأولى من تعريفات المثقف التى أوردناها أعلاه» خصوصًا تعريف إدوارد 
سعيد الذي يرى أن المثقف هو ظاهرة عَلمانية بالضرورة. وبحسب سعيدء فإن 
المعتقد الديني أمر مفهوم على المستوى الشخصيء لكنه يصبح مرفوضًا من 
لذن المثقف حينما يتحول إلى نظام دوغمائي يصنف طرفًا على أنه بريء وطيب» 
والآخر على أنه شرير بالطبع؛ ومن ثم» يمهد للقمع والعنف. وفي مقابل الحواري 


163 


الذي يسمع ويطيع» فإن «المثقف الحقيقي هو كائن عَلماني»» مهما هيأت له 
رواياته أنه ينطلق من غايات أسمى لا يُعلى عليها!©. 


من منطلق مختلف تمامًاء يرفض صالح بن عبد العزيز آل الشيخ» » أحد علماء 
السعودية ووزرائهاء مصطلح «المفكر الإسلامي» جملة وتفصيلاء ويرى أن لا 
مشروعية لمثل هذا المصطلح» لأنه ريما يوهم أن الإسلام ليس سوى «فكر»» قابل 
للنقاش» وليس علمًا يستند إلى الوحي”””. وإذ ينسب آل الشيخ إلى من يسميهم 
المفكرين دوافع محمودة في الدفاع عن الإسلام ضد حملات المستشرقين. إلا أنه 
يرى أن دفاعهم عن الإسلام يجري «بطريقة غير مؤصلة غير منضبطة/؛ فهم من ثم 
«مفكرون ليسوا بإسلاميين». ذلك أنهم لجأوا في المهمة التي ندبوا لها أنفسهم إلى 
اتباع منهج المستشرقين» فنتج عن ذلك انحراف خطر عن الدين وتفريق للمسلمين 
بسبب كثرة الآراء واختلافها. وفي تناول هؤلاء المفكرين جهل بصحيح الدين 
لافتقارهم إلى العلم الديني الصحيح» ما يجعلهم أشبه بالهواة. وفي المقابلء فإن 
العلم الحقيقي هو «فقه النصوص... والرجوع بالأمة إلى أصل الرسالةء ألا وهو 
تلقي الكتاب والسنة والعمل بذلك؛ وهذا العلم هو الذي تحتاجه الأمة وهو الذي 

يجب أن يسير به الناس أفرادًا وجماعات»2*©!؛ فالعلم أدواته منضبطة: بينما الفكر 
لا ضابط له إنما تحكمه الآراء والأهواء. لهذا يتحمل ما يسمى الفكر الإسلامي 
المسؤولية عن تفرقة الأمة» وعنه نشأت الجماعات الإسلامية التى بدورها أنتجت 
فكراء فزادت التفرقة. 

يرى آل الشيخ أنه لا يمكن أن تكون لكتابات من يسمون بالمفكرين وظيفة 
إلا طرح آراء العلماء للعوام بصورة مبسطة» «لأن الناس لا يعون لغة العلم... فإذا 
طرح لهم بأسلوب فكري ثقافي» فإن كثيرين من المسلمين يقبلون على ذلك». 
وبناء عليه» من الجائز أن يضطلع «المفكرون» بهذا الدور» شرط أن يُخضعوا 


Said, pp. 113-114 and 119-120. (26)‏ 
(22) صالح بن عبد العزيز آل الشيخ» «الفكر والعلم؛» الموقع الإلكتروني لوزير الشؤون الإسلامية 


والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودي صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ([صيف 2000])) في: 
http-bit.ly/1K6XnKr.‏ 


(28) المرجع نفسه. 


164 


كتاباتهم لأهل العلم» وأن يعرضوها عليهم قبل نشرها لتمحصيهاء وأن يتواضعوا 
ويقبلوا النقد بعد النشرء وأن يحرصوا على عدم إدخال لغة ومصطلحات جديدة 
تفرق الأمةء مثل التنوير وغيرها. 

المحصلة هي «أن العلماء في دين الأمة وفي مواقفها هم القادة هم الذين 
ينون للناس ما يحل ويحرم... هم المرجع في أمور الدعوة». وفي المقابل» 
فإن المفكرين «لا يصلحوا [هكذا] أن يكونوا قادة في أمر الدين» لا يصلحون 
أن يكونوا حكامًا على الأوضاعء حكامًا على الآراء» حكامًا على أهل العل» 
المفكرون لا يجوز أن يتحكموا فى مصير دعوة الله ودعوة الله مرجعها الكتاب 
والسنة» والذين يفقهون الكتاب والسنة هم الذين يتأهلون لئن يقودوا الدعوة»**. 

أما محمد سعيد رمضان البوطي فيذهب مذهب آل الشيخ نفسه» حين يفرق 

بين «الفكر الإسلامي» الذي يستند إلى «تصورات ذاتية» و«قراءات سطحية». 
و#العلوع الإسلامية» التي تستند إلى «اليقين». ويخلص البوطي إلى أن مقولات 
المفكرين الإسلاميين لا تستند إلى علم بالنصوص» وتتحرى في معظم الأحيان 
دراسات تاريخية بدلا من دراسات فقهية؛ وهي من ثم «ليست أقل سوءًا وخطرًا 
على الإسلام من الأفكار المقاومة (للإسلام)؛ ألم يقولوا: عدو عاقل خير من 
صديق جاهل؟1. 


من الواضح أن هذه المداخلات تمثل حلقة في الصراع المتطاول على السلطة 
الدينية بين العلماء والنخب الحديثة من جهة» والسلفيين والجماعات الإسلامية 
الداعية إلى التصالح مع الحداثة من جهة أخرى. وكما أسلفناء فإن لب الأزمة في 
العالم الإسلامي كان ولا يزال العجز التام للمؤسسات التقليدية والقائمين عليها 
من علماء وغيرهم عن أداء دور ثقافي متكامل. وإذا كان العسكر ورجال السياسة 
نجحوا فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه» فإن الحركات الإسلامية والمفكرين الإسلاميين 
هم من أعاد الاعتبار إلى دور الدين الإسلامي في الحياة العامة من خلال حشد 
الدعم الشعبي له. لكن ما حدث هو أن العلماء التقليديين أرادوا استغلال هذا 
الفضاء المتاح للعودة إلى ما قبل عهد محمد علي؛ وإعادة سلطة رجال الدين كأن 


(29) المرجع نفسه. 


الحداثة لم تكن. هكذا نجد الخميني أسس في إيران لنظام «ولاية الفقيه» الذي 
يعطي رجل الدين التقليدي السلطة كلها في الحياة العامة» مع أن الثورة الإيرانية ما 
كانت لتنجح لولا جهد مفكرين من أمثال علي شريعتي ومهدي بازرغان» إضافة 
إلى جهد الحركات العلمانية واليسارية. ويبدو أن ما يطمح إليه أمثال آل الشيخ 
والبوطي هو أيضًا فرض «ولاية الفقيه؛ في مجالات الفكر أيضًا. 


هذا يطرح سؤال عمًّا إِذا كان هناك دور للمفكر الإسلامي في ظل هذا الرفض 
للدور من كل جانبء إضافة إلى منافسة الحركات الإسلامية ورفضها العملي لهذا 
الدورء ذلك أنها عمليًا : تفرض تسييس الفكر وإخضاعه لساطان التنظيم» ما ينفي 
دور المفكر الذي لا بد من أن يكون مستقلا عن التنظيمات السياسية والأنظمة 
الحاكمة» حتى يكون له سلطان أخلاقي. 


ليس هناك ما يمنع أن يضطلع العلماء التقليديون بدور المثقف؛ إذ كان 
لعلماء ne‏ ا E‏ 
بن عبد السلام)» وبعدها (محمد عبده وابن باديس ورشيد رضا ومحمد الغزالي 
ومحمد حسين فضل الله). لكن كي يؤدي أي شخص مثل هذا الدوره فلا بڏ من 
أن يكون واعيًا بقضاياعصره. SS‏ 
لا بما يعلمه» وكذلك الحال عند الخميني. فما يميز «المفكر؛ عن «العالم» ليس 
هو علمه؛ وإنما جهله فلا يستطيع أحد أن يجادل في أن محمد عبده وتلميذه رشيد 
رضا كانا من العلماء بالمقاييس كلها. لكن آل الشيخ يصنفهم ضمن «المفكرين»ء 
مع سيد قطب ومالك بن نبي والمودودي... وغيرهم, وينكر أهليتهم في أن يُعدوا 
في طائفة العلماء» لمجرد أنهم اطلعوا على العلم الحديث ورأوا أن الخطاب 
الإسلامي لا بذ من أن يأخذه في الحسبان. 
أذكر في هذا المقام أنني حضرت قبل أعوام مؤتمرًا في موضوع الاقتصاد 
الإسلامي» شاركت فيه نخبة من المصرفيين والاقتصاديين وعلماء الدين. وفي 
ee‏ مراحل النقاش» استوقف أحد «العلماء» المتداولين قائلا: إننا لا نفقه كثيدًا 
مما تقولون» فلو ألفتم لنا كراسات مبسطة تشرح المفاهيم والآليات التي تتحدثون 
عنها حتى نفهم ما هي حتى نستطيع الفتوى فيها. واعترضت فورًا على هذه 
الصيغة؛ قائلا إن من يفتي في أمر لا بد من أن يكون من العلماء فيه؛ والعلماء ء في 


166 


هذا المجال هم الاقتصاديون» وليسوا رجال الدين. فأحكام الإسلام في المجال 
الاقتصادي (وفي أي مجال آخر) بسيطة وواضحة» ومعرفتها واجبة على كل مسلم 
على أي حال. لهذا فإن علماء الاقتصاد هم المؤهلون هناء ومن الأسهل على عالم 
الاقتصاد أن يلم بالجانب الديني في مجاله من العكس. والأمر نفسه يمكن أن 
يقال عن الطب وعلم الجينات... وغيرها. فلن يستطيع فقيه أن يلم بعلوم الطب 
والاقتصاد والسياسة والبيئة ...إلخ. 


لحسن الحظء فإن هؤلاء «العلماء» لا يحكمون في السعودية؛ وإذا كان الأمر 
lis‏ ولو اتبعنا صيغة آل الشيخ» لاستنسخنا تجربة «الدولة الإسلامية في العراق 
والشام» (داعش)» والقاعدة... وغيرهما من الحركات الجهادية السلفية التي تأخذ 
مقولة آل الشيخ في السلطان الكامل للعلماء المعروفين بجهلهم. فهذه التنظيمات 
تنصب في صفوفها طبقة من العلماء - الجهال؛ يفتونها في أمرها. لكن كما هي 
الحال في غير ذلك المقام» فإن قادة الميليشيات هم أصحاب القرار» ولا يزيد 
الدور الذي يؤديها العلماء المزعومون هناك على تبرير قرارات من بيدهم السلطان 
الحقيقي. 

هناك إذا إشكاليات عدة تعوق قيام «العالم التقليدي بدور «المثقف»» أو 
دور «المحتسب»» إذا أردنا التعبير الإسلامي» والذي يصدع بكلمة الحق في وجه 
الجورء من السلطان أو غيره؛ ويتولى دور القيادة الأخلاقية في المجتمع. وأولها ما 
أسلفناه من قلة بضاعتهم من المعرفة بأحوال العالم المعاصرء وطبيعة ثقافته التي 
تتعامل مع نصوص كتب لعصر آخر. وثانيها ميل هذه الطبقة إلى ممالأة السلاطين؛ 
حتى لو كانوا من المستعمرين. وثالثها افتقاد معظم العلماء الشعبية» للأسباب 
المذكورة أعلاه» ولعدم نجاحهم في تطوير لغة تخاطب هموم المسلم العادي. 


سادسًا: نشأة المثقف الإسلامي 


کان ä‏ ااا اون عن العام ورهن فو روز دور ا 
آخر. وكان الأو ل هو السابق ممثلا في أشخاص من أمثال جمال الدين الأفغاني 
وخصمه سيد أحمد خان في الهند؛ إذ سعى الأول إلى استنفار طاقات القادة 


167 


الإسلاميين التقليديين» من حكام ورجال دين وأعيان» لمواجهة خطر الهجمة 
الاستعمارية على العالم الإسلامي؛ وعندما أخفق توجه إلى الشباب بهدف تنشئة 
جيل جديد يتصدى لهذه المهمة. أما الثاني فسعى» بعد أن أصبح الاستعمار واقعًا 
في بلده» وبعد إخفاق انتفاضة عام 9 5 18 ضده» إلى إنشاء مؤسسات تعليمية حديثة 
تخرج الجيل الجديد من حملة العلم المعاصر. وكانت نقطة خلاف الأفغاني مع 
خان (ومع عبده لاحقًا)» أن الأفغاني كان يريد التصدي للاستعمار والإصلاح 
السياسي بصورة متزامنة ومباشرة» ولا يرى تأجيل هذه المهمة في انتظار جيل 
مقبل» كما كان يستنكر تصالح خان مع الاستعمار البريطاني» وبصورة أعنف تقبله 
الاستعمار الثقافي والفكري. 

لكن إذا كان الأفغاني يرى دوره الأساس هو في مجال التعبئة السياسية» 
فإن أثره الباقي كان في المجال الفكري. ولعل ما يهمنا في مساهمات الأفغاني 
في هذا المجال هو رؤيته لدور «المثقف» تحديدًا في نهضة الأمة» وهو عنده 
الفيلسوف قبل كل شيء. ففي محاضرة مهمة ألقاها في كالكوتا بالهند في عام 
2 علق الأفغاني على إخفاق المدارس التي أنشأتها في القاهرة واسطنبول 
السلطات هناك في إطلاق نهضة علمية في العاصمتين» مع أن ستين عامًا مرت 
على إنشائها. ويستغرب استمرار الحاجة» بعد تلك الأعوام» إلى استقدام معلمين 
أجانب وإرسال الطلاب إلى الخارج للتعلم (ما أشبه الليلة بالبارحة)09©. 

يجيب الأفغاني أن المعضلة تكمن في غياب الفلسفة واستحالة تدريسها في 
تلك المدارس؛ فالفلسفة تشبه الروح التي تسري في باقي العلوم وتمنحها الحياة. 
أما ما تشهده هذه المدارس» فهو أشبه بلصق أوراق خضراء على جذع شجرة ميتة 
أملا أن تنبعث فيها الحياة» وهذا مستحيل. أما لو دبت الحياة فى عروق الشجرةء 
فإن الأوراق والثمار تخرج منها تلقائيًا!”©. | 

Sayyid Jamal Ad-Dîn Al-Afghãnî, «Lecture on Teaching and Leaming,» [Calcutta, 1882], in: (30) 


Nikki R. Keddie, Arr Islamic Response to Imperialism: Political and Religious Writings of Sayyid Jamal 
Ad-Dîn «al-Afghûnî» (Berkely, CA: University of California Press, 1983), pp. 101-108. 


Al-Afghänt, p. 105. (31) 


كان القرآن هو الذي أشعل روح الفلسفة في نفوس العرب» فحفزهم إلى 
كسب العلم وملأهم بالفضول. لكن ما نراه من علمائنا اليوم هو عكس تلك 
الروح» فهم أشبه بضوء خافت لا يكاد يضيء حتى موقعه» ناهيك بإضاءة البيت أو 
القرية. وكذلك «فقيه» اليوم» فهو عاجز عن إدارة شأن بيته» ناهيك بإدارة الممالك 
كما كان أسلافه يفعلون. والعجب أن هؤلاء إذا قيل لهم تعلموا العلم الحديث» 
قالوا إنه مخالف لدينناء مع أن أساس العلم هو البرهان؛ والعلم من ثم لا وطن له 
ولا ملة إلا الحق. ومن يقول إن ديني يتعارض مع الحقائق البينة يحكم على دينه 
بالبطلان» وهو عدو للديه62©. 


ما تحتاج إليه الأمة عند الأفغاني هو نوع جديد من العلماء ينتفضون ضد 
الجمود وضيق الأفق السائدين» ويتطلعون إلى آفاق العلوم الرحبة التي تفجرها 
في العالم الحقيقي روح الفلسفة التي تحفز صاحبها ! إلى طرح الأسئلة والتعمق في 
البحث في الأمور؛ فالمثقف الإسلامي المثالي هو عنده إذّا العالم - الفيلسوف. 


SS 
وبقيت أصداء نداءاته  تتردد في أرجاء المنطقة لعقود بعد رحيله. وظهر في إثره‎ 
مفكرون ومصلحون كثر» لكن من استحقوا منهم لقب المفكر الإسلامي كانوا قلة.‎ 
ولعل أبرز هؤلاء على الإطلاق كان العلامة محمد إقبال (1933-1877)) الشاعر‎ 
والفيلسوف ورجل القانون والزعيم السياسي الملهّم والملهم. ففي محاضراته‎ 
ذائعة الصيت في موضوع إعادة تشكيل الفكر الإسلامي» التي ألقى بعضها في‎ 
مدينة مدراس الهندية في كانون الأول/ ديسمبر 1928. ثم نُشرت في كتاب يعد‎ 
ذلك. يتصدى إقبال لمهمة إعادة الحياة إلى الفكر الإسلامي الذي بقي في ركود‎ 
بحسب قوله خمسة قرون. وتزداد أهمية هذه المهمة لأن الإسلام لا يواجه خطر‎ 
التخلف والركود الحضاري فحسبء بل كذلك هجمة خارجية شرسة توشك أن‎ 
تذهب بما بقي منه. ويتابع إقبال الأفغاني في جعل التأملات الفلسفية محور جهد‎ 
استعادة الحياة للفكر الإسلامي؛ لكن تأملاته الفلسفية أعمق» وأقرب إلى الواقع‎ 
المعاصرء وتستند إلى اطلاع أوسع وأعمق على نتاج الفكر الفلسفي الحديث.‎ 


Ibid, pp. 105-106. (32) 


169 


لعل المفارقة الأبرز في فكر إقبال أنه لا يعانق العقلانية بحماسة كبيرة» بل 
يقاربها بريبة عميقة. وهكذا يبدأ محاضراته بسؤال عمّا إذا كان في الإمكان إخضاع 
الظاهرة الدينية للتحليل العقلي» في حين أن الدين لا يعترف بسلطان العقل 
أساسّاء بل يراه بحسب الشاعر الصوفي «متربصًا بالقلب ليسلبه ثروته الدفينة». 
لكنه يرد أن العقل والإلهام ينبعان من مصدر واحد ويكمل أحدهما الآخر» وإن 
كان من الصعب ألا يلاحظ المرء انحياز إقبال البين إلى الإلهام. على سبيل المثال» 
نجده يخالف التوجه الغالب بين الناقدين المعاصرين لتاريخ الفكر الإسلامي» 
فيقف إلى جانب الغزالي ضد ابن رشد وباقي منتقديه» ويصف الغزالي بأنه حقق 
للفكر الإسلامي ما حققه حققه الفيلسوف كانط في الغرب» حين «قصم ظهر العقلانية 
(الإغريقية) المغرورة بضحالتها“””. لكنه مع ذلك انتقد الغزالي لفصله العقل عن 
الإلهام» ولاقتصاره في البحث عن الحقيقة في غيوم الإلهام المضطربة*6©. 


يركز إقبال في تناوله على تجنب خطأ الغزالي» وضرورة المواءمة بين العقل 
والإلهام؛ إلا أن الإلهام يبقى هو الذي يقود. ويعترف إقبال بالمعضلة التي تبه إليها 
الغزالي عن صعوبة مشاركة الآخرين نتيجة العلم الإلهامي» فهو غير قابل للبث 
والمشاركة» وامضنون به على غير أهله». لكنه يرى أن للتجربة الإلهامية LS Le‏ 
معرفيًا قابلا للتمييز والنقد» ويمكن تقويمه في الواقع بنتائجه وثماره*. 


نحن إذا هنا أمام نظرة تصف المثقف الإسلامي المثالي كفيلسوف متدين» 
أو بصورة ة أدق» كصوفي متفلسف» يغوص في أعماق روحه» ويستلهم عناصر 
القوة والحيوية في تاريخ الإسلام وتراثه وتعاليمه» ويطور منها لغة جديدة تخاطب 
العصر وتعيد لأمة الإسلام عنفوانها واعتدادها بنفسها. 

أما عند علي شريعتي الذي يخاطب مسألة دور المثقف بصورة مباشرة» فإن 
المفكر الذي تحتاج إليه النهضة الإسلامية هو صاحب الفكر المستنير» أو المفكر 


Muhammad Iqbal, The Reconstruction of Religious Thought in Islam (Lahore: Ashraf Press, (33) 
1968), pp. 1-5. 


Ibid, p. 5. (34) 
Ibid, pp. 17-24. (35) 


النوراني (روشنفكر) الذي يشتعل في فؤاده النور الإلهي في صورة «علم موقظ 
مضيء مرشد مولد للمسؤولية»*. ويختلف مثل هذا الشخص عن المفكر في 
برجه العاجي أو الفيلسوف المستغرق في سبحاته الفلسفية» ولك لهف امن 
يستشعر مسؤولية خاصة تجاههاء ويرى أن مهمته الأساس هي إعادة إشعال جذوة 
الإيمان فيها وتنبيهها إلى عيوبها ونواقصها. فهو يستن بسنة الأنبياء ويستلهم 
دورهم الرسالي”*» وهو يتحدث لغة العصر؛ لكنه يستلهم الحلول من قيم أمته 
وترائها. ولهذا السبب لا وجود لنموذج كوني لمثل هذا المفكر النوراني؛ لأنه لا 
e‏ إذ ربما يكون النموذج الناجح في 
ثقافة ماء آفشل ما یکون إذا انتقل إلى مناخ آخر*. 


إن لكل أمة روحها المميزة لها والصابغة هويتها؛ وهكذا نجد أن الروح 
المميزة للأمة الإغريقية هي الروح الفلسفية» بينما الروح الرومانية هي روح 
عسكرية» وفي الهند روحانية» بينما هي في أوروبا المعاصرة روح مادية. أما في 
العالم الإسلامي» وفي إيران خصوصّاء فإن الروح المهيمنة هي روح دينية» ذلك أن 
الثقافة والتاريخ والأخلاق كلها تشكلت بتأثير الإسلام. ولهذا نجد معظم مثقفينا 
المعاصرين الذين لم يفهموا هذه الحقيقة الجوهرية يعيشون في غربة عن أمتهم؛ 
وهم عاجزون عن التأثير في المجتمع أو مخاطبة الجماهير بلغة يفهمونها””. 

من هذا المنطلق» نجد شريعتي يختلف جذريًا مع الأفغاني وجزئيًا مع إقبال 
فى دور الفيلسوف» حيث يرى أن نظرة الفيلسوف المجردة إلى الدين قاصرة»ء لأنها 
قد تدفعه إلى معاملة الأديان كلها من منظور واحد. أما المفكر النوراني فلا يسعه 
ذلك» فهو لا يستطيع مهاجمة الدين أو انتقاده حيث يؤلب الجماهير ضده. وهو 
أيضًا بالضرورة يختلف مع سعيد في رسمه صورة المثقف «العَلماني» الكوني 
النظرة» والمترفع عن العلائق من وطن وأمة ودين. 


Ali Shari’ati, What is 10 be Done?, Farhang Rajaee (Trans. & ed.) (Houston: The Institute for (36) 
Research and Islamic Studies, 1986), pp. 2-7. 


Ibid, p. 17. (37) 
Ibid, pp. 8-17. (38) 
Ibid, pp. 18-19. (39) 


في المقابل» نجد المفكر الجزائري مالك بن نبي )1973-1906( der‏ 
من الثقافة» لا الفلسفة» محور اهتمامه. Lisa.‏ النهضة الإسلامية. 
فالثقافة» ومحتواها الديني المضمرء هي أساس حركة التاريخ» والعامل الموحد 
للونسانية عبر العصور. وليست الثقافة معرفة يستفيد منها الإنسان» لكنها البيئة التي 
تحضنه: بل هي محيط يحيط به وإطار يتحرك داخله» فهو يغذي جنين الحضارة 
في أحشائه» إنها الوسط الذي تتكون فيه كل خصائص المجتمع المتحضر»“. 
أما جوهر الحضارة فهو الدينء لأنه هو الذي يخرج الإنسان من حالة الطبيعة 
ومرحلة تحكم الغرائزء إلى عالم الأخلاق والتضحية وضبط النفس. فإذا ضعف 
هذا المركب الروحي وساد العقل وحده. انهارت الحضارة. ولا يلبث الإنسان 
مطوّلا حتى يعود الإنسان إلى حالة الطبيعة والتوحش» لأن العقل وحده عاجز عن 
كبح الغرائز"“. هكذا نجد دورة الحضارة تبدأ مع طلوع فجر التدين الذي يخرج 
الإنسان من حالة الطبيعة» ثم تبدأ في الانحسار مع تراجع دور الدين لمصلحة 
العقل المصلحيء ثم تنهار نهائيًا عندما يستنفد العقل طاقته ويعود المجتمع إلى 
حالة الطبيعة“. 


في ضوء هذه الخريطةء يمكن آن نؤرخ لبزوغ الحضارة الإسلامية مع الهجرة 
النبوية» بينما بدأ الانهيار من معركة صفين (عام 37ه)؛ إذ اصطرعت الروح القرآنية 
مع النوازع القبلية» فانتصرت القبلية. ولم تكن استمرارية الحضارة الإسلامية بعد 
هذه النقطة إلا استمرارية شكلية وهيكل فارغ» وانعكاس باهت للأصل. ذلك 
أن التوازن الذي صنعه القرآن بين الروح والمادة كان قد ققد واختل. ثم جاء 
الانهيار النهائي مع سقوط دولة الموحدين في المغرب والأندلس في القرن الثامن 
الهجريء ليكون نهاية منطقية لذلك الانحدار الطويل الذي بدأ مع سقوط الدموذج 


(40) مالك بن نبي» مشكلة الثقافةء ترجمة عبد الصبور شاهين» ط 4 (دمشق: دار الفكرء 1984( 
ص 77-76. | : 

(41) مالك بن نبيء شروط النهضةء ترجمة كامل عمر مسقاوي وعبد الصبور شاهين (دمشق: دار 
الفكر. 1986)ء ص 54-50 66-603« وسليمان الخطيب, فلسفة الحضارة عند مالك بن نبى (بيروت: 
المؤسسة الجامعية للدراسات والنشرء 1993( ص 98-88. | 

Fawzia Bariun, «Malik Bennabi and the Intellectual Problems of the Muslim Ummah,» The (4 2) 

American Journal of Islamic Social Sciences, vol. 9, no. 3 (1992), pp. 325-337. 


172 


الديمقراطي في صفَين لمصلحة الاستبداد القبلي”“. وأصاب هذا الانهيار روح 
الفرد كذلك» إذ افتقد الروح الوثابة والخلاقة» وهي مرحلة ما زلنا نعيشهاء JS‏ 
مركباتها وحالة الإفلاس الأخلاقي والسياسي والفكري التي تجسدهاء وكذلك 
هويتها المعتلة المريضة*“. ومن دون الانعتاق من إسار هذه الشخصية المعتلة لن 
تكون هناك نهضة. وهو انعتاق لن يأتي بمجرد الجهد العقلي» ففي ظل هذا الانهيار 
الروحي أصبحت أرضنا صحراء جدباء» لا معنى للعلم فيها ولا قابلية لتلقيه. فمع 
انطفاء شعلة الروح» تنطفئ شعلة العقل» ويفتقد الشخص النهم إلى العله*“. 


هذا هو سبب وقوع المساهمات المتميزة القليلة التي جاد بها العقل المسلم» 
مثل كتابات ابن خلدون؛ على أرض يباب فلم تورق ولم تثمر. ولذلك لا بديل من 
العودة إلى النبع الصافي الأول الذي سقى شجرة الحضارة عندناء وهو القرآن؛ إذ 
لا بد للفرد المسلم أن يستعيد إيمانه» وكذلك الأمة المسلمة» حتى تستعيد الأمة 
سيطرتها على مصیرها“. 

هنا نجد بن نبي يتفق مع إقبال وشريعتي في أن المشكلة الإسلامية هي في 
القلب» لا في العقل كما يقول الأفغاني. فعند بن نبي» ليست المشكلة هي في 


غياب أصحاب العقول بين المسلمين» لكن الاستخدام الصحيح للعقل ما عاد 
ممكنًا في غياب الدافع الروحي والأساس الحضاري. فعندما تنبعث الروح في 


الأمةء تعود القدرة على التفكير السليم. 
سابعًا: المفكر «طبيبًا») 


هناك عدد من الملاحظات المهمة جدًا تتعلق برؤية هؤلاء المفكرين لطبيعة 
المشكلة الفكرية - الثقافية التى تواجهها الأمة الإسلامية؛ ومن ثم» نوعية الجهد 
الفكري المطلوب لمواجهتها: 


(43) مالك بن نبي» وجهة العالم الإسلامي» ترجمة عبد الصبور شاهين (دمشق: دار الفكرء 1986(« 
ص 36-28 والخطيب» ص 102. 

(44) الخطيب. ص 106. 

(45) المرجع نفسه» ص 109. 

(46) المرجع نفسه» ص 115-112. 


- كان لمعظم هؤلاء خلفية صوفية؛ إن لم تكن توجهات صوفية. وهم يتفقون 
في هذا مع معظم قادة الإصلاح الإسلامي والحركات الإسلامية» فنجد أن لكل 
من محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا والخميني خلفية صوفية وبدايات صوفية 
تخلى بعضهم عنها في ما بعد» أو خمّف منها. وإذا كان المودودي يمثل (مع مالك 
بن نبي) استثناءً مهمّاء فإن المودودي ينتمي بدوره إلى أسرة ذات نسب عريق في 
التصوف. كانت ممن أدخل الطريقة الششتية إلى الهند. 


- يشدد معظم المفكرين الوارد ذكرهم على دور القلب والإلهام والروح في 
النهضة الفكرية المرجوة. ومعظمهم يعترف بدور العقل» لكنه يراه ثانويًا وتابعًا 
لدور الدين. بل إن بن نبي - كما رأينا - يرى أن سيادة العقل وحده كانت بداية 
الانحطاط الإسلامي. ٠‏ 


- يتحدث جميع هؤلاء» مع هذاء عن «الدين» بوصفه ظاهرة اجتماعية» من 
منطلق يكاد les‏ مع منطلقات علم الاجتماع الحديث الذي يتناول «الدين». 
كما لو أن الأديان كلها تجليات لظاهرة واحدة تتعدد أشكالها. ولا شك في أن هذا 
تنازل كبير لمسلمات الفكر العَلماني المعاصر ونظرته إلى الدين في إطار نظري 
يضعه في سياق «تطور؟ الإنسان من الحيوانية إلى البشريةء وتطور المجتمعات من 
البدائية إلى التحضر. وهذه إشكالية من جهات عدة: لأنها تقبل مساواة بين الأديان 
غير مقبولة في السياق القرآني الذي يرى أن كثيرًا من الأديان خاطئة وضالة. وهذا 
التناول (والحديث عن ضرورة الدين للنهضة الإسلامية) قد يعطي الانطباع أن 
هؤلاء المفكرين يرون الدين وسيلة لا غاية. 

- أخيراء فإن هؤلاء يتفقون مع باقي الإصلاحيين في ضرورة الرجوع إلى 
مصادر الإسلام الأولى ونبعه الصافي» شرطا لإعادة الحياة الروحية والفكرية إلى 
الأمة. لكن هذه النقطة الأخيرة قد تصطدم مع النزعة الصوفية والوصفات العرفانية 
معّاء لأن الدعوة إلى الرجوع إلى الأصول تتقاطع مع التوجهات السلفية التي ترى 
أن معظم التراث الإسلامي اللاحق (بما في ذلك» وريما على الأخص» التراث 
الصوفي) يجب أن يحاكم إلى المصادر الأولى. لكنء لأن هؤلاء المفكرين 
يجنحون إلى التعميم؛ فإنهم لا يعالجون هذه القضايا بصورة مباشرة؛ كما أنهم 
لا يتصدون للمعضلات التي يواجهها مفكرو حركات الإحياء الإسلامي الذين 


174 


يجتهدون في ترجمة منطق «العودة إلى الأصول» في إطار عملي» كما هي حال 
مفكرين أمثال المودودي والترابي والغنوشي والخميني. فهنا نجد هؤلاء أمام 
معضلة مزدوجة تجسّدت أكثر ما تجسدت في الترابي الذي واجه معارضة شرسة 

من القوى التقليدية لأفكاره «الإصلاحية» (في موضوع المرأة والأقليات مثلا)» 
في الوقت نفسه الذي واجه فيه انتقادات من القوى الحدائية ثية والعّلمانية بأنه تقليدي 
أكثر من اللازه”“. 

ما يجمع المفكرين هو كذلك رؤيتهم للأمة الإسلامية بوصفها تعاني من 
أزمة ومرض عضالء وأن مهمة المفكر هي تشخيص الداء ووصف الدواء. 


ثامنًا: المفكر الإسلامي في حقبة «مابعد الإسلامية) 


طرحت هذه المعضلات التي واجهتها الأجيال الأولى من المفكرين 
والإصلاحيين» ولا سيما في JE‏ تجارب النصف الثاني من القرن العشرين» 
أسئلة محورية تصدت لها أجيال جديدة من أهل الفكر. ومر هذا التحول بمراحل 
عدة» كانت أولاها المرحلة التي أشرنا إليهاء وتمثلت في تحول قطاع واسع من 
المفكرين الليبراليين البارزين إلى الكتابات الإسلامية. وكان من أبرز هؤلاء طه 
حسين» وعباس العقاد» ومحمد حسين هيكل» وسيد قطب» وآخرون. وفي مرحلة 
لاحقة» خصوصًا بعد ظهور الحركات الإسلامية» ثم قمعهاء تبنت فئة جديدة 
من المفكرين الليبراليبن واليساريين توجهات «إسلامية». وكان من أبرز هؤلاء 
مصطفى محمود ومحمد جلال كشكء وكلاهما كان كاتيًا صحافيًا ذا شعبية 
واسعة في أوساط الشباب. وفي مرحلة لاحقة» تبع هؤلاء مفكرون ذوو شأن أكبر» 
منهم طارق البشري ومحمد سليم العوا ومحمد عمارة. 

تكمن أهمية مساهمات هذه الفئة من الكتاب والمفكرين أولا في أنها 
أنت في مرحلة شهدت أفول نجم التيارات القومية واليسارية؛ في عقب نكبات 
الستينيات ومطلع السبعينيات. وصادف تلك المساهمات ظهور تحولات مهمة 


Abdelwahab El-Affendi, «Hassan Turabi and the Limits of Modem Islamic Reformism,» in: (47) 
Ibrahim Abu-Rabi (ed.), The Blackwell Companion on Contemporary Islamic Thought (Oxford: Blackwell 
Publishing, 2006), pp. 145-160. 


175 


في خطاب الحركات الإسلامية في اتجاه ليبرالي» كما حدث في السودان على يد 
حسن الترابي» وفي تونس مع راشد الغنوشي الذي تأثر به. وتصادف ذلك أيضًا 
مع شيوع مساهمات علي شريعتي التي مهدت بدورها للثورة الإيرانية. وأخيرّاء 
كان الطابع «الليبرالي» لتلك المساهمات أحد عوامل نجاحها وانتشارهاء حيث 
أدت دورًا في تجسير الهوة بين الخطاب الليبرالي والتوجهات القومية واليسارية 
من جهة؛ والإسلام السياسي من جهة أخرى. ويمكن أن يقال إن هذه الكتابات 
ساهمت بقوة في صناعة ما سمي ظاهرة «الصحوة الإسلامية» ود وّنت بها. 


في مرحلة لاحقة مع دخول التجارب tes VID‏ خصوصًا فى إيران» 
إلى ما يشبه الطريق المسدود. برز جيل جديد من المفكرين أطلق عليهم عالم 
الاجتماع الويراني آصف بيات تسمية اتيار مابعد الإسلامية)”؟/(مونههاذ1-ومم). 
وأحد أبرز رموز هذا التيار هو الفيلسوف والمفكر الإيراني عبد الكريم سوروش 
الذي تساءل في إحدى مساهماته عن معنى الرجوع إلى المصادر الأصلية» كونها 
كانت دائمًا حاضرة من دون أن تمنع التخلف» فضلا عن أنها تفسر دائمًا تفسيرات 
NL La‏ ويرى سوروش أن هذه المعضلة لن تحل !| إلا حين ننجح في التفريق 
بين الدين والمعرفة الدينية؛ فالدين يصدر عن وحي إلهي» فهو بذلك أزلي لا 
يتبدل. أما المعرفة الدينية» فهي كسب بشري عرضة للخطأء وفي حاجة دائمة 
إلى المراجعة والتصحيح؛ كما أنها عرضة للتأثر بمحيطهاء فضا عن الخلل 
والتدهور. وتتأثر المعرفة الدينية أو العلم الديني أيضًا بتحيزات زمانها وتعصبه» 
ويمكن ضخ الحيوية فيها من خلال الازدياد في العلم والزاد الروحي. ويميز 
سوروش من جهة أخرى بين التحصيل الفردي للعلم الديني» والعلم الديني 
بوصفه ظاهرة اجتماعية يجري إنتاجها جماعيًا عبر حوارات وصراعات مستمرة» 
ما يعني أنها في تحول دائم وفمًا للتحولات الاجتماعية!67. 


Asif Bayat (ed.), Post-Islamism: The Changing Faces of Political Islam (New York: Oxford (48) 
University Press, 2013). 


Abdolkarim Soroush, Reason, Freedom and Democracy in Islam: Essential Writings (49) 
of Abdolkarim Soroush, Mahmoud Sadri & Ahmed Sadri (trans. & eds.) (Oxford/ New York: Oxford 
University Press, 2000), pp. 31-33. 


Ibid, pp. 33-35. (50) 
Ibid, pp. 15-16 and 33-35. (51) 


176 


تتقاطع هذه الرؤية مع تحليلات فئة أخرى من المفكرين ع لا يصنفون عادة بين 
الفئة التي تتناولها الآن؛ إذ نجد كلا من محمد أركون ونصر حامد أبو زيد يتحدثان 
a‏ الدين 0 النص. وليس هذا مجال مناقشة هذه الأطروحات 
تعريف الدين أيضًاء وافتراض وجود «دين» خارج الزمان والمكان ينفصل عن 
مظاهره الإنسانية. لكن يكفي أن نشير هنا إلى أن سوروش نموذج جيل جديد من 
«المثقفين الإسلاميين؟ فحسب» يقدم أطروحات تجعله يقترب كثيرًا من الفهم 
العلماني للدين. 


برزت في الأعوام الأخيرة نخبة من المفكرين الإسلاميين ذوي الأصول 
الغربية (أو المقيمين في الغرب)ء تابعت منهج سوروش (يقيم بدوره الآن في 
الولايات المتحدة) في المطالبة بإعادة نظر جذرية للفكر الإسلامي التقليدي. 
ومن هؤلاء المفكرين طارق رمضان الذي يقدم أطروحات جريئة لكنه يتحرك في 
الإطار التقليدي؛ وآخرون يتحدون هذا الإطار, مثل الأكاديمية الأفريقية الأميركية 
آمنة ودود. وكانت ودود قد كتبت كتابين نقديين عن المرأة في PEAU‏ 
وأصبحت أول امرأة توم الرجال في صلاة الجمعة. وهناك أيضًا مجموعة 
«المسلمين التقدميين؟ فى أميركاء وهى مجموعة تدعو إلى تغيير النظرة الإسلامية 
إلى المثلية الجنسية» وتتبنى منهجا نقديًا في قضايا اجتماعية وسياسية أخرى”6. 


لعل أهم ما يميز هذه الفئة هي أنها على الرغم من تقاربها مع المفكرين 
العَلمانيين» فإنها ترفض التماهي معهم» وتصر على أن منطلقاتها إسلامية. بل إن 
هذه المدرسة ترى أن النهضة الإسلامية المرجوة قد تأتي من الغرب» بسبب تمتع 
المسلمين هناك بحريات أوسعء ولما تتمتع به الجوالي المسلمة في الغرب من 
إمكانات مادية وبشرية هلها لف رت عه ار اي الاي 


Amina Wadud, Qur ‘an and Woman: Rereading the Sacred Text from a Woman $ Perspective, (5 2) 
2% ed. (Oxford: Oxford University Press, 1999), and Amina Wadud, /nside The Gender Jihad: Women 
Reform in Islam (Oxford: Oneworld Publications, 2006). 


Abdelwahab El-Affendi, «The People on the Edge: Religious Reform and the Burden of the (53) 
Western Muslim Intellectual,» Harvard Middie Eastern and Islamic Review, vol. 8 (2009), pp. 19-50. 


177 


عثمان أبو بكر الذي قال في إحدى مداخلاته إن العاصمة الأميركية واشنطن ربما 
تصبح امكة الجديدة»» ينبعث منها نور الإسلام في ثوب جديد*". 


من جهة أخرى» شهد السجال الإيراني في شأن العلاقة بين الفقيه والمثقف 
تطورًا مهما في الأعوام الأخيرة» حين خطا بعض المثقفين الإسلاميين الليبراليين 
وبعض الفقهاء خطوة نحو اعتماد العقل حاكمًا على الشريعة لا العكس؛ وهذا 
بدوره يدعو إلى تقديم دور المثقف الإسلامي على دور الفقيه. واحتدم هذا الجدل 
في الأعوام القليلة الماضية على خلفية رسالة في موضوع الحقوق لمنتظري» سعى 
فيها إلى تبرير الرؤية التقليدية للحريات» خصوصًا في ما يتعلق بالردة. ونتج عن 
هذا الجدل تصريح لأحد تلامذة منتظري يدعى أحمد قابل» جاء فيه أنه غيّر رأيه 
من أولوية العقل على الشرع؛ وهو يرى الآن العكس» أي إن العقل المقدم» وأن 
الشرع يحكم في القضايا التي لا يستطيع العقل أن يحكم فيهاء وليس العكس كما 
هو السائد عند أهل الفقه. 


كان هذا الجدل قد بدأ تقريبًا في نهاية التسعينيات» حين وردت ردود كثيرة 
على آراء منتظريء كان من أبرزها رد سوروش الذي رأى تناقضًا بِيئًا في الموقف 
الإسلامي التقليدي من المرتد كما عبر عنه منتظري» متسائلا: كيف تصح هذه 
المعادلة بأن الكافر إذا أسلم فسيفوز بالسعادة الأبدية» بينما المسلم إذا كفر 
فسيتحول إلى غدة سرطانية في جسد المجتمع؟؛؛ وخلص إلى القول إن الاجتهاد 
في الفروع استنفد أغراضهء ولا بد من الانتقال إلى الاجتهاد في الأصولء لأن 
«أيديولوجيتناء خصوصًا عناصرها الإنسانية والعقلانيةء إذا لم يعد صوغهاء فليس 
بمقدورنا إيجاد حلول جذرية لتلك الإشكاليات». 


تزامن هذا مع سجال آخر بين فقيهين» أحدهما محسن كديور» أبرز تلامذة 
منتظري» ومحمد مجتهد شبستري؛ إذ رأى الأول إمكان استخلاص حقوق الإنسان 
من مبادئ الشريعة؛ بينما رفض الثانى ذلك. إلا أن كديور عاد أخيرًا لينقض رأيه 
الأول ويفتي بعدم إمكان استخلاص شرعة حقوق الإنسان من «أحكام الإسلام 


Osman Bakar, «The Intellectual Impact of American Muslim Scholars on the Muslim World, (54) 
with Special Reference to Southeast Asia,» Center for Muslim-Christian Understanding, Georgetown 
University (June 2003), at: http:f/bit.Iy/1IdMYbN. 


178 


التاريخي»» لأن #المشرع الإسلامي السابق أغفل الإنسان وغيّبه عن تشريعاته ولم 
يمحورها عليه'. ووافق كديور مقولة سوروش أن الاجتهاد في الفروع وصل إلى 
طريق مسدود؛ كما سلم أن العهود الدولية لحقوق الإنسان «تتفوق على الإسلام 
التاريخي؛ لأنها أكثر عقلانية وأفضل عدالة وأقرب إلى الصواب». 
خلاصة 

تحيل معظم السجالات الذائرة في شأن دور المثقف بصورة غير مباشرة على 
نظرية كارلايل في دور البطل» بصفته شخصية غير عادية في فهمها طبيعة الأشياء 
من خلال الإلهام» و«إخلاصه المتوحش» للحقيقة» والقدرة على مخاطبة الآخرين 
(وعبر الأجيال) بصورة مقنعة» إضافة إلى التفانى فى سبيل معتقده وفى خدمة 
الآخرين» وعدم التردد في التضحية لتحقيق الغايات العليا. وربما يكون البطل نبيا 
مثل محمد أو قسيسًا مثل لوثر» أو صاحب قلم مثل غوته؛ أو حاكمًا مثل نابليون 
أو كرومويل. وما يجمع هؤلاء هو أنهم آمنوا بقضية ماء وصدعوا بما يؤمنون به؛ 
ولم يكتفوا بذلك بل كان لهم دور قيادي في تحويل رؤيتهم إلى واقع'”". 

غني عن الذكر أن المثقف - البطل هو أسطورة في معظم الأحيانء لكنها 
أسطورة لا غنى عنها. ولعل مقولة علي شريعتي عن حاجة كل مجتمع إلى أبطاله 
المنبثقين من تربته على نسق «المثقف العضوي» عند غرامشي أو المثقف عند فيبر» 
تحتاج إلى بعض المراجعة. فشريعتي على حق حين يقول إن غاندي لن يكون له 
تأثير مماثل في إيران. لكن هذا لا يمنع أن كثيرين من الإيرانيين» بل والبريطانيين» 
يعجبون بغاندي. هناك أيضًا كثير من البيض» حتى في جنوب أفريقياء يرون في 
مانديلا بطلا. ١‏ 1 

بالقدر نفسه» إن المطالبة بأن يكون المثقف عَلمانيا بالضرورة تواجه 
إشكالات إذا كانت المجتمعات التي يخاطبها ترفض مثل هذا التوجهء أو إذا 
ارتبط التوجه ب «خيانة» من نوع ماء كأن ينحاز هذا المثقف إلى دكتاتور يحميه» 
أو أن يصبح عدوًا لأمته أو منحارًا إلى أعدائها. ولعل نموذج سلمان رشدي الذي 


Carlyle, p. 115, 140 and 193. (55) 


179 


ضربه سعيد مثلا وكان موضع خلاف بيني وبينه» ونماذج مثقفين كثر (معروفين) 
انحازوا إلى أنظمة تمارس القتل الجماعى» يلقى أضواء كاشفة على أبعاد هذه 
الخيانات متعددة الأبعاد. 


ربما يكون سعيد على حق (ومعه كارلايل) في ضرورة أن يكون المثقف 
الحقيقي (أي المثقف «البطل») عالمي النزعة والخطاب. أي إن المثقف المقنع 

يجب أن يترفع عن الطائفية ية بأشكالها كلها ras Does‏ 
ظهرتا في جمهورية البوسنة في أثناء نضالها للاستقلال عن يوغسلافيا في مطلع 
التسعينيات» وهما الصربي رادوفان كاراديتش والبوسني علي عزت LP‏ 
كان الأول شاعرًا وطبيبًا عئر عن تطلعات صرب البوسنة» والثاني فيلسوفا عبر 
عن تطلعات مسلميها. لكن بينما نجد الأول قاد شعبه في طريق الإبادة الجماعية 
والعنصرية البغيضةء فإن الثاني قدم طرحًا «إسلاميّاء عالمي التوجه؛ بعيدًا عن 
التعصب والكراهية. وكسب بيغوفيتش احترام العالم لقيادته الحكيمة» وخطابه 
العاقل» والتزامه الديمقراطية والتعددية في بلده» بينما يحاكم كاراديتش GAL‏ 
في لاهاي بت بتهم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية. ويمكن هنا الإشارة بدور 
مماثل كان راد الغنوشي زعيم حركة النهضة في تطوير خطاب إسلامي وممارسة 
سياسية عرزت الديمقراطية في تونس» وألهمت الكثيرين في العالم العربيء 
وكسبت احترام خصومه وأنصاره معًا. وفي المقابل نجد «مثقفين» آخرين وناشطين 
إسلاميين جسدوا الطائفية فكرًا وعملاء وأدّوا أدوارًا سلبية في مجتمعاتهم. 


بهذا المعنى, ر يصبح دور «المثقف الإسلامي» محوريًا وضروريًا في مرحلة 
الانتقال إلى الحداثة. ولعل غياب مثل هذا المثقف هو أحد أهم أسباب التعثر 
المستمر لتجربة التحديث فى العالم الإسلامي المحاصر حاليًا بين قطبين 
نقيضين: الرؤية التي عبر عنها آل الشيخ في حصر حق التفكير الحقيقي عند «الولي 
الفقيه) المنعزل عن الحداثة من جهة» والفكر المغترب والمتغرب المنعزل تماما 
عن مجتمعه والمتعلق بالخارج من جهة أخرى. وبين الاثنين درجات متفاوتة من 
محاولات التأقلم مع الحداثة والتواصل مع الواقع الاجتماعي. 


(56) أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في حقه في آذار/ مارس 2016 حكمًا بالسجن 40 عامًا 
بعد إدانته بتهم الإبادة الجماعية في حرب اليوسنة (المحوّر). 


180 


لعل الإشكالية الأساسية هنا ليست الصراع بين «الإسلامي» من جهة 
s‏ العَلماني» من جهة أخرىء لكن في الضعف النوعي والتأزم الأخلاقي عند طبقة 
المثقفين؛ إذ ريما يتصدى مثقف غير مسلم يستمد سلطانه من موقعه المتميز في 
الغرب (مثل إدوارد سعيد) لدور المثقف العضوي المعبر بصدق عن تطلعات 
الحضارة العربية الإسلامية» بينما يضطلع «فقهاء» أو «مفكرون مسلمون» بالدور 
النقيض. ولعلها ليست مصادفة أن تكون طليعة العناصر التي تعمر الخطوط 
الأمامية في الاجتهاد لتطوير الفكر الإسلامي. هي كما أسلفنا من بين المفكرين 
المسلمين الذين نشأوا في الغربء أو هربوا إليه فرارًا من ظلم ذوي القربى» وضيق 
البلاد بأهلها. 


لكن» لعلنا نختم بنقطة مهمة جدّاء وهي أن «بطولة» المثقف هي بطولة من 
نوع خاص» تنبع من قدرته على نسج روايات الأمل والهوية التي تتملك خيال 
الشعوب والجماعات وتقودها إلى عالم جديد. فهذه الروايات لا بد من أن تنبثق 
من واقع الناس» ومن تاريخهم وأشواقهم» لكنها لا بد من أن تتعالى في الوقت 
نفسه على حاضرهم ومحدودية الرؤى الحاضرة والخيارات المائلةء مثل شجرة 
«أصلها ثابت وفرعها فى السماء». لكن أداء هذا الدور يواجه تحديات عدةء 
أبرزها اضطرار هذا المثقف» بخلاف نظيره الأوروبي» إلى التعايش مع «المثقف» 
التقليدي» ممثلا فى علماء الدين. وفى وقت سابق» كانت المؤسسات التقليدية 
تقبل هذا التعايش» بل وترحب بهء خصوصًا في فترة صعود التيارات العلمانية 
والحاجة إلى المفكر الإسلامي بصفته خط الدفاع الأول عن الفهم التقليدي 
للإسلام. لكن في الآونة الأخيرة» رأينا كيف بدأ بعض علماء السلف يرفضون 
شرعية دور المفكر الإسلامي» ويرون مجرد وجوده خطرًا عظيمًا «أدخله أعداء 
الإسلام من حيث لا نشعر»””*». ويبين هذا أكبر معضلة تواجه مثل هذا المثقف؛ 
وهي أن نجاحه قد يكون انتحارًا. فالثورة الإسلامية في إيران ما كانت لتنجح من 
دون مساهمة مفكرين من أمثال شريعتي وتلامذته الكثر» ومنهم سوروش. لكن 


(57) انظر: «الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ «للجزيرة»: مصطلح «الفكر الإسلامي؛ ليس من 


الشرع.. ولا بد من وضع ضوابط للطرح الفكري؛: الجزيرة (الرياض)» 12/ 8/ 1مفىي: 
http://bit.ly/22enhhS.‏ 


181 


جام die no‏ 
على مقاليد الأمورء وتحول سوروش وأمثاله إلى مهمّشين أو مطاردين؛ وهذا يشير 
إلى قصور بيّن في الدور القيادي لطبقة المفكر في صيغته ته الحالية. 

لاتقل أهمية عن هذه الإشكالية صعوبة حل المعادلة المعقدة التى يواجهها 
«المفكر» الإسلامى فى تجسير الهوة بين الماضى والحاضرء is‏ الأقطاب 
المتنافرة على ساحات الفكر والسياسة. فالمفكر لا يكون مفكرًا إلا إذا أصبح 
عالمي النظرة والجمهوره تمامًا بحسب وصف سعيد. لكنه لا يكون (Loup‏ 
إلا إذا عر عن رؤية متجذرة فى إطار التراث الإسلامى؛ وفوق ذلك امتلك 
القدرة على إشعاع «السلطة الروحية». فيجب أن يضطلع بدور «العالم» والمفكر 
بمعنيهما الحديثين» وأن يكون متجذرًا فى الحداثة» متمكنًا من خطابها فلا يكون 
هناك ما يميزه عن نظيره في المجال العلمي والثقافى الذي ينشط فيه. لكنه لا بد 
من أن يكون «عالمًا» بالمعنى الآخرء أي أن يكون في مقام «آية الله؛ ونظرائه لا 
في المعرفة بالتراث فحسب» لكن بتملك السلطة الدينية أيضًاء والقبول عند العامة 
بهذه الصفة. 

من بين النماذج التي أسلفناء نلحظ تجلي هذه الإشكاليات بدرجات متفاوتة. 
فعندما يتناول بن نبي دور الثقافة» أو شريعتي دور المثقف» أو سوروش الفرق بين 
الدين والمعرفة الدينيةء يتحدث كل منهم كعالم اجتماع محايد يدرس الظواهر 
الاجتماعيةء ولا يهمه عن أي دين يتحدث أو أي مجتمع يحلل. لكن أهمية 
مساهمات هؤلاء لا تأتي من قيمتها العلمية» وهي في الأغلب متواضعة» لكن 
من تأثيرهم في صوغ فهم معاصر للإسلام يساعد في حل المشكلات السياسية 
والاجتماعية الماثلة. 

لكن هناك بين النماذج من اقترب من مثال المثقف «الإسلامي»» Lee‏ 
محنة من يلتصق بالأرض أكثر من اللازم؛ وإشكالية من يحلق بلا مطار يهبط فيه 
شأن العلامة إقبال. فبينما نجد الآخرين تحدّثوا كثيرًا عن دور المثقف المثاليء 
فإن إقبال جسّد عمليًا هذا الدور بهمة وتجرد. وبين كيفية أدائه. صحيح أن علي 
شريعتي دفع حياته ثمئًا للدور الذي طمح إلى أدائه» وليس هناك شك في أن 


182 


الآخرين» مثل الأفغاني وبن نبي كانوا مستعدين لدفع ذلك الثمن أيضًا؛ لكن هناك 
فرق بين المحاولة والنجاح. فعندما تقرأ إقبال» تجد نفسك وجهًا لوجه مع ذلك 


النور السماويء ولا يحتاج المرء إلى أن يكون مؤمئًا حتى يستشعر ذلك الشعاع» 
لأنه يتألق بصفاء في ظلام زماننا هذا. ومن هنا تأتي قيمته وندرته. 


المراجع 


+الفرية 
ابن نبي» مالك. شروط النهضة. ترجمة كامل عمر مسقاوي وعبد الصبور شاهين. 
دمشق: دار الفكر» 1986. 
. مشكلة الثقافة. ترجمة عبد الصبور شاهين. ط 4. دمشق: دار الفكرء 
4 . 


: وجهة العالم الإسلامي. ترجمة عبد الصبور شاهين. دمشق: دار الفكر» 
6 . 


الأفندي» عبد الوهاب. «الشعراء أقدم أجهزة إعلام عرفها العرب». مجلة العربي 
(كانون الأول/ ديسمبر 1976). 
أومليل» على. السلطة الثقافية والسلطة السياسية. بيروت: مركز دراسات الوحدة 


العربية» 1996 . 


الجابري» محمد عابد. تكوين العقل العربي. نقد العقل العربي 1. ط 10. بيروت: 
مركز دراسات الوحدة العربية» 2009. 


الخطيب» سليمان. فلسفة الحضارة عند مالك بن نبى. بيروت: المؤسسة الجامعية 


183 


2- الأجنبية 


Al-Afghänï, Sayyid Jamal Ad-Din. «Lecture on Teaching and Learning.» [Calcutta, 
1882], in: Nikki R. Keddie. 4n islamic Response to Imperialism: Political 
and Religious Writings of Sayyid Jamal Ad-Din «al-Afghänï». Berkely, CA: 
University of California Press, 1983. 


Bakar, Osman. «The Intellectual Impact of American Muslim Scholars on the Muslim 
World, with Special Reference to Southeast Asia.» Center for Muslim-Christian 
Understanding, Georgetown University: June 2003, at: http://bit.ly/1IdMYbN. 


Bariun, Fawzia. «Malik Bennabi and the Intellectual Problems of the Muslim 
Ummah.» The American Journal of Islamic Social Sciences: vol. 9, no. 3, 1992. 


Bayat, Asif (ed.). Post-Islamism: The Changing Faces of Political Islam. New York: 
Oxford University Press, 2013. 


Benda, Julien. The Treason of the Intellectuals. New Brunswick, NJ: Transaction 
Publishers, 2011. 


Breazeale, Daniel & Tom Rockmore (eds.). Fichte $ Vocation of Man: New Interpretive 
and Critical Essays. Albany, NY: SUNY Press, 2013. 


Carlyle, Thomas. On Heroes, Hero-Worship, and the Heroic in History. Hazleton, PA: 
PSU-Hazleton, 2001. 


Conner, Tom. The Dreyfus Affair and the Rise of the French Public Intellectual. 
Jefferson, NC: McFarland, 2014. 


El-Affendi, Abdelwahab. «Hassan Turabi and the Limits of Modern Islamic 
Reformism.» in: Ibrahim Abu-Rabi” (ed.). The Blackwell Companion on 
Contemporary Islamic Thought. Oxford: Blackwell Publishing, 2006. 


. «The People on the Edge: Religious Reform and the Burden of the 
Western Muslim Intellectual.» Harvard Middle Eastern and Islamic Review: vol. 
8, 2009. 


Furedi, Frank. Where Have All the Intellectuals Gone?: Confronting 21" Century 
Philistinism. London: Continuum, 2005. 


Iqbal, Muhammad. The Reconstruction of Religious Thought in Islam. Lahore: Ashraf 
Press, 1968. 


Jacoby, Russell. The Last Intellectuals: American Culture in the Age of Academe. 
New York: Basic Books, 1987. 


184 


Johnson, Paul. Intellectuals. New York: Harper & Row, 1988. 


Pakdaman, Homa. Djamal-el-Din Assad Abadi, dit Afghani. Paris: Maisonneuvre et 
Larose, 1986. 


Posner, Richard. Public Intellectuals: A Study of Decline. Cambridge, MA: Harvard 
University Press, 2001. 


Robbins, Bruce. Secular Vocations: Intellectuals, Professionalism, Culture. London: 
Verso, 1993. 


Sadri, Ahmad. Max Weber $ Sociology of Intellectuals. New York: Oxford University 
Press, 1992. 


Said, Edward W. Representations of the Intellectual: The 1993 Reith Lectures. New 
York: Vintage Books, 1996. 


Shari’ati, Ali. What is to be Done?. Farhang Rajaee (Trans. & ed.). Houston: The 
Institute for Research and Islamic Studies, 1986. 


Sorensen, David R. & Brent E. Kilner (eds.). Thomas Carlyle, On Heroes, Hero- 
Worship, and the Heroic in History. Yale, NH: Yale University Press, 2013. 


Soroush, Abdolkarim. Reason, Freedom and Democracy in Islam: Essential Writings 
of Abdolkarim Soroush. Mahmoud Sadri & Ahmed Sadri (trans. & eds.). Oxford/ 
New York: Oxford University Press, 2000. 


Swartz, David L. Symbolic Power, Politics, and Intellectuals: The Political Sociology 
of Pierre Bourdieu. Chicago, IL: University of Chicago Press, 2013. 


Wadud, Amina. Inside The Gender Jihad: Womens Reform in Islam. Oxford: 
Oneworld Publications, 2006. 


. Qur'an and Woman: Rereading the Sacred Text from a Womans 
Perspective. 2™ ed. Oxford: Oxford University Press, 1999. 


185 




















5 : ss 
e 
se 3 5 ١ 
. i : 
1 Fa 1 


المثقف العربي وقضية الإصلاح الديني 
النور حمد 


تحفل الأدبيات الأكاديمية العربية التى كتبت فى العقود القليلة الماضية بكثير 
المقاربات التى تناولت مسألة المثقف؛ كيف نشأت الظاهرة؟ من هو المثقف؟ 
ما هي مواصفاته؟ ما هو دوره ورسالته؟ ما هي الإشكالات التي تعتور علاقته 
بذاته وبالسلطة وبالمجتمع؟ وتناول هذه القضية كتّاب عرب بارزون» نذكر منهم 
على سبيل المثال لا الحصر: عبد الله العروي» علي حرب» برهان غليون» هشام 
شرابي» عزمي بشارة» علي أومليل» إدوارد سعيد» هادي العلوي» عبد الإله بلقزيزء 
سمير أمين» وخر SDS‏ وآخرون. وقدم هؤلاء مساهمات مقدرة في إضاءة 
جوانب مهمة من هذه المسألة. 

بيد أن على الرغم من الكتابات الثرية التي تناولت هذه القضية المتعددة 
الجوانب» واحتوائها على جهد بحثي وفكري قيم أنار كثيرًا من زواياها المعتمة. 
فإن بعض جوانبها لا يزال يحتاج إلى مزيد من الإضاءة. ويهمنا في هذه الدراسة 
أن نتناول أحد جوانبها الذي نرى أنه لم يُطرق بقدر كاف» وهو الجانب المتعلق 
بالبعد الروحاني في مشروع (أو مشروعات) النهوض العربي» وضرورة انخراط 
المثقف العربي في جدال الإصلاح الديني؛ فالدين» بمعنى البُعد الروحاني المرتبط 
بالأخلاق» كان ولا يزال» مُكوّنًا مركزيًا في مركب الحضارة العربية» وهو مكوّن 
لا غنى البتة عن تفعيله في جهد النهوض والتحديث؛ فبإهمال «المثقفية» العربية 
البُعد الديني» أو «الروحاني»» في مقارباتها النهضوية» بقيت هذه المثقفية غريبة 


187 


عن نفسهاء وعن دورها» وعن مجتمعها. فالتحديث لا يجري بإعادة الاستزراع» 
أي من غير الممكن أن نتملك الحداثة عن طريق نقل أطرها وموجهاتها من تربة 
أجنبية. ولمزيد من الايضاح» لا يمكن تطبيق النموذج الحداثي الغربي من غير 
توطينه وأقلمته في داخل المعطيات التاريخية والثقافية للفضاء العربي العريض. 
فثورة التحديث يجب أن تنبثق من بنية الثقافة التي تقف في مواجهة تحديات 
التحديث, وللثقافة العربية مكوّن روحاني لا يمكن فصله عنها. 

في هذا الصدد» يرى ماكس فيبر أن للحوافز الأخلاقية والدينية دورًا فاعلا في 
سلوك البشرء وفي الحياة الاجتماعية للشعوب. لذلك منح الأولوية في إحداث 
التحولات الاقتصادية والاجتماعية» وهو يقارب السيرورة الألمانية» للعوامل 
الثقافية والدينية. فالثورة الرأسمالية في الغرب» هي في تقديره: ثورة ثقافية في المقام 
الأول؛ استندت إلى الإصلاح البروتستانتي والكالفيني”". وإضافة إلى ذلك» يرى 
برهان غليون أن الجماعة كالفرد؛ فهي لا تستطيع أن تبادر وتعمل وتنهض بأداء 
أي عمل أو مشروع» من دون أن تعرف نفسهاء وتحدد مكانها ودورهاء وشرعية 
وجودهاء بوصفها جماعة مميزة» وأن تدرك من هيء وأن تكون ذانًاء أي إرادة©. 
ويهمنا تحديدًاء فى مقاربة برهان غليون» تأكيده ضرورة أن تعى الجماعة التى تود 
النهوض «شرعية زو دها كجماعة مميز ة1 . فالفضاء العر بى» بمكوّناته كلهاء بقى 
باي مد ان دخ كف الحدفة قر خافن غلويلةمولمة وحن معدت عن 
الفضاء العربي» أو التراث العربي» أو الثقافة العربية» فإننا تتحدث ونحن مدركون» 
بقدر كاف» تنوع هذا الفضاء العريض؛ فهناك بربر ونوبة وسريان وشركس وأكراد 
وزنوج وغيرهم» كما هناك مسلمون ومسيحيون وأيزيديون وصابئة مندائيون ولا 
دينيون وغيرهم. فنحن إنما نستخدم لفظ «العربي» و«العربية» استنادًا إلى المشترك 
الثقافي بين هذا الفئات» وهو مشترك بالغ الضخامة» يملك طاقة وعد ضخمة. 


(1) عيد الرزاق الدوايء فى الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات: حوار الهويات الوطتية فى زمن 
العولمة (الدوحة / ييروت: المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات» 2013)» ص 59. ' 

)2( برهان غليون» اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية (بيروت/ الدار البيضاء: 
المركز الثقافي العربيء 9) ص 28. 

(3) المرجع نفسه. 


يقف هذا الفضاء العربي اليوم على مفترق طرق: إما أن يصنع نموذجه الحداثي 
المتجذر في تراثه المتضمن مكوّنًا روحانيّاء يتمحور بصورة جوهرية في شأن فكرة 
«العدالة»» وفي شأن روح «الجماعية»» وإما أن يدغم ذاته في البنية الفكرية والقيمية 
الغربية التي وصلت بمجمل براديغم الحداثة إلى إعادة إنتاج المظالم وتركيز 
السلطة والثروة في أيدي قلة. ولا يعني هذا أننا نبخس براديغم الحداثة قدره في 
إنجازاته الأخرى الكثيرة المبهرة؛ فإحدى علل براديغم الحداثة الجوهرية هي 
تعميقه نزعة الفردانية المفرطة» فنتج عن ذلك تناقص متنام في الاهتمام بالشأن 
العام وفي الشعور بواجب المشاركة في العملية السياسية» كما في النموذج 
الأميركي» وغيره من نماذج التجارب الديمقراطية الراسخة» ما أتاح للنخب تفتيت 
بنى التعاضد الجماعيء ومن ثم» التلاعب بمصالح الجمهور العريض. 

الحديث عن الروحانية العربية» في تمثلاتها المختلفة» وارتباطها العضوي 
بفكرة العدل؛ وبالجماغية» وتفورها من تسلط الدولة.سمات سماها هادى 
العلوي «اللقاحية». وهذه السمات التي هي» في تقديرناء سمات obus]‏ تصبح» 
وفقًا لرؤية ماكس فيبر» سمات سالبة. فماكس فيبر يرى أن الأنموذج الحداثي 
الرأسمالي الغربي ما كان له أن يخرج من أي بنية ثقافية» أو تجربة تاريخية أخرى» 
في العالم» غير بنية الأنموذج الغربي وتجربته. ولا اعتراض على ما قرره ماكس 
فيبر» لأن تلك هي بنية الحضارة الأوروبية» ولأن ما يتحدث عنه فيبر» هو ما 
تمخضت عنه بالفعل السيرورة التاريخية الأوروبية. غير أن ما جرى لأوروبا ليس 
بالضرورة هو ما ينبغي أن يجري لمناطق أخرى في العالم. فنحن الآن في موقع 
متقدم من السيرورة التاريخية» مقارنة بالنقطة التي بدأت منها أوروباء ما يسمح لنا 
بالإفادة التامة من التجربة الغربية؛ أي إن علينا أن ننطلق فى استحداث أنموذجنا 
من حيث انتهت التجربة الغربية» لا من حيث ابتدأت. ٠‏ 

من الأمور الأساسية التى ألهمت هذه الدراسة» تمسك الجماهير العربية 
بتراثها الروحاني» على الرغم من اتساع نطاق التحديث في حياة المجتمعات 
العربية. ومن يتأمل حقبة مابعد الكولونيالية في الأقطار العربية» يلاحظ أنه كلما 
تباعد الزمن عن الحقبة الاستعمارية» زاد تعلق الجماهير بالدين» وقوي تأثيره في 
العملية السياسية. ودلت صناديق الاقتراع» حيثما جرت انتخابات حرة» على دعم 


189 


هذا الجمهور للأحزاب الإسلامية. وينظر إلى هذه الظاهرة قطاع من المثقفين 
العرب بوصفها تراجعًا وارتدادًا عن مكتسبات الحداثة التي أنجزها اليسار 
العروبي في فترة حكمه الشمولية» التي جرت في العقود الأربعة الأخيرة من القرن 
العشرين. بيد أن الشواهد كلها : تقول إن الجماهير العربية لا ترفض الحداثة؛ بل 
إنهاء كما هو ظاهر أيضّاء تريد أن تدخل إلى الحداثة منطلقة من تراثها وتجربتها 
التاريخية» وخصائص إنسانها وبنيته النفسية. لذلك فإن ما يراه بعضهم تراجعًاء ربما 
ليس سوى محاولة للعودة إلى نقطة مفترق الطرق» حيث أخذت الحداثة ثة العربية 
طريقًا غربيا؛ إما ماركسيًا محرّفًا قليلاء كما في تجارب حكم اليسار العروبي؛ وإما 
ليبراليًا طائفيّاك كما في تجربة الأحزاب التقليدية التي لم د تعئر طويلا؛ بسبب قضاء 
انقلابات اليسار العروبي العسكرية عليها في عدد من البلدان. 

ما تحاول هذه الدراسة قوله هو أن هناك منطقة وسطى لا تزال تحتاج إلى 
مزيد من الحفر. وتقع هذه المنطقة بين توجهين: الأول هو توجه العَلمانيين الذين 
يرون أن السير في إطار التجربة الغربية حتمي» ولا يفصل بين المجتمعات العربيةء 
وتبلور نهضتهاء على النمط الغربي؛ في واقعهم المعيش» سوى عنصر الزمن. أما 
التوجه الثاني فهو توجه الإسلاميين الذين 5 تنحو أكثريتهم منحى شعبويّاء جعلهم 
منحصرين في تكتيكات استغلال العاطفة الدينية للجماهير» من أجل الوصول إلى 
كرسي السلطةء من دون التفات إلى ضرورة تجديد الخطاب الديني» ومن دون 
اهتمام بترفيع الوعي بمتطلبات التحديث» وضرورات التعايش» وقبول التنوع. 
وهذه المنطقة الوسطى هي ما سيتناوله هذا البحث درسًا وتحليلاء ساعيًا إلى سبر 
أغوارها وتوضيح معالمها الأساس» ومستهلًا بتبيان الخصوصيات الثقا فية العربية 
الذاتية التي تندرج فيها. 


أولا: خصوصية الثقافة العربية 


ثمة خصوصية ثقافية عربية لا بد لنا من مراعاتها ونحن نناقش قضيئي 
التحديث والنهضة. وبطبيعة الحال» فإن الخصوصية الثقافية ليست مقصورة على 
الثقافة العربية. ففى دراسة عن العدالة بعنوان «العدالة في حدود ديونطولوجيا 
عربية»» يقول فهمي جدعان إنه اختار أن يحصر مبحثها في الإطار العربي وحده. 
ويذكر جدعان أن هذا الخيار انطوى على «هاجس الدفاع عن هوية خاصة؛؛ هي 


190 


الهوية العربية» وأنه إنما فعل ذلك حرصًا على تحرير المخيال والدماغ العربيين من 
استبداد الفلسفات الأحادية التى تنكر على «الثقافات الخاصة» تميزهاء وفرادتها 


وجمالياتهاء بل وعبقرياتها©. 


تعرض البّعد الروحاني في مركب الحضارة العربية لتهميش مزدوج؟؛ إذ 
تعرض» في شقه الإسلامي تحديداء للتهميش» بسبب التباعد المتنامي بين الفقهاء 
وروح الدين» ومصالح الجماهير» وبسبب اقتراب هؤلاء الفقهاء من السلطة 
الزمنية» حيث أوشك الدين الإسلامي أن يصبح لاهونًا للطغيان» إن لم يكن قد 
أصبح بالفعل. كما تعرض للتهميش من الناحية الثانية من جانب العلمانيين العرب 
الذين أداروا ظهورهم للتراث الروحاني العربي واعتمروا خوذات عقلية غربية. 

تجسدت الروحانية العربية في وقدتها الأولى في البساطة والنزاهة والحرص 
على العدل» ما كان ظاهرًا في حياة النبي وأكابر صحابته في فجر الدعوة» وعبر 
العقود الأولى من دولة المدينة. لكن جذوتها سرعان ما خبت بسبب تحول 
دولة الرسالة إلى إمبراطورية على أيدي الأمويين. ثم انكمشت تمثّلات العدالة 
الاجتماعية للروحانية في نظام الحكم» على بساطتها آنذاك» وأضحت منحصرة» 
إلى حد كبير» في الجيوب المنعزلة التي صنعها المتصوفة ومريدوهم لأنفسهم. 
وتحولت تلك الجيوب إلى اغيتوات»؛ أضحت متهمة بإثارة الجمهور ضد السلطة 
الحاكمة. لذلك كان ضحايا عسف السلطات وتجاوزاتها عبر التاريخ الإسلامي؛ 
هم المتصوفة ومن شاكلهم من المجموعات. 

لا نود أن نبدو هنا كمن يحصر الروحانية العربية في الشق الإسلامي وحده. 
فالثقافة العربية ثقافة مركبة» فيها عناصر أخرى غير إسلامية» يشكلها التصوف 
المسيحي الذي تأسس على فكرة العدل والتعاطف الإنساني» فضلًا عن ديانات 
عربية أخرى تأسست على القيم نفسها . كل ما في الأمر هو أننانستخدم ماجرى في 
السياق الإسلامي مثالاء لا أكثر > بسبب كبر الكتلة الإسلامية في المنطقة العربية» 
والانتشار الواسع جدًا للعقيدة الإسلامية. ANG‏ في جملته و رأبعاده المتشابكة» 
ليس حكرًا على الروحانية الإسلامية وحدها؛ وحين ترتفع الروحانية إلى سبحاتها 


(4) فهمي جدعانء «العدل في حدود ديونطولوجياعربية»» في: مجموعة مؤلفين. ماالعدالة؟: معالجات 
في السياق العربي (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» 64) )»ص 77-76. 


191 


الإنسانية العلياء تتراجع الفروق العقيدية. فالروحانية في هذا المستوى تصبح هي 
القدرة على تحقيق العدالة والمساواة والحرية. وهذا هو نطاق الشراكة الإنسانية 
العميقة الواسع الذي يقع وراء نطاق العقيدة المحدود. وهو نطاق أشارت إليه 
نصوص القرآن الكريم إشارات في غاية الوضوح. إذ تقول الآية: إن الذينَ آمَنُوا 
وَالذِينَ قادُوا وَالتصَارَئْ وَالصابئينَ ‏ من آم بالله ايوم الآخروَعَمل صَالما قلّهُم 
A‏ عند رَبهم وَلَا توف عَلّيهم وَلَا هم يَحرَّنُونَ4 (البقرة: 62). وما جرى 
للروحانية الإسلامية» ولجوهر الفكرة الإسلامية المتمحور حول «العدالة»؛» من 
تحريف وإزاحة عن المقاصد. حتى أوشك الجوهر الإنساني فيها أن يصبح أثرًا 
بعد عين» جرى أيضًا للروحانية المسيحية» وجرى قبلهما للروحانية اليهودية. 
وقد أشار روجيه غارودي De‏ إلى ما جرى من إفراغ للمسيحية وللؤسلام من 
محتواهما الروحاني» ونعني بذلك محتوى العدالة» حين كتب: «تستند المشكلات 
الاقتصادية والسياسيةء في نهاية الأمرء إلى مشكلة الغائية؛ أي إلى مشكلة دينية. فلم 
لم تستجب إلى ذلك الديانات المؤسسية؟ لا الكنيسة المسيطرة لدى المسّيطرين» 
الكنيسة الكاثوليكية» ولا الدين المسيطر لدى المُسَيطّر عليهم» الإسلام؟ لأن كلا 
منهما قد تحالف مع السلطة والثروة. ولم يضع مسلماتها موضع الاتهام. ولأن 
كلا منهما أفرز منذ قرون «لاهوت السيطرة» مقدمًا الله قوة خارجية وعليا تخلق 
الإنسان والعالم والملوك الذين يديرون شؤون الناس» دفعة واحدة وإلى الأبد. 
كل سلطة قد رتبها الله. "ومن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله “؛ هذا ما كتبه 
القديس بولس بعد بضع سنوات من موت يسوع المسيح الذي كانت حياته كلها 
اتهامًا للنظام القائم. كذلك الأمر بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم» 
بسنوات قلائل» عندما استخدم الأمويون السلطة والثروة» وأساءوا استخدامها؛ 
وعندما احتج المسلمون الأتقياء الذين عاشوا حياة الجماعة مع النبي صلى الله 
عليه وسلم والخلفاء الراشدين» على العبث بالرسالة» أجابتهم السلطة: إن كان 
هذا أميركم فلأن الله قد أراده» وعليكم طاعته». 


(5) روجيه غارودي» نحو حرب دينية؟: جدل العصرء ترجمة صياح الجهيم. تقديم ليوناردو بوف 
(بيروت: دار عطية للطباعة والنشرء 1997)» ص 13. 


192 


يمكن القول» بصورة مجملة» تحتمل الاستثناءاتء أن النبوة» في سائر التقاليد 
الإبراهيمية» كانت نقيضًا لسلطة الظلم والطغيان» في سائر تعيناتهما. كما يمكن 
القول» أيضّاء إن الروحانية العربية المتجذرة في التراث ثلاثي الأضلاع (اليهردي 
والمسيحي والإسلامي)» وتفرعاتهاء ونظيراتهاء لم تكن في جوهرها مجرد جسر 
أحوال الناس» وتخليصهم من الظلم» بما كان يسمح به الوضع القائم» من خلال 
ملابسات تاريخ هذه السياقات العقدية التي تتشارك الكثير. وكان النبي إبر اهيم 
قد واجه الحرق على يد الملك النمرود بن كنعان» وواجه عيسى الصلب من لدّن 
الكهنوت اليهودي والسلطات الرومانية» وواجه النبي محمد وأصحابه مؤامرات 
أصحاب السلطة والثروة وعنفهم من مالكي الرقيق من الفُرشيين. وهذا الجانب 
الثوري التحرري في التجرية الدينية التاريخية العربية قليلًا ما يجري تناوله كما 


معلوم أن منطقة الشرق الأوسط هي مهد ثلاث أهم ديانات العالم» هي اليهودية 
والمسيحية والإسلام. وتفرّعت هذه الديانات الثلاث من الشجرة الوبراهيمية. لا 
غرابة إِذّا أن كان هناك كثير من التطابق في رؤيتهاء بل وفي نصوصها. لذلك فإن ما 
يميز الذات العربية التاريخية» عبر ألفيتين من الزمان» هو تمازج الفكر والروحانية 
في بوتقتها الكبيرة» تمازجًا عضويًا. لذلكء. ربما أمكن القولء إن الروحانية 
والمعرفة مرتبطتان بنيويًا في السياق العربي التاريخي. وهو بعد لا يستطيع المثقفون 
العرب الفاعلون اليوم تجاهله› وهم يحاولون الأفتطلاع jose‏ فاعل» يستجيب 
لتحديات النهضة المطلوبة» وسط جمهور لا يزال متمسكا بتراثه الروحاني. لم 
تنفصم عرى هذا الارتباط البنيوي بين الروحانية العربية والمعرفة وسط النخب 
المثقفة المعاصرة إلا حديثًاء نتيجة الهجمة الاستعمارية» وولادة مناهج التعليم 
العربية الحديثة في الحاضنة الغربية. ومن ينظر إلى المفكرين العرب. عبر التاريخ 
العربي» يلاحظ بجلاء شديد ارتباطهم الوثيق تى بالقيم الروحانية؛ ينطبق ذلك» حتى 
على أكثرهم انفتاحًا ذهئيًا وتحررًا من قبضة العقيدة الجامدة. فانفتاح الذهن 
وسيولة الفكر لم يرتبطا في تاريخ الثقافة العربية بالعَلمانية أو الإلحاد؛ أو الابتعاد 
عن الروحانية. ولم يكن ذلك لأن المفكرين العرب والفكر العربي كانوا يعبرون 


193 


الحقبة القروسطية» شأنهم شأن رصفائهم الأوروبيين» إنما لأن بئية الثقافة العربية 
هي بطبيعتها بنية روحانية» يصعب أن يتولد فيها نمط للتفكير الإلحادي أو العَلماني 
القح؛ وحين ينشأ يبقى غريبًا لا تأثير له. 


ثانيًا: اغتراب المثقفية العربية 


كثيرًا ما قام في ذهننا أن المثقفية العربية» ولا نعمّم هناء ممثلة في شقها 
الناشط في الأكاديميا وفي النشرء وفي الملتقيات الفكرية البارزة» ظلت تشيد 
أبنية فكرية مفهومية لواقعنا العربي» وأقدامها منغرسة في تربة السياق الغربي؛ 
أي إنها ظلت تقوم بمحاولة استجلاب تلك البنى se‏ المشيدة برؤية 
غربية» وبأدوات غربية أفرزها سياق تاريخي مختلف. منتزعة إياها من ذلك 
السياق الرؤيوي والتاريخي والسوسيولوجيء وإسقاطها على واقع مختلف جدًا. 
ونرجو ألا تفهم هذه الملاحظة على أن ما يقف وراءها هو عدم الإيمان بعالمية 
الفكر الإنساني» أو الاعتقاد أن الفكر البشري الذي تنتجه ثقافات مختلفة يسير 
بالضرورة في خطوط متوازية؛ لا تلتقي» بسبب تجدّره في بنى تاريخية» وفي 
les‏ ثقافية مختلفة. فالسمات الخاصة بثقافة معينة لا تقف. بالضرورة» حائلا 
بينها وبين الإفادة من الفكر الإنساني في مجموعه. كل ما في الأمر أن المجال 
الثقافي العربي لم يعمل في وجهة الإفادة الحقيقية من ذخائر الفكر الإنساني 
والتجارب الإنسانية» عن طريق توطينهاء وتجسيرها لتصبح في المستوى الذي 
يمكن أن يلتقطها منه الجمهور العريض. فهل ظل الفضاء الثقافي العربي» في 
معظم أحوالهء تابعًا للسلطة؟ تقول شيرين أبو النجا إن هذا الفضاء الثقافي رضي 
أن يبقى دعامة لأبوية مستحدثة» هي السمة الرئيسة للأنظمة القائمة» إضافة إلى 
أداة لنشر فكرة الحداثة الزائفة©)؟ ونعني هنا الحداثة التي تكوّنت في فقاعة تضم 
المثقفين الملتصقين بأنظمة الحكم الشمولية» حيث أصبحت شريحة كبيرة من 
المثقفين» ومن الخبراء» ومن عامة التكنوقراط» بل ومن الكوادر القيادية النقابية 


(6) شيرين أبو النجاء المثقف الانتقالي: من الاستبداد إلى التمرد (القاهرة: روافد للنشر والتوزيع» 
2014(« 12. 


194 


للعمال وصغار الموظفين والفلاحين» جزءًا لا يتجزأ من بنى الأوضاع الحكومية 
القائمة. ويعيش جميع هؤلاء في فقاعة الحداثة الزائفة» متنعمين بثمار التحديث 

مع أهل السلطة» وأهل المال المرتبطين عضويًا بالسلطة وبالشريحة العليا من 
ha‏ وتضم هؤلاء جميعًا حوصلة مغلقة» يمكن أن نصفها بأنها معلقة 
في الهواء» صلتها بالواقع ضعيفة» وليس للجماهير إليها من سبيل أو مدخل. 
وتحولت هذه النخب - في الأغلب - إلى «حصان طروادة» الذي تخترق به قوى 
الهيمنة الأجنبية الحصون الفكرية والأخلاقية» وسائر بُنى المجتمعات العربية 
الإسلامية. ودلّلت ثورات الربيع العربي التي أشعلها الشبان وأسقطوا بها الأنظمة 
على أن المثقفية العربية لا تزال» في مجملهاء تعيش وضعًا برزخيًاء تبدو فيه أقرب 
إلى النخب العربية المعولمة الحاكمة منها إلى الجماهير. 

من جهة المثقفية في أوروباء وقفت وراء تشكلها تجربة تاريخية طويلة في 
صناعة الفكر والتحديث والتنمية الاجتماعية وفي التعليم والممارسة الديمقراطية» 
المرتكزة على الفصل بين السلطات وتوافر الحريات واتساق البنى المجتمعية 
وتجانسها. فهي بهذا الوصف يفصل بينها وبين مثقفيتنا العربية بون كبير» فضلا 
عن تجانس السياق الغربي» بصورة عامة» وتماسكه وتشابه أجزائه وثبات أحواله 
النسبي عبر الأربعمئة عامًا الأخيرة. أما سياقنا العربي المعاصر الذي نحاول التنظير 
له» فهو متفاوت في أخذه بأسباب الحداثة» وتتعايش في داخله حقب مختلفة» 
ومفاهيم شديدة التباين. فأنظمة الحكم وأحو ال الأقطار العربية» الاقتصادية 
والاجتماعية» ظلت مر تهنة لأنظمة ملكية ولدكتاتوريات عسكرية وبُنى عشائرية 
وطائفية ماقبل حداثية ا ق 
«(تتجاور فيه عصور وزمنيات وبشريات مختلفة». 

تعاني المدينة العربية أيضًا من نقص حاد في القدرة على إنتاج الثقافة وإحداث 
التغيير» خصوصًا إِذا قيست بوضع ا RU‏ 
بنيوية خلفتها المدن الغربية وراءها منذ قرون. فلدينا مدن مكتظة بالسكان تشبه 


(7) عبد الله العرويء أزمة المثقفين العرب: تقليدية أم تاريخانية» ترجمة ذوقان قرقوط (بيروت: 
المؤسسة العربية للدراسات والتشرء 1978)» ص 171. 


195 


من حيث المظهر العام باقي المدن الكبرى في العالم. لكن» كما تساءل عيد الله 
العروي: هل تمثل مدننا هذه تجمعات مدينية حقيقية تنتج الثقافة و تحوّل الإنتاج 
الثتقافي إلى سياسات» كما ظلت تفعل حواضر الثقافة في العالم الغربي؟ فالمدينة 
التي تساعد على انتشار العلم واتساع دوائر الاستنارة» كما يرى العروي» ينبغي لها 
أن تكون قد أصبحت مؤسسة تمتلك الحرية والاستقلالية: لها كيان جماعي وروح 
جماعية يضمنان لها استقلالا نسبيًا حيال السلطة المركزية. ثم لا بد من أن تكون 
DA Lie‏ منتجة ومحفزة ة لإنتاج الاختراعات والأفكار» تعمل على ترقية حياة 
الناس الاقتصادية والاجتماعية. فهذا ما يعكس 5 تحولها إلى تجمع سكاني تجاوز 
مرحلة كونه مجرد مركز للسلطة السياسيةء أو السلطة الدينية». وفى تقديرنا أن 
الارتهان للعقائد الدينية الجامدة يمثل سبيًا رئيسَا فى حبس الطاقات الخلاقة فى 
مدننا؛ فلو نظرنا إلى كثير مما يكبل المدن العربيةء لوجدنا أن له منشأ ديني اختلط 
بنى ثقافية رعوية. هنا تتأكد ضرورة الإصلاح الديني» والحرص على بعث جوهر 
الروحانية العربية التي أنجبت أكبر النبوءات تأثيرًا في مجرى التاريخ. 


من زاوية أخرى؛ يرى برهان غليون أن صورة المثقف العربي» بوصفه شريحة 
ثورية قيادية» ليس لها صلة كبيرة بالصورة التي رسمها لينين لطبقة المستخدمين» 
ولا صورة المثقف العضوي التي ابتدعها غرامشي. فهو مجرد وسيط حضاري» 
ينزع إلى تجسيد أنموذج اجتماعي مغاير للأنموذج السائد. فإشكاليته الأساسية 
تتلخص في وعيه الحداثي الذي يجعل دوره منحصرًا في نقض النظام الاجتماعي 
القائم. وكان أن أقامت هذه الإشكالية» في تقديرناء حاجرًا بين المثقف 
وجمهوره الذي ظل يتلقى في المساجد والمدارس» ومن خلال مختلف صور 
التثاقف المجتمعي» خطابًا آخر مغايرًا للخطاب الذي تساهم في تدبيجه شريحة 
كبيرة من المثقفين. وروّجت لهذا الخطاب المغاير قوى الإسلام السياسي التي 


(8) عبد الله العروي» ثقافتنا في ضوء التاريخ» ط 6 (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 
2) ص 145. 

(9) برهان غليون» «تهميش المثقفين ومسألة بناء النخبة القيادية»» في: مجموعة مؤلفين» المثقف 
العربي: همومه وعطاؤه. إعداد أنيس صايغ, ط 2 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية/ عمّان: مؤسسة 
عبد الحميد شومانء 2001)» ص 87. 


بقيت ملتصقة بالجماهير» فأصبح هذا النوع من الخطاب هو المفهوم أكثر» 
والموثوق به أيضًا"©. غير أن مشكلة هذا الخطاب الكبرى هو أنه لم يخترق 
الحوصلة الدينية القديمة المكبلة والمهدرة للطاقات. ليتحوّل إلى طاقة قادرة على 
توليد حالة جديدة من الانطلاق الحضاري. 

يضاف إلى ما تقدم» أن حواضن المثقفية العربية ليست حواضن اجتماعية» 
بقدر ما هي حواضن رسمية حكومية تقع» بصورة أو أخرى» تحت سيطرة السلطة 
السياسية للحكومات التي تحرص حرصًا شديدًا على أن يكون المثقف في صفهاء 
أو ألا يكون أبدًا. لذلك فإن أوضاع المثقفية العربية شديدة الميوعةء ولا تنطبق 
عليها أوضاع المثقفيات الأخرى في السياق الحداثي في الفضاء الأوروبي أو غير 
الأوروبي. 


حاولت المثقفية العربية» بصورة عامة» أن تقفز فوق واقعهاء ففتنت بالفكر 
الغربي» وعلقت بنهاياته» بلا تدبر حصيف وعميقء وبلا قدرة على التوليف 
والمزاوجة. فالأفكار لا تقف في الهواءء إنما تصعد إلى الواجهة مستندة إلى 
دعامات جرى تثبيتها في تربة الواقع السوسيولوجي نفسه. وأشار إلى جانب من 
جوانب هذه الإشكالية» زهير توفيق» في كتابه المثقف والثقافة» حيث تحدث عن 
هامشية النخبة الثقافية العربية» خصوصًا تلك التي تتميز بكونها لا تملك قدرات 
مادية» ولا مرتكزات طائفية وعشائرية لها"". فواقعنا اليوم يقول كي يكون المثقف 


(10) يقول سمير أمين إن الناصرية لم تهيئ الشروط اللازمة من أجل تطوير ذاتهاء ومن ثم فإن 
ستوطها فخ بات الردة والعودة إلى حعظيرة لضو لك قى السار الان . وأن من أهم نواقتص 
التاصرية عملها على إبعاد الشعب المصري من التسييس؛ الأمر الذي أنتج فراعًا ملأه مد الإسلام السياسي» 
ما أدخل الأمور فى مأزق تاريخي مخيف. انظر: سمير أمين» حول الناصرية والشيوعية المصرية (القاهرة: 
دار العين للنشرء 2013): ص 8. 

(11) يرى زهير توفيق أن النخبة الثقافية فى ي عالمنا العربي يتعذر ضبطها مفهوميًا وواقعيّاء فهي أقرب 
ما تكون إلى السيولة المعرفية. هذا في حين نجد التخب الأخرى» السياسية والاقتصادية والعشائرية في 
فضائنا العربي» تملك. في واقعها المعيش» شرعية وجودها وحضورهاء بقدر لا يمكن أن يتوافر للدنخب 
الثقافية. فالنخب الأخرى تتمتع بقدرات مادية ورمزية» جعلتها قادرة على فرض الأمر الواقع؛ بل واستدامته 
إلى حد كبير. وهذه النخب «اللاثقافية»» قادرة أيضًا على تغييب الأسس التاريخية والمنطقية اللازمة لتقض 
الأوضاع التي ثبتتها وتقويضها. فهي تنميزء على النقيض من النخب الثقافية» بقدرتها على إنتاج السلطة - 


197 


فاعلاء لا بد له من أن يمتلك قدرات مالية تمكنه من إيصال صوته. وكي يكتسب 
ذلك لن يجد أمامه إلا خيارين: إما ممالأة السلطة» وإما الارتماء فى الحواضن 
الطائفية والعشائرية» وإما في كليهماء حين تكونان متحدتين؟؛ واتحادهماء اليوم» 
1 ئع جدًا في فضائنا العربي. فالمثقفية العربية» بقيت تستند» بصورة عامة» إلى 
دعامات عشائرية طائفية أو دعامات حكومية» أو كليهما. فهي تقف في كلتا 
الحالتين من طرف خفي» بحكم تكوينها ومرتكزاتها وروافعها التي تحملهاء ضد 
القيم التي تدفع حراك التحديث» في تمثلاته العميقة؛ أي ضد الدمقرطة وضد 
العدالة الاجتماعية. 


في حديثه عن اختلاف السياقات التى توجد فيها المثقفيات» يقول برهان 
غليون» إن النخب البيروقراطية المثقفة في المجتمعات العربية لم تحظّ بما حظي 
به المثقفون في روسيا المتفجرة بثورة الفلاحين. فالمثقف العربي لم تقف وراءه 
قوى اجتماعية متماسكة أو متسقة» ذات مستقبل تاريخي واضح» تسند إليه ظهرها 
في استحداث نمط متكامل للحداثة”'. فهذه الأوضاع التي ظلت تكتنف أحوال 
المثقفين العرب تقتضى خروجًا كليًا عن السياقات السائدة حاليًا. ونرى أن إعادة 
الاعتبار للمكون الروحاني» في آفاقه الإنسانية» بعد طول إهمال له» ربما يكون 
هو الطريق للخروج من زواج المثقفين بالعشائرية والطائفية والسلطة. وهذه عَقَبة 
يقتضي تخطيها إدراكًا عميقًا لإشكاليتهاء كما يتطلب جهدًا كبيرًا. 


Éd الغربي‎ gs في‎ es Ps الذين‎ e مثقفيناء»‎ e 


والثروة» واستدامة السيطرة على المحكومينء واستثمار كدهم ووجودهم نيابة عن الطبقة المسيطرة. أما 
النخب الثقافية فليس لها سلطة مادية تفرض بها سيطرتهاء بل لا تستطيع تسليع منتوجها الثقافي وتسعيره في 
مجتمع لم يصل إلى درجة الطلب للمنتوج الثقافي. كما أن الثقافية» في تصور بعضهمء لا تزال خدمة عامةء 
ورسالة إنسانية يطلع بها من يطلع بها تفانيًا ونبلا ومجانية. لذلك. لا تجد النخب الثقافية» أحياتًاء مخر جا من 
أوضاعها الضاغطة إلا الانخراط في البُنى الاجتماعية الأخرى لتسويغ وجودهاء وتصعيد مطالب الآخرينء 
وإضفاء الشرعية والعقلانية عليها. انظر: زهير توفيق» المثقف والثقافة (عمّان: المؤسسة العربية للدراسات 
والنشر» 2013)» ص 17-11. 
(12) برهان غليون» #تهميش المثقفين ومسألة بناء النخب القيادية؟» في: المثقف العربي: همومه 
وعطاؤه. ص 118-85. 


198 


إن كثيرين منهم ينظرون إلى تاريخنا بازدراء» وإن بقي ذلك الازدراء» في معظم 
الأحيان» ازدراءً صامتًا. وحين يمجد هذا النوع من المثقفين التراث» ويشيرون 
إلى جوانبه العابرة الحقب» القابلة للتفعيل في سياق الحاضرء كلما اقتضى الأمرء 
فإنما يفعلون ذلك مخاتلة. لاعن اقتناع وإيمان حقيقي. وحتى في وسط المدركين 
للاشكالية مناء العارفين بخصائص تاريخنا ذات السمات المستقبلية» فإن صورة 
غدناء الخاص بنا التي بدأت تداعب أخيلتهم» هونًا ماء لا يبدو أنها اتضحت بالقدر 
الكافي بعد. فالمثقفية العربية لا تزال تعاني» بصورة عامة:» آثار حقبة ليست قصيرة» 
اتسمت بالاستلاب المعرفي والاغتراب الروحي والانبتات عن الجذر الحضاري 
والغيبوبة في تلافيف الفكر الغربي. 


ثالًا: نهاية الأيديولوجيا وموت المثقف 


تصاعد في أوروباء منذ ستة عقود تقريا هجوم مكثف على المثقف 
الحدائي؛ إذ هوجمت سلطته التي كان قد اكتسبها منذ عصر التنوير» فتزعزعت 
هيبته وتضعضعت مكانته. ومع سيطرة اقتصاد السوق» وصعود موجة العولمة» 
اكتمل» أو كاد» اختزال دور المثقف في حدود المتخصص أو الخبير أو المستشار 
لهذا المتنفذ أو ذاك”"'. ومهدت لهذه الردة حالة الشك فى دور المثقف. التي 
اعترت الأوساط الفكرية والثقافية الغربية» خصوصًا فى ستيئيات القرن الماضي. 
فثورة الشباب في أيار/ مايو 21968 فجأت المثقفين اليساريين» وأربكت 
حساباتهم» وفي مقدمهم جان بول سارتر. إذاك؛ أخذ التشكيك في دور المثقف 
منعطفه الأكبرء فجاء قولهم إن المثقف في طريقه إلى الاختفاء؛ فالتفكير نيابة عن 
الآخرين سخف يُبطل فكرة المثقف نفسها. وردد ميشيل فوكو» في وقت لاحق» 
الأقوال نفسها التي قال بها سارتر*"©. 


شرع المثقفون في أوروبا يبحثون» منذ سبعينيات القرن الماضي» في 


(13) توفيق» ص 37. 
(14) علي أومليل» السلطة الثقافية والسلطة السياسيةء ط 3 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيةه 
171) ص 249. 


199 


الدور السلبي لسلطان المثقفين الممتد في الفضاء الغربي منذ القرن الثامن 
عش وأسفرت مراجعاتهم النقدية عن أن حفبة الأنوار بسطت جبروت العقل 
الذي أسفر بمرور الزمن عن ظهور الأيديولوجيات الكبرى؛ وهي أيديولوجيات 
حكمت باسمها أنظمة شمو لية'*'». وتزامن ذلك. على المستوى الفلسفي» مع 
زيادة فى في اهتزا الإمان بالإبيستمولوجياء وتراجع سعلوة الفلسفة التي تبلور في 
حاضناتها فكر الحداثة. هذا التراجع هو ما حدا بهبرماس أن يقول إنه آخذ على 
عاتقه المحاولة الموجهة تاريخيًا نحو إعادة تكوّن ماقبل الوضعية الجديدة» من 
خلال نسق يهدف إلى تحليل العلاقة بين المعرفة والمصلحة. ويرى هبرماس 
أن من يتتبع سيرورة انحلال نظرية المعرفة» التي تركت مكانها لنظرية العلمء يمر 
بمراحل منسية من التأمل. فالسير نحو نقطة الانطلاق» وفق نهج استعادي. يُعين؛ 
وفمًا لرؤية هبرماس» على استعادة التجربة المنسية للتأمل؛ كما يرى هبرماس أننا 
حين ننكر التأمل تكون الوضعية©". 

ab‏ القول بموت الأيديولوجيا ونهاية المثقف التي جسدها تخليه عن 
دوره #الرسالي»» إن صح التعبير» على القول بموت الإبيستمولوجيا نفسها. ومن 
ثم» شرعت الفلسفة تبحث عن دروب جديدة في مرحلة اتسمت بانبهام المسالك 
وتشعبها. ومع تراجع الإيمان بالإبيستمولوجياء أو في الأقل» الإيمان بشمولها 
ومطلقية صحة منهجهاء انفتح الباب على مصراعيه للتجريب الفكري. وأحس 
بأزمة التفلسف المستحكمة البراغماتيون الأميركيون أكثر من غيرهم. وكدأبهم» 
gel ge lg AE Lo‏ قبول الأرضاع الراهنة» كما هو واضح 
جد لدى ريتشارد رورتي .غير أن كورنيل ويست الذي يروّج لما يسميه «البراغماتية 
اللاهوتية» «sole (opter dû Le à (Theological Pragmatism)‏ دالي و سالي 
ماك فيغ وغوردون كوفمان» نجده تحايل على منزلق الارتداد إلى قبول الأوضاع 
القائمة» بحشر عبارات عن المُثل الدينية ا ويقول كورنيل ويست 
في هذا الصدد: «ليس من قبيل الصدفة المحض أن ترتفع البراغماتية الأميركية 


(15) المرجع نفسه» ص 249. 
(16) يورغن هابرماسء المعرفة والمصلحة؛ ترجمة حسن صقر (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة/ 
كولونيا: منشورات الجملء 2001)): ص 7. 


200 


مجددًا إلى سطح الحياة الفكرية شمال الأطلسيء في اللحظة الراهنة. فطروحاتها 
الرئيسة الهادفة إلى تجنب الفلسفة القائمة على ”الإبيستمولوجيا' وتوكيدها القوى 
الإنسانية» وتحويلها النماذج المهجورة للتراتبيات الاجتماعية في ضوء المثل 
الدينية والأخلاقية» تجعلها متلائمة» وثيقة الصلة» وجذابة2720. 


عمومًاء يمكن القول إن إشكالات السياق الغربي الخاصة به» التي أظهرها 
دخوله هذا المنعطف المربك» انعكست سلبًا على المثقف في الفضاء العربي» في 
اللحظة التي أخذ يحاول فيها إيجاد مكان له في مواقع قيادة معركة التغيير الشامل. 
فما اعترى المثقفية الغربية والتجربة الغربية التي تدخل مرحلة شيخوختهاء 
انسحب ميكانيكيًا على الفكر العربي؛ وهو لا يزال يمر بفترة اليفاعة في مسار 
نهضته. لذلكء فإن هناك تحديًا كبيرًا يتمثل في امتلاك المثقفية العربية القدرة على 
فرز السياقين الغربي والعربي فرزًا دقيقًا؛ ثم صُنع مزاوجة تأخذ أفضل مكتسبات 
براديغم الحداثة» وتستعيد في الآن ذاته الوعي المفقود بالذات» وبالخصائص 
الحضارية ذات الوعد المستقبلي. وأشار عزمي بشارة إلى ضرورة إيجاد نوع من 
المزاوجة تتلاءم مع هذه اللحظة المفصلية من تاريخ المجتمعات العربية؛ Les à]‏ 
إلى أن ينشأ تيار يجمع بين العدالة الاجتماعية» والديمقراطية الليبرالية السياسية» 
والانتماء الحضاري العربي الإسلامي» فكتب في هذا الصددهء ما نصه: «التيار 
المؤهل للعمل النهضوي» والذي سيثبت بالممارسة إذا كان بمقدوره النهوض 
بهذه الأمةء هو التيار القادر على تجاوز هذه الحدود بين الأيديولوجيات» وأن 
يعود من العروبة الأيديولوجية إلى العروبة الثقافية» ذات الأبعاد السياسية؛ ومن 
الإسلام السياسي» إلى الحضارة العربية الإسلامية» كفضاء حي متطور. ومتفاعل» 
مع الحضارات الأخرى؛ وإلى القيم الكونية القائمة في فكر اليسارء وفي الفكر 
الديمقراطي الليبرالي» وفي الفكر الإسلامي أيضًا»". 


يمثل ما خطه عزمي بشارة هناء في تقديرناء أهم ملامح خريطة الطريق 


Comel West, The American Evasion of Philosophy: A Genealogy of Pragmatism (Madison: (17) 
The University of Wisconsin Press, 1989), p. 4. 


(18) المنصف المرزوقيء ننتصر... أو ننتصر: من أجل الربيع العربي» تقديم عزمي بشارة (تونس: 
الدار المتوسطية للنشرء 2014)» ص 10. 


201 


المطلوبة» لتشكيل هذه الرؤية التوليفية التي تجمع الخيوط الرئيسة لوصفة 
النهوض والانبعاث في السياق العربي الراهن» وليجري؛ من ثمء فتلها في حبل 


واحد منسجم الخيوط. 
مالزد أن عرض ةيغلا Ea N‏ 
فالفكر الديني العربي ب بمختلف روافده؛ يمثل طرفًا له وزن في هذه المعادلة» 


وذلك باحتواثه على العنصر الروحاني المطلوب. غير أن هذا العنصر لا يزال غير 
مفروز بقدر كاف. فهو من جهة. مشوّش عليه بوساطة العَلمانيين الذين يربطونه 
كله بمجافاة العلم» والعقل والعقلانية. وهو مشوّش عليه» من جهة أخرى» 
بوساطة المتدينين التقليديين الذين يربطونه كله بالتصوف خصوضا «الباطنية»» بل 
وبالشعوذة والسحر والإغراق في الغيبيات» والسلبية تجاه قضايا الواقع 


رابعًا: عنصر الروحانية 

أولاء نود أن نعترف أننا نجد صعوبة حقيقية في أن نبلور تعريًا واضححا 
ل «الروحانية». لكن تلك الصعوبة أمر طبيعي في نظرنا. فلو نجحنا فعلًا في 
تعريف «الروحانية»» وهي مشتقة من «الروح»؛ ب 
مشكلات الفكر التي ظلت تحيّر العالم. فقد ورد في القرآن الكريم: وَيَسألوتك 
تن الروح قل الروحٌ من أمر رَبي وَمَا أوتيثّم منّ العلم | لا و 
لذلك» فإن ما سنقوم به لا يتعدى التجوال حول دلالة اللفظ» في ضوء ڌ څلاته 

الفعلية في الواقع» وفي ضوء تراجع أنماط التفكير المادية القحة. 
من إشكالات الحديث عن الروحانية أن المرء ما إن ينطق بهاء حتى يضعه 
الَلمانيون في المتحف» ويمنحوه» من ثم» سقمًا عقليًا خفيضًاء ويحيلوا وعيه كله 
إلى أضابير التاريخ؛ بل ويتحوّل في أذهانهم إلى كائن منقرض. لذلك لا يلبث 
أن يتحول التفاكر في شأن الروحانية معهم» أوتوماتيكيًاء إلى «حوار طرشان». 
فالمشكلة الأكبر هي أن العقل الحدائي العَلماني العربي يمثل في شقّه الأكبر 
نسخة ضحلة» مقارنًا برصيفه الغربي» مع أن الأخير هو منبع ما يمكن أن نسمّيه 
ثر الضحالات «العلموية» التي سادت حقبة الحداثة. وعلى الرغم من أننا نعيش 


202 


في منطقة اشتهرت تاريخيًا بالروحانيات» فإن الحوار في شأن الروحانيات مع 
الغربيين أضحى» بعد نشوء فكر مابعد الحداثة» أيسر كثيرًا من الحوار في شأنها مع 
العلمانيين العربء. المقيمين على علمانية متتصف القرن الماضىء» والمتشبثين» 
في أغلبيتهم: بأنماط الإلحاد الماركسية والتصورات المادية التبسيطية الساذجة. 

تولدت هذه الإشكالية أصلا من ثنائية فكر الحداثة؛ إذ يقول هيوستن سميث 
إنه منذ أن اختار ديكارت أن يمخر بعيدًا عن الذات أو النقس المؤسطرةء أي 
عندما اختار أن يبتعد بتلك النفس عن باقي العالم» حدث غرس للثنائية في تراب 
الإبيستمولوجيا الحديثة؛ وهكذا بقيت في مكانها. فقصة الفلسفة الغربية برمتهاء 
في مرحلتها الحداثية» يمكننا أن نرويهاء اليوم» بوصفها بحمًا مستمرًا عن جسر 
يربط بين العقل وبيئته المحيطة به» والذات والموضوع التي سبق أن باعد بينهما 
ديكارت””*'". ويشبه كين ويلبر وضع الإنسان» وهو يحاول التعرف إلى موضعه 
من الكون» وهو منحصر في الإطار المفهومي لهذه الثنائية» براسم الخريطة الذي 
يتوهم أنه ليس جزءًا GG ge‏ يجعل موضوع الروحانية غير مفهوم لهو 
هذا النمط من التفكير الذي تأسس على المتقابلات المتعارضة (Dichotomies)‏ 
ونحسب أن كثيرين سينزعجون إن تجرأ أحد على القول إن الجدل الذي شغلت به 
الفلسفة الغربية نفسها في شأن أيهما كان سابقًا: المادة أم الوعي؟ كان» في جملته» 
جدلا عقيمًا . والسبب ببساطة شديدة أن فهم الكون لا ُبنىء بالضرورة» على حسم 
تلك الإشكالية؛ ففهم الظاهرة الوجودية بصورة كلية غير ممكن أصلا. وغرور 
العقل الحداثي الذي انتقده الغربيون أنفسهم» هو الذي أوهم الكائن البشري 
الذي لا يمتّل وجوده كله» مقارنًا بعمر الكون» أكثر مما تستغرقه طرفة العين» أن 
فى وسعه امتلاك معارف يقينية فى شأن الظاهرة الوجودية. فعمر الكون يقاس 
بمليارات السنين. لكن» على الرغم من أن وجود الإنسان منذ مبتدثه لا يمثل شيئًا 
0 ن البشري ظل يتوهم أن في وسعه أن يحيط 
فهمًا بهذا القديم اللامتناهي فحقيقة الأمرء أن أفضل ما يمكننا فعله في مضمار 
فهم العالم هو فهمه في إطار الب التي نوجد فيهاء وفمًا لطاقتنا وحاجتنا. 


Huston Smith, Beyond the Postmodern Mind, 3" ed. (Wheaton: Quest Books, 2003), p. 209. (19) 
Ken Wilber, À Brief History of Everything, 2% ed. (Boston, MA: Shambala, 2001). (20) 


203 


تتلخص إذا الروحانية التي نعنيها في الارتباط بالمطلق «سمّه ما شئت 
الذي انبثق منه جوهر الضميرء وفكرة الأخلاق والعدل والإحساس ا 
تجاه الآخر والتعاطف مع الآخرء إلى درجة بذل النفس من أجلهء والإحساس 
العميق بتكامل الذات والآخر والمحيط. ويرى هيوستن سميث أن العقل الحديث 
Ji‏ مسطح» لأنه يأخذ تعليماته من العلوم الطبيعية. والعلوم الطبيعيةء بطبيعتهاء 
لا تستطيع أن تضع يدها على مكوّن التجربة الذي يشكل؛ بصورة محددة جدّاء 
منظومات القيم”2. 

لا تزال الروحانية من حيث هي إطار حاكم للعلاقة بالكون باقية وسط 
الشعوب التي لم يعصف بها كليّاء cle‏ براديغم الحداثة. ويرى عزمي بشارة 
أن كلود ليفيى شتراوس كان أحد أبرز الذين حرّروا الأنثروبولوجيا من قيمها 
لسارت وعززوا ذلك الأشرويواوجيا القافة اي" تقول باختلاف الحضارات 

تنوّعها بمنأى عن التراتبية التي وضعتها المركزية الأوروبية» وبنتها على ما تراه 
oi de oo‏ يفي شتراوس الأكاديميا الغربية إلى 
صلفها المعيب ورعونتها التي جعلتها تضع الحضارات البشرية في تراتبية أعطت 
لنفسها فيها موقع الصدارة. 

إن الكشوف العلمية والتقدم التقاني لا يجعلان وحدهماء من حضارة ماء 
رأس سهم الخليقة. فالتمدن غير مرتبط شرطيًا بالتقدم المادي» كم أن اللاتمدن 
ليس مرتبطًا شرطيًا بالتأخر المادي. فربما تجد شعبًا متقدمًا ماديا وتقانياء لكنه غير 
متمدن. وربما تجد شعبًا متأخرًا ماديا وتقانيّاء لكنه متمدن. لذلك دعا شتراوس 
الغربيين إلى تغيبر نظرتهم إلى البشر الذين ظلوا يطلقون عليهم أوصافاء مثل 
بدائيين ومتوحشين» وأن يتعلموا منهم «التوسط والاعتدال والأدب والخشوع»» 
تجاه الظاهرة الكونية» فكتب» فى هذا المنحى» ما نصه: «إن ”الإنسانوية“ المرتبة 
ترتيتا جيدًا لا تبدأ بنفسهاء إنما تعيد الأمور إلى أماكنها حيث ينبغي؛ إنها تضع 
العالم قبل الحياة» وتضع الحياة قبل الإنسان» كما تضع احترام الآخرين قبل حب 

Smith, p. 205. (21) 

ist 25e (22)‏ الدين والعَلمانية في سياق تاريخي» 3 ج (بيروت/ الدوحة: المركز العربي 


للأبحاث ودراسة السياسات» 2013)» ج 1» ص 111. 


204 


الذات. وهذاهو الدرس الذي يدرسنا إياه البشر الذين نسميهم بدائيين ومتوحشين؟؛ 
إنه درس التوسط والاعتدال» والأدب والخشوع في مواجهة عالم سبق كاثناتناء 
وسيبقى من بعدها]!23, 


خامسًا: القطيعة مع الدين 


تتمثل أهمية لفت النظر إلى ضرورة استعادة البعد الروحاني للمثقفية العربية 
في منحيين مهمين: : المنحى الأول هو إعادة اللحمة بين المثقف والجمهور؛ إذ 
عانت صلة المثقفين العرب بالجمهور ضعفًا شديدّاء بسبب انصراف المثقف 
عن الدين؛ مع أن الدين شاغل يومي» بل لحظي للجمهور. أما المنحى الآخر 
فهو بذل الجهد في تخليق المزاوجة التي تولف بين خلاصات الفكر العالمي 
وتجاربه» وتمزجها بالمكوّن الإسلامي المحليء التي لا تصبح ممكنة إلا إذا كان 
هذا العنصر الروحانى حاضرًا فيها؛ إذ لا مستقبل لتفلسف أو تنظير فكري لا ينظر 
بجدية كافية إلى دور الدين والروحانية في التاريخ» وحاجة الناس غير الخافية 
إليهما في الحاضر. فالمثقفية العربية» وسائر المنظومة القيادية في حراك التغيير» 
لن تكون فاعلة أو منضبطة» ولن تمنح النموذج الملهم للجماهيرء ما لم تستند إلى 
رؤية كونية روحانية تجعل في يدها ميزانًا أخلاقيًا فاعلا. 


بقي الدين ll bus Le‏ على الرغم من قرون ممتدة من الكشوف 
العلمية» ومن التنظير المكثف للإلحاد. وليس خافيًا أن الجمهور العربي يستمع 
لمن يتحدثون في الدين» ويصغي إليهم بجدية وباهتمام» بل وبخشوع» على الرغم 
من بؤس ما تُدلي به أغلبيتهم؛ أكثر كثيرّاء من استماعه المثقفين الذين يتحدثون في 
الفكر والثقافة. فالمفكر الحصيف هو ذلك المفكر الذي لا يتعالى على الواقع» 
إنما يسير نحو أهدافه في مضمار التغيير من خلال متشكلات الواقع المحيط به. 
لذلك لن يستطيع مثقف عربي» ليس في لغته وسمته ومسلكه وأسلوب حياته ما 
يدل على علاقة ما بالدين» أن يغير شيئًا في الواقع العربيء لا اليوم» ولا غدًا. 


Morris Berman, The Reenchantment of the Worid (Ithaca, NY: Cornell University Press, (23) 
1984), p. 235. 


205 


لو استمرت القطيعة الصامتة بين المثقفين ومجال الدين على الحالة التي 
جيعايها الآن فإن الفجوة القائمة أصلا بين المثقف العربي الحداثي وجمهوره 
ستتسع أكثر» ما يزيد من قلة فاعليته ومقدار تأثيره في محيطه. يضاف إلى ذلك» أن 
هذا الفراغ ستملؤه الحركات الإسلامية المسلحة المتطرفة» كما سلفت الإشارة. 
وقد بدأت تباشير ملئه بوساطتهاء الآن» واضحة للعيان. فالنظر إلى العولمة» 
وإعادة صوغها لدور المثقف. وإبعاده تمامًا من وظيفته التاريخية»؛ خصوصًا فى 
بنية ثقافتنا العربية الإسلامية» بوصفه قَدَرّا لا فكاك منه. أمر بالغ الخطورة. كما 
لا يقل عنه خطرًا احتضان المثقفين العرب مقاربات «مابعد الحداثة»» خصوصًا 
المتعلقة منها ب «موت المثقف». وانهاية حقبة الأيديولوجيا»» وانتزاعها من سياق 
التجربة الغربية» وسحبها ميكانيكيًا على واقعنا العربى. فسحب الإشكالية التى 
وُجدت تاريخيًا في السياق الغربي على الحالة العربية الراهئة» من دون مراعاة 
الخصوصيات البنيوية لواقعنا العربي الراهنء لن ينتج منه إلا «تأبيد التبعية وترجمة 
المركزية الغربية إلى أشد حالاتها فجاجة» وتقويض الدور التاريخي للمثقف 
العربي المعاصرء والإجهاز على حداثة لم تتحقق بعد»**. 


سادسًا: المثقفية في الإسلام 


یری زهير توفيق أن المثقف ظل مفهومًا وموضوعًا غربيًا بامتياز» فهو سليل 
طبقة «الإكليروس» التي احتكرت القراءة والكتابة وتفسير الكتاب المقدس”5©. 
ويرى عزمي بشارة أن المصطلح بحمولته الحدائية الراهنة أطلق استعاديًا على 
مثقفي الثورة الفرنسية» في حين كانوا في حقيقة أمرهم فلاسفة ومفكرين©©. فهي 
كلمة جرى إطلاقها بأثر رجعي» فأسبغت» مع أن نحتها جرى في مرحلة متأخرة 
من التاريخ» على وظيفة مورست في فترة سابقة» وفي بنية عقلية وأخلاقية» وفي 
سياق حضاري وسوسيو-اقتصادي مختلف جدًا. ولى نظونا] إلى السياق العربي 
الإسلامي لوظيفة المثقف» لرأينا نسلا مختلفًا من أنسال المثقفيات؛ إذ نشأت 


(24) توفيق» ص 37. 
(25) المرجع نفسه» ص 29. 
(26) عزمي بشارة» #عن المثقف والثورة؛؛ تبين» العدد 4 (2013)» ص 142-127. 


206 


وهى مرتبطة بالاستقامة وبسمو الأخلاق» بمعنى العمل على إحقاق الحقوق 
وإقامة العدل. فوظيفتها لا تستند إلى المعرفة فحسبء إنما تعتمد أيضًاء بقدر 
أكبر» على تجسيد المعرفة وتقديم الأنموذج. لذلك فإن خط تطورها المستقبليء 
وإن تقاطع مع المثقفية الغربية وغيرها من المثقفيات» هنا أو هناك» إلا أنه يظل ذا 
سمات فارقة تميزه من غيره. 


لا يعني امتلاك المعرفة التي تُدخل المرء في عداد من يسمّون «مثقفين»» 
بالضرورة» امتلاكًا تلقائيًا للقدرة على التزام الموقف الأخلاقي الصحيح؛ ونعني 
بذلك الموقف الملتزم جانب «الصالح العام؛» أينما تبدى ذاك الصالح العام أو 
الموقف المناصر للمستضعفين. ولا يستطيع المثقف أن يلتزم الموقف الأخلاقي 
المطلوب التزامًا صارمّاء ما لم يكن لوعيه بعد روحاني. ولانعني بالوعي الروحاني 
«بنية الوعي الدينية» التقليدية المعروفة» إنما الإدراك العميق لما يشير إليه كين 
ويلبرء بالعودة إلى وحدة الذات والموضوع؛ أي التعامل مع الوجود بوصفه 
كلا متكاملاء واستيقان تلك النظرة بالقدر الذي ينتفي معه الخوف على الرزق» 
والخوف من الحاكم. فالشجاعة الوجودية» التي تحلى بها عبر التاريخ مناصرو 
الضعفاء» ومن قاوموا الظلم والاستبدادء باختلاف عقائدهم وثقافاتهم ورؤاهم 
الكونية» استندت إلى هذا المستوى من الوعي القائم على هذه المعرفة العميقة. 
فمستوى هذه الروحانية عابرٌ للديانات. ويقتضي هذا القول أن هذا المستوى من 
الروحانية شيء» وأن الديانة المؤسسية شيء آخر. 


يتحول هذا النوع من المعرفة» في المعيشة اليومية» إلى تجسيد عملي. 
للترابط والتكامل العضوي بين الأنا والآخر والبيئة المحيطة؛ وبهذا الوعي الذي 
يجسر الهوة المتوهمة بين عالمى الغيب والشهادة تتحقق الشجاعة الوجودية؛ 
وهكذا يصبح المثقف نافعًا لنفسه ومجتمعه. فآفتا المثقف اللتان تسلبانه سلطته 
المعرفية هما الخوف والطمع؛ وبالتحرر من الخوف والطمع يصبح الإصغاء 
ومن ثم الانصياع إلى صوت الضمير الإنساني الحي الذي لا يموت المركز في 
أنفس البشر ممكنًا؛ ذلك الصوت الذي ظل يسمعه وينصاع إليه عبر التاريخ» 


207 


من يسميهم هادي العلوي المتحققين ب «التاو»”؛ إذ ظل هذا الصوت ينبشق 
في منعطفات التاريخ المختلفة» من أعماق نفوس هذا العيار من المثقفين» على 

خلاصة القول هنا إن سعة المعرفة ليست مرادفة» بالضرورة للأخلاق أو 
القيمة أو الفضيلة أو القدرة على اتخاذ الموقف الصحيح في الوقت الصحيح. بل 
ثمة عنصر آخر يحول المعرفة إلى طاقة فاعلة فى مناصرة الحق والعدل؛ إنه عنصر 
الروحانية. 


سابعًا: مركزية فكرة العدل والمساواة 


الفكرة المركزية التي جاء بها الإسلام» قبل ستة أو سبعة قرون من بداية عصر 
النهضة في أوروباء هي فكرة العدل والمساواة. فمنذ أيام السيد المسيح» وتبشيره 
بالعدل والمساواةء لم يضع أحد من العالمين هذه الفكرة حيز التنفيذ العملي» 
وجعلها الهدف المركزي للسلطة الحاكمةء مثلما فعل نبي الإسلام العظيم. ومثل 
مجيء الإسلام ثورة غير مسبوقة في التاريخ» من حيث الرؤية والعزم ويذل الجهد 
للانتصاف للمظلومين» واستنهاض همم الناس كلهم لدفع الظلم. لذلك كان أول 
الذين آمنوا بالدعوةء ولقوا جراء إيمانهم بها عننّاء بلغ حد الموت تحت التعذيب» 
هم مستعبدو مكة ومستعبداتها؛ أمثال: بلال وصهيب وسمية وياسر. لذلك فإن 
المثقفية في البنية السوسيولوجية للحضارة العربية الإسلامية مرتبطة عضويًا 
بنصرة المستضعفين» وهو ما تضمنه النص القرآني: و 
سَبيل الله وَالمُستَضعَفِينَ منّ الرجّال وَالنسَاء وَالولدَان الذينَ به قولوت رَبِنَا أخرجتًا 
من هذه القريّة ية الظالم اهلها وَاجعَل لتا من لدنكَ ولا وَاجعَل لتا من لدنكَ د . 
(النساء: 75(. 


)27( يقول التاويون الصيئيون عن موقفهم من الدولة» التي تملك المال والسلطة: «يوم تتويج 
الإمبراطور, أو تنصيب الوزراء الثلاثة» لا تبعث هدية من اليشب» » أو فصيلا من أربعة خيولء بل الزم مكانك» 
وأظهر ”التاو“٠.‏ انظر: لاو تسوه كتاب التاو. ترجمة ودراسة هادي العلوي (بيروت: دار الكنوز الأدبية» 
5 ) ص 114. 


208 


هناك سمة رئيسة لم يتتبه ! إليها الدارسون كثيرًاء وهي أن نبي الإسلام اختار أن 
يعيش بين الناس نبيًا مُصلححاء رافضًا أن يكون ملكاء كما جرت عادة من ينتصرون 
حربًا على أعدائهم» في تلك العصور. فقد ورد في أحاديث النبي الكريم قوله: 
« خیرت بین آن أكون نیا ملکاء أو نيا عبدًاء فاخترت أن أكون نبا عبدًا'؛ وهنا بيت 
القصيد في جوهر الفكرة الإسلامية الكبيرة» أو لتَقّل الفكرة الإبراهيمية» في تجلييها 
المسيحى والإسلامى. فعظمة البعثة المحمدية إنما تكمن أساسًا في أن النبوءة فيها 
تعالت وتسامت على المُلك؛ وكان ذلك معنى جديدًا تمامًا في وقته. فما من أحد 
أحكم سيطرته حربًا على مجريات الأوضاع في العالم القديم» إلا وجعل من نفسه 
ملكا أو إمبراطورًا. وكان أنبياء بني إسرائيل ملوكاء بل إن فكرة النبوة ارتبطت عند 
اليهود بالملك. لذلك مثّل مجيء نبي الإسلام فتحا جديدًاء غير مسبوق في وجهة 
التحرير. وفي هذا المعنى» أشار محمود محمد طه إلى تطوير الإسلام للتجربة 
«اليهودية - المسيحية! (هدناوة:ط0-م0دة)» بقوله: «ولما جاء المسيح. ابن مريم» 
le Li‏ رفضه اليهود لأنهم كانوا يتتظرونه نبيًا ملكا. ولقد جاء نبيناء فخير أن 
يكون نبيًا ملكاء أو نبيًا عبدّاء فاختار أن يكون نبيًا عبدّاء فانتصر بذلك للمستضعفين 
في الأرض. وبدأ عهدٌ الجمهورية» من يومئذء يُدال له من عهد المَلكية. ولكنء 
لما كان الوقت لا يزال مبكرًا لمجيء ء عهد الجمهورية» مجيئًا عمليّا فقد قال نبينا: 
الخلافة بعدي ثلاثون سنة» ثم تصير ملكا عضوضًا' .. وهكذا كانت» على عهد 
معاوية». 


أشار هادي العلوي إلى الملمح العربي القديم المتمثل في نفور العرب من 
المُلك» ومن الوقوع تحت سلطة الدولة (أي دولة)ء حين قال إن الأعراب» حين 
ارتدواء لم يرتدوا تنصلا من الدين الذي اعتنقوه على يد النبي» إنما ارتدوا خشية 
أن يصبح أبو بكرء بعد وفاة النبي: ملكا عليهم. فهم بطبيعتهم «اللقاحية» - كما 
يصفهم العلوي - ظلوا ينفرون من البقاء تحت سلطة الملوك وسلطة الدولة» 
في صيغتها الملوكية أو الإمبراطورية» السائدة آنذاك. ويرى العلوي أن أغلبيتهم 


(28) محمود محمد طهه الديباجة: آخر ما كتبه الأستاذ محمود محمد طه من داخل المعتقلء الثلاثاء 
0 أكتوبر 1984 (القاهرة: مكتبة الفكرة الجمهوريةء 1985( في: http://bit.1y/1QMFOI8.‏ 


209 


الغالبة» رجعت إلى الدين من تلقاء نفسهاء حين تأكدت أن أبا بكر لن يصبح ملكا 
عليهم» إنما خليفة» وأن الحال ستبقى كما كانت في عهد النبي. ويستدل العلوي 
على صحة رؤيته هذه أنهم لو ارتدوا تراجعًا مبدئيًا عن الدين» لما استطاع جيش 
المدينة الصغيرء حينذاك أن يعيدهم إلى حظيرة الإسلام» وهم بتلك الأعداد 
الكبيرة المنتشرة ة في أرجاء الجزيرة العربية الشاسعة 492 


يختلف السياق العربي الإسلامي جذريًا عن السياق الغربي» لأن مركزيته 
تمحورت» جوهريّاء منذ البعئة المحمدية» حول محو الظلم وإقامة العدل 
والمساواة. لذلك فإن آفاق تطور هذا السياق العربي الإسلامي لا بد من أن 
تكون؛ بالضرورة» مختلفة جذريًاء في حاضره اليوم» عن السياق الغربي. وحققيقة 
الأمر أن مفهوم المثقف. بالمعنى الذي تشكل به في السياق الغربي» لا يوجد له 
معادل موضوعي في السياق العربي الإسلامي؛ مع أن له فيه شبيهًا. غير أن هذا 
الشبیه» مغاير له في بنيته وطبيعته وأفقه ومداه. فمفهوم المثقف في السياق العربي 
2 الذي انداحت سيرورته عبر مراحل التاريخ الإسلامي وسائر تقلباتهاء 

نبئق أصلا من نور النبوة» ومركزيتها الأخلاقية ووظيفتها الاجتماعية في إقامة 
0 والوقوف في وجه الظلم Ads‏ فدور النبي في الماضي يشبه دور 
المثقف. في السياق الحدائي القائم اليوم» لكنه لا يشبهه في الوقت نفسه. ٠‏ ومن 
ل ا 
من الأنموذج النبوي» وحياة أبي بكر وعمرء مرتكرًا أخلاقيًا لها؛ بمعنى أنموذج 
الحاكم المستقيم والمصلح والزاهد في الامتيازات. فالخوارج» مثلاء جعلوا 
السمة الرئيسة للحاكم المسلم هي سمة العدل» وإلا فليس للحاكم غير العزل**. 


ععرماء إن تمودع المثعلية في ,مستوى البوةة ومستوى من اقتدوا بأنموذج 
النبوة بإحسان» كان تطورًا لأوضاع قديمة جدّاء في سياقات متشابهة» تناسلت 
وتسلسلت عبر مراحل التاريخ المختلفة» وتعود في جذرها إلى نشأة القيم ونشأة 

(29) خالد سليمان وحيدر جواد. هادي العلوي: حوار الحاضر والمستقبل (دمشق: دار الطليعة 
الجديدة, 1999)» ص 57. 


(30) انظر: عبد الجواد ياسين» السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ» ط 3 
(بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 2008)» ص 87-82. 


210 


الضمير. وللمثقفية العربية جذر نافذ إلى تربة الحس الأخلاقي» لذلك كانت 
ذات سمات «رسالية4» ولا نعنى هنا «دينية» كما في الدين المؤسسى» إنما نعنى 
«رسالية»» بمعنى الالتزام الأخلاقي والإنساني الذي جسّده الأنموذج النبوي الذي 
انفصلت فيه السلطة عن الملك وامتيازاته» وتمحور حول فكرة العدل. لذلك» 
لا مندوحة للمثقفية العربية» من أن تجد مرتكزها الخاص بهاء على هذا النحو. 
ومرتكزها الخاص بها له بعد روحاني؛ فجمهورها كان ولا يزال» ولن ينفك 
مرتبطا بهذا البعد الروحاني. وحين تنطلق المثقفية العربية من هذا الجذر فإن 
جمهورها سيستمع إليها. 

لا يعني ما تقدم أن في إمكان جميع المثقفين أن يكونوا قديسين حاملين 
أكفانهم في أيديهم» جاهزين للشهادة على نطع الحاكم الظالم؛ إنما المقصود ألا 
تزيغ أبصارهم عن هذا الميزان المتجذّر في روحانيتهم كما هي زائغة اليوم. وأقل 
ما يمكن أن يتحقق إنجازه فى هذا السياق» هو التفكير في تجذير سلطة المثقف 
في الأنموذج النبوي» بوصف النبي داعية تغيير» وداعية عدل ومساواة وإحقاق 
للحقوق ونصير للمظلومين. ويوجب هذا على المثقف العربي عدم ممالأة 
الحكام؛ أو الانحياز إلى صفهم بالكلية. وبطبيعة الحال» ليست مطالب الجماهير 
كلها صحيحة من حيث المحتوى أو التوقيت السليم» في أي حال. لذلك لا 
بد من النقد المتوازن الحصيف؛ الأمر الذي أشار إليه عزمي بشارة حين قال إن 
الموقف النقدي يكون ضد الحاكم» كما يمكن أن يكون» في بعض الأحوال» ضد 


الثورة عليه NL‏ 
خاتمة 


ثمة جملة من الأمور تقتضي منا نظرًا جديدًاء ونحن نعبّر منعطفنا التاريخي 
الراهن. ومن بين هذه الأمور أن من بيننا من ينظر إلى التجربة الغربية» في جملتهاء 
على أنها تجربة تحررية: ينبغي أن نحتذي بها. وما من شك في أن للتجربة الغربية 
مزايا لا نُحصىء وأنها أحدثت نقلة في تطوير الحياة البشرية بصورة غير مسبوقة. 
كما أنها رسخت. من الناحية النظرية؛ في الأقل» قيم الحرية والديمقراطية وحقوق 


(1) بشارة» اعن المثقف والثورةة» ص 142-127. 


211 


الإنسان. ومع ذلك فإن هذه التجربة المتمثلة ببرادیغم حقبة الحداثة تجربة مليئة 
بالثقوب التي يلزم الوقوف النقدي الجدي المبصر عندها. 


ففي هذه الحقبة» جرى استعمار قارات العالم ونهب ثرواتها وتعطيل نموها. 
وأجمعت كبرى الديمقراطيات في الغرب على استعمار العالم وإخضاعه للغرب 
بحد السلاح. فمنظومة القيم الحداثية بعت على DR Se‏ 
وتلك مشكلة تدل على خلل جوهري. كما ا ستّرّق في هذه الحقبة الأفارقة 
بالملايين» ورّخَلوا قسرًا مصفدين بالسلاسل والأغلال ليصبحوا قوة عاملة» على 
أساس السخرة» في مزارع الرأسمالية الصاعدة» ولإنجاز مشروعات البنى التحتية 
الحدائية في أوروبا والأميركتين. كما شهدت هذه الحقبة» في منتصف القرن 
العشرين» ظهور النازية والفاشية اللتين أوشكتا أن تطبقا على أوروبا كلهاء بل على 
العالم بأسره؛ إذ حرجت الفاشية والنازية من عباءة براديغم الحداثة الغربية نفسها. 
أما في الو لايات المتحدة» فعانى المثقفون اليساريون في النصف الأول من 
القرن العشرين» وبعض من نصفه الثاني» من عملية ضخمة أشبهت عمليات «صيد 
الساحرات» في بدايات العصور الحديثة فى أوروباء وقفت وراءها «المكارثية» 
كما لا بد من ملاحظة أن على الرغم من الممارسة الديمقراطية المطوّلة والدساتير 
وصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» ظل الفصل العنصري ممارسًا حتى 
لت ا و ل ل ايا 
البيضاء» ولا يزال ممارسًا في إسرائيل التي لا ت تستحي أن تقول إنها دولة لليهود. 
والشاهد أن فكر الحداثة وتطبيقاته وخلاصاته النهائية تة- تقتضى أن ينأى المثقفون 
العرب عن نزعة القبول الإجمالية لهاء وهي نزعة نرى أنها بقيت بين ظهرانينا 
أطول مما ينبغي. وأما ما اتضح حديئًا من تبلور الرأسمالية المتوحشة المعولمة» 
وتكريس السلطة والثروة في أيدي القلة» وبصورة متزايدة» والعسكرة» ووصول 
السلاح إلى كل ركن قصي من أركان الأرضء فتؤكد كلها ضرورة أن يختط 
المثقف العربي رؤية للتغير لها صلة عضوية بخصائص البنية الثقافية والاجتماعية 
التي استحدثت الشخصية الحضارية للفضاء العربي» وهي بنية مثل فيها الدين 
والروحانية ركنا ركيئًا. 


212 


مثلما ورد فى مواطن مختلفة من هذه الدراسةء فإن هناك قطيعة كبيرة بين 
المثقف العريى» is‏ المثقف الحداثي» والدين؛ ما أحدث فجوة كبيرة 
بينه وبين الجمهور. وسبب هذه العزلة هو نشوء المثقفية العربية المعاصرة في 
حوصلة نخبوية منعزلة» ظلت إلى حد كبير معلقة في الهواء. أما سبب انفصال 
هذه الحوصلة» فهو انبتاتها عن جذورها الحضارية. وتبنيها نهج التغيير الفوقي 
الآتي من أعلى» المتعالي على القوى المتشكلة في الواقع» والمتجاهل دينامياتها. 
ودلّل على هذا الانفصال» بقوة» ميل النخب المثقفة إلى خدمة الأنظمة الشمولية» 
وانصرافها عن الجمهور. وهكذا نشأ الفراغ الذي ملأه الإسلاميون» لكن من غير 
مشروع إسلامي حقيقي. كما أن انسحاب هذه النخب من ساحة الدين؛ ظنًا أن 
الدين ظاهرة مصيرها الموت الطبيعي» وترك ساحتها بالكلية لمن يسمون «رجال 
الدين»» عطل مسارات الإصلاح الديني» وعوّق حركة الإمساك بروح الحداثة 
بل ويشكلها أيضًا. وكما يقول هادي العلوي» فإن جمهورنا لا يتحرك بالفكر 
المترجم؛ تقول الشواهد كلها إن جمهورنا يتحرك بالدين» لكن أي دين ذاك الذي 
ينبغي أن يقف وراء حركته؟ هذا هو السؤال الذي ظل بحاجة إلى إجابة. ولا يبدو 
أن المثقف العربي» حتى الآنء منشغل بالاتيان بتلك الإجابة. 


المثقفية في فضائنا العربي الإسلامي كانت قائمة منذ القدم» مع أن المصطلح 
بصورته الحداثية ومدلولاته جاءت لاحقًا. فإن كانت المثقفية تعني المعرفة» وفي 
الوقت نفسه وقوفها في وجه القوى الغاشمة» وعملها على نصرة المظلومين» 
فإن المشقفية العربية تجد أصلها الأصيل» في الأنموذج النبوي عند كل من عيسى 
ومحمد ومن اهتدوا بجوهر هديهما. وهذا الجذر بهذا المعنى مجهول» حتى لدى 
المثقفين بشقيهم؛ المتعلمن المستغرب منهم» والآخر المعادي له» المنخرط في 
حراك الإسلام السياسي. | 


الجذر الغني الواعد المتمثل في رؤية نبي الإسلام ورؤية نبي المسيحيةء 
وغيرهما من الأنبياء» للسلطة ودورهاء يحتاج منا إلى إعادة استنطاق وإعادة تأويل 
وإعادة تمثل في واقعنا الراهن» وفق رؤية جديدة تتسم أكثر بالعمق» والسيولة 
والحيوية؛ ونعني بذلك رؤية تعيد للمثقف دوره الرسالي المفترض,» بعد أن تعيده 


213 


من غربته» ثم تردم الهوة الفاصلة بينه وبين جمهوره؛ ليصبح «الرائد الذي لا 
يكذب أهله)ء كما يقول المثل العربي. ولا يصح إطلاقًا أن تنحصر مهمة المثقف 
في دور الخبير والمستشار الذي يلقي كلمته؛ ثم يمضي في حال سبيله تاركًا إياها 
معلقة في الهواء» بز عم أن هذه هي حدود مهمته. فهذا المحق التام للمثقف ودوره 
هو ما انتهى إليه براديغم الحداثة ة الذي مكن قلة قليلة من الهيمنة المطلقة على 
مصائر الناس. وهذه القلة تصر على أن يبقى المثقف تحت سيطرتهاء لأنها تعرف 
أن ممارسته دوره الرسالي تعني» في النهاية» خروج السلطة من يدهاء لتصبح في 
يد الكثرة. 


اشتخل بعض المثقفين العرب بقضية التجديد الديني» محاولين اقتحام النطاق 
الذي بقي حكرًا على الفقهاء ء قرونًا طويلة. ومن هؤلاء. على سبيل المثال» محمود 
محمد طه ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد وهادي العلوي وطه عبد الرحمن» 
ومحمد أبو القاسم حاج حمد وعزمي بشارة. .. وغيرهم. . ويتضح من أعمال هؤلاء 
جميعًا أن هناك تيرًا في قيد التبلورء وأنه خرج بالفعل من دوامة التنازع التي لفت 
الفكر العربي فترة طويلة» فی ثنائية ديني/ عَلماني. . وإن قضية الإصلاح الديني 
ا ا ار في 


انتظارهم» مهما طال الزمن. 
1- العربية 
أبو النجاء شيرين. المثقف الانتقالي: من الاستبداد إلى التمرد. القاهرة: روافد 
للنشر والتوزيع» 2014. 


أمين» سمير. حول الناصرية والشيوعية المصرية. القاهرة: دار العين للنشرء 2013. 
أومليل» علي. السلطة الثقافية والسلطة السياسية. ط 3. بيروت: مركز دراسات 
الوحدة العربيةء 2011. 


214 


بشارة» عزمي. الدين والعَلمانية في سياق تاريخي. 3 ج. بيروت/ الدوحة: المركز 

العربى للأبحاث ودراسة السياسات» 2013. 
. «عن المثقف والثورة». تبين. العدد 4 (2013). 

تسوء لاو. كتاب التاو. ترجمة ودراسة هادي العلوي. بيروت: دار الكنوز الأدبية» 
1995. 
2013. 

جدعان» فهمى. «العدل فى حدود ديونطولوجيا عربية». في: مجموعة مؤلفين. 
ما العدالة؟: معالحات فى السياق العربى. الدوحة/ بيروت: المركز العربي 
للأبحاث ودراسة السياسات» 2014. 

الدواي» عبد الرزاق. في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات: حوار الهويات 
الوطنية في زمن العولمة. الدوحة / بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة 
السياسات» 2013. 

سليمان» خالد وحيدر جواد. هادي العلوي: حوار الحاضر والمستقبل. دمشق: 
دار الطليعة الجديدة» 1999 . 

طه» محمود محمد. الديباجة: آخر ما كتبه الأستاذ محمود محمد طه من داخل 
المعتقلء الثلاثاء 0 أكتوبر 1984. القاهرة: مكتبة الفكرة الجمهورية» 
5 فى: http://bit.ly/1QMFO18.‏ 

العروي» عبد الله. أزمة المثقفين العرب: تقليدية أم تاريخانية. ترجمة ذوقان 
قرقوط. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشرء 1978. 

. ثقافتنا في ضوء التاريخ. ط 6. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي 

العربى» 2002. 


غارودي» روجيه. نحو حرب دينية؟: جدل العصر. ترجمة صياح الجهيم. تقديم 
ليوناردو بوف. بيروت: دار عطية للطباعة والنشرء 1997. 


215 


غليون» برهان. اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية. بيروت/ 
الدار البيضاء: المركز الثقافى العربى» 2009. 

. «تهميش المثقفين ومسألة بناء النخبة القيادية». في: مجموعة مؤلفين. 
المثقف العربي: همومه وعطاؤه. إعداد أنيس صايغ. ط 2. بيروت: مركز 
دراسات الوحدة العربية» وعمّان: مؤسسة عبد الحميد شومان» 2001. 

المرزوقي. المنصف. ننتصر... أو ننتصر: من أجل الربيع العربي. تقديم عزمي 
بشارة. تونس: الدار المتوسطية للنشرء 2014. 

هابرماس» يورغن. المعرفة والمصلحة. ترجمة حسن صقر. القاهرة: المجلس 
الأعلى للثقافة/ كولونيا: منشورات الجمل؛ 2001. 


ياسين» عبد الجواد. السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ. 
ط 3. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 2008. 


٣ € 
الاجنبية‎ -2 
Berman, Morris. The Reenchantment of the World. \haca, NY: Cornell University 
Press, 1984. 
Smith, Huston. Beyond the Postmodern Mind. 3% ed. Wheaton: Quest Books, 2003. 


Wilber, Ken. À Brief History of Everything. 2“ ed. Boston, MA: Shambala, 2001. 


West, Cornel. The American Evasion of Philosophy: A Genealogy of Pragmatism. 
Madison: The University of Wisconsin Press, 1989. 


216 


الفصل السابع 


المثقف والسلطة غير الشرعية 
دور الفقهاء في دعم الاستبيداد 


عبد اللطيف المتدين 


على الرغم من حداثة مفهوم «المثقف»» فإن تعلقّه بالظواهر الاجتماعية 
والسياسية ومايكع في شانهامن er le hs JUS‏ من المثقفين حلقات في 
سلسلة متصلة من الوعي المتدافع الذي يبني بعضه بعضًاء ويتجدد في كل عصرء 
من دون أن تنقطع أواصره التاريخية. فالماضي الثقافي جزء من الفكر المعاصرء 
وإن حرص بعض المجددين على تجاوز القديم» والقطع مع تبعاته» والتخلص من 
رموزه. 

إذ نناقش دور الفقهاء في تحديد مفهوم السلطة في الإسلام فإننا تَعَد 
الفقيه أبرز المثقفين مكانة» وأكثرهم حظوة وحضورًا في المجالات السياسية 
والاجتماعية» في المجتمعات التي يمثل الدين فيها أهم عناصر الهوية. ويما 
أن للفقهاء هذه المكانة» كان الخلفاء والأمراء والولاة يحرصون على تقريبهم 
واستمالتهم» ؛ للاستفادة من التبريرات التي يقدمونهاء والمشروعية التي يمنحونها 
لهم» واستخدامهم في استصدار فتاوى تيسر لهم اتخاذ | إجراءات» قد لا LS‏ 
الرعية بالرضا والترحاب. ومن هنا كان للفتاوى الصادرة عنهم تأثير بيّن في الحياة 


217 


السياسية» من خلال امتثال جانب كبير من الرعية وميلهاء ولو ظاهريّاء إلى تبني 
وجهة نظر السلطان. عندما تُبررها فتاوى صادرة عن فقهاء مُقَربين إليه. 


نتج من الصراعات السياسية التي بدأت في آخر عصر الراشدين بروز آليات 
جديدة لتداول السلطة» كالوراثة والإكراه على البيعة والخروج على الحاكم. 
وبانتشار الفتوحات اتسعت الإمبراطورية الإسلامية» فعجزت السلطة المركزيةء 
نتيجة اضطرابات سياسية» عن بسط سيطرتها على أطراف الإمبراطورية كلهاء 
فكت cs ee Es‏ إمارات الاستيلاء واتسعت إلى أن جرى الاستيلاء 
على الخلافة نفسها. ورافق هذا الوضع السياسي المضطرب ظهور قوى سياسية 
وعسكرية جديدة» ترى في التغلب الوسيلة الأسهل لتداول السلطة. كما أفتى 
فقهاء مُقّربون من السلطة المُتقاية بوجوب الخضوع لمن تغلب» درءًا لفتنة وحقكا 
للدماء. وانعكست الأزمات السياسية الناتجة من التغلب على أداء السلطة نفسهاء 
فف أداؤعاء ail‏ يت الخلقاء والنتلاطين عن النظر فى مالم از 
مكتفين بخدمة أغراضهم الخاصة. 

تعالج هذه الدراسة إشكالية ذات بُعدين: يتعلق الأول بموقف الفقهاء من 
تداول السلطة وتولي الحكم بطرائق غير شرعية» وعلاقة ذلك بمفاهيم مثل 
الضرورة والمصلحة واتقاء الفتنة» ويتعلق الثاني بموقف الفقهاء من إزاحة الحاكم 
عن منصبه لإخلاله ببنود الأمر المعقود له أو لانتفاء الشرعية عنه» وتكون إزاحته 
بالتظاهر والاحتجاج أو بالثورة عليه؛ أو بطرائق أ 


ُعالج إشكالية التولي والتخلي من خلال مستويين: مستوى تأسيسي جعل فيه 
بعض الفقهاء التغلب والوراثة وسيلتين مشروعتين للتولي» نمثل لهم بالماوردي» 
الشافعي المذهب» وأبي يعلى الفراء» الحنبلي المذهب؛ فكلاهما عايش فترات 
الاضطراب في التاريخ العربي الإسلامي» وراوح موقفيهما بين قبول التغلب أمرًا 
واقعًا تبرره مصلحة قائمة وضرورة معتبرة» والتردد في رفضه بصفتها تعديًا على 
حق الرعية في الاختيار. ونتناول في المستوى الثاني اجتهادات فقهية معاصرة في 
مسألة الخروج على الحاكم» لمناسبة ما يُعرف بالربيع العربي؟ ثم نبحث في أوجه 
التقاطع بين المستويين. 


أولّا: المثقف الجامح 
من الاجتهاد الفقهي إلى التغلب المعرفي 


مكنت مركزية المعرفة الدينية في المجال السياسي العربي الإسلامي الفقهاءً 
من احتلال مكهانة كبيرة في الحياة السياسية» اضطلعوا من خلالها بدور مفصّلي 
في إضفاء الشرعية على الحاكم أو نزعها عنه. لذا كان لبعض الفقهاء دور مهم 
في نقل التغلب من فعل غير شرعي إلى فعل مشروع؛ إذا استجمع شروطا معينةء 
ثم إلى مُواضّعة من غير شروط. وفي كثير من الأحيان» كانت الرعية مستعدة 
لقبول المتغلب ومناصرته» لرغبتها في الاستقرار أكثر من حاجتها إلى الشورى» 
ولما يقتضيه ذلك من مواجهة عسكرية مع مغتصبي السلطة. وقامت مجموعة 
من الفقهاء بتبرير فعل التغلب وإضفاء الشرعية على الخارجين على AL‏ من 
خلال تكييف الفتوى والتعلل بحالة الضرورة» متغاضين عن النصوص الشرعية 
التي تدعو إلى مناهضة الظالم» ومبرزين النصوص التي تدعو إلى الصبر والطاعة» 
واضعين بذلك اللبئّات الأولى للتغلب المعرفي. 


عرفت فترة القرنين الرابع والخامس الهجريين اهتمام الفقهاء بالتأليف 
في السياسة؛ فكانوا يبحثون عن دور للمشاركة في تقديم حلول للمشكلات 
الاجتماعية والسياسية» فيكتبون الكتب ويودعونها نصائحهم واجتهاداتهم 
ويهدونها السلاطين والأمراء. كان ذلك شاهدًا على إرادة جماعية لمثقفي العصر 
في وضع عقد سياسي جديد» يمهد للخروج من الأزمات التي يتخبط فيها الحكمين 
الأموي والعباسى. وكان الداعى إلى التأليف يجري أحيانًا بحافز من السلطة 
نفسهاء حيث شجع المعتصم الفقهاء على الرد على المعتزلة والشيعة والخوارج» 
بما تعنيه تلك الردود من الخوض في مناقشات سياسية عن الإمامة والأحقية فيهاء 
والفنة والمعينيب فنها sui Less‏ بالله الفقهاة إلى الردغلى الناطنة وذخضن 
مزاعم انتمائهم الفاطمي» وأغدق العطايا على الفقهاء الذين استجابوا لدعوته. 
فألف الغزالي فضائح الباطنية» وألف البغدادي القّرق بين الفرّق وألف الباقلاني 
كشف الأسرار. 


انتشرت حركة ثقافية فكرية ذات طابع حجاجي وجدالي نتج منها التأليف في 


219 


علوم ومجالات مختلفة» كان من أبرزها التأليف في الفكر السياسي وأدب النصيحة. 
وصار لدينا اعتقاد أن فترات الأزمة هي أخصب فترات التأليف في التاريخ العربي 
الإسلامي. فعلى الرغم من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية» عرفت 
فترة حكم العباسيين غزارة في التأليف منقطعة النظير. وشهدت القرون من القرن 
الرابع إلى القرن السادس الهجري ظهور كثير من أعلام الفكر من شعراء ولغويين 
وفقهاء ومؤرخين وفلاسفة. لكن هل عَبِرَ التأليف السياسي عن ردة فعل إيجابية 
تجاه هذه الأوضاع» أم أنه سعى إلى تبريرها والقبول بها؟ 


- الماوردي والتغلب: من التحذير إلى التبرير 


ولد الماوردي في البصرة في عام 364ه وعاش فيها فترة» : ثم انتقل إلى 
بغداد عاصمة الخلافة العياسية. وكان الماوردي على اطلاع كبير بالحديث 
والفقه وأصوله. وألف في ذلك مؤلفات كثيرة على مذهب الشافعي أهمها كتاب 
الحاوي وكتاب es}‏ الذي اختصر فيه مذهب الشافعي تلبية لرغبة الخليفة القادر 
بالله. وكان بحكم قُربه من الخليفة القادر بالله وبوريثه من بعده» القائم بأمر ea‏ 
وكرية أيضامن السلاطيق البونهيين: .ذا رة كبيرة د بشؤون الحكم وأحواله. فقام 
بوساطات عدة بين السلاطين البويهيين» وتَقَلبَ في بعض مناصب الدولة» كان 
أبرزّها توليه القضاء في مناطق مختلفة حتى لُقبٌ بأقضى القضاة. 


يرى الماوردي أن الإمامة عقد كسائر العقود التي تقوم على الاختيار 
والبيعة. وتنعقد أيضًا بولاية العهد التي انعقد الإجماع على جوازها ووقع الاتفاق 
على صحتها مستندًا في ذلك إلى سلوكين يرى أن المسلمين «عملوا بهما ولم 
يتناكروهما»”©؛ أحذهما أن أبا بكر «عهد بها إلى عمر فأثبت المسلمون إمامته 
بعده». ولا يفرق الماوردي هنا بين عهد أبي بكر لعمر الذي كان عبارة عن ترشيح 
ونصيحة غير مُلزمة وغير مرتبطة ببيعة» وعهد معاوية ليزيد الذي جرى بوساطة 
البيعة. فهو يحكي وقوع الإجماع على جواز ذلك» من دون أن يبين صورة هذا 


(1) أبو الحسن علي بن محمد الماورديء الأحكام السلطانية والولايات الدينية (القاهرة: دار الفكرء 
3 ) ص 9. 


الإجماع ونوعه وطريقة وقوعه وممن وقع. في حين أن عددًا كبيرًا من الفقهاء 
لا يرى صحة العهد حين يكون بمعنى التنصيب» حيث يميز بين العهد بمعنى 
الترشيح والعهد الذي يجري ببيعة أهل الحل والعقد أو عموم الناس. فالترشيح 
ليس تَصبًا ولا َصاء ولو كان كذلك لكان أبو بكر هو أول خليفة يتولى بالنص وقد 
رشّحه النبى لإمامة الصلاة» فكان فى ذلك إشارة إلى أهليته لتولى مُهمات أخرى 
دينية أو سياسية قياسًا على أهليته لإمامة الصلاة. : 


أما السلوك الثانى الذي يستند إليه الماوردي فهو ما رُوي عن عمر بن الخطاب 
أنه «عَهِدَ بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها»» وحيث اختلاف 
«عهد» أبي بكر عن «عهد» عمرء فإن هذا يعني أن الإجماع الذي يتحدث عنه 
الماوردي لم يقع على صورة واحدة أو على شيء واحد. فأبو بكر عهد بالخلافة 
به هو الإجماع الواقع على شيء متحد أو أشياء متماثلة لا مختلفة. ثم إن الإجماع 
الذي يُعقد على وجه له دليل كدليل الشورى هو أولى بالتقديم والاتباع من وجه 
هو مجردٌ اجتهاد. 


حتى إذا تأملنا طريقة الترشيح كما جرت على يد أبي بكر وعمر وجدناها 
لا تخرج في حقيقتها عن الشورى لأنها مجردٌ اقتراح لا تنصيب. وعلى الرغم 
من أن أبا يعلى الفراء» وهو من أبرز من كتب في فقه الإمامة» جارى الماوردي 
في ما ذهب إليه في أحكامه السلطانية» كما سنرى في وقت لاحقء فإنه تنبه إلى 
هذا الخلط حين قرر أن عهدّ عمر لغيره «ليس بعقد للإمامة» بدليل أنه لو كان 
عقدًا لها لأفضى ذلك إلى اجتماع إمامين في عصر واحد». كما أن ما جرى من 
معاوية ليزيد لم يكن ترشيحًا له وتقديمّاء لكنه كان بيعة مأخوذة له بالإكراه على أنه 
الخليفة من بعد أبيه» وهذا العمل ليس بإجماع ES AN‏ مُخالف لما جرت عليه 
العادة» ليس بمسبوق من أبي بكر أو عمر أو غيرهما في تاريخ الإسلام. وبدأت 
عادة توريث السلطة مع معاوية حين جعلها في calé‏ فتواتر العمل بها مع توالي 


(2) محمد بن الحسين أبو يعلى cl‏ الأحكام السلطانية (بيروت: دار الكتب العلميةء 1983( 
ص 25. 


221 


خلفاء بني أمية وبني العباس» إلى أن أجمعوا عليها وفرضوها على الرعية طريقة 
واحدة ووحيدة لتداول السلطة. وهذا هو الإجماع الذي يمكن الحديث عنه في 
الموضوع. 

حين يستدل الماوردي ب «إجماع» أبي بكر وعمر فإنه يستدل بأمور لم 
يفعلها هذان الراشدان. فلم يَثيْت أن أخذ عمر البيعة لأحد من الستة؛ بل ترك الأمر 
للاختيار والشورىء وكذا أبو بكر لم يُكره الصحابة على قبول عمرء بل بسط عمر 
يده للمبايعة بعد وفاة أبي بكر لا قبلها. وحتى إذا اختار المسلمون خليفة خارج 
ستة الشورى الذين اقترحهم عمر وهو على فراش الموت. فإن الخليفة الجديد 
ستكون له كامل الشرعية لأنه جاء طبقًا لإعمال مبدأ الشورى وهي أصل من أصول 
الدين» لا طبًا لرغبة عمر بن الخطاب. أما إذا تطابقت رغبة عمر مع رغبة أهل 
الحل والعقد ففي ذلك تأييد لرغبة عمر التي ينبغي ألا تتقدم على نص الشورى أو 
تخالقّه. وحتى إذا كان حصر عدد المرشحين لمنصب الخلافة فى ستة أفراد هو 
اجتهاد من اجتهادات عمرء فإنه ينبغي ألا يكتسب صفة الإلزام لأنه مرتبط بإنشاء 
السلطة وبنائها وهي عملية بالغة الأهمية في تكوين المجتمعات السياسية» لأن 
بها تكون الشرعية أو لا تكون. والطاعة الواجبة لأوامر السلطة ونواهيها مشروطة 
بحصول الحاكم على الشرعية لأن الطاعة المشروعة لا تكون لسلطة غير شرعية. 

جعل الماوردي ولاية العهد وتوريثٌ الحكم وسيلة مشروعة من وسائل 
تداول السلطة إلى جانب الشورى والاختيارء إذ إن الإمامة عنده «تنعقد من 
وجهين: أحدهما باختيار أهل الحل والعقدء والثاني بعقد الإمام من قبل»”. 
وهو واثق من شرعية هذه الوسيلة لكونه يستعمل كلمتي (عقد) و(تنعقد) للدلالة 
على أنها ليست مجرد ترشيح. والواقع أنه لو كان في توريث العهد اختيار حقيقي 
من أهل الحل والعقد لما لزمت هذه الثنائية. أكثر منه أن الماوردي أجاز تنصيب 
الإمام ولي عهده دونما حاجة إلى استشارة أحد من أهل الاختيار. فإذا اختار الإمام 
ولي عهده الذي ليس من أصوله أو فروعه؛ وبايعه بنفسه مُنمَردًا من غير رضا أهل 
الحل والعقد, فإن الماوردي يرى بيعبّه منعقدة من دون الحاجة إلى رضا أحد. لأن 


)3( الماوردي. الأحكام السلطانيةء ص 6. 


222 


Les ant Ge os 00 Eat 22 Les Lo in‏ الماوردي شرط الرضا والاختيار 
تعطيلا تامًا. والمعروف أن البيعة تكون من أهل الاختيار أو من عموم الناسء فإذا 
لم يعد الماوردي رضا هؤلاء فلا مجال للحديث عن البيعة عندما يكون المَبايعٌ هو 
الإمام والمبايعٌ بولاية العهد هو أحد من أصحابه أو عشيرته. فتنصيب ولي العهد 
بهذه الطريقة جائز عنده» بشرط ألا يكون ولي العهد والدا للإمام أو من ولده. أما 

إن كان من أصوله أو فروعه؛ ففي تنصيبه ثلاثة ثهُ أقوال أَُورَدَها الماوردي كالآتي: 


- الأول: لا يجوز للإمام أن ينفرد بعقد البيعة لولده ولا لوالده حتى يشاور فيه 
أهل الاختيار (المشاورة). 


- الثانى: يجوز له ذلك من دون حاجة إلى مشورة أحد وهو صاحب الأمر 
كله (من دون مشاورة). 


- الثالث: يجوز له أن ينفرد بعقد البيعة لوالده. ولا يجوز أن ينفرد بها لولده 
(المشاورة في الولد لا الوالد). 


لا يصرح الماوردي برأيه في هذه المسألة على أهميتها ولا يرجح رأيًا من 
هذه الآراء الثلاثة» مع أننا نستطيع توقع القول الأقرب إلى مذهبه في الإمامة©. 
والواقع أن مثل هذا الحياد إنما يدل على صعوبة اتخاذه موقفًا ما والتصريح به» 
وهو في مقام دقيق من مقامات العلاقة مع السلطان. فقد كان عليه أن يحسب 
حسابًا للبويهيين وهو سفيرهمء وللخلفاء العباسيين وهو من رعاياهم المُقَربين. 
كان عليه أن يُرضي الطرفين يسكوته عما قد يُغضب أحدّهماء لذا امتلأت كتاباته 
السياسية بالمسكوت عنه والاضطراب المتأرجح بين الاجتهاد الفقهي والاجتهاد 
السيافى : 

سي 


(4) المرجع نفسه» ص 9. 

(5) الغالب أن الماوردي يكتفي بعرض الأقوال المختلفة في مسألة من المسائل من دون أن يصرح 
برأيه فيها. ومن تلك المسائل التي ظلّت معلقة ولا نعرف موقفه منها على وجه التحديد نذكر أنه: لا يصرح 
برأيه في عدد من تنعقد بهم البيعة؛ ولا يصرح برأيه في إمامة المفضول مع أنه يظهر من خلال سياق الكلام أنه 
يجوّزها ولا يرى فيها بأسَاء ولاايصرح برأيه في انعقاد الإمامة لمن تَفَردَ بشروطهاء هل بالاختيار أم من دونه. 


223 


إن إجازة ولاية العهد من دون الحاجة إلى الشورى والرضا يعد سابقة في 
الاجتهاد السياسي. فهو يُعطل عمل أهل الحل والعقد تعطيلا تامّاء بل وينفى حق 
الرعية في الاختيار ليصبح إسنادٌ السلطة محصورًا في دائرة مغلقة يملكها الخليفة 
وحده. فإن كان الخليفة قد وصل إلى السلطة بالتغلب والاستيلاءء فإن الماوردي 
يضع هذه الآلية بين يديه لتّمَكنّه من المحافظة على حكمه بتوريثه لمتغلب آخر. 
فإن كان من آل بيته زمه التشاور مع أهل الحل والعقد في بعض الحالات» أما إن 
كان من غير أهل بيته فلا يلرَّمُهِ أن يتشاور مع أحد» بل يختار منفردًا من سيحكم 
الناس من بعده. أما الرعية التي لا ترى في هذه الطريقة عدلا أو شورى» فليس 
أمامها للتعبير عن اختيارها إلا استخدام القوة للخروج على المتغلب المستيد. 
ومن لم يجد قوة لمناهضة الاستبداد اكتفى بالدعوة إلى الصبر تجنيًا للفرقة وإراقة 
الدماء. 


إن حديث الماوردي عن ولاية العهد حديث مضطرب. فهو تارة يعدها 
ذات أثر قوي في الانعقاد. لكونها تنشئ مركرًا شرعيًا وسياسيا هو الإمامةء وتارة 
ge vas dl Les ag 5‏ الاب وی اا مرد و ج بل إنه يجيز 
أن د تُؤخذ البيعة لولي العهد والخليفةٌ العاهدٌ لا يزال في قيد الحياة. ua‏ 
لم تحدث في زمن الصحابة الذين يستندٌ الماوردي إلى أفعالهم في بناء نظريته في 
الإمامة. فالبيعة لعمر ولعثمان لم تتحققا إلا بعد وفاة العاهد لكل منهما. ثم يعود 
الماوردي في موضع آخر إلى التنصيص على أن الاختيار يكون بعد وفاة العاهد لا 
قبله . كما يجوز للخليفة» في نظره أن يَعَهدٌ إلى اثنين أو أكثرء «فيختارٌ أهلّ الاختيار 
أحدهماء بعد موته» فإن عمر جعلها في ستة». وهذا تخليط وتجويز لا تكاد تستقيم 
معه نظريثّه في الإمامة أو تثبتٌ على حال”». وما يدل على هشاشة البناء النظري 


(6) المرجع نفسه. ص 12-11. ولعل الإمام الجويني» الفقيه الشافعي» كان يقصد إلى هذا التخليط 
والالتباس لدى الماوردي حين علق على كتابه معتقدًا أنه #احتوى كثيرًا من النقول مع خبط كثير في النقل 
وتخليط وإفراط وتفريط (..) ثم لم يكن في تأليفه وتصنيفه على بصيرة. لم يتميز له المظنون عن المعلوم 
والتبست عليه مسالك الظنون بمدارك العلوم وإنما جر هذه الشكاية نظري في كتاب لبعض المتأخرين 
مترجم بالأحكام السلطانية مشتمل على حكاية المذاهب ورواية الآراء والمطالب من غير دراية وهداية (..) 
وإنما مضمون الكتاب نقل مقالات عن جهل وعماية . وشرما فيه وهو الأمر المعضل الذي يعسر تلافيه سياقه - 


224 


للأحكام السلطانية وأنها أحكام تجويزتؤ ؤدي إلى الوقوع في مهالك» أن الماوردي 
أعطى الخليفة حق اختيار أهل الحل والعقد الذين سيعقدون لولي عهده بالخلافة 
بعد موته» ما يعني أن الخليفة سيختار من أهل الاختيار من يضمن موافقتهم على 
cas‏ مُبعدًا بذلك كل منافس على السلطة كما أعطى الماوردي للخلفية ما ليس 
للخليفة في سبيل أن يضع نظرية للإمامة تُمنع بها الفتن ود تحقن بها الدماء. 


إن تقسيم الماوردي وسائل تداول السلطة قسمين: العهد والاختيار» هو 
تقسيم مُبتدّع لم يحصل عليه إجماع من الفقهاء كما يُكرر في مؤلفاته باستمرار. 
والماوردي نفسه لا يحترم هذا التقسيم» فهو تارة يشترط لصحة ولاية العهد حصول 
الرضا والاختيار من أهل الحل والعقدء ويّرى العهدّ تارة أخرى مجرد ترشيح لا 
يحتاج إلى موافقة أهل الحل والعقد. إن هذا الاضطراب لا يظهر فحسب في 
الأحكام السلطانية الذي ألفه في عام 445ه إنما أيضًا في كتابه نصيحة الملوك 
الذي ألّفْه عشرين عامًا قبل ذلك. وأول ما يلحظه قارئ هذين المؤلفين أن أسلوب 
الماوردي انتقل بصفة ملحوظة من الشدة إلى اللين» ومن الحزم إلى التساهل. فهو 
عندما يتحدث عن ولاية العهد في الأحكام السلطانية يدافع عنها ويتحمس لهاء 
غير أنه عندما كتب نصيحة الملوك قبل ذلك كان متوجسًا من المهالك والمفاسد 
المترتبة عن ولاية العهد. 


أثر موقع الماوردي من بنية السلطة في موقفه منهاء لذلك نجده مضطربًا 
في تكييفه ولاية العهد حائرًا بين القول بالاختيار والشورى وقطع الطريق على 
التأويلات المنتقصة من هذا الأصل الديني والسياسي» والخضوع لقوة ا 
خوفًا من بطشه. لكنه حسم أمره وقطع حيرته فجعل ولاية العهد طريقة مقبو À‏ 
ل 
تارة أخرى» كما فعل معظم فقهاء التغلب. وكان الماوردي يرى في العهد للومام 
محاولة لتفادي ما قد ينشأعن شغور منصب الإمام من فتن واضطرابات؛ بعد موت 
= المظنون والمعلوم على منهاج واحد. وهذا يؤدي إلى ارتباك المسالك والتباس اليقين بالحدوس؟ . انظر: 
أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله إمام الحرمين الجوينيء غياث الأمم في التياث AU) 2 L es‏ 8 


مطيعة نهضة مصر» 17ه) الفقرة 209. 


225 


الخليفة أو مقتله» كما حدث بعد مقتل عثمان, وكان العهد المتقدم لعمر وعثمان 
قد منع في نظره وقوعٌ الفتنة . فإن كان هذا التأويل مرتبطا بمقاصد الشريعة في حفظ 
النفس والدين والمال وغير ذلك. فإن قيمته الاجتهادية تكمن في تحقق أهدافه 
المرجوة. فهل ساهمت ولاية العهد في درء الفتنة وجمع كلمة الأمة وتحقيق 
مصالح الرعية؟ تدلنا الحوادث التاريخية على أن يزيد لم تجتمع الكلمة عليه كما 
كان يُريد معاوية ويأمل» » بل زادت الاضطرابات بعد توليه الخلافةء وكثر الخروج 
عليه» وظل الحجاز كله رافضًا بيعته. لذا يظل استخدام القوة في إكراه الناس على 
البيعةء وفي القضاء على المعارضةء هو الوسيلة الأسهل لتولي الخلافة» وإرغام 
الرعية على قبول خليفة لا تريده. 

إذا كان الماوردي متساهلا في مسألة التولي مانحًا الشرعية لمن غلبء فإنه 
في حديثه عن الخروج على السلطان يبدو متشددًا مع هذا النمط من التغلب الذي 
يراه بغيّا تجب مقاتلة أهله» ولذا أفرد له فصلا مستقلا في أحكامه السلطانية. 
والبغاة في رأيه طائفة من المسلمين» خالفوا رأي الجماعة» واعتزلوا أهل العدل» 
وخرجوا عن طاعة الإمام؛ «ومنعوا ما عليهم من الحقوق وتفردوا باجتباء الأموال 
وتنفيذ الأحكام»”. 

تلازم هذا القول مع التزامه الشديد الحذر في كتابة أحكامه السلطانية» حيث 
يستعمل في الأغلب تعبيرات عامة من قبيل الجماعة وأهل العدل. فلا نعرف ماذا 
يقصد تحديدًا بأهل العدلء هل هم أهل الحل والعقد أم الخليفة وحاشيتهء أم 
الفقهاء والقضاة؟ ومهما يكن من عموم في ألفاظه» فإن نعته الخوارج بالبغاة يدل 
بمفهوم المخالفة أن عليًا هو الذي يمثل جانب «أهل العدل»؛ وأن معاوية الذي 
خرج على علي يمثل الطرف الآخرء وإن لم يذكره Lu pa‏ 

إن التأمل الفقهي في ظاهرة السلطة أدى بالماوردي إلى تسجيل سابقة خطرة 
في نظرية الخلافة» هي قوله بجواز إمارة الاستيلاء. فالإمارة على البلاد في رأيه 
صنفان: إمارة استكفاء تنعقد باختيار الخليفة لأمير يُمَوض إليه حُكمَ بلد أو إقليم 


)7( الماوردي» الأحكام السلطانيةء ص 53. 


226 


أو ولاية يمارس فى حدودها جملة من الوظائف السياسية والإدارية المتعلقة 
بتدبير الجيوش والقضاء وجباية الخراج وحماية الدين وإقامة الحدود؛ وإمارة 
استيلاء» وهى أن «يستولى الأمير بالقوة على بلاد يقلده الخليفة إمارتها ويفوض 
إليه تدبيرها وسياستهاء فيكون الأمير باستيلائه مستبدًا بالسياسة والتدبير»*. إن 
التفويض الذي يمنح الخليفةٌ بمقتضاه كاملّ اختصاصات الدولة لأميره على ولاية 
شاسعة الأطراف أو إمارة ممتدة الحدود يُعزز مصادر القوة لدى هذا الأمير» فيدفعه 
إلى التفكير في الاستيلاء ء على ما بين يديه من أموال الخراج ومنعها عن السلطان. 
بفضل هذه الأموال وما يمكن جمعه من قدرات عسكرية؛ يُصبح من الوارد جدًا 
أن يتحول أمير الاستكفاء إلى أمير استيلاء» بعد أن «قلده الخليفة أمور الإمارة»» 
و«قوض» إليه تدبيرها. وكان أن شجع هذا الوضع الإداري على نشوء قوى إقليمية 
منافسة لقوة الدولة المركزية وسعيها إلى الاستقلال عن المركزء ليؤدي ذلك إلى 
تفكيك السلطة وتمزيق وحدة الدولة. 

كان الماوردي يدرك ما حل بالخلفاء والخلافة من ضعف ووهن. لکنه» 
وهو رجل الدين والدولة الذي يطمح إلى تقديم نظرية سياسية في الخلافة» كان 
واعيّا بضرورة مراعاة أطراف المعادلة السياسية التي ينخرط فيها. فهو يدرك أن 
إمارة الاستيلاء» في ظل هذه الأوضاع» إنما هي إمارة الأمر الواقع» وأن التنظير لها 
والتجاوز والتجويز فيهاء على الرغم من تبريره بالرغبة في حقن الدماء ومنع . 
فإنه لن يحجب حقيقتها في كونها تغلبًا وبغيًا وخروجًا على السلطة الشرعية. إن 
دعوة الماوردي إلى الاعتراف بأمير الاستيلاء الذي ارتكب جريمة البغي بكامل 
أركانها هي دعوة إلى استبقائه تحت وصاية الخليفة» ولو بصورة شكلية؛ إذ كان 
حريصًا على تحقيق وحدة السلطة واستمرار الدولة» حتى لو بُنيَ ذلك على أسس 
غير شرعية» بالسماح لمتغلبين أقوياء أن يتعايشوا مع سلطة مركزية ضعيفة. 

كانت وحدة السلطة هي المصلحة الأهم في نظر الماوردي» في وقت كانت 

توشك فيه الدولة العباسية على التفكك. وفي سبيل تحقيق قيق هذه المصلحة» أجاز 

الماوردي للخليفة عقد الإمارة للمتغلب» على الرغم من اقتناعه أنه عمل خارج 


(8) المرجع نقسه» ص 27. 


227 


عن الأعراف السياسية الموروثة ومخالف لأقوال أهل السنة» ومُسَوعُه في ذلك أن 
التغلب افيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية مالا يجوز أن يُترك 
مختلا مدخولا ولا فاسدًا معلولًا. . فجاز فيه مع الاستيلاء والاضطرار ما امتنع في 
تقليد الاستكفاء والاختيار لوقوع الفرق بين شروط المكنة والعجز». هذا يعنى 
ee‏ اي ا 
واقعّاء يجب التسليم به وقبوله» لوجود الاضطرار ! ليه. وتكشف هذه المفارقة في 
نظرية الماوردي عن قلق سياسي واضطراب فكري يعكس الاضطرابات السياسية 
في واقعه المعيش. ١‏ 

هكذا إِذّا يدور اجتهاد الماوردي بين الضرورة والمصلحةء فالقبول 
بالاستيلاء ضرورة يقتضيها وجوب درء الفتنة المترتبة عن مقاتلة المتغلب وأخذ 
الأمر منه. فالاستيلاء يكون بغيًا قبل وقوعه. فإذا وقع تحول إلى ضرورة وجب 
يلها والتعاطى فعها وعدم محارية المتغلبه لأنه ماعاد باغيًا وقد أمسك بشروط 
المُكنة والقوة. لكن هل حقق حقق قبولٌ المتغلب مقاصد الشارع ومصالح الرعيةء كما 
تصّوره الماوردي؟ لضمان تحقق تحقق هذه المقاصد والمصالح يشتر ترط الماوردي على 
المستولي الذي خرج عن طاعة السلطان واستقل بالإمارة سبعة شروط من أجل 
القبول به هي: حفظ منصب الخليفة» والطاعة الدينية والامتثال للخليفة» والألفة 
والتناصر والقدرة على مواجهة الأخطارء وحفظ عقود الولايات الدينية والأحكام 
والأقضيةء وجباية الأموال بطرائق شرعية» وتطبيق الحدود» والتزام حدود الله 
وعدم Le JU sie Yi‏ 


لكن الماوردي لا يخبرنا عن كيفية فرض امتثال هذه الشروط ولا عن طبيعة 
الجزاءات التي يمكن أن تلحق بالمستولي في حال عدم امتثالهاء ولا عن مصير 
من يرفض هذه الشروطء هل يظل أميرًا للاستيلاء ء أم يدخل في دائرة البغي ويصبح 
OL US‏ وسواء اشترطنا على المتغلب شروطا أم تركناه من غير شروط 


(9) المرجع نفسه. ص 30. 

(10) المرجع نفسه» ص 30. 

1 إذا تحقّقت هذه الشروط فهي وزارة تفويض لا إمارة استيلاء. والفرق الوحيد بينهما على 
مستوى هذه الشروط هو أن المقوض يُسَلمٌ أموالَ الجبايات إلى الخليفة؛ بينما المستولي يستأثر بها. 


228 


فالنتيجة واحدة. وأصبح الخليفة خائقًا من هذا المتغلب» لأنه إن تَقَوت شوكته 
قد يزحف على العاصمة وينتزع منه الخلافة» لهذا يقترح الماوردي على الخليفة 
مُسالمته والاعترافٌ به حتى يأمن زحمّه نحو العاصمة. 

إذا كان الماوردي يقبل إمارة الاستيلاء» لما في قبولها حقنًا للدماء واتقاء 
للفتن» فإن محاربة المستولي الذي لم د تتوافر فيه الشروط السبعة ستؤدي إلى النتيجة 
نفسهاء أي إلى الفتنة التي من أجل درئها قبل الفقيه الشافعي إمارة التغلب. وهذا 
ما يجعل تلك الشروط بلا فائدة» لأن توافرها أو عدم توافرها في المتغلب سيّان. 
فإن كان الهدف هو اتقاء الفتن وتجنب الحروبء على الماوردي أن يقبل المتغلب 
سواء امتثل شروطه السبعة أم لم يمتثل. والناظر في هذه الشروط يتبين بسهولة أنه 
لا يوجد متغلب يمكن أن يخضع لها ويمتثلهاء فهي ليست شروطا بقدر ما هي 
ديات ردي كاري لتر OL E E‏ 
تقليده الؤمارة» والذي لا يستحق ذلك . لذا فالماوردي ينصح الخليفة في حال تَحقق ps‏ 
هذه الشروط بوجوب «تقليد المستولي (..) استدعاءً لطاعته ودفعًا لمخالفته»*". 
أما إذا توافرت في المستولي شروط الاختيار نفسها التي يجب أن 7 تتوافر في الإمام» 
فإن الماوردي يُجيز له التصرف في حقوق الملك والوزارة كأنه خليفة. كما يمكنه 
أن يُقَلدَ وزير تفويض ووزير تنفيذ وما شاء من الوزراء» بينما لا يجوز ذلك لأمير 
الاستكفاء لأنه تابع للخليفة ولوزيره المفوض. وحتى إذا لم تتوافر في المتغلب 
شروط الاختيار وكان ممن لا يجوز العقد له. فالماوردي يطالب الخليفة بالاعتراف 
بهء «استدعاءً لطاعته ودفعًا لمخالفته». وهذه إضافة كبيرة من الماورديء خالف بها 
قاعدة الشورى والاختيار» وخرج بها عن المشهور من الأقوال» محاولًا الموازنة 
بين مقتضيات الشرع وإكراهات الواقع. لذا فهو يُصرح في أحكامه السلطانية أن ما 
دفعه إلى اتخاذ هذا الموقف الغريب هما أمران اثنان: 

- الأول أن الضرورة تُسقط ما أعوز من شروط المُكنة» أي حين لا تتو 

شروط القدرة على مواجهة المستولي» فإن حالة الضرورة تبي م به 
والتعامل معه. 


(12) المرجع نفسه. ص 3 3. 


229 


- الثاني أن ما خيف انتشارٌه في المصالح العامة تُحَففٌ شروطه عن شروط 
المصالح الخاصة. وهو تقديم للمصالح العامة على المصالح الخاصة لعظم 
js‏ 3 

الضرورة والمصلحة في نظر الماوردي متلازمتان في تبرير الاستيلاء. غير أن 
قبول المتغلب يعود في حقيقته إلى عنصرين سياسيين لا فقهيين. فمن جهة للقوة 
التي يتمتع بها المتغلب» التي يصعب على الخليفة مواجهتهاء ومن جهة أخرى 
للفتنة التي قد تنتج من عدم التمكن من المتغلب تمكنًا تامًا والقضاء عليه؛ إذ في 
بقاء جزء من قوته تهديد مستمر لأمن السلطة الحاكمة. فإذا لم يتمكن الخليفة 
من مواجهة المستولي والقضاء عليه فالأولى أن يعترف به ويمنحه الشرعية اتقاءً 
لخطره DANGER are‏ 
بين خارج على السلطان بحق وخارج بغير حق» فكلاهما في نظره متغلب . وهذه 
إرادة قوية في المحافظة على وحدة الدولة وتجنب الانقسام ولو بتأويل بعيد. 


إن أهم مدخل إلى السلطة غير الشرعية هو اجتماع عنصري الجيش والثروة 
في يد المتغلب. فعندما يعين الخليفة أميرًا على ولاية» ويفوض إليه كثيرًا من 
الاختصاصات» ويركز السلطة بين يديه» فإن ذلك يدفعه بطريقة أو بأخرى إلى 
التفكير في الاستيلاء على الإمارة» والانفراد بأموالها وجيوشها. والماوردي 
على علم تام بما يمكن أن يستجمعه المتغلب من سلطات مُفُوضة» تشمل تدبير 
ا و و و فهذه قطاعات حساسة من 
قطاعات الدولة تفوض إلى الأمير من دون وجود نظام صارم للرقابة» فيعطيه ذلك 
eS‏ 

196 . لكن الماوردي يرى في موضع آخر أن الرغبة في الخروج على السلطان 
0 أولا الطمعٌ في المُلك وحب الاستتثار به وثانيًا الرغبةٌ في 
ETS‏ 

(14) يرى الماوردي أنه إذا كَرَ المال في قوم «يَحدِّتُ لهم بعلو الهمة طمع في الملك»» خصوصًا إذا 


كان لهم بأمور الحُكم اختلاط وبأعوان الحاكم صلات. أنظر: أبو الحسن علي بن محمد الماوردي» تسهيل 
النظر وتعجيل الظفر في أخلاق المّلك وسياسة المّلك (بيروت: دار العلوم العربية؛ 1987)» ص 205. 


2130 


دفع الظلم الواقع على الرعية. وهذا التصريح يزيد من صعوبة الفصل بين البغي 
الذي لا يقبله الماوردي والتغلب الذي يجيزه للضرورة ويجعله نافعًا إذا استجمع 
شروطه السبعة'. 


إن فتوى الماوردي» وهو شافعي المذهبء بجواز قبول المتغلب على 
السلطة الشرعية هي فتوى ريما التزم فيها طريقة شيوخه في المذهب أو خالفهم 
فيها متفردًا بهاء حيث كان يخرج في بعض اجتهاداته عن المذهب الشافعي*'. 
وسواء أكانت فتوى التغلب اجتهادًا مطلقًا أم تقليدًا لإمام المذهب» فكان لها تأثير 
كبير فى الفكر السلطانى من بعده. لهذا ارتأينا الحديث عن موقف فقيه من مذهب 
آخر هو أبو يعلى الفراء» وهو حنبلي المذهب» لفحص أثر اختلاف المذهب في 
النظر إلى التغلب» خصوصًا أن المذهب الحنبلي لا يتساهل كثيرًا تجاه قضايا بهذه 


الأهمية. 


2 - أبو يَعلى الفراء والتزام المذهب 

ولد الفراء ببغداد في عام 380 وأقام فيها حتى وفاته. وعُرف عنه ضلوعه 
في الفقه الحنبلي» حتى لقب بإمام الحنابلة. وقال عنه الحافظ الذهبي: «انتهت 
إليه الإمامة في الفقه وكان عالم العراق في زمانه مع معرفة بعلوم القرآن وتفسيره» 
والنظر والأصول”7©. وقد صَنفَ في الحديث والأصول والفقه والسياسة وغيرها 


(15) قال الماوردي في تسهيل النظر: «يُتَدبٌ لطلب الملك أولو القوة ويتوثب عليه ذوو القدرة إما 
طمعًا في الملك حين ضعف وإما دفعًا للظلم حين استمر. وهذا يتم لجيش قد اجتمعت فيه ثلاث خصال: 
كثرة العدد وظهور الشجاعة وتفويض الأمر إلى مقدم عليهم (..) فإذا توثبوا على الملك بالكثرة واستولوا 
عليه بالقوة كان مُلك قهرء وإن عدلوا مع الرعية وساروا فيهم بالسيرة الجميلة صار ملك تفويض وطاعة (..) 
وإن جاروا وعسفوا فهي جولة تَوّثب ودولة تغلب يبديها الظلم ويزيلها البغي بعد أن تهلك يهم الرعايا 
وتخرب بهم البلاد». انظر: المرجع نفسه. ص 204. 

(16) كما في قضية توريث ذوي الأرحام» حيتٌ يُوَرثُ القريب والبعيدٌ بالسوية من جانب الأم» 
حتى أنّهم بالاعتزال. انظر في الموضوع: أحمد مبارك البغدادي» الفكر السياسي عند الماوردي (الكويت: 
مؤسسة الشراع للنشر والتوزيع» 1984)» ص 45. 

(17) أبو عبد الله محمد بن أحمد شمس الدين الذهبي» سير أعلام النبلاء» إشراف شعيب الأرنؤوط» 
5 ج» ط 2 (بيروت: مؤسسة الرسالة» 1984)» ص 90. 


231 


من العلوم*'. وعاصر القاضي أبو يعلى الفراء فترة ضَعف الاستيلاء البويهي 
وانتهائه على يد السلاجقة» وعاش في فترة أوج الاستيلاء السلجوقي عندما أمسك 
طغرل بك بمقاليد الحكم في عام 447ه وباشر أعمال الخلافة نيابة عن الخليفة 
القائم بأمر الله. وعاش أيضًا ما أحدثه البساسيري في عام 448ه من نهب وسلب 
بالموصل وبغداد خلال مناصرته الفاطميين خصوم العباسيين*". 


يرى الفراء أن الإمامة تنعقد بطريقين؛ الأولى باختيار أهل الحل والعقد وبيعة 
الإمام بالرضاء والثاني بعهد الإمام إلى شخص يرشحه للخلافة بعده. هذا الترشيح 
لا يحتاج إلى موافقة أهل الحل والعقدء لكن إذا توفي العاهدٌ يلرّمٌ أن يحصل 
المعهود له على بيعة أهل الحل والعقد لتصح إمامته. وهو يستدل على جواز العهد 
والترشيح بما فعله أبو بكر وعمر اللذان عندما رشحا من يمكن أن يتولى الخلافة 
بعدهماء لم يُشهدا أهلّ الحل والعقد. من هنا فإن الفراء» بخلاف الماوردي» يرى 
أن العهد غير المتبوع بالبيعة اليس بعقد للإمامة»2)؛ وإذ لا يكون عقدًا فليس من 
الضروري حضور أهل الحل والعقدء لذا يجوز أن يَعَهَدَ الإمامُ لمن شاء ما دام 
«أن الإمامة لا تنعقد للمعهود إليه بنفس العهد وإنما تنعقد بعهد المسلمين»ء أي 
بالبيعة””*). فبعد وفاة الإمام العاهد لا بد من أن يتولى أهل الحل والعقد مبايعة ولي 
العهد المرشح وتنصيبه أو واحدًا من عدة مُرشحينء فإن لم يفعلوا لم تنعقد إمامتٌه. 
هكذا يضع الفراء الصورة في إطارها الواضح» ويشترط الاختيار والبيعة بالرضا 
في إنشاء عقد الإمامة'2©. ونظرًا إلى ما لأهل الحل والعقد من الأهمية» فلا يجوز 
عنده أن يقوم الإمام بتعيين هؤلاء» وذلك لسببين اثنين: 


(18) ألف كتابّ الكفاية في أصول الفقه وكتاب العدة في أصول الفقه وكتاب عيون المسائل وكتاب 
الجامع الكبير. ١ ١‏ 

)19( انظر: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير» البداية والنهايةء 14 ج“ ط 4 (بيروت: مكتبة 
المعارف» 1981)» ص 69. 

(20) أبو يعلى القّراءء الأحكام السلطانية. ص 25. 

(21) المرجع نفسه» ص 25. 

(22) ذكرنا أعلاه أن الماوردي لا يشترط بيعة أهل الحل والعقد في تنصيب ولي العهد ولا في تنصيبه 


- الأول أن الإمامة تتوقف على اختيار جميع أهل الحل والعقد. وليس ذلك 
من حقوق خلافته. 

- الثاني أن إمامة المعهود إليه تنعقد بعد موت العاهد باختيار أهل زمانه. لا 
Jai‏ زمان فات*. 

الواقع أنها أسباب وجيهة تشير إلى أن الفقيه الحنبلي سيق الأحكامَ السلطانية 
من كثرة الترخحص» وسيقطع الطريق على إرادة المتغلب» ويسد المسام التي يمكن 
أن يتسلل منها الاستبداد. ويرى الفراء أن الخارجين على السلطة الشرعية هم بغاة 
ارتكبوا جريمة البغي التي حددت نصوص شرعية عقوبتها. وعلى الرغم من أنه 
يصف الخارجين على علي بن أبي طالب بالبغاة» فإنه لا يذكر منهم معاوية أو 
حتى يشير إليه”**». وربما تَحَرجَ مما تحرج منه الماوردي فتجنب ذكر معاوية بسوء 
وقد ذكره البيان القادري بخير» خصوصًا أن الفراء كان أيضًا ممن وافق على هذا 
البيان ووقعه» بل كان يتردد على قصر القادر بالله كما يحكيه عنه ولده القاضي 
أبو الحسين محمد في طبقات الحنابلة**. 


يقسم الفراء الإمارة على البلاد إلى إمارة استكفاء وهي المعقودة عن اختيارء 
وإمارة استيلاء وهي المعقودة عن غير اختيار» وجعل للثانية أوصافًا تكاد تتطابق 
مع تلك التي ذكرها الماوردي في أحكامه السلطانية!©. فالفر اء يرى أيضًا أن 
الاستيلاء حالة من حالات الضرورة التي يجب قبولها حفاظا على تطبيق أحكام 
الشريعة» وإن كان في ذلك خروج عن «عرف التقليد المطلق» ففيه من حفظ 


(23) رأينا أعلاه أن الماوردي يجيز ذلك بل أجاز أن يُعهّدَ إلى صغير أو فاسى. والفراء لم يجز العهد 
إليهما حتى ولو استؤنفت بيعمّهِما بعد موت العاهد لهما. انظر: المرجع نفسه» ص 26 والماوردي» الأحكام 
السلطانيةء ص 10. 

(24) انظر: أبو يعلى الفراء» الأحكام السلطانية» ص 54 وما بعدها. 

(25) يروي ولده وهو يترجم له أنه كتب على البيان القادري عبارة #هذا قولٌ أهل السنة وهو اعتقادي 
وعليه اعتمادي؛. كما كتّب جميع الموقعين عليه» لذلك سمي بالاعتقاد القادري. انظر: أبو يعلى الفراء 
الأحكام السلطانيةء ص 13. 

(26) المرجع نفسه» ص 36. 


233 


القوانين ن الشرعية ما لا يجوز أن يُترك فاسدًا7!0. وهو موقف ساير فيه الماوردي 
وجعل عدد القواعد الواجب مراعاتّها فيمن ستُعقد له إمارة التغلب سبعة كما عند 
الماوردي. بل ساير الماوردي في القول بوجوب تقليد المتغلب الذي توافرت فيه 
شروط الإمامة» فإن لم تتوافر فيه هذه الشروط جاز عنده «إظهارٌ تقليده استدعاءً 
لطاعته وحسمًا لمخالفته ا وهذه حيلة سياسية تجعل الخليفة في 
مأمن من شر كل متغلب لا يملك دَفعّه axé‏ والفراء على الرغم من تشدده تجاه 
المتغلب الذي يريد أن يفرض على الرعية متغلبًا آخر بولاية العهد القائمة على 
النص والتنصيب لا محجرد ça que‏ من أن يقبل به أمرًا واقماء والحال 
أن الاستيلاء منتشر ومستفحل. 


غير أن الفراء يناقش أمورًا في الاستيلاء لم يتطرق إليها الماورديء على الرغم 
من تشابه معظم موضوعات كتابيهما*. فعلاوة على إمارة الاستيلاء يتحدث 
الفراء عن خلافة الاستيلاء» وهي أن يستولي المتغلب على الخلافة نفسها ويجرد 
الخليفة من وظائفه السياسية» تاركا له الوظائف الدينية ذات الطابع الرمزي. فإن 
تغلب على الخليفة أحد من أعوانه واستبد «بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية» 
ولا مجاهرة بمشاقةء لم يمنع ذلك من إمامته» ولا قدح في ولایته». فهو الخليفة 
الشرعي» وإن حرم من ممارسة السلطة» وظل مجرد رمز. كما يدعو الفراء إلى 
النظر في أفعال هذا المستوليء فإن كانت «جارية على أحكام الدين ومقتضى 
العدل» جاز إقرارٌه عليهاء تنفيذًا لها وإمضاءً لأحكامهاء لئلا يقف من العقود الدينية 
ا أما إن كانت أفعال المستولي «خارجة عن حكم الدين 
ومقتضى العدلء لم يَجر إقرارٌه عليها». ويلزم عند خروج المتغلب عن مقتضى 
الدين والعدل وجوب مناهضته واستنصار ذي شوكة قادر على أن يخلص الخليفة 


(27) المرجع نفسه» ص 37. وفي عبارة الماوردي: «فقيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة 
الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلا مدخولًا ولا فاسدًا معلولًا». 

(28) المرجع نفسه» ص 38. 

(29) دار نقاش عن نسبة الأحكام السلطانية إلى أحدهما على وجه السبق» وذهبت آراء كثيرة إلى 
أسبقية الغراء في التأليف» ونحن نرى هذا الرأي لأننا وجدنا أن كتاب الماوردي أقرب إلى التلخيص مته 
إلى التأليف. . 

(30) المرجع نفسه» ص 22. 


234 


من هذا المستولي «فيقبض يدَّه 55 POULE‏ فالفراء يريد أن يعامل المستولي 
على الخلافة بقدر ما يبديه من الوفاء للأحكام الدينية» فإذا كان ملتزمًا الشرع قائمًا 
بالعدل» فهو مُرَحب بهء لأن العبرة بأدائه السياسي وحسن سيره ذ فى الرعية» لا 
بالوسيلة التي جاءت به إلى السلطة. فإذا خرج متغلب على الخليفة يدعي أن غايته 
هى «تطبيق نُ أحكام الشرع وإقرار العدل»» فإن الفراء يمنحه الشرعية الدينية» بشرط 
أن يفي بادعائه. أما إذا لم يفعل» فالواجب عند الفراء الاستنجاد بمتغلب آخر ذي 
أهداف دينية وسياسية مشروعة» ليخلص الخلافة من هذا المتغلب «الضال». 
ويحل AA Per‏ 
يميز الفراء هنا بين متغلب ضال ومتغلب صالحء ويبدو في هذا أكثر واقعية من 
الماوردي نفسه. ومن واقعيته أيضًا أنه لا يحض المسلمين على تخليص خليفتهم 
من الأسرء إذا وقع في يد متغلب قاهرء أكان هذا المتغلب باغيًا مسلمًا أم عدوًا 
كافراء بل يدعو أهل الاختيار إلى التخلى عنه والبحث عن خليفة آخر. ومستنده 
في ذلك ما أومأ إليه الإمام أحمد في رواية عنه أن «الإمام يخرج عليه من يطلب 
المَلك فيفتتن الناس» فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم» مع من تكون الجمعة؟ 
قال: مع من غلب6**. فالفراء رأى أن إسناد السلطة يكون بالغلبة أيضًا لا بالعهد 
والاختيار فحسبء مُستدلا عليه بقول شيخه ابن حنبل أن الدعاء يوم الجمعة على 
المنابر يكون لمن غلب . 
ما دامت الإمامة تُعقد بالغلبة» فهي إذا واجبة الانعقاد في حال الاستيلاء» 
وسنده في ذلك ما روي عن ابن حنبل قوله: ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار 


(31) المرجع نفسه. ص 22. 

(32) مقابل ثنائية دار الإسلام ودار الكفر يضيف الفراء ثنائية أخرى هي دار العدل ودار البغي. فدار 
العدل هي البلاد الواقعة تحت إمرة الخليفة ودار البغي هي الواقعة تحت أيدي المتغلب. واستنتجنا هذه 
الثنائية من خلال حديثه المتكرر عن دار العدل في مقابل البلاد التي ظهر فيها إمام ياغ. انظر: المرجع نفسه. 
ص 22. 

(33) المرجع نفسه» ص 22. وهو يورد رواية أخرى عن شيخه ابن حنبل تفيد أن الخليفة إذا وقع في 
الأسر وجب استنقاذه إذا وُجِدَ أمل في ذلك فإن لم يوجد وجب تقليد إمام آخر. 

(34) من معاني الجمعة الاجتماع والألفة. وقد يكون معنى قولة الإمام أحمد أن الاجتماع يكون 
حول من غلب. 


235 


خليفة وسمي أمير المؤمنين» فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا 
يراه إمامّاء بََا كان أو فاجرًا»5©. والفراء يكتفي بذكر هذا القول ولا يعلّق علي 
والمرجح أنه يؤيله» فابن حنبل إمام المذهب وإمامهء والسكوت في موقف 
خطير كهذا يفيد الإقرار. ودلّت مواقف القاضي أبي يعلى الفراء على أن اختلاف 
المذهب لم يكن له أثر كبير في تكييف النوازل السياسية؛ بقدر ما كان للعلاقة مع 
السلطان الأثر الأكبر في ذلك. 


ثانيًا: المثقف المخاتل 
الفقيه المعاصر بين الثورة والفتوى 

أثارت محاولات تغيير الأنظمة السياسية في العالم العربي جدلا فقهيًا واسعًا 
في شأن مسألة الخروج على الحاكم الظالم وإسقاط حكمه بثورة» والخروج على 
الحاكم الشرعي رفضًا لأدائه السياسي. وراوحت الفتاوى التي صدرت في هذا 
الموضوع بين الجواز والتحريم» تبعًا للؤطار الفكري والسياسي الذي يوجد في 
داخله المفتى» خصوصًا درجة قربه من السلطة الحاكمة أو ابتعاده عنها. وجرى 
تبرير هذه الفتاوى بما يكاد يتطابق مع المبررات التي ساقها فقهاء التغلب الأوائل» 
كالقول بالضرورة والمصلحة ووجوب درء الفتنة. وعرضنا في المبحث الأول 
EX‏ من فقهاء السلف الذين أثروا بآرائهم في ما صدر بعدهم من فتاوى في 
الموضوع. وتوزعت مواقف الفقهاء والدعاة المعاصرين بين طائفتين؛ طائفة 
ترى تحريم الخروج على الحاكم الظالم اتقاءً لفتنة قد تكون أعظم من فتنة بقائه 
في السلطة. مُتَشبءِ مُتَشبثِينَ بالنصوص التي تدعو إلى طاعة ولي الأمرء ندعوهم فقهاء 
السلطةة وطائقة أخرى ترى جواز الخروج على النخاكم الظال عملا بالنصوض 
الشرعية التي تعد ذلك جهادًاء وهم على قسمين: قسم معتدل في تقدير سلوك 
الحاكم وطريقة الخروج cale‏ وقسم متشدد في ذلك. والمتشدد غالبا ما يتوسع 
في تكفير الحاكم بما اقترفٌ من الأخطاء. ليُستّحل الخروجٌ عليه عملا بالنصوص 
التي تبيح الخروج على الحاكم الكافر. 


عدَّ كثير من الفقهاء المعاصرين الثورات العربية بمنزلة خروج على الحاكم 


(35) المرجع تفسه» ص 23. 


فأخضعوا هذه النازلة لما ورد من الدلائل الشرعية واستعانوا بما صدر من فتاوى 
علماء السلف المتتمين إلى مذاهب مختلفة» غير منفكين عن مواقفهم السياسية 
ومواقعهم داخل السلطة أو خارجهاء فأفتى بعض الفقهاء بحرمة التظاهر ضد الرئيس 
المنتخب بطريقة شرعية» لما فيه من الفتنة ولكونه بدعة مخالفة لما عمل به السلف 
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فرأى شيخ الأزهر أحمد الطيب التظاهرات 
في أثناء ثورة يناير بمصر بمنزلة «دعوة للفوضى)» فأفتى بتحريمهاء ونعت من 
يؤيدها بأنه من الدعاة الضالين» وهي إشارة إلى يوسف القرضاوي» رئيس الاتحاد 
العالمي لعلماء المسلمين الذي دعا المصريين إلى الخروج في تظاهرات حاشدة 
بعد صلاة الجمعة؛ عادًا من قُتل في المواجهات مع الشرطة شهِيدًا!©. وبعد انتصار 
الثورة أصدر أحمد الطيب بيانًا أثنى فيه على الثوار وأيد «حق الشعوب المقهورة 
في عزل الحكام المتسلطين'”©. وبعد عزم وزير الدفاع المصريء عبد الفتاح 
السيسي» الخروج على الرئيس المنتخب» محمد مرسي» وجه أحمد الطيب الدعوة 
إلى المصريين للمشاركة في التظاهرات دعمًا للوزير الذي دعا المواطنين في 25 
تموز/ يوليو 2013 إلى الخروج إلى الشارع لمنحه تفويضًا يخرج به على الرئيس 
المنتخب. ألقى أحمد الطيب نداءً باسم الأزهر على قناة رسمية لحشد التأييد 
للسيسي قائلا للمصريين «هبوا لإنقاذ مصر (. .) فتوکلوا على الله والله معکه»*. 
ينم هذا التأرجح الشديد في المواقف الدينية عن هيمنة القوة السياسية والعسكرية 
على وظيفة شيخ الأزهر الذي يبدو في نبرته الخوفٌ الشديد من بطشهاء غير عابئ 
بما قد ينشأ من الفتنة التي كان يرى ضرورة تتجنبها أيام الثورة على مبارك؛ وإذ ينتمي 
هذا الشيخ الأزهري إلى الحزب الوطني الحاكم» فإنه رى أن الحزب والأزهر 
متكاملان» كالشمس والقمر» يحتاج أحدهما إلى الآخر6©. 


(36) انظر: اشيخ الأزهر: أحمد الطيب يفتي بأن مظاهرات ميدان التحرير حرام شرعا وخروج على 


http://bit.ly/1SApa1O. يوتيوب» 19/ 6/ 2013» في:‎ cap 
انظر: «شيخ الازهر يفتي بعزل الحكام اذا استخدموا القوة ضد المتظاهرين السلميين»»‎ )37( 
htip://bit.ly/IN6BATM. يوتيوب» 2011/10/31» في:‎ 
نادى أحمد الطيب للتظاهر ضدّ مرسيء انظر: «عاجل الآن كلمة شيخ الازهر أحمد الطيب‎ )38( 
http://bit.ly/1HZNGeq. للشعب المصري». يوتيوب» 17/ 6/ 2013 في:‎ 
انظر: «أحمد الطيب شيخ الأزهر: الحزب الوطني والأزهر يحتاجان لبعضهما كالشمس‎ )39( 
http://bit.ly/1Qa2SWr. والقمر؟» يوتيوب» 26/ 7/ 2013 في:‎ 


237 


وقع كثير من فقهاء السلطة في شباك هذا التأرجح المحرج» حيث أفتى علي 
جمعة؛ مفتي مصر السابق» بعدم جواز التظاهر ضد الحاكم الشرعي» لما فيه من 
الفتنة والفوضىء معيرًا عن دعمه للرئيس مبارك» داعيًا المتظاهرين إلى العدول 
عن «خروجهم ضد الشرعية““. وبعد انتصار الثورة وتنحي مبارك تغير موقف 
علي جمعة من الثوار فبارك ثورتهم وأقرهم عليها. لكنه أفتى» في موقف مناقض» 
بجواز الخروج على الرئيس المنتځب محمد مرسي» وحرض الجيش ورجال 
الشرطة على قتل المتظاهرين بحجة أنهم خوارج. لقد تأرجح هذا المفتي تأرجحًا 
شديدا بين فتوى الخروج على مبارك وفتوى الخروج على مرسي» بما يقدح في 
معايير الاجتهاد التي يعتمدها متلونة في كل مرة بلون سياسي مختلف يؤدي إلى 
حدوث انفصام في جهاز الإفتاء لديه"“. 


إضافة إلى ذلك أفتى عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ» مفتي المملكة 
السعوديةء بتحريم التظاهرات التي عدها «صراخا وعويلا» يؤدي إلى التخريب 
والتدمير» خصوصًا تلك التي اندلعت في المملكة نفسها. وهو موقف متناقض 
مع موقف آخر أفتى فيه بوجوب دعم الثورة السورية والجيش الحر ضد نظام 
الأسد. ورأى ذلك «مطلوبًا شرعًاة ومايقوم به الأسد «جريمةً سفك دماء وانتهاك 
أعراض»*. فالسوريون خرجوا إلى الشوارع للتظاهر سلمّاء وارتفعت أصواتهم 
بمطالب التغيير» لا يسعٌ هذا المفتي أن يصمّها بالصراخ والعويل» بمثل ما وصف 
التظاهرات في دول أخرى. تعكس هذه الفتوى موقف المملكة السعودية التي 
تدعم النظام العسكري في مصرء وتعارض نظام الأسد في سورية. ونحن نتفهم 
الإكراهات التي تحيط بالمفتي الذي يمارس الاجتهاد تحت وطأة منصبه الرسمي 


(40) انظر: «علي جمعة أثناء ثورة 25 يناير: الخروج على مبارك حرام والثوار خوارج يجب قتلهم». 
يوتيوب» 24/ 7/ 2013» في: http://bit.ly/IIVLXUK.‏ 
(41) انظر: «عاجل وخطير مسرب علي جمعه للسيسي اضرب في المليان»» يوتيوب» 
8 مه فى: http:/bit.ly/ISTzOfB. | 1 ١‏ 
(42)انظر: «مفتي السعودية: دعم السوري الحر بالمال من الجهاد»» طريق الإسلام 11/ 3/ 2012ء 
في: huip//bit.1y/21 WVXEW.‏ 


وكذلك: «حكم المظاهرات الشيخ عبد العزيز آل الشيخ؛» يوتيوب. 2013/12/12» فى: 
http:/bit.ly/1HZNV74.‏ 


238 


وموقعه داخل السلطة. ولو أن آل الشيخ يمارس الاجتهاد خارج السلطة في مأمن 
من بطشهاء لما نعت المدافعين عن حقوقهم بهذه النعوت المشينة. 

أما فى ليبيا فدعا الصادق الغرياني» أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الفاتح» 
إلى خخروج الليبيين جميعًا لمواجهة النظام» وأفتى بوجوب نصرة الخارجين على 
القذافي الذي وجب الجهاد ضده» لما ارتكب من الأعمال الموجبة لذلك كسفكه 
الدماء”“. في مقابل ذلك» أفتى المدني الشويرف» فقيه ليبي تقلب في عدد من 
المناصب الرسمية» بكفر من خرج على القذافي الحاكم الشرعي الذي تجب له 
الطاعة» ونعت الثوار في شرق ليبيا ب «القرود» . وساهم هذا الفقيه في حشد الناس 
ضد الثوار ورأى التصدي لهم جهادًا. ويدل هذا المثال على ارتباط الفتوى 
ا ع ا ل 
والرعية. 

أما في سورية» Jet ais‏ علماء سورية» محمد سعيد رمضان «sb si‏ 
الخارجين في الظاهرات عد نظام co que ES se‏ ورماهم بالكفر» 
ونعتهم ب «منتعلي | AR ESA‏ وسنده في ذلك أن م مَنْعَ التظاهر يدخل في حكم 
وجوب سد الذرائع. كما برى ملم جوار الخروج على ولي الأمرة إذا كان العا 
يضرب ظهور الناس ويأخذ أموالهم» وأن الخروج لا يكون مباځاء إلا إذا ظهر 
عليه كفر يواح بيّن. وهو يرى أن شرط الكفر الواح قد تحقق في ليبيا بسبب دعوة 
القذافي إلى تغيير بعض آيات القرآن”“. كما يرى هذا الفقيه أن الطاعة واجبة 


(3 4) انظر: «مكالمة الشيخ الصادق الغرياني للجزيرةيوم 42011-2-20»يوتيوب» 14/ 7/ 2012؛ 
في: http//bit.ly/1Y4hBY4.‏ 
و«كلمة الشيخ الصادق الغرياني لقبائل ليبيا - 10 مارس 2011 يوتيوب» 14/ 7/ 2012» في: 
http://bit.ly/ HZNZEa.‏ 
وكذلك : «الشيخ الصادق الغرياني في رسالة إلى الشعب الليبي»» يوتيوب. 14 14 171 في: 
http:/bit.Iy/1STzemK.‏ 
(44) انظر: ««ليبيا؛ كلمة فضيلة الشيخ محمد المدني الشويرف» فى مجزرة ماجر 8 رمضان»» 
يوتيوب» 19/ 7/ 2013» في: http://bit.ly/1RJRI4V.‏ 


(45) انظر الفتوى: «شرط الكفر البواح متحقق في ليبيا؟ء نسيم الشامء 10/ 7/ 22011 في: 
hup:/bit.|y/IM8NaDO.‏ 


239 


للومام المتولي بإحدى الطرائق تى الثلاث: البيعة وولاية العهد والتغلب. ولا يخفى 
أن هذا الموقف المضطرب» إنما يبرره قُربُ البوطي من السلطة وخوقه من بطشها 
بمن خالقها الرأيّ والفتوى“. 


كما أفتى دعاة ينتمون إلى التيار السلفي في مصر بتحريم الخروج على الحاكم 
الظالم» لما ينتج من ذلك من الفتنة وسفك الدماء. فأفتى ياسر برهامي؛ نائب 
رئيس «الدعوة السلفية»» أن الخروج على الحاكم الظالم مشروط بالقدرة على 
صذه وإطاحته من جهة» وبعدم وقوع الفتنة وسفك الدماء؛ من جهة أخرى. لذالم 
ير نفعًا في خروج الشباب للتظاهر في 25 كانون الثاني/ يناير 2011 . والواقع أن 
الدماء قد تُسفك حتى عند الخروج على الحاكم الكافر كفرًا بواحاء الذي لا خلاف 
في جواز الخروج عليه. كما أفتى برهامي بجواز التخلي عن الزوجة المغتصبة 
والفرار من دون الدفاع عنها إذا خيف القتل عند محاولة الدفع. مستندًا إلى رأي 
العز بن عبد السلام في جواز تسليم المال للسارق» إذا خيف التعرض للقتل. وفي 
هذه الفتوى إشارة إلى جواز التخلي عن السلطة للمتغلب» إذا كان ذلك سيؤدي 
إلى الحفاظ على الأرواح وتجنب الفتن. فكان يرى قبول انقلاب وزير الدفاع 
(عبد الفتاح السيسي) على الرئيس المنتحب (محمد مرسي) لأن الرضا بالمتغلب 
فيه حفظ لحقوق الناس ولوحدة البلاد“. 


)46( انظر فتوى البوطي بتحریم التظاهرات: «البوطي ووصفه للمتظاهرين»». يوتيوب» 
11/5 71 في: http://bit.|y/1HZObDg.‏ 


و«الراجح في مسألة الخروج على الحاكم أصوليّاةء نسيم الشام 19/ 9/ 2011ء في: 
hüp:f/bit.Iy/1ZAP2Xz.‏ 


وكذلك: ts, Le‏ الإمامة الشرعية للحاكمة؛ نسيم الشامء 5/ 11/10 20 في : .84ن1۷4/را.ااط/:1p‏ 

(47) انظر: «الشيخ ياسر برهامي والخروج على الحاكم وحكم مبارك»؛ يوتيوب» 1/ 9/ 2011ء 

فى: http://bit.1y/1Z4PSTa.‏ 
وانظر دعوته إلى عدم الخروج في تظاهرات 25 كانون الثاني/ يناير 2011ء في: «ياسر برهامي لا 


يجوز الخروج على مبارك ويجوز الخروج على مرسي؛» يوتيوب» 6 13 في: 
hup:#bit.Iy/1Yano9k.‏ 


وحول فتوى التخلي عن الزوجة المغتصبةء انظر: #ياسر برهامي يتبرأ لرولا خرسا من فتوى «جواز 


اغتصاب الزوجة حماية للزوج من القتل؟»؛ يوتيوب؛ 23/ 4/ 2014ء في: htp:/bit.1y/1Onta25.‏ 
وانظر تأييده لحكم العسكر: «برهامى: نتعبد إلى الله بأختيار السيسي»» يوتيوب. 2014/5/11. 
فى: http//bit.ly/1UgqQPe.‏ 


210 


EE 
أبو إسماعيل الذي أفتى بجواز الخروج على حاكم لا يطبق الشريعة*. وأفد‎ 
عصام تليمة» أحد علماء الأزهر بجواز الخروج على الحاكم لظا وكا‎ 
STS 
وأفتى حاكم المطيري» أستاذ بكلية الشريعة في الكويت» أن ولاية الحاكم تثبت‎ 
بالرضا والبيعة فحسبء وأن قتلى الثورات العربية شهداء لأنهم خرجوا لدفع ظلم‎ 
واجهوه أو لإعانة مظلوم أو لتغيير منكرء والقتيل في هذه الحالات يكون شهيدًا‎ 
بإجماع أهل العلم”©.‎ 

الخروج على الحاكم مسألة فة ا ا ا 
عناصر؛ يتعلق الأول بسلوك الحاكم» أي بتحديد ما إذا كان الحاكم ظالمّاء أم 
عادلاء أم كافرًا. وفيه ثلاثة أقوال مشتهرة: الأول يحكي الإجماع على وجوب 
طاعة الحاكم العادل وعدم جواز الخروج عليهء والثاني يحكي الإجماع على 
جواز الخروج على الحاكم الكافر كَفرًا بواحاء والثالث يحكي الاختلاف في 
الخروج على الحاكم الظالم بين مجيز له مطلقًا ومجيز له بشرط المُكنة والقدرة» 
ومن يرى عدم جواز الخروج عليه مطلقًا. واحتج كل طرف بنصوص من الكتاب 
والسنة وأعمال الصحابة وأقوالهم وفتاوى علماء السلف من مختلف المذاهب. 


(48) حول موقفه من الخروج على الحاكم, انظر: «حازم أبو اسماعيل يفتي بوجوب الخروج على 
بشار والقذافي2» 19/8054 2011 http://bit.ly/1ID3vMg.‏ 
(49) انظر موقفه في لقاء على قناة الجزيرة : «عصام تليمة - الرد على شبهة الانقلاب والخروج على 
الحاكما» يوتيوب 1/7/ 22014 في: http://bit.ly/21WWTbW.‏ 
(50) انظر بعض مواقفه من الخروج على الحاكم الظالم: «فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي يرد على 
من حرم المظاهرات":. يوتيوب» 18/ 2/ 2011ء في: htip//bit.ly/1QCwjQ2.‏ 


وانظر كذلك: «القرضاوي والخروج علي الحاكم؟» يوتيوب» 30/ 16 . في: 
htip:#bit.ly/1Rg2y9x.‏ 


(51) انظر حديثه عن شرعية الحاكم في محاضرة: «لا بيعة لمن يُفرض على الأمة (الإمارة # 


شوری)/آ. د. حاكم المطيري)» یوتیوب» 1/ 11/ ۰2013 في: http://bit.ly/1 Yanzl2.‏ 
وانظر فتواه في: «شهداء الثورة بين جرائم الطغاة وفتنة الدعاة»» موقع الشيخ الدكتور حاكم المطيري» 
في: http://bit.ly/21WX008.‏ 


241 


يتعلق العنصر الثاني بسلوك الرعية أو المجتمعء أي بطبيعة الوسائل المتحّذة 
لتغيير الحاكم وبمدى نجاعتهاء وبنتائج عملية الخروج وما يمكن أن تتسبب فيه 
من الفتنة وسفك الدماء. أما العنصر الثالث فيتعلق بشرعية الحاكم» وما إذا كان 
متغلبًا يجوز الخروج عليه ومقاومته عند بعضهم» أو تولى الحكم بطريق البيعة أو 
الانتخاب» أو تولى بولاية العهد62. ونلشخص هذه العناصر في الشكل (7- -1). 


الشكل (1-7) 
عناصر الخروج على الحاكم 


الخروج على الحاكم 
ا کے 


تجب الطاعة له ما 


تجب له الطاعة جواز الخروج ‏ جواز ES‏ 
على الظالم GE‏ على Eh ES‏ 
جواز الخروج على الظالم بشرط جواز الخروج على 
المكنة وعدم الفتنة الكافر بشرط القدرة إذ لم تقترن ولاية 
البيعة أصبح 


العهد با 
8 كالمتغلب با 
جواز الخروج على الظالم مطلقا بالقوة عدم جواز مقاومته 
مع وجوب الصبر والطاعة إذا خيفت الفتنة 





يستند الفقهاء المعاصرون إلى النصوص الشرعية للحكم على اختلال 
العلاقة بين الحاكم والمحكوم, والحال أن الدول التي قامت فيها الثورات لا تطبق 
الشريعة في قوانينها المختلفة» بل تطبق قوانين وضعية مقتبسة من بلاد أجنبية. 
كما أنهم يتناولون في فتاويهم أنموذج الدولة التي يحكمها خليفة أو سلطان يلتزم 
قواعد الشريعة؛ بينما معظم حكام الدول الإسلامية اليوم لا يطبقون الشريعة إلا 
في نطاق محدود. . هذه الازدواجية تعني وجود انفصام ب بين الواقع والفتوى يعكس 
الانفصامً GA‏ الفقيه نفسه لكونه يفتي في النوازل المعاصرة بحيثيات تعود إلى 


(52) انظر في تفصيل بعض فتاوى الثورات العربية: معتز الخطيب» «الفقيه والدولة في الثورات 
العربية)» تبين» العدد 9 (صيف 2014)» ص 84-63. 


242 


نوازل تاريخية مشابهة. فهو قد يُحَملها ما لا تحتملهء ويلبسها أوصافًا غير أوصافها 
ولَبوسًا لا يليق بها. وجرى إسقاط التصورات القديمة عن الخليفة والسلطان 
وأمير المؤمنين على رؤساء وملوك وحكام يعملون في إطار مختلف عن إطار 
«الخلافة»» هو إطار الدولة الوطنية أو القومية ذات نظام جمهوري أو ملكي؛ الأمر 
الذي يطرح إشكالية التوصيف. فالرئيس في الدولة الوطنية ذات نمط الحكم 
الشبيه بالنمط الغربي» يُطلق على نفسه أوصافًا خارج السياق» لا تنطبق عليه؛ وهذا 
انفصام آخر يفرض على الفقيه التكيف معه, وتكييف فتاويه حتى لا يصطدم به ذا 
هو هم بإبراز مساوئه. 


إن الضوابط التي أحيط بها الاجتهاد ليست صارمة بالقدر الذي يخلصها من 
الذاتية والتخمين» فهي في الأغلب عبارات جاءت في صيغ عامة تقبل التأويل 
والاختلاف» وليست مزودة بجهاز فاعل للمراقبة على الفتوى. والحال أن الاجتهاد 
خلا من هذه الرقابة» فأصبح نظامًا مفتوحًا للفتوى («معددرومءم0) قائمًا في معظمه 
على التقريب والتغليب”*». إن هذا الانفتاح هو الذي أتاح للفقهاء إضفاء الشرعية 
على سلاطين التغلب» وإغلاق مجال التداول السياسي أمام الاختيار والبيعة*©. 
وأصبحت بعض طوائف الفقهاء تعد نفسها الناطقة باسم الدين الصحيح» حارسة 
العقيدة ومؤتمنة على الاجتهاد» وأنها تستمد مشروعيتها من هذه الوظائف. 
تصبح الفتوى بحسب هذا التصور وظيفة مقدسة وتكليفًا إلهيّاء يمنح الفقيه كامل 
الضمانات و«الحريات» لفرض تأويلاته وبسط آرائه السياسية التي قد لا يُحاسبه 
عليها أحد . إن هذا التصور قد ينتهي | إلى احتكار الفقهاء منح المشروعية للحاكم 
أو نزعها عنه» Les‏ لأهواء شخصية يرون فيها امتثالا واجب النصيحة والبيان. إن 
المشروعية ذات الأساس الديني ربما «تنشئ سلطة قوية برمزيتها وطقوسيتها. 


(53) انظر في هذا المعنى: أحمد الريسونيء نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية 
(مكناس: مطبعة مصعب. 1994)» ص 9. 

)54( أحاط السيوطي الاجتهادٌ بخمسة عشر شرطا. انظر ذلك في: جلال الدين عبد الرحمن 
6 تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد (الإسكندرية: دار الدعوة» 1983)» ص 47. وانظر صفات 
المفتي» في: نجم الدين أبو عبد الله بو أحمد بن حمدان الحراني» صفة الفتوى والمفتي والمستفتي» خرّج 
أحاديثه وعلق عليه محمد ناصر الدين الألبانيء ط 3 (بيروت: المكتب الإسلامي» 1977)» ص 13. 


243 


ولكن الرمز حجاب يحجب الكائن» أي يحجب كون السلطة هي ممارسة دنيوية 
بشرية يُخلّعٌ عليها طابع GPA‏ 


إذ استمر هذا التباعد بين الفتوى والواقع في الاستفحال» أو أدى إلى تحطيم 
الثوابت الكبرى لنظرية الخلافة» واستبدالها بإجراءات استثنائية تحولت مع مرور 
الوقت إلى قواعد راسخة» فإننا لا نجازف إذا قلنا إن هذا التباعد كان موث شرًا على 
«علمانية) مبكرة ة في تراثنا السياسي؛ إذ حوّل بعض الفقهاء السياسة من مجال 
مفتوح أمام عامة الناس إلى مجال مغلق دونهم. فالفقهاء هم أكثر من اجتهد في 
قضايا السياسة وهم أول من منح المشروعية للسلطان المتغلب. وإذا كانت هذه 
المشروعية تستلزم طاعة دائمة» فلا مجال للتفكير في تداول السلطة بين عامة 
الناس» لأن لا مجال للمعارضة. 


إن هذا الإغلاق الذي مارسه الفقهاء والسلاطين المتغلبون مكّل ضغطًا على 
الكتابات السياسية المستنيرة التي كان من الممكن أن تنبعث من رحم الحركات 
المعارضة للظلم والقهرء فتنشئ «علمًا سياسيّاة جديدّاء يفهم الضرورات فهمًا 
معاصرًاء ويستخرج المصالح استخراجًا pales‏ في إيقاف مسيرة التغلب أو 
تعويقها في الأقل. إن احتكار المتغلب للمجال السياسي من جهة الممارسة» 
واحتكار الفقهاء لهذا المجال من جهة المعرفة» أديا إلى إغلاق المجال السياسي 
أمام المشاركة وأمام تداول السلطة©". 


خاتمة 
بما أن من طبيعة السلطة التداول» فإنها تمتنع عن البقاء في يد واحدة. ولما 
كان التداول من طبيعتهاء لزم أن تظل نسقًا مفتوحًا أمام من توافرت فيه شروط 
الحكمء وإلا فإن التداول إذا لم يكن بالشورى» فإنه سيكون بالغلبة. وحيال هذا 
(55) علي حربء الممنوع والممتنع: نقد الذات المفكرة (بيروت: المركز الثقافي العربي» 1995(« 
ص 259. 


(56) انظر مظاهر غطرسة السلطة في: كمال عبد اللطيف» في تشريح أصول الاستبداد: قراءة في نظام 
الآداب السلطانية (بيروت: : دار الطليعة, 1999(« ص 177. 


214 


الإغلاق كان يعض الفئات من الرعية يحاول بناء مجاله الاجتماعي» بعيدًا عن 
دائرة التغلب. وظهرت في هذا الإطار مؤسسات اجتماعية ترعى بعض المصالح 
التي لم تسمح الحرب والفتن للمتغلب برعايتها. فأقبل الناس على Jen els‏ 
والإنفاق على الخانقاه وطلاب العلم في إطار التكافل الاجتماعي» كما ظهرت 
مؤسسة الوقف التى تعبر الرعية من خلالها عن رغياتها الاجتماعية والدينية إلى 
جانب تفضيلاتها السياسية» كما تدلنا عليه بعض حجج الوقف. وحلت المصالح 
الجديدة للرعية فى محل الوظائف التقليدية للسلطة» بسبب تركيز الأخيرة على 
الجانب الأمني» وإهمالها الجوانب الاجتماعية والاقتصادية. بالتزامن مع ذلك» 
انتقل الفقهاء من الحديث عن السلطان بوصفه «ظل الله في الأرض» و«حامي الملة 
والدين»» إلى الحديث عن «ذي الشوكة» وعن «الظالم» و«الفاسق» و«العْشُوم». 
حين أحس الفقهاء أن الزمام بدأ يفلت من أيديهم» وأن المتغلب تعدى 
الحدود التي رُسمت له» تحول بعضهم إلى الاستثمار في النصيحةء لعل ذلك 
«العشوم» يعدل عن ظلمه”. وتحوّل آخرون إلى معارضة العمل مع السلطان 
والدخحول عليه"“. وتحول صنف ثالث إلى الدعوة إلى التصوف والانصراف 
عن الدنيا إلى حياة الزهد والسمو بالنفس عن واقع الفتن. ومهدت هذه الدعوات 
إلى ظهور السلبية السياسية والتوقف عن الخوض في فتن السلطة امتدادًا لحركة 
الإرجاء التى ظهرت إبان الفتئة الكبرى. وسط هذه «التشكيلة» الفكرية المضطربة 
كانت الأرضية ممهدة للدعوة إلى مزيد من الطاعة لولي الأمرء والصبر على 
بوائقه. فبدأ المحدّثون والفقهاء يؤلفون في باب الطاعة وعدم الخروج على 
الحاكم الظالم» وجمعوا الأحاديث التي تحث على ذلك. وتطورت دعوى الطاعة 
من طاعة ولي الأمر العادل إلى طاعة الفاسق والظالم» وحرص كثير من الكتابات 


(57) نذكر من الذين كتبوا في النصيحة: التبريزي (النصيحة للراعي والرعية) والماوردي (نصيحة 
الملوك) والغزالي (التبر المسبوك في نصيحة الملوك) والحميدي (الذهب المسبوك في نصيحة الملوك)ء 
وغيرهم. 

(58) نذكر منهم: السيوطي الذي ألف كتاب ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطينء 
والتبريزي الذي عقد فصلا في كتابه النصيحة للراعي والرعية سماه: «ذكرٌ ترك الدنو من أبواب السلاطين 
خوف الافتتان في الدين والأموال والدماء». انظر: أبو الخير بدل بن أبي المعمر بن إسماعيل التبريزي» 
النصيحة للراعي والرعية (طنطا: دار الصحابة للتراث» 1991(« 129. 


245 


السياسية على عقد فصول ومباحث الطاعة» وحشدها بأخبار وأحاديث تدعو إلى 
طاعة الحاكم الظالم مع تلك التي تدعو إلى طاعة العادل» جا إلى Ge‏ 
وأنشأت هذه المؤلفات ثقافة سياسية جديدة» يتبوأ فيها بعض الرعية مكانة قريبة 
من السلطانء بقدر ما يقدمون إليه من lb‏ ويحرصون على التزام الجماعة. 
فأصبح بذلك مفهوم الجماعة يعني الاجتماع على طاعة الخليفة» ويعني مفهوم 
الفتنة الخروج عليه. وصار مفهوم الجماعة مفهومًا سياسيًا بعدما كان مفهومًا فقهيًا 
وحل الاجتماع على الإمام محل الاجتماع على نصرة الدين69. 

إن مفهوم «الطاعة والجماعة» كما جرت بلورته في ظل الحكم الأموي 
والعباسي» يؤدي إلى تغييب حقيقة السلطة القائمة بكونها مغتصبة وفاسدة» وأنها 
خخارجة على الرعية بالظلم والجورء خرويجا «من أعلى» في مقابل خروج الرعية "من 
أسفل» . فالرعية والحاكم كلاهما يمارس سلطته» ومن شأن هذا «التدافع» بينهما 
أن ينشئ مجالا سياسيًا مضطربًاء 9 SRE‏ تنمو فيه علاقات العنف والتربص. فلم 
تكن الرعية مستعدة دائمًا للطاعة في مقابل الاستقرار؛ إذ أصبح الاستقرار بالنسبة 
إليها أملا LE past dl‏ عندما كان المتغلب يُثقل الناس بالضرائب والمكوس» 
ويدع جنوده يتسلطون عليهم» وينهبون بيوتهم» ويصادرون أموالهم تحت دعوى 
الجهاد. كما حدث مرات عدة في بغداد أيام حكم البويهيين والسلاجقة. إن 
الضغط الذي تولد عن حرمان الرعية سياسيًا ومعرفيًا من حقها في تداول السلطة 
انعكس على قطاعات أخرى من الحياة في دولة التغلب» فظهر العنف المذهبى 
والاجتماعي والاقتصادي والفكري بوصفه صورة للعنف السياسي المترسخ في 
ضميرها لكثرة معايشته. 


(59) نشير هنا على سبيل المثال إلى الفصل الذي عقده المالقي في الشهب اللامعة عن «وجوب 
طاعة الملك وذكر ما له من الثواب5. ومن تلك الأخبار قوله: من إجلال الله إجلال السلطان عدلا كان أو 
جائرًا. انظر: أبو القاسم عبد الله يوسف بن رضوان, الشهب اللامعة في السياسة النافعة» تحقيق علي سامي 
النشار (الدار البيضاء: دار الثقافة» 1984)» ص 66. ونذكر أيضًا الفصل الذي عقده الماوردي في فضل 
الصبر على الجزع؛ من كتابه أدب الدنيا والدين. انظر: أبو الحسن علي بن محمد الماوردي» أدب الدنيا 
والدين» ط 4 (بيروت: : دار اقرأء 1985): ص 292 وما بعدها. 

(60) لذا سمي العام الذي تغلب فيه معاوية (841ه) عام «الجماعة». انظر: رضوان السيد «رؤية 
الخلافة وبنية الدولة في الإسلام؟ء مجلة الاجتهاد؛ العدد 13 (خريف 1991)» ص 27. 


246 


إن تفكيك مفهوم التغلب سيتيح تفكيك مثل هذه البنيات التي عوّقت تقدم 
الفكر السياسي في بلادنا العربية الإسلامية إلى اليوم. وقد يكون إغلاق المجال 
السياسي في نظرية الخلافة وممارساتهاء هو الذي دفع ببعضهم إلى الإقبال على 
نقل مفاهيم سياسية غربية» بحًا عن بدائل من العنف وفوضى الاجتهاد. لقد مثل 
التغلب المعرفي الأرضية المناسبة لتكاثر الفتن والثورات» وما نجم عنها من 
مظالم وأزمات» أدت إلى ضعف الأداء السياسي وفساد السلطة. لقد أفرز بنيته 
التي يحتمي بهاء وثقافته التي يحرص على نشرهاء ومريديه وأنصاره وجمهوره 
ونظرياته وفتأويه» ومجمل أدواته المعرفية التي تولت مهمات التكييف والتبرير. 
وإذ لم يُكتب لثقافة الشورى أن تن تتتشر بصورة صحيحة؛ فقد ظهر التغلب بديلا 
طبيعيًا منهاء واستمر نافدًا مستحكمًا إلى اليوم. 


المراجع 

ابن رضوانء أبو القاسم عبد الله يوسف. الشهب اللامعة في السياسة النافعة. 
تحضو تحقيق علي سامي النشار. الدار البيضاء: دار الثقافةء 1984. 

ابن كثير» أبو الفداء إسماعيل بن عمر. البداية والنهاية. 14 ج. ط 4. بيروت: مكتبة 
المعارف» 1981. 

أبو يعلى القراء محمد بن الحسين. الأحكام السلطانية. V9»‏ دار الكتب 
العلمية.» 1983. 

إمام الحرمين الجويني» أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله . غياث الأمم في التياث 
الظلّم. ط 2 . القاهرة» مطبعة نهضة مصر»ء 1401ه. 

البغدادي» أحمد مبارك. الفكر السياسي عند الماوردي. الكويت: مؤسسة الشراع 
للنشر والتوزيع» 1984. 

التبريزي» أبو الخير بدل بن أبي المعمر بن إسماعيل. النصيحة للراعي والرعية. 
طنطا: دار الصحابة للتراث» 1 199. 


247 


الحراني» نجم الدين أبو عبد الله أحمد بن حمدان. صفة الفتوى والمفتي 
ar‏ . خرّج أحاديثه وعلّق عليه محمد ناصر الدين الألباني. ط 3. 
بيروت: المكتب الإسلامي» 1977. 

حرب» علي. الممنوع والممتنع: نقد الذات المفكرة. بيروت: المركز الثقافى 
العربي» 1995. 

الخطيب» معتز. «الفقيه والدولة فی الثورات العربيةا. تبين. العدد 9 (صيف 
2014(. 

الريسوني» أحمد. نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية. 
مكناس: مطبعة مصعب» 1994. 

السيد» رضوان. «رؤية الخلافة وبنية الدولة في الإسلام». مجلة الاجتهاد. العدد 
3 (خريف 1991). 

السيوطي. جلال الدين عيد الرحمن. تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد. 
الإسكندرية: دار الدعوة» 1983. 

شمس الدين الذهبيء أبو عبد الله محمد بن أحمد. . سير أعلام النبلاء. إشراف 

.1984 ج . ط 2. . بيروت. : مؤسسة الرسالة»‎ ۰ e 

عبد اللطيف» كمال. في تشريح أصول الاستبداد: قراءة في نظام الآداب السلطانية. 
بيروت: دار الطليعة. 1999. 

الماورديء أبو الحسن علي بن محمد. الأحكام السلطانية والولايات الدينية. 
القاهرة: دار الفكرء 1983. 


. أدب الدنيا والدين. ط 4. بيروت: دار اقرأء 1985. 


. تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق المّلك وسياسة المّلك. بيروت: 
دار العلوم العربية» 1987. 





248 


المثقف العربي وأدواره المتجددة 
أسئلة الفكر والممارسة 


هل من حاجة اليوم إلى مثقف هوّوي؟ 
بحث في تراجع الأدوار التقليدية ونظر في البدائل 


علي الصالح مولى 


قام عنوان هذا البحث على تساؤل لا على مسلّمة» وذلك من أجل أن يكتسب 
طابعه الاستكشافي والإشكالي في آن. وهو إذ ينهض على السؤالء فإنه يروم 
الاشتغال بالمعطيات والسياقات والأطاريح التي عُنيت بالمثقف» واستدراجها 
إلى منطقة المراجعة والتقويم. ولما اختار عبارة «المثقف الهُرّوي» على الرغم من 
اللبس الذي قد يَشوبهاء فرّجح أن هذه العبارة تستطيع أن تكون مساحة تتقاطع فيها 
تعريفات وتصنيفات كثيرة» كما تصلح لتتعايش في داخلها مصطلحات من قبيل 
الملتزم والعضوي والثوري والعمومي. وحين يجعل «الهُرّوي» قاعدته الأساسية» 
فهذا يعني أنه ينهض على توجه نحو تجميع العناصر التي يتركب منها جسم“ 
المثقف. فإذا تشكل استقل بوجوده وكون مقومات هويته. وهوء أخيرًاء يطمح إلى 
أن يرتقي بهذه العبارة إلى مرتبة الاصطلاح من دون أن يدعي ذلك. 

«المثقف الهُرّوي»» إذّاء مشروع مصطلح غرضه أن ينتشل المثقف من 
مدارات التوظيف والتشغيل للحساب الحزبي أو المذهبي أو الطائفي» وأن يحرره 
من الارتهان بمقاربات تستثمر دوره في تعزيز مواقع فاعلين آخرين. ومن دون 
مزيد من es‏ يرى البحث أن «المثقف الْهَوّوي» فاعل للحساب الخاص» 


251 


لا لحساب الآخر. لكنه. وهو يختار الاهتمام ب «الهُوّوية؛ من أجل التعامل مع 
المثقف من حيث انتمائه إلى ما يتميز به من غيره من الفاعلين» يبقيه نقطة انطلاق. 
فاهتمامه ينصب في المقام الأول على درس معقولية الانتقال من زمن المثقف إلى 
زمن الخبير. 

لما كانت مسألة المثقف مُتحولة بما يطرأ على المجال الذي تقع فيه من 
تحولات» رأى هذا البحث أن يعتمد في تقليب القضايا التي ينظر فيها منهجًا 
تاريخيًا وظيفيًا يُؤمن تحليل الظاهرة وهي تنمو وتتطور» ويرصد التحولات التي 
تطرأ عليها وآثارها في محيطهاء ومنهجًا آخرَ تاريخيًا نقديًا يعالج قراءات الظاهرة 
برد ما تصدره من أحكام إلى سياقاتها. 


من حيث إن مركز الاهتمام في البحث هو النظر في احتمالية انتهاء زمن 
المثقف الهُوويء كان لا بد منهجيًا ومعرفيًا من التقاط العلامات الدالة عليه من 
جهة. والتفطن إلى البدائل المحتملة من جهة ثانية. ولهذاء سينصرف البحث 
في المبحث الثاني إلى رصد سياقات التحول أكثر من الوقوف على الثابت من 
المعطيات والأحكام. وهذا يقتضي العبورٌ من وضع الأزمة وتوصيفاتها إلى وضع 
تفكيك المعطيات ونقدها واستشراف البدائل المحتملة ليكون السؤال: «إلى أي 
مدى يمكن أن يكون ”الخبير ' قادرًا على ملء الفراغ الذي تركه المثقف؟»» تأسيسًا 
للبحث في معقولية الزمن الجديد. في هذا الاتجاه إذاء سيتحرك المبحث الثالث» 
وسينشغل بسياقات ميلاد الخبير والوظائف التي ينهض بها. ويطمح البحث إلى 
أن يراكم تقدمّه نقاط الافتراق الرئيسة بين عالّم المثقف وعالّم الخبير» وأن يعطي 
تصورًا لمشروعية انقضاء زمن المثقف وبروز زمن الخبير. 

Es‏ على ما سبق» ربما يحدث في النهاية ما يشبه اليقين أن الخبير بات» اليوم» 
ضرورة تاريخية لممارسة التفكير في قضايا العرب الكبرى. لكنء ما الإمكانات 
والاستعدادات التي ينبغي أن تتوافر لانبثاق زمن الخبير العربي؟ هذا موضوع ريما 
لا يصيب فيه هذا البحث بسهم مباشر ومُثمر» وعسى أن يكون مقدمة لأعمال 
أخرى. 


252 


أولا: المثقف الهُووي 
مقاربة فى سياقات النشأة والدور 


1 - اللحظة الدريفوسية ونشأة المثقف: بحث فى تكون المجال 


«إني أتهم» هي العبارة التي منحت المثقفين شهادة ميلاد”". لكن» ينبغي 
الإشارة إلى أن هذا الإعلان الذي نال ما يشبه الإجماع* لا يعني أن ثمة فراغًا 
كان العالم يهوي إليه قبل هذا التاريخ. فمن المبالغة الذهاب إلى أن المجتمعات 
الإنسانية لم تعرف قادة رأي ومصلحين ودعاة وهداة وفروا لها القيم الضرورية 
للحياة. إن ما جعل هذا الحدث يكتسب كثافة رمزية استثنائية هو نشوء 
دائرة انتماء يندرج فيها نشاط طائفة من الناس ندبت نفسها للدفاع عن الحقيقة 
والعدل”» وهي بذلك ستصبح مكوّنًا فاعلا في حياة المجتمعات المعاصرة. 


(1) إمیل زولا «إز إني أتهم؛ (#دداههه')» عنوان رسالة إلى الرئيس الفرنسي فليكس فور. 
(2) معظم الدراسات المهتمة بتاريخ الأفكارء وكذلك المعاجم» تعد قضية دريفوس السبب المباشر 


Pascal Ory & Jean-François Sirinelli, Les {ntellectuels en France: De لنشأة كلمة #مثقف:. انظر مثلا:‎ 
d'affaire Dreyfus à nos jours (Paris: Armand Colin, 1986). 


(3) من الدراسات التي بحثت بحثت في تاريخ المثقف قبل دريفوس: 


Jacques Le Goff, Les {ntellectuels au Moyen âge (Paris: Seuil, 1985), et Geneviève Idt, «L'Intellectuel 
avant l’affaire Dreyfus,» Cahiers de lexicologie, vol. 15, no. 2 (1969). 


يُستّحسن فى هله المسألة العودة إلى: جيرار ليكلرك؛ العولمة الثقافية: الحضارات على المحك. 
ترجمة جورج كتورة (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة» 2004)» على نحو خاص» الفصل الثالث: 
«المثقفون بين التقليد والحداثة (تَلمنة الثقافة)4» ففيه وقف ليكلرك بكثير من العمق والطرافة على المشترك 
بين من يمكن أن نسميهم «مثقفي ماقبل الحداثة»؛ والمثقفين الذين نشأوا في صُلبها وصلب العَلمانية» كما 
وقف على نقاط الاختلاف الجوهرية. انظر أيضًا: عزمي بشارة» #عن المثقف والثورة»» تبينء العدد 4 (ربيع 
3 2)» حصوصًا العنصر «ملاحظة تاريخية»» والعنصر «إشكاليات؛ وانظر كذلك: محمد عابد الجابري»ء 
المثقفون في الحضارة العربية: محتة ابن حنبل ونكبة ابن رشد» ط 2 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 
0)» وعز الدين العلام» الآداب السلطانية: دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي» عالم المعرفة 324 
(الكويت: المجلس الوطنى للثقافة والقنون والآداب» 2006). 

(4) مايُفيد حداثة الاستخدام أن الذين تداعوا منتصرين لزولا وقضية دريفوس العادلة أن أسماءهم 
التي كانت نظهر في عرائض مساندة تنشرها جريدة الفجر LL. à (L'Aurore)‏ من أعدادها لم تكن 
CAE‏ الملحقة بها تشير إلى أنهم «مثقفون». كانت هوياتهم المهنية تُعرف بهم (جامعيء «OL‏ أستاذ 
مهنة حرة ...إلخ). ومن المرجح أن كليمنصو هو أول من استخدم عبارة #المثقف» لتعيين هؤلاء الذين - 


253 


من واجبي أن أتكلم لأني لا أريد أن أكون شريكا [في الجريمة]. فإن لم 
أفعل» فإن شبح ذاك الرجل البريء الذي يدفع هناك ثمن جريمة لم يرتكبها ويُسَام 
أشد ألوان العذاب سيلاحقني في نومي. وناك كل ابر ريس اصرح ينا 
أوتيت من قوة وغضب بهذه الحقيقة» أمامكم يا سيادة الرئيس». هذا مقطع من 
رسالة غير عادية توجه بها الروائي الفرنسي إميل زولا في 23 كانون الثاني/ يناير 
8 إلى الرئيس الفرنسي فليكس فور. وهو نض تر عاديء [ا من gr‏ مسرا 
eu se ON LAS‏ » الضابط الذي نهم باطلا بالخيانة وإفشاء السر العسكري؛ لم 
يكن استثناء» فربما هناك غيره في الجيش الفرنسي وفي سواه من جيوش العالّم» 
حيث أسبغ وعي زولا بأنه في متزلة تحتم عليه «الكلام؛ على النص ووضعه 
ذاك الذي «يدس نفسه فى ما لا يعنيه». 


كان زولا يكتب في مسألة لا تعنيه من حيث انتمائه المهني. فالقضية المثارة 
موضوعها مظلمة في هيئة الأركان والقضاء الحربيين في فرنسا. وهما من أشد 
المجالات انغلاقًا بسبب ما يحيط الشأن العسكري عادة من خصوصية. وما كان 
e‏ بل كتب «في ما لا يعنيه». وذ 

شر أول نلتقطه لنقول إن المثقف وهو يباشر فعله «الثقافي»» لا يباشره بوصفه 
ra‏ اي و الي أما المؤشر 
الثاني» فنلتمسه من قوله: من واجبي أن أتكلم». فالكلمة سلاح المثقف. إنها 
وسيلة فرض السلطة؛ السلطة التي تَفرَض أصلًا وابتداء بالقوة والإكراه . ولم يتكلم 


=انتصروالقضية زولا العادلة. ويبدو أن موريس باريس نجح في وقت لاحق في جعل هذا الاستخدام يعرف 
رواجًا كبيرًا من خلال جريدة الجريدة (ا۵دهل ١ا)‏ اليومية الواسعة الانتشار. وربما كان يلزم بعض الوقت 
حتى يعبر هؤلاء عن أنفسهم بهوية جماعية يخرجون بفضلها من الانتماء المهني الفردي؛ وكان ذلك في 26 
حزيران/ يونيو 1919. ففي جريدة «(L'Humanité) LS‏ ظهر بلاغ 24 المثقفين يعرفون أنفسهم تعريفًا 
هُوويًا: «نحن حََدَم الفكر. ليس لنا سيد غيرهه. 
(5) انظر نص الرسالة فى: 
Emile Zola, J'accuse!: Et autres textes sur l'affaire Dreyfus (Paris: J’ai lu, 2001).‏ 


Marc Olivier Baruch & Vincent Duclert (dirs.}, Justice, politique et république: : للتو ۰ انظر‎ 
De l'affaire Dreyfus à la guerre d'Algérie (Bruxelles: Complexe/Paris: IHTP, 2002); Jean-Denis Bredin, 
L'Affaire (Paris: Fayard/Juiliard, 1993), et Michel Winock, Le Siècle des intellectuels (Paris: Seuil, 1997). 


254 


زولا رغبة في الكلام؛ بل تكلم من منطلق الشعور بالواجب. وهذا يدفع إلى التقاط 
المؤشر الثالث» وهو أن الانخراط في هموم الآخرين وتبني قضاياهم والدفاع عنها 
مسؤولية (ربما تتطور هذه المسؤولية/ الواجب في نظريات السوسيولوجيا الثقافية 
والسياسية إلى مقالات فلسفيةء مثل الالتزام والعضوية والعمومية). 

جاء في الرسالة أيضًا: «ما نّدبتٌ نفسي للقيام به إن هو إلا أداة ثورية لاستحثاث 
الحقيقة والعدالة على التحقق». وههنا يكمن المؤشر الرابع: إنه المقصد. فلكل 
عمل غاية؛ وغاية زولا كشف الحقيقة وتحقيق العدالة. وهوء. بلا ريمب» مقصد 
إنساني نبيل. إنه الدفاع عن القيم حتى لا يحول العابثون حياة الناس إلى شقاء 
وحرمان. وتتكرر في الرسالة عبارة «إني أتهم؟ تكرارًا لافنا (ثماني مرات)» فيدل 
ذلك على المخاطرة والإصرار عليها. ويتجلى من خلالها الوعي بالصعوبات التي 
قد تعترض المثقف وهو يمارس واجبه. فمع كل تكرار تنفتح جبهة في وجه زولا. 
ويسوق هذا إلى استنتاج مفاده أن المثقف مستعد لمحاربة الجميع والوقوف وحده 
بلا سند ما دامت قضاياه عادلة. وهنا يبرز المؤشر الخامس: المواجهة/ النضال. 
ولا معركة بلا خسائر: «لا أنكر أني أضع نفسي تحت طائلة البندين 30 و31 من 
قانون الصحافة لسنة 29 تموز/ يوليو 1881 الذي يعاقب على جرائم A‏ 
إنه المؤشر السادس: الاستعداد لتحمل نتائج النضال. 

ما نخرج به من هذه الرسالة يمكن صوغه في عناوين تصلح كي تكون 
علامات يتحدد فى ضوئها مجال المثقف الهوّوي. أما الكلمة ف «أمانةة: وأما 
المسؤولية ف «وعى»» وأما الغاية ف ارؤية4» وأما النضال ف «شرف»» وأما تحمل 
التتائج ف «تضحية!. ولا يكتمل رسم حدود المجال إلا بشرط واحد هو أن يكون 
صاحب هذه الخصال صادرًا في أفعاله عن «إرادة ذاتية» لاعن ضرورة مهنية. 

إن توافر هذه «الاستعدادات» و«الكفايات» يساعد فى بناء الفضاء الذي 
تتحقق فيه هُوية المثقف» وهو «الحقل» (م5ه). وغني عن البيان أن بورديو 
هو من استحدث هذا المفهوم الإجرائي لدراسة البنى الاجتماعية وتعميق النظر 
في خصائصها وآليات عملها. وإذ نستعير هذا المفهوم» فلأنه يمتلك قدرة كبيرة 
على إظهار أن المجتمع ليس نسيجًا موحدًا وموحدًا تلتقي فيه وتنصهر أطيافه 

(6) صدر ضده بسبب هذه القضية حكم بالسجن عامّاء فاضطر إلى اللجوء إلى لندن. 


255 


ويتكامل الفاعلون فيه في الأدوار التي يؤدونهاء وإن شقهم صراع طبقي أبدي كما 
ترى الماركسية» إنما هو كيانات وتكتلات ومجالات مستقل بعضها عن بعض» 
ولكل واحد منها آليات تسيير ذاتي وتصورات ومقاصد خاصة به» ومن داخلها 
يتكوّن بالتدريج حسن مشترك وقواعد عمل متفق عليها. وليست هذه التكتلات 
والكيانات إلا حقولا كالحقل السياسي والحقل الديني والحقل الاقتصادي. 
ولا يتكون ذاك الحس المشترك إلا ب «ضريبة» يدفعها الملتحق بهذا الحقل أو 
ذاك» وهي نوعان: وجوب «الاعتراف بقوانين الحقل والحفاظ على مصالحهاء 
و«الإحاطة ail JR‏ تاريخ الحقل من المشكلات والصراعات والإمكانيات» 
فضلا عن المعرفة العملية بمبادئ اللعبة وكيفية اشتغالها»”. 


2- المثقف الهوّوي: بحث في الحقل والدور 

وجرن عر ی ود اال ال ا ار ا ج ت 
فضلا لا يعرفه غيره لما ميزه فقال: «إن جميع الناس مفكرون. ومن ثم نستطيع أن 
نقول: ولكن وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها كل الناس». لا 
نتوقع أن يكون غرامشي قام بهذا الفرز من دون أن يكون هو نفسه مادة تعريفية 
بامتياز. فما يميزه مفكرًا من غيره من مفكرين آخرين هو أنه قام بوظيفة المثقف. 
وأن «دفاتر سجنه» تشهد له بذلك؛ إذ حكم عليه بالسجن عشرون عامّاء وأمضى 
في سجون موسوليني نصفها وفارق الحياة قربانًا. استخدم غرامشي عبارة «وظيفة 
المثقف». وهو لا يعنى قطعًا أن هذه الوظيفة «(Professionnalisation) (4e ALU‏ 
إنما المراد أن المثقف لا يكون مثقفًا ما إن يحصل نصيبًا من العلم. فلو كان الأمر 
كذلك. لكان معظم الناس مثقفين. إن تحويل المكتسبات من العلم والمعرفة إلى 
مواقف يحيا بها الإنسان سلوكًا وعلاقات وقيمًا ومبادئ هو ما يتحقّق به الفرز 
والتصنيف» فيكون المثقف في جهة من المشهد السياسي/ الاجتماعيء ويكون 
في الجهة الأخرى كل من لم يعش عمليات التحويل المذكورة. ويمكن على هذا 

(7) علي حربء أصنام النظرية وأطياف الحرية: نقد بورديو وتشومسكي (بيروت/ الدار البيضاء: 
المركز الثقافي العربي» 2010): ص 33-32. 


Antonio Gramsci, Selections from the Prison Notebooks, Quintin Howare & Geoffrey Nowell- (8) 
Smith (trans.) (New York: International Publishers, 1971), p. 9. 


256 


الأساس تعيين المثقف تعيِينَ تصنيف ليكون فئة أو طائفة أو جماعة تختص بالجمع 
بين المعرفة والعمل2©. للعمل هنا معنى سوسيولوجي وأخلاقي وأسع. وهذه 
«الوظيفة» التي «لا يقوم بها كل الناس» تدفع إلى استخلاص نتيجة هي أن تلك الفئة 
لا يمكنها أن تكون إلا محدودة إما عددًا وإما أثرًا. 


هذا تقريبًا ما أثاره جوليان بنداء وهو ينظر في الخصال التي يتصف بها هؤلاء. 
وهذا التعريف الفّرزي الذي يجعل الفعل في الأرض ممارسة خصوصية يقصّر 
دونها من قَصْرَّت بهم همتهم عن الانتصار للحق هو تمامًا ما بلوره سارتر تحت 
عنوان الالتزام حين جعل الدور الاجتماعي (101650191) في علاقة مباشرة بالوضعية 
ee cles sa Ml (Situation)‏ 39 5 فى العدد الأول من مجلة الأزمنة (Les do‏ 
Temps modernes)‏ التي أسسها في عل 5 بالاشتراك مع مي رلوبونتي هذا 
التمييز صريحًا: «يحيا الكاتب وضعية ما في عصره: رَجِع لكل كلا وصمت. 
إني أحمل فلوبير وغونكور المسؤولية عن الاضطهاد الذي أصاب الكومونة*“ 
لأنهما لم يَحْطا سطرًا واحدًا للحؤول دون وقوعه. ربما يقول قائل: هذا ليس 
من شأنهما. لكن: هل كانت قضية [العائلة] كلاس شأنًا خاصًا بفولتير”2؟ وهل 
كانت إدانة دريفوس قضية زولا الشخصية؟ هل كانت [سوء] الإدارة [الفرنسية] 
في الكونغو قضية جيد الشخصية*'؟ إن كل كاتب من هؤلاء» وهو في وضعية 
ملائمة للتصرف» حدد OMS gens‏ 


(9) عبر هنري بربروس عن هذه المسألة تعبيرًا مباشرًا ودقيقًا: «تحمل الفكرة الصحيحة عواقب 
واقعية» وإلا فهي ليست - اجتماعيًا - سوى كذبة»» انظر: 

Henri Barbusse, Le Couteau entre les dents: Aux intellectuels (Paris: Editions Clarté, 1921), p. 13. 

(10) في شأن «کومونة باریس «(La Commune de Paris)‏ انظر على سبيل المثال: 


Jacques Rougerie, La Commune de 1871, Que sais-je?, 3% ed. (Paris: Presses Universitaires de France, 
1997). 


(11) نشير إلى أن رسالة 5 à Ka 3 Le 251S (Traité sur la tolérance) peau,‏ المباشرة لتدخل 

فولتير في مأساة العائلة كلاس. للتوسعء انظر: 
Benoît Garnot, Voltaire et l'affaire Calas: Les Faits, les interprétations, les enjeux (Paris: Hatier, 2013).‏ 
2 يشير سارتر إلى رحلة أندريه جيد إلى الكونغو واطلاعه على سوء الإدارة الفرنسية لمستعمراتهاء 
وآثار ذلك في حياة الناس. وللتفصيلء يمكن العودة إلى وقائع هذه الرحلة ومواقف جيد النقدية في كتابه/ 


Gide André, Voyage au Congo: Suivi de Le Retour du Tchad: Carnets de route (Paris: Gallimard, :& سیر‎ 
1981). 


Patrick Wagner, «La Notion d'intellectuel engagé chez Sartre,» Le Portique, no. | (2003), (13) 
P. 3, dans: http://bit.ly/1Rrmdjs. 


257 


هكذا إِذَاء كان التصنيف قائمًا على الوظيفة» لا على المشترك (المعرفة). 
وتنقلنا الوظيفة بدلالتها الاجتماعية إلى مفهوم «الدور الاجتماعي»؛ وهو مفهوم 
à‏ العلوة الاجتماعية منذ أواخر القرن التاسع عشرء قبل أن يفقد جزءً! من 
سلطته في التحليل والتفسير. 

إن الدور الاجتماعي محدد رئيس في عمليات الفرز والتصنيف التى اعتمدها 
سارتر (وغيره أيضًا ممن خصوا المثقف بوجود هُرّوي). بهذا تفقد المكانة 
الاجتماعية المتأتية من الوظيفة/ المهنة قيمتها في تعريف المثقف . ولايكون الدور 
الاجتماعي فاعلًا وقادرًا على تمييز المثقف من غيره ما لم يكن منبثقًا من قاعدتين 
متلازمتين تلازم العلة والمعلول: الإيمان بالقيم الإنسانية الكبرى» والانخراط 
عمليًا في تكريسها. ومن شأن هاتين القاعدتين أن تُكسبا الدور الاجتماعى فاعلية 
تكاد تكون رسالية يتجاوز بها المثقف وضعية القيادة بمعناها المباشر إلى وضعية 
الرائي والمخلص: «المثقفون... هم أولئك الذين يسكبون الأفكار في صخب 
الحياةء علماء أكانوا أم فلاسفة أم نقادًا أم شعراء» فإن مهنتهم نا٤۷‏ الأبدية هي 
ضبط الحقيقة التي لا تقبل التعدد وتنظيمهاء إن في قواعد أو في قوانين أو في 
كتب. إنهم الذين يرسمون المسارات والاتجاهات. إنهم يحوزون موهبة شبه 
إلهية تسمح لهم بأن يسموا الأشياء بأسمائها»*". 


3- أزمة المثقف الهووي: قراءة في السياق الدريفوسي 


لئن كانت صرخة زولا «إني أتهم؛ شهادة ميلاد المثقف» فإن «نهاية 
المثقف292 كانت بمنزلة «تقرير حالة» استّخرجت بمقتضاه «شهادة وفاة». وإذا 
كان إعلان الولادة لا يثير قضايا وإشكالاتء نظرًا إلى أن الحاجة إلى المثقف 


Barbusse, p. 5. (14)‏ 
(15) من أكثر العناوين إثارة العنوان الذي تخيره جون فرانسوا ليوتار قبر لكل مثقف (Tombeau de‏ 
l'intellectuel).‏ و لم يكن كتاب ريجيس دوبريه المثقف الفر: نسي: (L'intellectuel français: Ag s À‏ 
(18© 5:16 دونه مأساوية: قال عنه حسونة المصباحي: «لكأننا ونحن نقرأه نسير في جنازة حزينة لمثقفين 
فقدوا الدور والمصداقية والجدوى وباتوا صالحين لشيء واحد: الدفن!»» انظر: حسونة المصباحي» 
«المثقفون.. هل أصبحوا موضة قديمة؟)» الشرق الأوسط 5/ 2/ 2001. 


258 


هي التي اقتضت وجوده» فإن ما يدعو إلى الريبة والقلق هو إعلان الوفاة. فبأي 
معنى يُفهم الأمر؟ هل استفرغ المثقف الهُرّوي كل الجهد لإبقاء مشروعية وجوده 
قائمة؟ هذا سؤال من أسئلة أخرى مدارها على المثقف الذي يصنع وجوده باتهام 
غيره وتُصتّع نهايته باتهامه. 

كثيرة هي الأدبيات التي تتحدث عن انتهاء المثقف ©" ولا شك في أنها 
لم تأت من فراغ. لكن كثرتها لا تعني بالضرورة صدقيتها بإطلاق. فربما يوجد 
باستمرار مّن يهب نفسه للدفاع عن العدل والحق» وإن ججرد في هذه الهوية التي 
شكلها السياق السابق الذكر. وقد يكون التطوع لأداء هذا الدور واقعًا في معنى 
الوجوب أو الالتزام السارتري» لكن خطورة أطروحة النهاية لا تستمد أهميتها من 
ضياع الحق بموت المثقف. إنما من انهيار التوازن بين التشكيلات الاجتماعية 
والسياسية والاقتصادية والدينية الذي نشأ بميلاد المكون الثقافي. فترويج «خبر» 
موت المثقف كأنما هو اعتداء رمزي على مكسب إنساني وفره قانون الترقي 
البشري في اتجاه التحرر من نزعات الإنسان الشريرة» لا بالمعنى الأخلاقي 
فحسب» وإنما بما للشر من حمولة مناقضة للثقافة أصلًا وابتداءً. وحين LS‏ 
تفسير تاريخي تطوري قهري لنهاية المثقف مفاده أن المثقف مُنتّح تاريخي زائل 
بحكم قانون التطور نفسه» تفقد حركة التاريخ مقاصدها الكبرى» ويتجرد الإنسان 
تحت قَدّريتها الصارمة من قدرته على الفعل والتوجيه» ويصبح هو نفسه صنيعة 
التاريخ لا صانعه. وبهذا التصور تختفي عقلانية التاريخ ويغرق في اللامعنى. 

ربما تّجاوّز توصيف الواقع واستخراجٌ النتائج إلى إطلاق الأحكام؛ فجاءت 
الإدانة عنوانًا بارزًا لزمن مابعد المثقف الدريفوسي؛ إذ كتب جوليان بندا خيانة 
المثقفين في وقت مبكر”"» وشدد فيه على انحراف المثقفين عن رسالتهم 


(16) لعل كلمة «التزعزع؛ التي استخدمها علي حرب آقرب إلى المراد بوصفها تقوم على نقل 
المشهد: أي يكن» فالدور التنويري والتحريري للمثقف الطليعي والنخبوي قد تزعزع منذ زمن». انظر كتابه: 
علي حربء الاستلاب والارتداد: الإسلام بين روجيه غارودي ونصر حامد أبو زيد (بيروت/ الدار البيضاء: 
المركز الثقافي العربي» 1997): ص 76. وقد استخدم أيضًا كلمة «التصدع». وهي ملائمة كذلك في هذا 
السياق: إن نموذج المثقف» المناضل والطليعي... قد تصدع بعد أن آل إلى الفشل والإحباط» (ص 82). 

Julien Benda, La Trahison des clercs (Paris: Bernard Grasset, 2003). (17) 


259 


الأصلية وانخراطهم في دعم الأنظمة الحاكمة والمؤسسات الرسمية. لم يُسَم بندا 
المثقفين باسمهم الهُوّو ي» بل أطلق عليهم اسم (16:05©)؛ لما في التسمية من عَبق 
روحي ووجداني فوق دلالتها المعجمية المباشرة. والقصد هو أن تكون الإدانة 
A‏ 9 5 إنها خيانة الروح. وكتب بعد ذلك إدوارد سعيد تحت العنوان نفسه. 
«خيانة المثقفين؟» مقالة دان فيها أداء المثقفين الأميركيين الذين صمتوا عن جرائم 
الحرب التي ارتكبتها دولتهم» أو اتبعوا سياسة التبرير: إن كانت الحياة الإنسانية 
مقدسة... يجب دائمًا على المرء أن يبدأ مقاومته من وطنه ضد السلطة كمواطن 
يمكنه التأثير» لكن يا للأسف... ليس هناك سوى خيانة المثقفين والإفلاس 
الأخلاقي الكامل»29. 


ثانيًا: في علل التراجع 
مقاربة تاريخية وظيفية 


1 - من التوصيف إلى القراءة 

بناءَ على ما تقدم يسلم البحث أن التراجع أضحى بمنزلة الحقيقة التاريخية 
والسوسيولوجية. وسنصطفي نصوصًا ثلاثة نتخذها متكأء نحاول من خلالها تبين 
واقع «التراجع» وأبرز المقاربات في شأنها: 

- النص الأول: «منذ السنوات العشرين الماضية التي ظهر فيها الكتاب الذي 
أعيد نشره حاليّاء بدا لي اليوم أن الأطروحة التي كنت أتبناهاء وهي أن الرجال 
الذين اتخذوا من الدفاع عن القيم الخالدة والنبيلة» مثل العدالة والحق» وظيفة 
لهم والذين سميتّهم مثقفين قد خانوا هذه الوظيفة لحساب منافع مادية... لم تفقد 
صدقیتها»'. 


(18) إدوارد سعيد» خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة» ترجمة أسعد الحسين (دمشق: دار نينوى 


للتحقيق والنشرء 2011)» ص 89. 
(19) هكذا افتتح جوليان بندا في عام 1946 ويعد مرور عشرين عامًا على صدور الطبعة الأولى من 
كتابه. انظر: مقدمة الطبعة الثانية فى: Benda.‏ 


260 


التي أطاحت طوباوية المثقف A e es‏ 
الفاجعة التي استفاق عليها وعيه فجأة» فإن الأوان لم Lay Ch‏ لبعث الحياة في 
رسالة الالتزام التي حملها يومّاء وليس القصد هنا القول بإمكانية استثناف أوهامه 


الرسولية ا بل إعادة تأسيس معئى جديد للالتزام»*. 


- النص الثالث: «إن من بين المشكلات الموجودة هناك [في باريس] هو أن 
التعامل مع المثقفين يجري باهتمام كبير جدًا... أصبح المثقفون نجومًا كأولئك 
الذين تصنعهم هوليوود... يأسف الناس لأن التعامل مع المثقفين في الولايات 
المتحدة لا يجري بما يلزم من الاهتمام. لكني أعتقد أن هذا من الأمور الجيدة في 
الولايات Gi‏ 


حين يكتب بندا عن استمرار تدهور مكانة المثقف وينعى المآل الذي وصل 
إليه» فإن المقاربة التاريخية الوظيفية هي التي كانت الخلفية النظرية للنتيجة التي 
ساقها. وحين يكتب بلقزيز عن أدوار المثقف التي ما زالت محتملة وممكنة» فإن 
المقاربة النقدية الاستشرافية هى التى دفعته إلى ذلك. وحين يكتب تشومسكى عن 
عدم حاجة الولايات المتحدة الأميركية إلى «مثقفين» بالمعنى المتداول في فرنساء 
على نحو خاصء فلأن ما دعاه إلى ذلك هو أن تاريخ الولايات المتحدة الأميركية 
لم يعرف في مقاطعه الحيوية حضورًا فاعلًا للمثقف. 


يُستفاد من هذا أن منزلة المثقف والأدوار الموكولة إليه ليست محل إجماع 
كما يُتَصّور عادة. ويبدو أن سبب هذا «الإجماع» المفترّض هو طغيان (مدرسة 
علم الاجتماع الفرنسية»؛ بدرجة أساسية» بمفاهيمها التأسيسية النظرية والإجرائية 
على مساحات واسعة من الدراسات الاجتماعية في كثير من بقاع العالم. ويمكن 
تحسس هذا التأثير أو الرغبة في حصوله في أمثلة قد يكون أبرزها الدرس 
الاجتماعي في المؤسسات الأكاديمية العالمية. 


(20) عبد الإله بلقزيزء نهاية الداعية: الممكن والممتنع فى أدوار المثقفين» ط 2 (بيروت: الشبكة 

.149 العربية للأبحاث والنشرء 2010)» ص‎ 
«Entretien avec Noam Chomsky,» Propos recueillis, traduits et présentés par Normand (21) 
Baillargeon, Le Cerveau a tous les niveaux (Website), 21/1/1993, dans: hup://bit.ly/1k5687S. 


261 


من الأمثلة المباشرة ذات النزوع الصريح إلى جعل المثقف الفرنسي أنموذجًا 
يمكن تصنيعه لا ترويجه. خارج مجاله فحسبء هذا التشبيه الذي طرحه نورماند 
بيرجون على تشومسكي في الحوار المذكور سابمًا: «قرأتٌ في مقالة من موسوعة 
فرنسية مخصصة لكم أنكم تمثلون على نحو من الأنحاء سارتر الولايات المتحدة 
الأميركية». ويبدو أن تشومسكي لم يستحسن أن يكون نسخة أميركية من أصل 
فرنسي على الرغم من مكانة سارتر والأدوار النضالية «الملتزمة» التي ما فتئ 
تشومسكي ينهض بها. فاكتفى في رده على محاوره بالضحك» بل والاستغراق 
فيه كما تدل صيغة الجمع Lo); .(Rires de Chomsky)‏ ألح عليه مدقمًا في الشبه 
الذي بينهما: «أريد أن أقول: إنك» مثلما كان سارترء فأنت مثقف ملتزم»؛ أجابه 
برد يمكن أن نفهم منه محاولة تشومسكي أن يطيح أسطورة المثقف الفرنسي التي 
يتباهى بها الفرنسيون: «كان [سارتر] ملتزمّاء ولكن ثمة شيء حقيقي في التقليد 
الفرنسي نفسه. إن أغلب المثقفين» وفي كل مكانء هم في خدمة السلطة... وأما 
الذين ليسوا في خدمتها فمّهّمشون... إن السبب الذي يجعلكم لا ترون المثقفين 
هنا ”ملتزمین ا 

الحاصل من هذا أمران: هو أن سارترء مقارنة بالعدد الكبير من 
مثقفي السلطةء لا يمثل فعلا امجة مجتمع؟ المثقفين؛ إنه كالاستثناء. À Es‏ 
وضع المثقف في منزلة فوق منزلته الحقيقية هو ماجعل منه «نجمّاة بالمعنى 
«الهوليوودي» المشار إليه. . وبناءً على هذاء يتقلص حجم المثقف المبالّغ فيه. ولا 
شك في أن تشومسكي وهو يجتاح مجال المثقف الفرنسي «المُعَّو لَّم؛ (Intellectuel‏ 
globalisé)‏ ويعمل على تبديد الكثافة الرمزية الإيجابية المحيطة بهء يترك لفاعلين 
آخرين (من خارج حقل المثقف) ممارسة الأدوار التي يُعتّقد أن المثقف مندوب 
وحته للقيام بها. ولا ريب في أن التجربة الأميركية التي لم تسوق مثقفين كبارًا في 
قيمة مثقفي فرنسا يمكن تأمل مساراتها من زوايا عدة. لكن أبرز ما تختص به هو 
أنها تجربة خبراء» لا تجربة مثقفين. 

لا خلاف في شأن ثبل المقصد الذي رأى فيه بندا أن المثقفين ضيعوه. 


Ibid. (22) 


فالانتصار للقيم الإنسانية التي ترتقي بوضعية الإنسان في الوجود لا يمكن 
إلا أذ يكون مدا Sd ses Be Le A Ba‏ 
والظلم والاستعباد. ومر في المبحث الأول من البحث أن هذا الموقف يمثل 
الوظيفة المركزية للمثقف وعنوانًا من العناوين التي تُشكل هويته. لكن؛ هل أن 
قدّر المثقف هو أن يكون «دريفوسيًا””»؟ هل ما زال قادرًا اليوم على «الالتزام» 

بتحمل الأعباء التي ندب نفسه لتحمل مشاقها في نهاية القرن التاسع عشر؟ ألا 

يكون تعقد الحياة بأبعادها المختلفة سبيلا إلى تحمل فاعلين من مشارب أخرى 
مسؤولية المشكلات الناجمة عن هذا التعقيد؟ وما قيمة «الإدانة» و«التخوين» 
و«القتل» إن تبين بقراءة موضوعية غير ثأرية أن الحضور الهوّوي للمثقف ما عاد 
قادرًا بمفرده على التصدي ل «مظالم» الحياة الراهنة التي «تَعولّم» فيها كل شيء 
حتى أنه ما عاد فى الإمكان السيطرة عليها الآن وهنا؟ ألا يكون جزء من المسألة 
عائدًا إلى ضيق مفاهيم «مدرسة علم الاجتماع الفرنسية» وعجزها عن مواكبة 
التحولات الاجتماعية والسياسية والقانونية والاقتصادية التي عرفها العالم منذ 
ثمانينيات القرن العشرين؟ 


2- المثقف الهووي ومعقول التاريخ 

من تمام الصورة إلى شظايا الواقع 

تؤدي هذه الأسئلة إلى النتائج التي أفضت إليها المقاربة النقدية الاستشر 
OE BT‏ 
أ يماس ملطة وهمية ار Nul) Je dot‏ ما زال يستهويهم الحنين 
إلى زمن الحقل الثقافي» المقارع الوحيد للظلم؛ وإلى التمتع بمرأى المثقف متوثبًا 
متصديًا وهو يصرخ: (إني أتهم». فعبد الإله بلقزيز وهو يعيد رسم خريطة المثقف 
والمساحات التى لا يمكنه أن يتخطاها إنما يصدر عن وعى بالمتحولات الكبرى 
التى أدخلت المجتمعات الإنسانية فى أنساق من العيش والسلوك غير تقليدية» 
وأعادت تنظيم مراتب الجماعات والهيئات والحقول والأدوار على نحو جديد. 


(23) يُستخدم هذا الاستعمال للدلالة على تيار المثقفين الذي سار على نهج زولا. والواقع أن 
المبادئ التأسيسية التي قام عليها مبحث المثقف مشتقة كلها من مقولات هذا التيار» كما سبق بيان ذلك. 


263 


ومن شأن الوعي بهذه المتغيرات أنها لا Eh Ep gts‏ للمثقف فحسب» 
بل تستحث هذا المثقف أيضًا على إعادة تموقعه بحسب ما يقتضيه مقامه. وتتحقق 
هذه العملية بقطع الخطوة الأولى» وهي «أن يكف عن تضخيم دوره 'التاريخي* 
وأن يُقلع عن عادة انتداب النفس لأداء مهمات أعظم من حقل الثقافة ذاته»**. 

ريما تلوح في هذه المقاربة النقدية الاستشرافية قسوة مبالّغ فيها لأنها ربما 
لا تكتفي بخلع المثقف من وهم الصورة ونمطيتهاء فلعلها تخلعه أيضًا من منزلته 
التاريخية» وتجرده من أدواره» وتقصيه عن حقله. وتحرمه سلطته التي بسببها كان 
HA‏ . إن «الاعتداء؛ على المثقف «الدريفوسي». بعد أن أصبح تقريبًا مادة تاريخية» 
لا يساعد» موضوعيّاء في دراسة مسارات تُشكل المثقف في التاريخ المعاصر. 
لذلك ينبغي أخذ الحيطة حين يراد تأسيس وضعية جديدة لمثقف جديد. فالنقد/ 
الهجوم الذي يوجه اليوم إلى ذاك المثقف. » إن لم يُوضع في إطار نقد المقاهيم 
المصاحبة له من جهة:ونقد الأسن التي قامت+عليها العلوم الاتجتماعية المهتمة 
بهذه المسألة من جهة ثانية» لن يفضي إلى نتائج ذات قيمة. فالقول إن مكانة 
المثقف تزعزعت قول لا إشكال فيه لأنه توصيف للمشهد من خلال رصد آثار 
المثقف في الواقع. لكن القول «لقد انكشف الو هم الكبير الذي ألهم المثقفين 
تلك المشاريع الشاملة والأيديولوجيات الثورية لتغيير العالّم وتحرير الشعوب 

من القهر والاستلاب. هذا من لدن ماركس حتى غاروديء مرورًا بكل المنظرين 
الثوريين والمثقفين العالميين“”*» حكم فيه شطط كبير إن لم نقل إن فيه ظلمّاء 
لأنه لم يرجع تزعزع المكانة إلى مقدماتها التاريخية وإنما حصرها مباشرة في أن 
المثقف مذ کان مثقفا (بالأدوار و الحقل والسلطة)ء كان يبني مجده على الإيقاع 
بالناس في 5 سرك سلطته الوهمية 5 a‏ لحقيقته هو ولوعي المؤمنين برسالته ON.‏ 
هل كان الأمر كذلك حمًا؟ 


يصعب أن نساير علي حرب في هذا التخريج تحديدًا. فإنتاج المعنى كان 
باستمرار وظيفة حيوية للونسان وحضارته. تمييرًا له من سائر الكائنات. وما 
«المعنى» إلا ما به يتأنسن الإنسان. وكم كان مطاع صفدي دقيقًا لما عرف الإنسان 


(24) بلقزيزء ص 149. 
(25) حرب. الاستلاب والارتداد.» ص 78. 


264 


أنه «كائن المعنى»*. لكنء» ينبغي الانتباه إلى أن إنتاج المعنى ليس متاححا للناس 
جميعًا. إن جماعة واحدة من الجماعات المشكلة للمجتمع الإنساني هي القادرة 
دون غيرها على ذلك؛ وهي جماعة «المثقفين». وبقطع النظر عن أي صنف من 
هؤلاء يقوم بهذا الدور» وفي أي جدول من جداول علوم الاجتماع نجده فإننا 
نرى - على وجه التعميم - أنه ذاك الذي يمارس نشاطه في مجال الرموز والفنون 
والأفكار والآداب والفلسفة إما إنتاجًا وإما ترويجاء سواء صادف أن سمي مثقفًا 
أو لم يصادف أن يُسمى كذلك. 

استخلاصًا مما تقدم وبناءً عليه» تتتج السياقات حين تنقاطع معقولية ما 
تفرزه من معان وقيم وتصورات وأدوار ومواقع. لذلك؛ تكون نشأة المثقف 
الُووي بأدواره التحريرية والرسالية والثورية... نشأة موضوعية لأنها مشتقة من 
تقاطع السياقات. وحين يقع الإقرار بتزعزع مكانة المثقف. يكون السؤال المنتج 
والأقرب إلى الطرح من غيره هو: هل انتبه المثقف الهُووي/ الدريفوسي إلى أن 
شروط إنتاج مبررات وجوده والأدوار التي ندب نفسه للنهوض بها ما عادت اليوم 
كما كانت من قبل؟ فمثل هذا السؤال ينقلنا من دائرة الحُكم الأخلاقي - «الجنائي؟ 
إلى دائرة البحث فى التحولات واشتراطاتها الجديدة. هذا ما ذهب إليه علي حرب 
نفسه في ما بعد. ولَينَه لم يجمع بين الحكم والتحليل جمع تناقض: «العالّم قد تغير 
على نحو مذهل)27. 


3 - خيانة أم عجز موضوعي؟ 


كانت التحولات إِذاء على درجة من الضخامة والعمق. وبدا المثقف الهُووي 
عاجرًا عن مجاراتها أو الوقوف في وجهها؛ إذ عصفت به مع مَن عصفت من 


(26) ممّا جاء في تعريف مطاع صفدي للمعنى: «والمعنى» ما هو معناه؟ إنه استشعار... هذا 
الاستشعار ميز الجسد من حيث هو استراتيجية تجاوز مستمر. إنه ليس المخلوق الذي كان يدب على 
أريع عندما كان مجرد حيوان» ثم أضحى ثنائي القدمين» ليس هو كذلك فحسبء بل غدا أهم تمركز قووي 
يتعامل مع العالم من منطق الاختراق والتجاوز الدائم. ويالطبع ليس تحركه المادي هو المقصود هناء بقدر 
ما هو في اقتداره على اكتشاف مسافات المعنى واختراعها في آن. إنه كائن المعنى الذي لا يكف عن إعطاء 
مفهوم لوجوده» أو معنّى لحياته» انظر: مطاع صفدي» ماذا يعني أن نفكر اليوم: فلسفة الحداثة السياسية: نقد 
الاستراتيجية الحضارية (بيروت/ باريس: مركز الإنماء القومي؛ 2002)؛ ص 278 

(27) المرجع نفسه. ١‏ 


265 


مكونات زمن ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتى. كان ضحية من ضحايا الرأسمالية/ 
الليبرالية المنتصرة. وكان سقوطه جزءً! من سقوط يسار العالم*©. لهذاء يصعب 
الاطمئنان إلى القول: «إن المثقف خان الأمانة». قد يصدق هذا على مثقفين أفراد 
يتعينون بأسمائهم وأفعالهم» أو قد تنطبق التهمة على نوع من المثقفين وُجدوا 
لأداء أدوار «صغيرة؛ في زوايا صغيرة9©. وهم إن قُورنوا بما كان يُفترض أن يكون 
عليه المثقف (النمطي» والأنموذج» والثوريء والملتزم» والعضوي) شبه للمقارن 
أن خيانة وقعت منهم. 

لم يحُن المثقف الهُووي الأمانة» إنما خانته (على المجاز) قوتان: قوة 
التتحولات وقوة/ انهيار اليسار. وبهذا المنحى وحده نفهم معنى أن يكون المثقف 
اليوم في هامش التاريخ. أما هؤلاء الذين تُوجه إليهم أصابع الإدانة» فما هم bé‏ 
من منتسبي «الحقل». إنهم نسخة ما بعد التحولات التي أعادت تركيب الأدوار. 
ويبدو أن النقد الذي استهدف المثقف الهُووي أطلق كله في الفراغ لأنه استهدف 
وجودًا Pose ge jé‏ وقد يكون النقد الذي وجهه إدوارد سعيد إلى مثقفين 


(28) لاشك في أن حدث تفكك الاتحاد السوفياتي لم يكن بداية انهيار المثقف ومقولاته الخلاصية 
الكبرى. كان بالنسبة إلينا اختيارًا منهجيًا فحسب؛ نظرًا إلى رمزيته الجيوسياسية والأيديولوجية. أما تاريخيّاء 
فيعود الجدل في شأن فاعلية المثقف الهووي إلى الخمسينيات. وصار الحكم عليه بالإلغاء معلومًا في 
الستينيات. والكتابات التي روجت فكرة نهاية اليوتوبيا ونهاية الأيديولوجيا تؤكد ذلك. ويبقى عالم 
الاجتماع الأميركي دانييل بل الأكثر شهرة بكتابه نهاية الأيديولوجيا الذي طبع أول مرة في عام 1960 .ولعل 
الفرنسي ريموند آرون بكتابه أفيون المثقفين الذي ظهر في الفترة نفسها تقريبًا ينافسه في الترويج لانتهاء زمن 
الأيديولوجيات الكبرى . للتوسع» انظر على نحو خاص: راسل جاكوبي» نهاية اليوتوبيا: السياسة والثقافة في 
زمن اللامبالاة» ترجمة فاروق عبد القادن عالم المعرفة 9 (الکویت: المجلس الوطني للثقافة والفنون 
والآداب. 2001).: تحديدًا الفصل الأول: «نهاية النهاية ل 'نهاية الأيديولوجيا'. ويحسن التنبيه مهنا إلى 
أن بل وآرون (وكلٌ من شاركهما هذا الموقف في خمسينيات القرن العشرين وستيئياته) كانوا ينطلقون من 
الانتصار للرأسمالية والليبرالية» وكانوا يعتقدون أن مصير العالّم هو «دولة الرفاء». 

(29) يقول جاكوبي: «أما اليوم؛ فإن المثقفين لم يعودوا قادرين على التدخل في الشؤون العامة باسم 
العالمية» والإمكانات المتاحة هي ”محلية؛ ودفاعية فحسب“». ويقول عالم الاجتماع محمد صبور: إن 
نوع المثقفين العالميين قد أصبح نادرًاء أو هوء في حقيقة الأمرء قد انقرض». انظر: جاكوبي» ص 139. 

(30) يحسب آلان تورين» حتى صورة المثقف (الهووي) ما عاد لها أثر: «إن صورة المثقف هذه 
لا تنتمي إلى وقتنا الحاضر». 51 : Alain Touraine, Critique de la modernité (Paris: Les Éditions Fayard,‏ 

1992), p. 415, dans: http://bit.ly/INVzH8a. 


266 


ES)‏ أماناتهم» بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 1 مثالا جيدًا لاتهام 
يصاغ خارج الزمان والسياق» حيث قال لمناسبة مرور عشرين عامًا على ظهور 
كتابه الاستشراق: «المؤكد أن من بين الكوارث الفكرية في التاريخ ما نراه الآن 
من حرب إمبريالية مدمرة افتعلتها مجموعة صغيرة من المسؤولين الأميركيين... 
ضد بلد من العالم الثالث يعاني أصلًا الدكتاتورية والدمارء وذلك على أساس 
أيديولوجي يتلخص بالسيطرة على العالم وموارده. ونجح هؤلاء في تمويه 
غايتهم هذه بفضل التبرير والدعم اللذين لاقوهما من مستشرقين خانوا أماناتهم 
BD al‏ 


المعني بالاتهام على وجه الخصوص شخصيتان معروفتان: برنارد لويس 
وفؤاد عجمي. وتوقع إدوارد سعيد أن يقفا في وجه العدوان الأميركي على 
العراق. والحقيقة أن ما كان لهما أن يفعلا إلا ما فعلا. فهما لا ينتميان إلى زمن 
المثقف الذي يتحرك إدوارد سعيد في داخله؛ بل إلى الزمن الأميركي» زمن «مراكز 
الخبرة والتفكير0!*© (5اه*1 هنة1). وانخراطهما في مؤسساته بدد كل إمكان للنظر 
إليهما كما لو كانا مثقفين هُوَويين. لذلك تسقط التهمة لعدم انطباقها على صورة 
الحال. وإذا كان الاتهام بالخيانة في غير موضعه في ضوء مقاربة تاريخية AS‏ 
فإن الحكم على المثقف بالانتهاء أو الموت» على الرغم من قسوته الظاهرة» هو 
الحكم الأقرب إلى اليقين لأنه حكم «تقرير حالة»ء لا حكم «إدانة). انتهى المثقف 
الهُووي لأن زمنه قَمَدَ مفاعليه وضرورات استمراره» لكن المثقف غير الهُووي لن 
يعدم مساحات ينشط فیها. 


حين تنتفي موضوعيًا مبررات وجود المثقف الهُووي» تأتي الدعوة إلى تجسير 
العلاقات بين مختلف الفاعلين تعويضًا من الفراغ من جهة:؛ ووعيًا تاريخيًا بأن 
مشكلات الإنسان المُعولم ما عاد قادرًا على التصدي لها إلا بجهد مركب مشترك. 
وإذا كنا لا ندري على وجه اليقين مقدار الأثر العَيني الذي يستطيع هذا الجهد 


Edward W. Said, «L’Humanisme, dernier rempart contre la barbarie,» Le Monde diplomatique (3 1) 
(Septembre 2003). 


3x5 (32)‏ المصطلحات المركية التي يجري توظيفها في (Think ge UNI pogéal Ji‏ 
Zac s .Tanks)‏ عنها في هذا البحث بالمصطلح المركب «مراكز الخيرة والتفكير». 


267 


المشترك أن يساهم به في تحقيق قيق مطالب الناسء فإن ما ينبغي تسجيله في هذا الصدد 
هو أن مجالًا جديدًا أخذ في التشكل بعيدًا عن المعالجات التعديلية والمّوضعية 
للمثقف منزلة ووظيفة. إنه مجال الخبير الذي يبدو أنه البديل النوعى للمثقف 
الُوّوي”*. ولعلهء بالأدوار الموكولة إليهء سيبدد كل إمكان لترميم حقل المثقف. 


OU‏ «مراكز الخبرة والتفكير» 
وزمن مابعد المثقف الهوّوي - مقاربة سياقية 


1 - في خصوصية النشأة ودلالاتها: بحث في جدل الفكرة والقوة 

لما أجاب تشومسكي محاوره إن كان بمنزلة «سارتر الولايات المتحدةة 
بالاستغراق في الضحك. لا نظن أنه انتشى بهذا التشبيه. ملناء من دون أن يكون 
أمامنا معطيات أخرى غير الضحك. إلى أنه ربما تبرمّ وتضايق. فدانييل بل الذي 
حكم على المثقف في الستينيات بالموت (وسارتر «ستيني» بامتياز)» يعسر من 
بعده» بعد أن صار الزمن زمنًا أميركيّاء أن يظهر فيه من يلبس جبة سارتر» على 
الرغم من التقدير الكبير الذي يحتفظ به تشومسكي لهذا المثقف الملتزم. لم يكن 
ما ذهبنا إليه لسبب يخص تشومسكي الفرد (قد يكون رأى نفسه أكبر من سارتر). 
فتشومسكي في هذا الموقف أميركي» يتحدر من سلالة مجتمع لم تكن فيه الثقافة 
الرامزة التي «يفتح» من خلالها المثقف الرسالي الأرض أمام الحرية والعدل 
والحق» تعنى ENS ES‏ فالولايات المتحدة الأمير كية» من به تصنع استثناءها 
وقوتها وتضمن مصالحها؛ إنه الخبير. 


(33) وُجدت مقترحات من مفكرين عرب قد يكون مقترح الجابري منذ الثمانينيات («الكتلة 
التاريخية») ذو الجذور الغرامشية أكثرها وعيًا بأن المثقف ما عاد قادرًا على تحقيق الأهداق الكبرى؛ مثل 
الديمقراطية والحريةء فضلا عن الأحزاب التقدمية أو الطلائعية أو حتى الجبهات. الكتلة التاريخية» إطار 
يلتقي فيه الجهد المؤمن بالمستقبل العربي. لكن هذا الاقتراح لم يذهب به صاحبه بعيدّاء ولم يتحمس له 
كثير من الناس. 

(34) هذا رأي شائع وظهرت كتابات كثيرة تعززه؛ من ذلك كتاب ريتشارد هوفستارد حول معاداة 
الثقافة في الحياة الأميركية (1963). انظر: 

Richard Hofstadter, Anti-Intellectualism in American Life (New York: Knopf, 1966). 


268 


قبل التدقيق ذ في المصطلح» نشير إلى أن الأعوام الأخيرة عرفت فائضًا في 
استخدام عبارة «خبير لتقديم شخصيات من مجالات معرفية متنوعة للرأي العام. 
وأكثر ما يظهر هذا التعريف ب «الضيوف» في وسائل الإعلام. ويبدو أنه استخدام 
اعتباطي يبتز من المعجم جانبه التخصصي من دون أي دلالة أخرى. ولا ندري إن 
كان ذلك لمناسبة طرح الحمولة التي كانت تملا كلمة مثقف. نظرًا إلى الضربات 
القاصمة التي تلقاهاء أو لأمر آخر. لكن الثابت هو أن كلمة «مثقف» تكاد تختفي 
حقا من الفضاء العمومي» وتحديدًا من الفضاء ء الإعلامي» وأن سوق كلمة «خبير“ 
في ازدهار. فما الخيير أولا؟ 


تحيل هذه الكلمة عند المتخصصين» مباشرة» على مصطلح «مركز الخبرة 
والتفكير؛» وهو من المصطلحات القليلة في العلوم الاجتماعية التي يكتنفها 
غموض شديد”* وتستعصي على الترجمة*”» إضافة إلى أنه لم يدخل مجال 
التداول العام والأكاديمي خارج الولايات المتحدة الأميركية”” على النحو الذي 
يجعله بديلا سهلا من كلمة مثقف. 


من دون كثير من التفصيل» نشير إلى أن الاتجاه الغالب على التعريف 
المعجمى هو ما تحيل عليه كلمة ١ة‏ من معاني الإناء المَعَد لحمل مادة ماء 
وما تحيل عليه كلمة ١ا‏ من دلالة على الفكر. والحاصل منهما مجتمعتين هو 
الدلالة على فضاء للتفكير أو جماعة تمارس التفكير. لكن دلالة أخرى لم تنل 
حظها فى أثناء البحث عن معنى 101 فالكلمة لا تعني الإناء الذي تعبا فيه مادة 
لل ار النقل فحسب؛ ذلك أن من معانيها أيضا «المجنزر 5/ (Char) (LUI‏ 


(35) قال عنها كزافييه تانجي: «هذه العبارة الأنكلوسكسونية تحتفظ في فرنسا بغموض الدلالة»» 
انظر: ,)2004 Xavier Carpentier-Tanguy, «Think Tanks: Un Concept «Made in USA',» Journal du Net (avril‏ 
dans: http://bit.ly/1MjwPw4.,‏ 


(36) قيل عنها إنها كلمة «مطاطة وغير قابلة للترجمة» «(Plastique et Intraduisible)‏ والمقابلات التي 
اقتّرحت لم تكن» في معظم الأحيان» قادرة على استيعاب دلالاتها. 

(37) ثمّة رأي شاذ مفاده أن أوّل ظهور ل «مراكز الخبرة والتفكير» كان في بريطانياء وحسّجته أن كفاح 
بعض البريطانيين ضدّ الرقّ بزعامة توماس كلاركسن أدى إلى تأسيس أول مركز رأي في العالم في 22 أيار/ 
مايو 1878 تحت اسم: «Committee for the Abolition of the African Slave Trade».‏ 


269 


وربما يكون انصراف المترجم عن العناية بهذا المعنى عائدًا إلى خلو ذهنه من 
احتمال وجود علاقة بين Is 9 «(Cher /Tank) PLU 3 (Pensée /Think) KA‏ 
أمر يجري تفهمه LÉ‏ وسياًا بل إنه يجد من المعطيات ما يمنع صرف التفكير 
إليه. ألم يوجّد المثقف صلا وجود تناقض مع «الدبابة٠/‏ الجيش الفرنسي (قضية 
دريفوس)؟ 


حين ينزاح النظر عن المقابل المعجمي الأول (الإناء/ الفضاء/ النادي) 
إلى المقابل المعجمي الثاني المَهمّل (الدبابة)» يتحقق ركن أساسي من أركان 
التعريف: العلاقة المباشرة إلى حد الالتحام أو الانصهار بين عنصري المصطلح 
:Tank Think‏ ادرو و ة. فالفكر بلا قوة تفرضه» لا قيمة عملية له» والقوة 
بلا عقل يقودهاء لا فائدة ب Lou no «ge (ae‏ يكون (لهذا السبب تحديدًا) قد 
عَسْرَ ضبط تعريف دقيق ا ل «مركز الخبرة والتفكير». 

أماعن النشأة» فشيء من مقادير الصدف يجمعها بنشأة المثقف. قضية دريفوس 
كانت في عام 1898» وهو العام نفسه الذي ظهرت فيها إلى العلن الأميركي عبارة 
ef ge Think Tank Ji‏ لم تظهر بالدلالة الثانية وإنما بمعنى «الدماغ الحامل 
(Boîte à idée) *°0 SU‏ لذا سيحتاج الأمر إلى بعض الوقت لتتمخض الدلالة 
الثانية. ويبدو أن حرب الانفصال (1865-1861) والتحديات التى اعترضت 
وحدة الشمال والجنوب دفعت قطاعات من رجال الفكر والاقتصاد والسياسية 
والدين من ذوي المهارات العالية إلى الانخراط فى معركة المصير. وكان قرار 
الخر وج من «الموقف الانعزالي» (Attitude isolationniste)‏ والمساهمة في رسم 


(38) من الدراسات القليلة في هذا اباب دراسة Jean-Loup Samaan, «Les Origines :OLL. De‏ 
militaires des Think Tanks: Le Cas américain,» Chantiers politiques, no. 5 (Printemps 2007).‏ 
(39) لذلك ذهبنا إلى أن جريان كلمة #الخبير» على الألسن من دون رقابة لدلالتها وخلفيتها يدخل 

في باب الاستخدام الاعتباطي. 
(40) نشرت نيويورك تايمز يوم 18 كانون الأول/ ديسمبر 8 مقالة عن متشورّد ارتكب جريمة. 
وفي أثناء استنطاقه في مخفر للشرطة» قال في تعبير سوقي مبررًا فعلته: ٠سيديء‏ إن صندوق أفكاري 


Thomas Medvetz, «Les Think tanks aux : :,e معطل»؛ قاصدًا أن فساد فكره هو ما قاده إلى الانحر اف. نقلا‎ 
États-Unis: L'Emergence d’un sous-espace de production des savoirs,» Actes de la recherche en sciences 
sociales, nos. 176-177 (2009), p. 81. 


270 


معالم السياسة الدولية» بدءًا بالانخراط في وقائع الحربين العالميتين الذي يحتاج 
إلى إسناد في التصور والتخطيط والاستشراف. وشرعت جماعات التفكير والرأي 
تنحول بالتدريج إلى مؤسسات كبرى تنهض بأدوار أساسية””. هكذا ارتبط ظهور 
«مراكز الخبرة والتفكير» بالأزمات أو المتغيرات الجيوسياسية*“. 


2- في أدوار «مراكز الخبرة والتفكير»: بحث في تسليع القيم 


أعطى الطابع المؤسسي «مراكز الخبرة والتفكير؛ شخصية معنوية واضحة من 
جهة» وحضورًا مؤثرًا في الواقع المادي من جهة ثانية. وإذا كان المثقف اكتسب 
شرعيته بأدوار الاحتجاج والاعتراض» وبنى سلطته بانتصاره للقيم الإنسانية» 
فإن «مراكز الخبرة والتفكير» استمدت شرعيتها من أدوار الإسناد والمعاضدة 
للسلطات. وما إن عصفت التحولات بالعالم وفقد يسار العالّم موقعه» حتى فقد 
معه المثقف تأثيره. وما إن اجتاحت مبادئ السوق العالم حتى برز «عقل المصلحةا 
قويًا في حلف لا ينفصم مع سلطتي السياسة والمال. وإذا كان المثقف منتج أفكار» 
فإن «مركز الخبرة والتفكير؟ منتج وبائع. الفكرة عنده سلعة» والسلعة مال» وما هذا 
بمستغرب في سياق الثقافة المجتمعية الأميركية. ويرى هيرب بركوفيتز المتنمي 
إلى و احدة من أشهر مؤسسات الفكر الأميركية «(The Heritage Foundation)‏ أن إنتاج 


الفكرة وطباعتها ليسا إلا نصف المهمة» وأن اما يبقى هو بيع الأفكار»”*». وسوق 


Donald Abelson, «Think Tanks and US, Foreign Policy: An : Bi «JL Le على‎ )41( 
Historical View,» US. Foreign Policy Agenda, vol. 7, no. 3 (November 2002). 

وأما ريتشارد هاس فاستخدم كلمة «موجة» (200ا) لتقسيم 50 Richard N. Haass, Think : Lil.‏ 

Tanks and U.S. Foreign Policy: A Policy-Maker's Perspective,» U.S. Foreign Policy Agenda, vol. 7, no. 3 
(November 2002), pp. 5-6. 

Stephen Boucher & Martine Royo, Les Think tanks: : JAN Le فى هذا الصددء انظر على‎ )42( 
Cerveaux de la guerre des idées, Pascal Lamy (préf.), Échéances, 2% ed. (Paris: Le Félin-Kiron, 2009), 
Chap. 3: «Les Think Tanks naissent sur les décombres des crises», and James Allen Smith, The Idea 
Brokers: Think Tanks and the Rise of the New Policy Elite (New York: Free Press, 1991). 

Andrew Rich, «War of Ideas: Why Mainstream and Liberal :رړۈ¡نl عن أندرو رش«‎ Hs (43) 
Foundations and the Think Tanks They Support are Losing in the War of Ideas in American Politics,» 
Stanford Social Innovation Review, vol. 3, ro. 1 (Spring 2005), p. 25. 


يذكر رايش في هذا الصدد أن The Heritage Foundation 43e‏ أنفقت على الإعلام والاتصال في 
عام 2002 ثلث ميزائيتها التي تقدر ب 33 مليون دولار. 


271 


الأفكار ناشطة في الولايات المتحدة نظرًا إلى أنها الممول الوحيد للمؤسسات 
العامة والخاصة**» وعبارة «حرب الأفكار» (كهء14؟ه عدلذا) كثيرة التداول هناك. 


يمكن القولء إِذَاء إن انسحاب المثقف لم يكن طوعيّاء وما كان يسبب 
خيانة. فهذا الزمن الناشئ بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وشبكة القيم المرافقة 
)4 اصطحب معه فاعلا جديدًا يسنده ولا يصادمه. وهو ذو هوية مؤسسية تقوم 
على دعامتي المال وإنتاج الأفكار لتحصيل منفعة مباشرة ة آنية أو بعيدة المدى. 
ولا شك في أن استبدال «القيمة» ب «المصلحة» استبدالا يعطى لهذا الزمن بعض 
خصائصه فرض على «قادة الرأي» أن كر اف نة مته اة الى 
ويكفي الاطلاع على نسيج المؤسسات البحثية في الولايات المتحدة حتى تُقهم 
دلالة تسليع الفكرة من ناحية» وطغيان ثقافة المنفعة من ناحية ثانية (وصل عددها 
في عام 2013 إلى 1828 مؤسسة). إننا طبعًا لا نستحضر في هذا المقام الخبراء 
بوصفهم أفرادًا أو «مثقفين تقنيين0©. فالخبير لا يكون خبيرًا إلا داخل مؤسسة 
يلتزم أهدافها في ما يُتتج من معرفة/ بضاعة ويأخذ في مقابل «أتعابه) مالّا(”*. ولا 
مو ارح البو إنها هي التي تهبه صفته» بل هويته نفسها. وإذ يكون 
الخبير «مثقف؟ الزمن الأميركي المعولّم» » فلا يُتوقع OÙ BI‏ 4632 ما يخالف المبادئ 
التي ينهض عليها هذا الزمن. 


(44) من أمثلة هذا النوع من التنافس الذي تلتقي فيه الفكرة والمالء ما برّر به أندرو انتصارات 
المحافظين على الجمهوريين المتلاحقة: «هذا النجاح لا يعود إلى قوة الأفكار فحسب. إن تحلف هذه 
الأفكار مؤسسات ناجحة». انظر: .25 Rich, p.‏ 

عن الدور الكبير الذي تقوم به هذه المؤسساتء يعلق جوستان فايس: «هنا تُبنى سياسات أميركا 
الخارجية والداخلية وتُصاغ وإنها المحضنة التي يجري فيها اختيار المسؤولين عن مستقبل أميركا كل أربعة 
tel pa‏ : انظر : Justin Vaïsse, «Les Courants de pensée en politique étrangère aux Etats-Unis: Hégémonistes‏ 

contre gestionnaires,» Afiernatives internationales, no. | (Mars-Avril 2002). 


Michael D. Rich, «RAND: How Think Tanks Interact with the : 1 على سبيل المثال»‎ (45) 
Military,» US. Foreign Policy Agenda, vol. 7, no. 3 (November 2002), pp. 22-25. 


John C. Goodman, «What Is a Think Tank?» National Center مأڈ:‎ LH 3 Ra عن تسليع»‎ )46( 
for Policy Analysis, at: http://bit.ly/1JeKLYz. 


خصوصا الفقر ة الموسومة «Marketing Ideas»‏ امقر اأمو وة «intellectual Entrepreneur»‏ 


Yves Derai, «Think Tanks: Les nouveaux laboratoires du pouvoir,» L'Optimum, no. 71 (2004), (427) 
p. 103. 


272 


le EL‏ هذا كله» يكون توسع نفوذ أميركا في العالّم وفرض رؤيتها وأسلوب 
عيشها وقيمها «المسلعة) )Marchandisées(‏ متناغمة مع غزو نسختها من «مركز 
الخبرة والتفكير» فضاءات وثقافات كانت ذات يوم تفتخر بأنها تحت سلطان 
المثقف: «اجتاحت مؤسسات مراكز الخبرة والتفكير باریس وباشرت الاهتمام 
بكل الموضوعات». ورمزية باريس الثقافية لا تخفى» وغزو «مراكز الخبرة 
والتفكير» لها شهادة لا ترد بأن الزمان ما عاد زمان المثقف. ولكن باريس» بما 
تحمله من رمزية وهي تتخلى عن زمائهاء تحبر مأ في استيعاب محمولات الزمن 
الجديد. فهذا «الغزو» لم يستطع أن «ايُفُرنس» (عواءممم) «المثقف»؛ الأميركي 
(نستخدم عبارة المثقف تجورًا على سبيل المقارنة)» تمامًا كما لم يستطع سارتر 
أن 445410 (»هنهدهنوسم) باسم تشومسكي. كان ثمة استعصاء واضح في نقل 
تجربة «مراكز الخيرة El‏ وملء الفراغ الذي أحدثه انسحاب المثقف 
الْهُوّوي: «لم یکن سهلا نقل مؤسسات ”مراكز الخبرة والتفكير* المرتبطة ارتباطًا 
وثيقًا بالمجتمع الأميركي إلى أنظمة أو بلدان أخرى. إنها تعكس في الجوهر ثقافة 
أنكلوسكسونية وإدارة ديمقراطية ناجحة0!*“. لكنها على الرغم من ذلك تكاثرت 
ونزعت إلى محاكاة الأصل (وصل عددها في فرنسا في عام 2013 إلى 177 
مؤسسة). ويبدو أن «المثقف» أخذ في تجريب العيش داخل المؤسسات والمراكز 
البحثية لتأدية واجبات حخَدَّمية - بحش ة4 . 


تنص بيانات «مراكز الخبرة والتفكير؛ التأسيسية على مهماتها") و 


Alain Faupin, «La Pensée au service de l’action: Les Think Tanks américains.» La Revue (48) 
internationale et stratégique, no. 52 (hiver 2003-2004), p. 97. 


(49) من أبرز الشهادات على التحول في وظيفة المثقف يسبب تحول السياق العالمي ما جاء على 
لسان فيليب مانيار» رئيس أكبر «مركز خبرة وتفكير» في فرنسا (1۴۴1). ققد ذكر أن مهمته بعد إنتاج الفكرة هو 
بيعها: «عملي بعد ذلك هو بيع أفكارنا للمسؤولين في هذا البلد. .. إني أمضي Mesh Es‏ في البرلمان وفي 
مكاتب الوزراء» . نقلا عن: .104 Derai, p.‏ 
(50)جاء على سبيل المثال في التعريف L The Heritage Foundation 4. 3e;‏ يلي: #مؤسسة بحلية 
وتربوية مهمتها تكوين السياسات العامة المحافظة المرتكزة على مبادئ حرية المؤسسة وتنميتهاء والتدخحل 
المحدود للدولة والحرية الشخصية والقيم الأميركية المحافظة والدفاع الوطني القوي»» في: 
Steven P, Bucci, «We Must Remain Vigilant Through Responsible Refugee Policies,» The Heritage‏ 
Foundation (2 December 2015), http://herit.ag/1jjDaAd.‏ 


273 


غالبًا ما تلبي حاجتين: وطنية وحزبية - مؤسساتية في إطار السياسات الكبرى 
لدوائر التمويل. أما الذين تنتدبهم؛ فهم من المتخصصين المَهَرة بميادين تحتاج 
إلى خبرتهم. وههنا فرق جوهري آخر بين المثقف والخبير. فإذا كان المثقف 
ينتدب نفسه تطوعًا وتضحية لأداء مسؤولية «أخلاقية» خارج التصنيف المهني - 
SA SR E‏ 
تلك تنتهي مهمته بانتفاء حاجة المشغل إليه. 


3- العرب وتحربة «مر كز الخبرة والتفكير»: تحديات ورهانات 

لا تشذ منزلة المثقف العربي اليوم عن منزلة المثقف في العالّم عمومّاء لكن 
شيئًا من الخصوصية كان يميز وضعيته» حيث ألقت عليه ثلائةٌ تحولات كبرى 
طا فر ریه طت اماه أصابه سقوط يسار العالم في مقتل. وزادت 
مخرّجات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 في إثخانه فلم يقدر على بلورة 
خطاب عربي - إسلامي يساعد في تصحيح الصورة» ويمد جسور التواصل نحو 
مراكز صناعة الرأي العام العالمي. ولم يحض معركة «الربيع العربي». فأفلتت 
منه لحظة تاريخية نادرة تصّرمت من أمامه» وها هي تتحول إلى ما يشبه الحروب 
الأهلية في أكثر من بلد. 

إذا أضيفت إلى ما تقدم علاقاته الغامضة بالسلطة» وانتماؤه الطبقي/ 
البرجوازي. وإن لم يكن شديد البروز» أمكن 845 هامشيته وعجزه عن تحويل 
ثقافته المدرسية (بالمعنى الأيديولوجي) إلى فعل محسوس يرى الناسٌ آثارّه في 
الأرض» وأمكن من ثم إحالة التراجع في الأداء على أسبابه المركبة. 

أما التفسيرات التي 35 التراجعَ إلى سلوك دولة الاستبداد العربية وتجريفها 
المساحات كلها لمصلحة حدم الحاكم وأعوانه» فعلى الرغم مما فيها من الوجاهةء 
وجب ألا ننسى أن تاريخ المثقف كان في البدء: «إني أحتج»؛ وإذ يحتج الناس ولا 
يحتج المثقف إلا بأخَرّة» فهي نتيجة غير مستفزة ة إن ؤضعت في سياقها .فهل يكون 
«مركز الخبرة والتفكيرة مخرجًا وبديله؟ 

ليس حظ الخبير فى البلدان العربية أفضل من حظه في البلاد الأوروبية» 


2014 


فالتجربة قصيرة» والعدد صغير» والتمويل ضعيف. ويكفي إلقاء نظرة على خريطة 
توزيع «مراكز الخبرة والتفكير» في العالم حتى يُتبين موقع هذه المراكز وعددها 
في البلدان العربية. إن أهم دراسة إحصائية هي تلك التي تواظب على إنجازها 
جامعة بنسلفانيا تحت إدارة جيمس ماك غان. فهي تمثل مرصدًا جيدًا لعدد #مراكز 
الخبرة والتفكير» في العالم ونشاطاتها وتمويلها وتخصصاتها. وسيعتمدها هذا 
الببحث لمعرفة منزلة العرب داخل هذا السياق الجديد» ولتقترح مقارنة بين 
دراستين*» من أجل الكشف عن نسق تطور الوعي بأهمية هذه المراكز. وأهم 
ما يمكن الخروج به منهما تُعرضه في النقاط الآتية: 

- أحصت الدراسة الأولى 5465 مركرًا عالميّاء نسبة الموجود منها في 
الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 3.99 في المئة» وهي أدنى نسبة على الإطلاق. 
وتطور العدد ليصل إلى 6826 في الدراسة الثانية (بعد خمسة أعوام)؛ وارتفعت 
نسبة مراكز الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتدرك ال 7.49 في المئة» لكنها تبقى 
الأدنى أيضًا. 


- ضبطت الدراسة الأولى شروطا لغربلة هذه المراكز وإبقاء من يستجيب 
منها للشروطء فأحصت في الغربلة 407 مراكزء منها 8 عربية فقط» وهو الرقم 
الأدنى أيضًا. وقفز عدد المراكز العربية في الدراسة الثانية ليصل إلى 378 مركرًا 
(كان 218 مركرًا في عام 2007)» وهي زيادة كمية مهمة تدل على انخراط واسع 
نسبيًا في المنافسة على إنشاء «مراكز الخبرة والتفكير». 

- لم يتغير الوضع نوعيّاء وبقيت المراكز العربية خارج التصنيف. فمن 
مجموع 65 مركرًا عالميًا متخصصًا بالقضايا الأمنية» كان نصيب العرب 4 مراكز 
فقط. وكان النصيب من المراكز المختصة بالاقتصاد الوطنى 1 vo‏ 680 وفى 
الصحة 1 من 30» وفى السياسة الدولية والشؤون الخارجية 2 من 65. أما في 
البيئة» فصفر من 70ء وكذا في التنمية صفر من 80» والاقتصاد العالمي صفر من 

James G. Mc-Gann: 2007 Global Go To Think Tank Index Report (Pennsylvania: University (5 1) 


of Pennsylvania, 2008), and 20/3 Global Go To Think Tank Index Report (Pennsylvania: University of 
Pennsylvania, 2014). 


275 


0 والتربية صفر من 0 والعلوم والتقانة صفر من 0 والسياسة الاجتماعية 
صفر من 50» والطاقة صفر من 20» والشفافية والحوكمة الرشيدة صفر من 30 
(اكتفت دارسة 2007 بجداول قطاعية تتكوّن كلها من المراكز العشرة الأولى» 
وخلّت كلها من أي مركز عربي). 


المستصمّى من هذا أمران: الأول هو أن التأخر العربي تأخر مركب: فلا يمكن 
النهوض بقطاع بمعزل عن القطاعات الأخرى. ولا شك في أن تحرير الطاقات في 
مواقع العمل كلها مقدمة ضرورية لفك الحصار الذاتي والموضوعي. أما الأمر 
الثاني فهو: إذا كان مثقف الأنوار الباريسى قد تشظى بفعل قوة التحولات العالميةء 
فإن أثر ذلك في مثقف «الهامش؛ أشد وقعًا. ولذلك؛ بدت الأرقام متطابقة إلى حد 
كبير مع الوهن العام. 

يبدو أن الحتمية التاريخية تدفع في اتجاه تعزيز دور «مراكز الخبرة والتفكير» 
لا دور المثقف. وهذا موطن تحد ورهان بالنسبة إلى العرب. فالاتساع في تأسيس 
المراكز البحثية إن لم يكن متناغمًا مع تحول عميق ونوعي في عقل الدولة العربية» 
لا يمكن أن يسوق إلى تغيير جوهري في التعاطي مع قضايا التنمية والتحديث› 
ذلك أن العلاقة التفاعلية بين الدولة و«مراكز الخبرة والتفكير؛ مبدأ وشرط 
لنجاح التجربة. وما نعنيه بالتحول النوعي في عقل الدولة هو مغادرة فكرة الدولة 
السيدة الراعية والدخول في بناء ثقافة الدولة المشاركة. وأساس ذلك وعنوانه: 
الديمقراطية والحرية. ويُفترض أيضاء وبالتوازي» أن يندمج المثقف العربي في 
مجری زمن ال ٣٣٠٣٣۸ ۲۵٣‏ اندماجًا يتيح له تحويل المؤسسات البحثية إلى مصادر 
معرفة حقيقية لقضايا العرب الكبرى» وفضاءات خبرة عالية متخصصة وموظفة 
لخدمة تلك القضايا. 

لكن المشهد «الثقافي» العربي اليوم مثير للقلق. فانسحاب المثقف لم يعوضه 
المجتمع المدني كما كان مُتوقعًا؛ إذ أنتتجت التحولات الثلاثة (سقوط اليسارء 
وأيلول/ سبتمير 1 و«الربيع العربي؟) بالتدريج مجالا بدا أن السياقات 
الثقافية والتاريخية والتعليمية كانت تتحرك بعيدًا عنه» وهو مجال رجل الدين الذي 
يحمل مشروعًا يتناقض أصلا مع مَطالب النهضة العربية منذ القرن التاسع عشرء 


276 


ومع أدبيات التحرر الوطني» ومع أطروحات الدولة الوطنية. ففي هذا المجالء 
يُصاغ خطاب تحريضي ضد الآخر المذهبي والديني والتاريخي. ومن داخله 
تتشكل فيالق «الغزو» والتدمير المادي والرمزي. وبانتصاب «المحاكم الشرعية» 
فيه يُستدعى الله ل «إقامة الحدود» وإنفاذ «شرعه». وههنا تحديدًا يتواتر السؤال 
الحائر عن المثقف الهُووي صاحب الرسالة الخلاصية» لكنه سؤال» على الرغم 
من كثافته الوجدانية» قليل النفع تاريخيًا وسوسيولوجيًا. 


ربما تبدو الدعوة إلى تحول المثقف خبيرًا غير واقعية لأنها تفترض أن يتجرد 
هذا المثقف العربي من مسؤولية الدفاع الطوعي عن القيم» وأن يتمهنن وجوده 
القيمي لمصلحة مؤسسة بحثية أو أخرى. لكن ليس هذا هو المطلوب على وجه 
التدقيق. فالتحول مركرُه الوعئ أن المتاح الموضوعي اليوم أمام الفعل «الثقافي؟ 
التغييري محدود نظرًا إلى بروز مؤثرات وفاعلين وسياقات محلية وكونية تمتلك 
قدرة على الفعل أكبر من قدرة المثقف. 
لا شك في أن تحقيق ذلك صعب في الأفق المنظور على الأقل» لسبب 
جوهري: فإذا كانت اللحظة الدريفوسية هي التي صنعت زمن المثقف الهُوّوي» 
وإذا كانت لحظة «مراكز الخبرة والتفكير» هي التي صنعت زمن الخبير» فهذا يعني 
أن المثقف والخبير كليهما فاعلان في الحوادث وصانعان لها على نحو من الأنحاء. 


لكن هاتين اللحظتين غير عربيتين منشأ وفلسفة. ولم يستطع المثقف العربي 
أن يؤثر تأثيرًا فعليًا في واقعه المحلي أو القومي أو الدولي» لأن وجوده وجود 
استتباع وإلحاق لا وجود إبداع وريادة» وهذا توصيف لا إدانة. فالزمن العربي 
الحديث والمعاصر نشأ في عُسر واضطراب وقلق وشك في ذاته وفي الآخر. 
وكانت الحوادث والأفكار الكبرى كلها تدهمه وكان يلاحقها. وإذا كان المثتقف 
الدريفوسي أكره على الانخراط في زمن ال ۸م۸٣‏ لدذط7» فخرج من مدار التطوع 
والقيمة إلى مدار الاحتراف بكثير من المشقة» فإن محنة المثقف العربي أشد؛ 
يدهمه الزمن الجديد» وأحلام الزمن المنسحب تظل معلقة: الحرية والديمقراطية 
والوحدة وفلسطين... من دون أن يكون قد أعد العدة لذلك. هذا زمن آخر يبدو أن 
العربء أطيافًا ومؤسسات ونخيًا وتوقعات» سيلقون فيه عَنَنَا أيضا. 


277 


أفضى البحث إلى نتائج أربع كبرى في شأن المثقف وسياق النشأة والمثقف 
وسياق التراجع؛ والخبير سياقًا وبديلاء وتحديات الراهن العربي. أما المثقف» 
فنشأ في سياق قيمي يتتصر لأطروحة ملخصها أن الإنسان «كائن معنى». ولا شك 
في أن مرجعياته هي» في العموم» إفرازات اتجاهات التنوير والأنسنة» ووفرت 
للمثقف إمكانات عريضة ليمارس أدوارًا رسالية. وغني عن البيان أن منتوجات 
'مدرسة» علم الاجتماع الفرنسي خصوصًا كان لها الدور الحاسم في بلورة معالم 
المثقف الهُوّوي بما اصطنعت من مصطلحات وتصورات. ولا عجب» فی ظل 
هيمنة هذه المدرسة وفي زمن سُلطت فيه مظالم كثيرة على الشعوب. أن يكون 
لهذا المثقف سلطة وأثر. 

أما ترهل أدائه» فمن التجني إرجاعه إلى «خيانة المثقف» المبادئ التى 
ّدبَ نفسه بادئ الأمر للدفاع عنها. إن القراءة النقدية التاريخية تقدم المسألة 
على نحو آخر. فالتحولات التي شهدها العالم في نهاية الحرب الباردة بسقوط 
الاتحاد السوفياتي» واستشراء مفاعيل عولمة قيم الغالب أخرجًا العالّم من سياقه 
الأول وأدرجاه في سياق جديد: ضمور الاحتفاء ب «كائن المعنى4» وطغيان 
نزعات تسليع كل شيء» وسيطرة مبدأ المصلحة. عصفت التحولات بالروابط 
المجتمعية» وبالمؤسسات التقليدية» وبالدولة نفسهاء والمثقف سليل ذلك كله. 
فهو إِذا ضحية من ضحايا الزمن الجديد. وأن يُطلب منه اليوم أن ينهض بالأعباء 
التي كان ينهض بهاء فهذا أمر لا معقولية له لأنه - بإيجاز - غير تاريخي. نعم 
يوجد اليوم مثقفون. بل يوجد مثقفون كبار» غير أن المثقف الهُووي (بمحددات 
هويته الستة مجتمعة) ما عاد موجودًا. إن بديلا له جاء بمجىء الزمن البديل لزمنه: 
«مركز الخبرة والتفكير». | 

أما الخبير» فالتنصيص على أنه أميركي النشأة والسياق شرط أساسي لفهم 
طبيعة نشاطه وتبين الاختلاف النوعي بينه وبين المثقف. إن من طبائع الأمور 
أن يحمل الغالب معه أدوات تغلبه. وإن من استتباعات الغلبة أن يقلد المغلوبُ 
الغالب. وقد تمددت مجالات النفوذ الأميركي» وتوسعت دوائر الهيمنة» وكان 


278 


ل «مراكز الخبرة والتفكير» أدوار مهمة في تحقيق ذلك. كانت نصمًاء وكانت القوة 
المادية نصف أميركا الثانى اهز1/ فكر + 56ه1/ دبابة). وأعطى الالتحام التفاعلي 
بين مراكز الفكر ومصالح الدولة/ المؤسسة وضعية ولاء وانتماء. أصبح الفكر 
متخصصًا وقطاعيًا و«ملتزمًا» أدوار تحددها المصلحة. عمل الخبير عمل D‏ 
ويدخل تحت سقف «الثقافة» الأميركية. 


أما التساؤل عن دور المثقف العربي في سياق التحولات التي يعيشها بعض 
البلاد العربية» فهو إن وضع في سياقه العالمي أو العربي (هزيمة 1967ء وغزو 
الكويت» وحرب الخليج ...إلخ) فَقَدَ كثيرًا من معقولية طرحه. وربما يكون 
المعول عليه في المستقبل وجودٌ «مراكز الخبرة والتفكير» عربية فعالة ومنتتجة» 
وقادرة ليس على اقتراح الدراسات والحلول فحسبء بل على توجيه سياسات 
التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية توجيهًا يستهدف الإنسان العربي في 
المقام الأول أيضا. 


المراجع 


1- العربية 
بشارة» عزمي. «عن المثقف والثورة». تبين. العدد 4 (ربيع 2013). 


بلقزيزء عبد الإله. نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين. ط 2. 
بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشرء 2010. 


الجابري» محمد عابد. المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن 
رشد. ط 2. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 2000. 

جاکوبی» راسل. نهاية اليوتوبيا: السياسة والثقافة فى زمن اللامبالاة. ترجمة فاروق 
عبد القادر. عالم المعرفة 269. الكريت: المجلس الوطنى للثقافة والفنون 


والآداب» 2001. 


279 


حرب» علي. الاستلاب والارتداد: الإسلام بين روجيه غارودي ونصر حامد 
أبو زيد. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافى العربى» 1997. 


. أصنام النظرية وأطياف الحرية: نقد بورديو وتشومسكي. بيروت/ الدار 

البيضاء: المركز الثقافى العربى» 2010. 

سعيد» إدوارد. خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة. ترجمة أسعد الحسين. دمشق: 
دار نينوى للتحقيق والنشرء 2011. 

صفديء مطاع. ماذا يعني أن نفكر اليوم: فلسفة الحداثة السياسية: نقد الاستراتيجية 
الحضارية. بيروت/ باريس: مركز الإنماء القومى» 2002. 

cp xl‏ عز الدين. الآداب السلطانية: در اسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي. عالم 
المعرفة 324. الكويت: المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب» 2006. 


ليكلرك؛ جيرار. العولمة الثقافية: الحضارات على المحك. ترجمة جورج كتورة. 
بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة» 2004. 


2— الأجنبية 


Abelson, Donald. «Think Tanks and U.S. Foreign Policy: An Historical View.» U.S. 
Foreign Policy Agenda. vol. 7. no. 3 (November 2002). 


Barbusse, Henri. Le Couteau entre les dents: Aux intellectuels. Paris: Editions Clarté, 
1921. 


Baruch, Marc Olivier & Vincent Duclert (dirs.). Justice, politique et république: De 
l'affaire Dreyfus à la guerre d'Algérie. Bruxelles: Complexe/Paris: IHTP, 2002. 


Benda, Julien. La Trahison des clercs. Paris: Bernard Grasset, 2003. 


Boucher, Stephen & Martine Royo. Les Think tanks: Cerveaux de la guerre des idées. 
préface de Pascal Lamy. Échéances. 2" ed. Paris: Le Félin-Kiron, 2009. 


Bredin, Jean-Denis. L'Affaire. Paris: Fayard/Julliard, 1993. 
Carpentier-Tanguy, Xavier. «Think Tanks: Un Concept ‘Made in USA'.» Journal du 
Net (avril 2004) dans: http://bit.ly/1MjwPwd. 


280 


Derai, Yves. «Think Tanks: Les nouveaux laboratoires du pouvoir.» L'Optimum. 
no. 71 (2004). 


Faupin, Alain. «La Pensée au service de l’action: Les Think Tanks américains.» La 
Revue internationale et stratégique. no. 52 (hiver 2003-2004). 


Garnot, Benoît. Voltaire et l'affaire Calas: Les Faits, les interprétations, les enjeux. 
Paris: Hatier, 2013. 


Gide, André. Voyage au Congo: Suivi de Le Retour du Tchad: Carnets de route. Paris: 
Gallimard, 1981. 


Le Goff, Jacques. Les {ntellectuels au Moyen âge. Paris: Seuil, 1985. 


Gramsci, Antonio. Selections from the Prison Notebooks. Translated by Quintin 
Howare & Geoffrey Nowell-Smith. New York: International Publishers, 1971. 


Haass, Richard N. «Think Tanks and U.S. Foreign Policy: A Policy-Maker’s 
Perspective.» US. Foreign Policy Agenda. vol. 7. no. 3 (November 2002). 


Hofstadter, Richard. Anti-Intellectualism in American Life. New York: Knopf, 1966. 


Idt, Geneviève. «L’Intellectuel avant l’affaire Dreyfus.» Cahiers de lexicologie. 
vol. 15. no. 2 (1969). 


Mc-Gann, James G. 2007 Global Go To Think Tank Index Report. Pennsylvania: 
University of Pennsylvania, 2008. 


. 2013 Global Go To Think Tank Index Report. Pennsylvania: University 
of Pennsylvania, 2014. 


Medvetz, Thomas. «Les Think tanks aux États-Unis: L’Emergence d’un sous-espace 
de production des savoirs.» Actes de la recherche en sciences sociales. nos. 176- 
177 (2009). 


Ory, Pascal & Jean-François Sirinelli. Les Intellectuels en France: De l'affaire 
Dreyfus à nos jours. Paris: Armand Colin, 1986. 


Rich, Andrew. «War of Ideas: Why Mainstream and Liberal Foundations and the 
Think Tanks They Support are Losing in the War of Ideas in American Politics.» 
Stanford Social Innovation Review: vol. 3. no. 1 (Spring 2005). 


Rich, Michael D. «RAND: How Think Tanks Interact with the Military.» U.S. Foreign 
Policy Agenda. vol. 7. no. 3 (November 2002). 


Rougerie, Jacques. La Commune de 1871. Que sais-je?. 3% ed. Paris: Presses 
Universitaires de France, 1997. 


281 


Said, Edward W. «L'Humanisme, dernier rempart contre la barbarie.» Le Monde 
diplomatique (Septembre 2003). 


Samaan, Jean-Loup. «Les Origines militaires des Think Tanks: Le Cas américain.» 
Chantiers politiques. no. 5 (Printemps 2007). 


Smith, James Allen. The Idea Brokers: Think Tanks and the Rise of the New Policy 
Elite. New York: Free Press, 1991. 


Touraine, Alain. Critique de la modernité. Paris: Les Éditions Fayard, 1992, dans: 
http://bit.|y/INVZH8a. 


Vaïsse, Justin. «Les Courants de pensée en politique étrangère aux Etats-Unis: 
Hégémonistes contre gestionnaires.» Alternatives internationales. no. | (Mars- 
Avril 2002). 


Wagner, Patrick. «La Notion d’intellectuel engagé chez Sartre.» Le Portique. no. | 
(2003) dans: http://bit.ly/IRrmdjs. 


Winock, Michel. Le Siècle des intellectuels. Paris: Seuil, 1997. 


Zola, Emile. J'accuse!: Et autres textes sur l'affaire Dreyfus. Paris: F’ai lu, 2001. 


282 


pal Juill 


مثقفو الإنسيكلوبيديا الفرنسية 
ومثقف دائرة المعارف العربية 


فريدريك معتوق 


عندما أطللق الغربيون حركتهم الثقافية الكبرى» المعروفة باسم «النهضة» دا) 
Renaissance)‏ التي قادتهم في وقت لاحق إلى قلب الحداثة, عَنوا فعلا ما قالوه» 
أي ولادة جديدة؛ إذ شكلت هذه الحركة بالنسبة إليهم حياة جديدة في مدار فكري 
جديد» وقام الأدباء والشعراء والرسامون والنحاتون ومغنو الأوبرا الأوروبيون 
بفتح أفق جديد. إنساني (Humaniste)‏ لمجتمعات أورويا التي لم تعرف حتى ذلك 
الحين؛ أي طوال عشرة قرون كاملة استغرقتها حقبة القرون الوسطىء إلا الأفق 
EU‏ المبني على ثقافة الإلهيات» حيث الإنسان تابع وبلا قيمة. 

عندما بدأت الحركة الإنمائية الكبرى التي أطلقها محمد علي باشا (1805- 
8 في مصرء في مطلع القرن التاسع عشرء التي سرعان ما تبلورت في حركة 
فكرية وأدبية أطلق عليها في ما بعد اسم حركة النهضة؛ كان الهدف إطلاق حركة 
ثقافية كبيرة مماثلة لتلك التي حدثت في أوروباء بغية تحريك الجسم العربي 
الأوسع الغارق في سُّبات عثماني عميق» يقوم هو أيضًا على مزيج من السلطانيات 
والإلهيات. 


لكن ما جرى عندنا لم يرقٌ إلى مستوى الولادة الجديدة» كما في المصطلح 
الغربي» بل آل إلى استنهاض الهمم الثقافية والفكرية بصدق وعزم لافتين» من دون 


283 


أن يتمكن من توليد التغيير البنيوي المنشود لأسباب ثقافية وسياسية واجتماعية 
عدة» علمًا أن التجربة التي صقلها رواد النهضة العربية في مصر وبلاد الشام شكلت : 
اللحظة التأسيسية الأولى - والأقوى في نظرنا - لمشروع عربي جديد وواعدء أراد 
أصحابه أن يكون للمثقف فيه دور حقيقي وأصيل في التحوّل التاريخي المأمول 
للمجتمعات العربية كافة. 


لذلك لم يخطئ عبد الله العروي؛ بعد قرن ونيف من الزمن» عندما أشار في 
ختام مؤتمر خصص للنهضة في بيروت» إلى أننا اليو م «في حاجة إلى استعادة روح 
رجال النهضة وما تميزوا به من جرأة وصدق وتفاؤل»2". 


أولا: الوضعَة الخطاً 

كيف نفسر تعثر حركة النهضة العربية حيال التحولات التاريخية التي عاشتها؟ 
فمَّن» أو ما الذي» كان مسؤولا عن هذا التعثر؟ أعادت أبرز المقاربات تعثر النهضة 
إلى أسباب جيوسياسية إقليمية ودولية. ويدخل في الحجج التي تُبنى عليها هذه 
المقاربة اندلاع الخر ب العالمية الأولى وتمدد الاستعمار إلى البلدان العربية 
كلهاء مع ما يعنيه ذلك من تراجع أجندة النهضة العربية المحلية لمصلحة الأجندة 
الاستعمارية الاستراتيجية. أما أكثر المقاربات دقة» فقدمها جورج طراب بيشي في 
كتاب اعتّمد البُعد النفسي - الاجتماعي. تحديدًا من الصدمات الجرحية العم 
التي تسببت بها الهزائم السياسية والعسكرية العربية المتتالية؛ إذ كان لها أثر بالغ 
في تحجيم نمس النهضة العربية وتحويلها عن مسارها الأول من خلال إدخالها في 
عات عام 


من ناحيتناء سنكون أكثر تواضعًاء وسنحاول أن نبين أن ثمة عاملا معرفيًا مهمًا 
أدى دورًا لا يُستهان به فى تعثر ثر النهضة العربية. وهو يتمثل في «الوضعة الذهنية» 

(1) عبد الله العروي» «إرث النهضة وأزمة الراهن»» في: شربل داغر وآخرونء عصر النهضة: 
مقدمات ليبرالية للحدائة (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 2000)» ص 293. 


)2( جورج طرابيشيء المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي (لندن: رياض 
الريس» 1991). 


284 


(عاقادعم: ureاءد)‏ التى اتخذها المثقف النهضوي تجاه مشروعه الحضاري الكبير؛ 
إذ إن الوضعة الذاتية التي اعتمدها هذا المثقف عمومًا (التي لا تزال حية حتى 
اليوم) هي التي تفسر إلى حد بعيد عدم تمكن النهضة العربية من تحقيق تحقيق أهدافها 
المأمولة؛ ذلك أن مشروع النهضة كان مشروعًا نافيا واجتماعيًا شاملا يختاج إلى 
تنفيذ جماعي واسع» في حين أن الطريقة التي عولج به بقيت على الدوام مبنية 
على مقاربة فردية وذاتيةء تبتعد بشكل متعمد - ومعرفي غير مدرك - عن متطلباته 
الأساسية الجماعية والمؤسساتية؛ إذ لم يدرك حقيقة مثقف النهضة الطبيعة 
الجماعية لمشروع النهضة الشاملء فبقي يتعامل معه على أساس الوضعة الذهنية 
الموروثةء الفرديةء المتأصلة في الذهنية العربية» على قاعدة النبوغ والعبقرية 
الخاصة. وهي قاعدة مخالفة تمامًا لتلك التي قامت عليها النهضات في الغرب 
غداة خروج أوروبا من قرونها الوسطى المنعوتة بالقرون المظلمة (Dark Ages)‏ 
ودخولها في عصر الأنو آر (وعمغتصهسا .(Epoque des‏ 
سنعمد في هذا السياق إلى قراءة تجربتين ممائلتين ذ في الكل ومين 

في الوضعة الذهنية لأصحابها تنتميان إلى مبادرتين قامتا غريًا وشرقًا تحت لواء 
النهضة والفكر التنويري» وقدمتا أثرين ثقافيين بارزين: الإنسيكلوبيديا الفرنسية» 
المعروفة باسم موسوعة ديدر و «(Encyclopedie de Diderot)‏ ودائرة المعارف لبطرس 
البستاني. ولنعرض بداية الوقائع. 


1- دائرة المعارف (1900-1876) 


أبصرت دائرة المعارف النور في عام 1876» في عز حركة النهضة؛ بجهد 
بطرس البستاني وبدعم مالي وفره الخديوي إسماعيل» باشا مصر. وبين عامي 
6 و1883 (وفاة المعلم بطرس البستاني)» تتابع صدور المجلدات الستة 
الأولى من هذه الموسوعة العربية اراي SA ARS‏ 
عليها كان يؤمن بمشروع ثقافي نوعي د يستحق أن يكرس له أنضج أعوام حياته. 

عرف بطرس البستاني موسوعته» في مقدمة العدد الأول منهاء أنها «قاموس 
عام للمعارف من جغرافية وتاريخية وعلمية وصناعية وسياسية وأدبية» يحتوي 


285 


على كل ما تصبو إليه النفسء ويغني مقتنيه عن مكتبة كبيرة». وبعد وفاته» حمل 
ابنه سليم المشعل وتابع المسيرة» فأصدر المجلدين السابع والثامنء تباعَاء بين 
عامي 1884 و1889. وبعد وفاة سليم تابع أخواه نجيب ونسيب إصدار دائرة 
المعارف» فتّشر المجلد التاسع في عام 1887 والعاشر في عام 1898 والحادي 
عشر في عام 1900. ويُذكر في هذا المجال أن الأخوين البستاني نشرا المجلدات 
الثلاثة الأخيرة من هذه الموسوعة بالتعاون مع نسيبهما سليمان البستاني» الأديب 
الذي نقل إلياذة هوميروس إلى اللغة العربية. ثم توقف العمل نهائيًا عند الحرف 
لاع وكلمة عثماني (يا للصدف!) أكثر من نصف قرن. فأعاد فؤاد أفرام البستاني 
إصدار دائرة المعارف» بحلة جديدة في عام 1956. 


كانت أهداف دائرة المعارف تنبع من سلسلة هواجس بنّاءة حملها المعلم 
بطرس البستاني الذي حاز هذا اللقب لجدية تعامله مع هذه الأهداف وعصاميته 
ومثابرته على تحقيق مشروع النهضة الأكبر» وكان أبرز هذه الأهداف: تبسيط 
المعارف وتعميمها ومكافحة الجهل» وإعلاء شأن اللغة العربية وجعلها مواكبة 
للعصر في إنتاجها الثقافي» وردم الهوة الفكرية بين العرب والعالم الغربي 


يتضح عند اطلاعنا على المواد التي حوتها دائرة المعارف أن الهدف الأول 
حك العمل بأسره وارتبط بهم أكبر شاطرء جميع أدبا النهضة وهو الرغبة الشديدة 
في مكافحة الجهل جنبًا إلى جنب مع ذ نشر المعرفة العصرية؛ ذلك أن النهضويين 
كانوا يعون مدى التأخر الذي أصاب المجتمعات العربية إبان الحكم العثماني 
وقبله في العصر المملوكي» حيث تحجرت علوم العرب وتراجع حضور اللغة 
العربية» الأمر الذي ترافق مع انحسار العلوم العقلية لمصلحة العلوم النقلية وشح 
لافت في الإبداع. 

من هناء أحدثت إغارة نابليون بونابرت وعسكره» كما مطبعته وكوكبة العلماء 
المرافقة قة لحملته» صدمة معرفية كبيرة في الجسم العربي في عام 1798ء فما كان 
من هذه الصدمة إلا أن بلورت صحوة فكرية وسياسية وثقافية عارمة فى أوساط 
النخب القائمةء ومايُعرف بممثلى المعرفة فى ذلك الزمان» وطوال الحقبات التالية 
كلها. فالصحوة الثقافية التي انطلقت أدركت أن مسألة النهوض بالمجتمعات 


286 


العربية كانت ترتدي بُعدين اثنين: يتمثل الأول في التأخر الحضاري الكبير الذي 
غدا يفصل أبناء العالم العربي عن الركب الحضاري العالميء والثاني في انتشار 
الأمية والجهل على مستوى واسع جدًا. 

لا حاجة هنا إلى ذكر أن عهد المماليك كان قد أعطى الأولوية لحماية حدود 
الأمة» بعد الانتصار على الصليبيين» الأمر الذي وضع الشأن الأمني في رأس 
الاهتمامات» فضلًا عن أن حكم المماليك كان حكم قادة عسكريين» على أساس 
عسكري بحته لا يقيم للشأن الثقافي وزنًا. كما أن العصر العثماني الذي تلاه 
لم يكن فيه مكان لشأن لا يصب في مصلحة السلطان» حتى إن فلسفة العثمانيين 
برمتها تمثلت في ما يُعرف بدائرة العدالة على مدى أربعة قرون متتالية. 

أما «دائرة العدالة» التي لخصت السلطة بمفهومها العثماني» فجاءت بقلم 
نعيمي» مؤرخ السلطان» في أعقاب هزيمة كارلويتز في عام 1699» الذي طلب 
منه إيجاد صيغة فكرية تطلق التعبئة الداخلية والتماسك الشعبي على قاعدة عثمانية 
أصيلة» فجاءت «دائرة العدالة» التي كانت تعلق في الدوائر الرسمية على النحو 
الآتى: 

- لا سلطان من دون عسكر. 

- لا عسكر من دون مال. 

- لا مال من دون رعايا. 

- لاعدالة من دون سلطان. 

- التوازن سر العدالة. 

- الدنيا حديقة وأسوارها الدولة. 

- ركيزة الدولة الشريعة. 

- لا شريعة من دون سلطان. 

إذا نظرنا في مضمون هذا الإعلان العثماني» فسنجد أنه يتتمحور حول كلمات 
مفتاحية رئيسة: السلطان والعسكر والمال والدولة والشريعة» علمًا أن الكلمتين 
الأخيرتين (الدولة والشريعة) غير أساسيتين في المعادلة» بل هما تابعتان للكلمات 


287 


الثلاث الأوّل (السلطان والعسكر والمال)» في حين أن «دائرة العدالة» تحذف 
بشكل متعمد أي ذكر للثقافة والعلم؛ للإشارة إلى أن عالم الحكم العثماني اقتصر 
على شخص السلطان» يعمل لخدمته العسكر والمال؛ مال السلطان لا المال العام. 

من هناء كان هم بطرس البستاني وهم النهضويين عمومًا وضع الشأن الثقافي 
في واجهة الحياة العامةء حدًا للإبداع وتفعيلا لحياة اجتماعية عربية عصرية 
ومتقدمة. وبكلمة واحدةء كان الهم النهضوي الأكبر مكافحة التصحر الفكري 
والثقافي الذي عاشته المجتمعات العربية بقوة إبان الزمنين العثماني والمملوكي؛ 
العسكري البنية والفلسفة. 


لم يكن الهدف الثاني يقل عظمة عن الهدف الأول؛ إذ كان يصبو إلى إعلاء 
شأن اللغة العربية» لغة روحناء من خلال جعلها لغة مواكبة للعصر ولغة إبداع. 
فبين مشروع التصحير اللغوي والتتريك» برزت الحاجة الملحة إلى إظهار مقدرة 
اللغة العربية على إنتاج إبداع فكري عصري ونقل الآداب والعلوم العالمية» بدءًا 
Achat‏ 


تأتي في هذا السياق الاستنهاضي الثقافي مبادرة بطرس البستاني في إطلاق 
دائرة المعارف باللغة العربية متضمنةء في ما تضمنته قراءة جديدة للواقع الثقافي 
العالمي كما للواقع الثقافي العربي. ويندرج في هذا المشروع أيضًا مبادرة ابن 
أخي واضع دائرة المعارف» سليمان البستاني» إلى ترجمة ملحمة الإلياذة» شعرّاء 
إلى اللغة العربية. 

أراد النهضويون رفع هذا التحدي الأكبر وإظهار كم أن طاقة اللغة العربية 
عصرية» مبعدين عنها تهمة كونها لغة قديمة على وشك الاحتضارء بل إن بعض ما 
كُتب في دائرة المعارف أتاح الدخول في قراءة جديدة للتراث الثقافي العربي كما 
في عدد من الأفكار المنيرة الآتية من الغرب. 

من المواد التي أثارت جدلا فكريًا في مجلات ذلك العصر وصحفه نذكر 
مادتي «آداب العرب» و«تعليم النساء»؛ فالمادة الأولى سمحت لبطرس البستاني 
بأن يقدم قراءة جديدة نسبيًا للأدب العربي القديم» فأثار ما كتبه في هذا الموضوع 


288 


في عام 1876 ضجة شبيهة بتلك التي أثارها طه حسين في عام 1926 عندما نشر 
قراءته الجديدة للشعر العربي القديم في كتابه في الشعر الجاهلي*» وكأني بطه 
حسين يُكمل عملية الحفر التى بدأها سلفه النهضوي قبل خمسين عامًا. وأثارت 
مادة «تعليم النساء» التي صدرت في دائرة المعارف ضجة ممائلة كونها تمس حقلًا 
لا يلقى في الثقافة العربية التقليدية صدى إيجابيًا على نحو عام؛ فالتقاليد والعادات 
والأعراف الاجتماعية المحلية انتفضت حينذاك بقوة ضد هذا الدخيل الفكري 
الغربى. 


تشير هذه الوقائع إلى أن مشروع دائرة المعارف العميق كان تحديثيًا على 
المستويين الثقافي والاجتماعي؛ إذ كان يقوم على رغبة صادقة في مواكبة العصر 
والتقدم الغربي من خلال إيجاد سبيل ضار للتعامل النقدي مع موروثات الماضي 
كما لاقتباس الأفكار الاستنهاضية الغربية» ومنها عمومية التعليم واكتساب 
المعارف والعلوم. 


أما الهدف الثالث للمشروع الثقافي النهضويء فكان العمل على ردم الهوة 
الفكرية القائمة بين العالمين العربي والغربي» حيث كان النزوع إلى الانطواء 
العربي كبيرًا إذاك» على خلفية الحروب الصليبية وعمليات التصحر الثقافي التي 
تلت حقبتي المماليك والعثمانيين. 

لكن الغرب لم يبق على حاله طوال تلك الفترة» بل حقق ثلاث ثورات متتالية 
جعلته غير ما كان عليه فى السابق. تمثلت هذه الثورات الثلاث ب «النهضة» في القرن 
السادس عشرء فكانت ثورة ثقافية بامتياز؛ ثم بالثورة الفرنسية (1799-1789) التي 
أشست لمنظور بديل من الشأن السياسي» بإطلاقه نظام الشأن (Res publica) lali‏ 
المواطني والديمقراطي؛ ثم بالثورة الصناعية التي كانت ثورة تكنولوجية أدخلت 
فكرة الإيمان بالعقل واعتماد العلوم التجريبية معيارًا للسلوك الحضاري. 

هذا في حين أن العالم العربي الذي اكتشف دفعة واحدة مفاعيل هذه الثورات 
الثلاث اعتبارًا من النصف الثاني من القرن التاسع عشرء لم يكن قد تغير بتانًاء لا بل 


(3) طه حسينء في الشعر الجاهلي (القاهرة: دار الكتب المصرية 1926). 


289 


تراجع كثيرًا مقارنة بما كانت عليه الحضارة العربية إبان النصف الثاني من الألفية 
الأولى قبل الميلاد . لذلك أراد النهضويون عمومّاء وفي مقدمهم بطرس البستاني» 
توفير أدوات ثقافية تسمح بردم سريع للهوة بين مَّن كانت لديهم حضارة زاهرة 
ومّن كانت لديهم حضارة غابرة. 


بما أن ميزة هذه الهوة الحضارية كانت فكرية في المقام الأول» اعتبر بطرس 
البستاني أن توفير عُدة العمل النهضوية يتمثل في تقديم موسوعة للمعارف العالمية 
اتُغني مقتنيها عن مكتبة كبيرة»» كما جاء في مقدمة دائرة المعارف. كانت فكرة 
بطرس البستاني وظيفية» لذلك قامت موسوعته على إشكالية وظيفية أساسية» 
هدفت إلى السماح للقارئ العربي عمومًا بالاطلاع الموجز والملخص والسريع 
على أبرز ما كانت قد أنتجته الثقافة العالمية حتى ذلك الحين؛ ومن هنا الوظيفة 
التثقيفية ل دائرة المعارف التي غالبًا ما كان يقرأها مقتنوها على نحو قراءة كتاب» 
أي بالمواد كلها التي كانت تتضمنها. 


لكن وظيفية هذه المقاربة جعلتها تمنح الأولوية لعملية النقل» على حساب 
عملية الإنتاج والإبداع» إذ كان همّ ردم الهوة الداهم والدائم يطغى على ما سواه 

من الهموم الثقافية» إضافة إلى أنه كان يغلّب النقل على الإنتاج» فغدت بذلك 
إشكالية دائرة المعارف إشكالية جديدة من دون شكء كونها وظيفية» لكنها بقيت 
من حيث لا تدري في إطار الإشكالية الوظيفية النقلية. 
2- إنسيكلوبيديا ديدرو (1772-1751) 

مثّلت هذه الموسوعة تجسيدًا لمشروع فلسفي تنويري كبير أطلقه نهضويو 
فرنسا في أثناء القرن الثامن عشرء في ظل النظام الملكي. وتفيد تسمية هذا المشروع 
الأكبر الذي عرفته أوروبا إبان القرن الثامن عشر بالعنوان الآني: الإنسيكلوبيديا أو 
قاموس معقلن للعلوم والفنون والمهن*؛ فهذه التسمية بذاتها تضع القارئ أمام 
إشكالية إلرامية تة تقوم على قاعدة العقلانية» جوهر المشروع التغييري في الغرب. 


L'Encyclopédie ou Dictionnaire raisonné des sciences, des arts et des métiers: Par une société (4) 
de gens de lettres (Paris: Briasson, [n. pb.]). 


290 


شارك في كتابة مواد الإنسيكلوبيديا التي أشرف عليها ديدرو وساهم فيهاء 
0 كاتبًا(؛ إذ قام كل كاتب بصوغ المادة التي كانت تدخل ضمن تخصصه. 
فتولّى روسو مثلا المواد التربوية» وتولى فولتير المواد الفلسفية» ودوبنتون 
المواد السياسية» ودو لباك المواد السجالية» وديدرو المواد الفكرية والدينية كلهاء 
ودالميير المواد المتعلقة بالرياضيات» ومونتسكيو بعض المواد الحقوقية» وبوفون 
المواد المرتبطة بالعلوم الطبيعية» وكيناي بعض المواد المتعلقة بالاقتصاد ...إلخ؛ 
أي إن لم يتجاوز كل كاتب مجال تخصصه الضيق» ولم يغامر في حقل غريب عن 
اهتماماته الفكرية. ولشدة التخصصء حوّل شارل دو بروس المادة التي كتبها في 
الإنسيكلوبيدياء وهي (Etymologie) 85Le‏ (علم تأصيل LI‏ إلى أول كتاب 
صدر في العالم في هذا الحقل العلمي الجديد في عام 3 بعد عشرة أعوام 
من نشر مقالته الأولى. 


في عام 1 صدر المجلد الأول من الإنسيكلوبيديا التي وزعت على 
أساس اكتتاب يُدفع مسبقًا للناشر يقتضي شراء عشرة أجزاء منها. بدأ عدد المكتتبين 
في عام 1751 ب 1200 مكتتبء الأمر الذي سمح بطبع أجزاء الموسوعة من دون 
خوف على تمويلها. بيد أن عدد المكتتبين ارتفع في عام 1757 إلى 4200 مكتتبّاء 
ما يشير إلى الحماسة التي أثارتها في أوساط المثقفين» لا في فرنسا فحسبء بل 
أيضًا في أنحاء أوروبا كلها التي كانت تشهد تحولات فكرية كبيرة تفتقت ثمارها 
مع قيام الثورة الفرنسية بعد فترة من الزمن. 

لكن سرعان ما أطلت العقبة الأولى برأسهاء مع صدور الجزء الثاني من 
الإنسيكلوبيدياء في عام 1752» حين تناولت مادة من المواد المعتقد الديني 
الطبيعي» مع إشارة واضحة إليه» الأمر الذي أثار حفيظة المحافظين والمسؤولين 
الكنسيين الذين شكوا أمر هذه الموسوعة إلى الملك. وعلى الرغم من أن 
الملك الفرنسي كان قد أذن بصدور هذه الموسوعة قبل ذاك» انصاع للضغط 
فعاد وأصدرء عبر مجلسه الاستشاري (Le Conseil d’état de roi)‏ قرارًا بمنع متابعة 


«L'Encyclopédie de Diderot,» dans: Encyclopaedia Universalis, 28 vols. (Paris: Ed. (5) 
Encyclopædia Universalis, 2002), pp. 214-219. 


291 


صدورها؛ فتوقف النشر فترة» لكن بضغط مضادء غضت السلطات الملكية الطرف 
عن معاودة صدور الجزء الثالث منها في العام التالي (1753). 


بعد ذلك تتالى صدور الأجزاء الأخرى بوتيرة جزء لكل عام. ومع صدور 
الجزء السابع في عام 1757» ارتفعت وتيرة المناشير المندّدة بها بتحريض من 
السلطات الكنسية والمحافظة التى ما كان يروقها ما يرد فى هذه الموسوعة 
«المعقلنة» التي كانت تطيح قسمًا لا يُستهان به من الموروثات الثقافية؛ فصدر في 
عام 1759 قراران متتاليان للمجلس الاستشاري الملكي يقضيان بسحب كتاب 
السماح الملكي المُعطى سابقًاء وضرورة التعويض على المكتتبين بعد توقيف 
صدور الإنسيكلوبيدياء لكن اللافت في الأمر أن أحدًا من المكتتبين لم يطالب 
بأي تعويض عن الأجزاء الثلاثة الباقية التي لم تصدر. 

قام الناشر لوبروتون بإخضاع المواد المكتوبة لرقابته» فحذف منها ما كان 
نافرًا وسجاليًا من دون علم صاحب العلاقة ديدرو الذي غضب جدًا للأمر. لكن 
هذا الإجراء الاستباقي (والتجاري) سمح بإصدار الأعداد الباقية من هذا العمل 
الضخم (من الجزء الثامن حتى الجزء السابع عشر) دفعة واحدة في عام 1766. 


بما أن الإنسيكلوبيديا كانت تتضمن أيضًا في مشروعها الأساسي عرضًا مُعقلنًا 
للمهن» صدر في عام 1772 أحد عشر جزءًا إضافيًا للرسوم وشرح صناعة الآللات 
في الحقول المهنية كلهاء مثل النسيج والعمارة والنجارة وصناعة المراكب ...إلخ؛ 
إذ كان باستطاعة أي عامل ماهر أن يتعلم» من خلال الرسوم والشروحات. أي 
صنعة من الصنعات. وبذلك غدا مجموع عدد أجزاء الإنسيكلوبيديا الصادرة بين 
عامي 51 و1772 ثمانية وعشرين جزءًا تشمل حقول العلوم والفنون (منها 
الآداب) والمهنء إيفاءً بالوعد المقطوع في البداية. 

ثانيًا: المقارنة الموجعة 

لنقارن الآن ما يُميز مشروع بطرس البستاني مع ما يميز مشروع ديدروه على 
الرغم من الفرق الزمني القائم بين العملين» وهو قرن من الزمن» لمصلحة دائرة 
المعارف نظريّاء كونها صدرت في وقت لاحق لظهور الإنسيكلوبيديا الفرنسية. 


292 


- الوضعة الذهنية 


نلاحظ بداية أننا لا نغالي لو قلنا إن الفضلء الفضل كله يعود إلى شخص 
بطرس البستاني في إصدار دائرة المعارف التي لم تكن لتصدر لولا جهده الفردي 
والمتواصل؛ فهو الذي قام شخصيًا بكتابة جميع المواد نقلا عن قراءاته موضوعات 
منشورة بلغات أجنبية» لأن همّه الأكبر كان يدور حول تجنيبه القارئ العادي اقتناء 
عدد كبير من الكتب كشرط للدخول إلى المعارف العالمية والعصرية. لذلك قام 
هو بجهد الاطلاع؛ ثم التلخيص والتعريب مادة بمادة. 


هذا في حين أنه يستحيل علينا القول إن الفضل» الفضل كله؛ يعود إلى ديدرو 
في إصدار الإنسيكلوبيديا الفرنسية؛ فهو نسّق مواد هذه الموسوعة؛ لكن الفضل 
فى الصدور يعود إلى المشاركين ال 160 الذين ساهموا فى كتابة موادهاء كل في 
دائرة تخصصه. لذلك؛ يعود الفضل العلمي الحقيقي إلى فريق العمل المتكامل 
الذي ظاهر أعضاؤه بعضهم بعضًا في تحقيق مشروع جماعي الصوغ والأفق. 


الوضعة الذهنية مختلفة تمامًا في تحقيق كل من هاتين الموسوعتين؛ 
فصاحب دائرة المعارف اشتغل بشكل فردي» من البداية حتى النهاية» معتمدًا على 
نبوغه الفردي» المثبت والأكيد؛ ثم بعد وفاته تحول المشروع إلى مشروع عائلي. 
إلا أنه لم يتسمء لا في البداية ولا في النهايةء في خضم عصر النهضة» بطابع العمل 
الجماعي لكوكبة من المثقفين» فبقيت موسوعة المعلم بطرس البستاني منتوج 
أديب فذ وواسع الاطلاع» يغار على أبناء لغة الضاد غيرة قومية لافتة. 

في المقابل؛ تُظهر الوقائع أن مشروع الإنسيكلوبيديا كان مشروعًا جماعيّاء 
قام بتنسيقه الفيلسوف ديدرو بعناء وإصرار. ودافع كاتب كل مادة من المواد عن 
أفكاره وعن نظريته هو» ضمن مشروع تنويري نهضوي عام. ولم تغلب العبقرية 
الخاصة على العمل كلهء مهما بلغت أهميتها مع ورود أسماء كبيرة مثل فولتير 
وروسو ومونتسكيوء بل بقي المشروع مشروعًا جماعيًا نفذ جماعيًا. 

لذلك» نحن لسنا على الموجة الذهنية نفسها عند وضع المشروع الموسوعي 
الفرنسي الأول وعند وذ ضع المشروع الموسوعي العربي الأول. فالمشروع الأول 


293 


أنتجه فريق عمل متناسق ومتنوع ومتكامل» في حين أن المشروع الثاني أنتجه 
شخص واحد. لذلك» عندما ذهب هذا الشخص كاد مشروعه يذهب معه» لولا 
الغيرة العائلية التي أظهرها ابناه ونسيبهما. 

إن هذه الوضعة الذهنية ليست خاصة ببطرس البستاني» بل هي سمة يشاطرها 
كوكبة كبيرة من النوابغ العرب تبدأ باين رشد» الذي توقفت مفاعيل منهجه النقدي 
مع رحيله» مرورًا بابن خلدون الذي ماتت نظرية العمران البشري مع مماته» وصولا 
إلى جميع أصحاب النظريات العرب الذين لا يزالون حتى اليوم يتقوقعون على 
عبقريتهم الفردية ولا يقيمون وزنًا للعمل الجماعي الذي يكفل وحده استمرارية 
المشروع العام. 

لا بد هنا من أن نذكر ما جرى للإيطالى غاليلى الذي أزعجت نظريته السلطة 
ابابويةء فحوكم وأجبر على التنكر لنظريته» ثم وضع في الإقامة الجبريةء فقام 
زملاؤه في جامعة بيزاء ثم في جامعات ألمانيا وفرنسا وبلجيكا بالدفاع عن نظريته» 
فمات هو ولم تمت نظريته لأنها قامت على جهد جماعي في أثناء انبثاقهاء وفي 
وقت لاحق في أثناء انتشارها على مستوى أكاديمي أوروبي واسع. ومن ثم فإن 
نقطة قوة المشروعات الغربية الفكرية الكبيرة هى اعتمادها على وضعة ذهنية 
وتنفيذية جماعية يجعلها عصية على الترهل والموتء أو القمع والاختفاء. 

نقول أكثر من ذلك: إن النبوغ الفردي عندما لا يُعترف بحقه في الوجود 
لأسباب غالبا ما تكون سياسيةء يهاجر جوهره إلى حيث تتوافر تربة خصبة لنموه؛ 
فبعدما قمعت أفكار ابن رشد الأندلسى على سبيل المثال» ترجمت إلى اللاتينية 
والإيطالية والفرنسية والإنكليزية» وظهر ما يُعرف حاليًا في التراث الفلسفي 
الغربى بالرشدية (Averroisme latin) 9425 SU]‏ التي انتشرت في جامعات en‏ 
ورول وأكسفورد» ثم في الأكاديميات الأوروبية كلهاء فساهمت في حراك 
فکري واسع جدّاء حيث نادى جامعيو الكوليج دو فرانس (College de France)‏ 


)6( جورج زيناتي» #الرشدية اللاتينيةء» فى: معن زيادة (رئيمس التحرير)» الموسوعة الفلسفية العربية 
3 ج (بيروت: معهد الإنماء العربى» 1997-86( ج 2ص 624-613 


294 


بالنظرية الرشدية» في باريس» مواجهين بها جامعة السوربون التي كانت تحت 
سيطرة الكنيسة على سبيل المثال. 


هنا نلاحظ مجددًا الطايع الجماعي للهجوم والدفاع عند المثقفين والمفكرين 

فى الغرب الذين يُنشئون مؤسسات وينضوون إلى لوائهاء الأمر الذي كسب 
أفكارهم ونظرياتهم ومشروعاتهم الثقافية والحضارية مناعة لافتةء فضلا عن أن 
الوضعة الذهنية الجماعية في الغرب» المنفتحة بفعل طبيعتها هذه» سريعة الالتقاط 
للنبوغ الفردي غير المقبول أو غير المفهوم أو المحارّب في بلده» بغية ضمه إلى 
مشروعاتها الجماعية ومؤسساتها العلمية والتعليمية ومراكز بحوثها. 


- الأهداف 


منحيح أن القاسم المشترك للموسوعنين كان تتويريا ونهضوياء إلا لا أن أهداف 
كل مشروع من المشروعين تميز نسييا: بعضه من بعضص؟ فمن + ضمن أهداف دائرة 
المعارف برز إعلاء شأن اللغة العربية الذي كان هدفًا نهضويًا عربيًا بامتياز» الأمر 
الذي لم يقابله شأن مماثل عند الإنسيكلوبيديين الذين اشتغلوا بلغة ناشطة ومعتمدة 
على مستوى محلي وحتى أوروبي واسعء ولم يكن على كنفها إهمال تركي. 

قابل تبسيط المعارف وتعميمهاء وهما اللذان شغلا بال المعلم بطرس البستاني» 
هم الكتاب الإنسيكلوبيديين الذي انصب على تعميم المعارف وتعميقها؛ فالمشارك 
الفرنسي في كتابة الموسوعة كان يعمم معرفته الفكرية والعلمية والتكنولوجية من 
دون أن يضطر إلى تبسيطهاء بل كان يتخذ من مقالته مناسبة لتعميق الجانب العقلاني 
من معر فته (ينبغى ألا ننسى أن الإنسيكلوبيديا عرّفت نفسها أنها «قاموس معقلن»). 
والتزمت المواد المكتوبة فى الموسوعة الفرنسية هذه القاعدة» فكانت كل واحدة 
منها تشكل» » كونها مكتوبة بقلم متخصص معتّرف به مادة مرجعية تأسيسية» لا مادة 
إعلامية عامة كما كانت الحال مع دائرة المعارف. 

من هذا المنطلق أيضًاء غدت موسوعة الإنسيكلوبيديين المبنية على وضعة 
ذهنية جماعية تتسم بطابعين منهجيين مكملٌ أحدهما الآخر: الطابع الاستعادي 
والطابع الاستشرافي. وتمثّل الطابع الاستعادي للإنسيكلوبيديا في أنها كانت 


295 


عملا جَمَحَ المعارف المعروفة في الغرب حتى ذلك العصرء بتوثيق دقيق 
ومسؤول» بغية وضعها بين يدي القارئ الشغوف بالمعرفة والاطلاع. لذلك لم 
تترك هذه الموسوعة بابًا إلا طرقته في حقول أساسية ثلاثة ة التزمتها مسبقًاء هى 
العلوم والفنون والمهن. أما الطابع الاستشرافي لعمل الإنسيكلوبيديين» فقام 
على إخضاع المادة المجمعة والموروثة عن الأجيال السابقة لقراءة عقلانية تعيد 
TT‏ 

إن هذا البُعد الثاني المتميزء تفتقر إليه دائرة المعارف التي تكتفي بالبعد 
الاستعادي والتعريفي» إذ إنها تنقل عبر الترجمة معلومات جاهزة متوافرة في 
مراجع أجنبية. ويشير في هذا الصدد أحد النقاد والمطلعين على أعمال رواد 
النهضة عن كثب إلى أن دائر ة المعارف «لا تعدو كونها تعريبًا في قسم واسع من 
نبذاتها عن مواد أجنبية1» فضلا عن أن الجانب التكنولوجيء المتعلق بالمهن 
وتطويرهاء غائب تمامًا عنها. 


3- التفّس العام 

كُتبت دائرة المعارف تمس أدبي» لأنها كانت لصيقة بشخصية من كتبهاء ولم 
تتمكن من مغادرة هذا النفسء أو الانفتاح على سواه لأنها تقيدت منذ البدايةء 
بشكل غير مُدرك» بالوضعة الذهنية العامة السائدة فى عصرهاء حيث كان الأديب 
يعني المثقفء والمثقف يعني الأديب. ‘ 


لذلك» تختلف الإنسيكلوبيديا في نَمّسها كونها عملا جماعيًا صادرًاعن كوكبة 
كبيرة من الفلاسفة والأدباء والعلماء والمفكرين ورجال مهن وصناعات. فهى 
کتبت ok‏ متعدد التخصصات © «ذههنامنه341101015) كما يقال اليوم» إذ إن كتابها 
وجمهورها لم يقتصروا على فئة الأدباء. وعلينا أن نتذكر هنا أن هدف الموسوعة 
الفرنسية الأبعد كان عقلانيّاء الأمر الذي يبعده التَمس الأدبى والحساسية الأدبية 
التي تحاكي بشكل رئيس المشاعر والعواطف والخيال؛ فعندما تقرأ عددًا من 
المواد التي تتضمنها دائرة المعارف تحسب نفسك مسافرًا مع رفيق مثقف وأديب 


(7) شربل داغرء «الكتاب والأفق»» في: داغر وآخرون» ص 264. 


296 


يشرح لك برفق ولطف جمال وإبداع المسائل المطروحة في موسوعة تُقرأ كما 
يقرا أي كتاب» من دون التزام نهائي لا من طرف الكاتب ولا من طرف القارئ. 
بيد أنك عندما تقرأ مادة - ولو وحيدة - من الإنسيكلوبيدياء تشعر بأنك أمام عالم 
يطرح عليك مادة مكتملة ومبنية» تخاطب عقلكء تفيدك كميًا في اكتساب كمية من 
المعلومات» ونوعيًا في الاستعداد لتقبل معارف جديدة» على نحو ما كان قد أشار 
إليه ابن خلدون في مقدمة كتاب العبّر (الأمر الذي لم يتنبه له العرب حتى اليوم) 
من أن كل معرفة وكل صناعة «مرتبة يرجع فيها إلى النفس أثر يُكسبها عقلًا جديدًا 
تستعد به لقبول صناعة أخرىء ويتهيأ بها العقل» بسرعة الإدراك؛ للمعارف». 

يؤدي ذلك كله إلى 35 RS‏ القارئ في وضعة مماثلة لتلك التي وضع الكاتب 
نفسه فيها. فعندما تكون الوضعة التى يعتمدها صاحب المادة الموسوعية فردية 
وأدبية» يرى القارئ نفسه منقادًا من حيث لا يدري إلى اعتماد الحساسية الأدبية 
والانطباعية والذاتية» فى حين أنه عندما يعتمد صاحب المادة الموسوعية وضعَة 
عقلانية وجماعية؛ فلا مفر من أن يستجيب القارئ لها ويبادلها باعتماد حساسية 
نقدية وعلمية. 


لذلك» أبقت دائرة المعارف» على الرغم من نيات صاحبها الحسنة» القارئ في 


ثوابت ثقافته الأدبية التقليدية» مع مسحة من العصرنة» على عكس الإنسيكلوبيديا 
التي أدخلت قراءها إلى الحداثة من الباب العريض. 
4- الدعم المادى 

اعتمد مشروع المعلم بطرس البستاني على دعم مادي وفره له الخديوي 
المتنور إسماعيل. وسمح له هذا الدعم بتغطية تكاليف الأجزاء الخمسة الأولى 
من موسوعتهء أي إن دائرة المعارف مَّدينة بصدورها لجهة سياسية رعت مشروعها 
ودعمته» على غرار ما كان يجري في جميع الأنظمة الملكية شرقًا وغريًا. وكان 
الدعم المادي دعمًا ماديًا وسياسيًا في آن» يغطي التكاليف ويبعد الهموم الماديةء 


(8) أبو زيد عيد الرحمن بن محمد بن خلدون. المقدمة. ط 4 (بيروت: دار إحياء التراث العربي› 
[د. ت.])» ص 433. 


297 


كما كان يؤمن الغطاء السياسي العام. وللأمر دلالة كبيرة؛ إذ إنه يعني أن مشروعًا 
من أهم مشروعات النهضة لم يمانع الانضواء إلى لواء السلطةء بل اعتبر أن لا 
تعارض استراتيجِيًا بينه وبين النظام القائم» فالنهضة لم تناد يومًا بالتغيير الكلي» أو 
بتغيير المسار الأساسي المعتمد» معتبرة أن مشروعها مشروع ثقافي لا مندرجات 
تطبيقية ملزمة له. 

في المقابل» اعتبر الإنسيكلوبيديون» على مستوى الجماعة العلمية التي 
تولّت كتابة المواد كما على مستوى جمهور القراء» أن الإنسيكلوبيديا منهم وله 
ومن ثم لم يعتمدوا على دعم مادي أميري أو ملكي» »بل اكتفوا بالتمويل الذاتي. 

المكتتبون هم الذين أمّنوا التغطية المالية والسياسية للمشروع الفرنسي» حتى 
إنه عندما اشتد صراع الونسيكلوبيديين مع مجموعات ضغط الكنيسة والمحافظين 
الملكيين» » وقف المكتتبون إلى جانب المشروع الذي اعتبروه مشروعهم» ولم 
يطالبوا البتة باستعادة الجزء غير المستوفى؛ بعد توقف الصدور عند العدد السابع 
لأعوام عدة. 


أمنت الاستقلالية المادية لمشروع الإنسيكلوبيديا استقلالية فكرية وسياسية 
لأصحابه الذين سرعان ما تعرضوا للمضايقات الرسمية كونهم يسبحون عكس 
التيار الفكري والثقافي المحافظ؛ فالضغوط القانونية والسياسية على الكتاب 
والناشر على حد سواء» ومجاراة الملك الفرنسي لها كانت تشير بوضوح إلى أن 
مشروع هذه الموسوعة كان تهديدًا حقيقيًا للسلطات القائمة؛ الأمر الذي تجلى 
بعد عقدين من الزمن في قيام الثورة الفرنسية التي تبنت أفكار التنوير التي كان 
ينشدها الإنسيكلوبيديون. 

برز مشروع الإنسيكلوبيديا على هذا المستوى الشكلي» كما على مستوى 
المضمون» كمشروع متكامل يعني جمهورًا واسعًا من الناس» داخل النخبة كما 
داخل الشعب» إذ إن سمته التغييرية - الملازمة لشعاره العقلاني الأول - لم تكن 
مستورة ولا حجولة. فالقاموس المُعَقلن الذي كانت عليه الإنسيكلوبيديا لم يرض 
الانصياع؛ ولو شكلاء للسلطة القائمة» واستمر في نقل وجهة نظر شريحة شعبية 
وواسعة من الفرنسيين. 


أما دائرة المعارف» بوصفها مشروعًا نهضويًا أصيلاء فلم تغادر سقف السلطة 
ولم تحتم تحت سقف جماعي واسع» يحميها ويحمي فكرة التغيير النوعي في 
طرائق التفكير والتخطيط والتنفيذه ويرغب فعلا في تغيير استراتيجي كبير. ففي 
مقابل الاستراتيجيا الهجومية التي اعتمدتها الموسوعة الفرنسية شكلا ومضموناء 
بقيت الموسوعة العربية تتحرك ضمن استراتيجيا دفاعية محافظة. 


5- المحلدات 


صدر من دائرة المعارف أحد عشر مجلدًا في عصر النهضة ولم تكتمل؛ بل 
بقيت عالقة عند كلمة «عثمانى». ولعل الأمر يشبه علوق النهضة العربية كلها عند 
هذا الزمن الذي لم تتمكن من تخطيه باتجاه الحداثة. 

أما طبيعة الأعداد التي صدرت» فكانت أدبية على نحو عام» تنقل إلى الكاتب 
العربي غير الملم باللغات الأجنبية حصيلة قراءات موجزة ومختارة» أجراها المعلم 
بطرس البستاني بمفرده» ارتأى نقلها إلى لغة الضاد لأهميتها الثقافية والفكرية. 

لا نقلل بتانًا من قيمة ما قام به هذا النهضوي الفذ الذي يصب في خانة 
الانفتاح الفكري على الثقافات العالمية» مع الإشارة إلى أن تلاقح الحضارات هو 
الذي أدى إلى تطورها على امتداد كوكب الأرض» كما يشير الأنثروبولوجي كلود 
يفي شتراوس» ماضيًا وحاضرًا. إلا أن ما يلفت في هذا الصدد هو غياب الخطة 
المسبقةء فاختيار مصطلح المعارف يشير إلى رغبة في التوسع» لكنها لا تشير أيضًا 
إلى الاتجاه المنوي فيه التوسع» الأمر الذي أعاد المشروع» إبيستمولوجيًاء إلى 
استنسابية صاحبه الذي راح يختار المعارف التي يراها هو ضرورية ونافعة» من 
دون الاعتماد على فريق عمل أو على خطة منهجية محددة يشترك فيها آخرون. 

في حين أننا نلاحظ في مشروع الإنسيكلوبيديا أن إنجاز العمل بالكامل جرى 
خلال أقل من ربع قرن» على الرغم من العقبات السياسية الكبيرة التي اعترضته» 
فإن الرد على الضغوط والقراءات الجائرة جاء جماعيًا دائمًاء من الإنسيكلوبيديين 
الذين ضموا جماعة المؤلفين وجمهور القراء على حد سواء. 


299 


ميزة الموسوعة الفرنسية أنها عنتء منذ البداية» شبكة واسعة من المثقفين 
كونها متمفصلة على «العلوم والفنون والمهن., فكان جمهورها جمهورًا معنيًا 
بهذه المجالات كلها التي تخطت الثقافة الأدبية الكلاسيكية الفرنسية (L'Homme‏ 
«de lettres)‏ نحو ثقافة رجال الفنون والعلم والمهن. 


جاءت المجلدات الصادرة لتعبر عن هذا الخيار الواسع والشامل والجماعي؛ 
إذ ُخصص سبعة عشر مجلدًا للمعارف المختلفة وأحد عشر مجلدًا آخر للرسوم. 
وكانت هذه المجلدات الأخيرة (11 من مجموع 28) تشكل 40 في المئة من 
مجمل العمل؛ ما يشير» بشكل ملموس» إلى مدى الأهمية المخصصة للمعارف 
التكنولوجية التي شكلت أكثر من ثلث المادة الموسوعية المنقولة إلى القراء. 


جاء هذا كله منسجمًا مع عنوان الإنسيكلوبيديا الدقيق والمحصور وغير 
المفتوح على استنسابية المساهمين في تأليفهاء فمشى المشروع برمته على هدى 
خطة واضحة و«عقلانية»)» ولم يشذ عنها ولم يتوقف» مدا قوته من عنصره 
البشري المتعاضد والمتضامن» ومن دعم مجتمعه الصغير له (جمهوره) من دون 


6- بين الحاضر والمستقبل 


يَشّرت الإنسيكلوبيديا الفرنسية بعصر جديد هو نفسه العصر الذي استشرفه 
الونسيكلوبيديون منذ الربع الثالث من القرن الثامن عشر (1772-1751) ويعم 
الغربٌ اليوم» ويتميز ب: اعتماد العمل الجماعي والتخصص الدقيق والتكامل في 
التخصصات. علمًا أن السمات التى استشرفها الإنسيكلوبيديون وعملوا بهديهًا 
هي نفسها التي اعتمدتها - ولما تزل - الحداثة الغربية. فاعتماد العمل الجماعي 
في صنع الإنسيكلوبيدياء أشار إلى توجه جديد ونهائي في العمل البحثي» الفكري 
والعلمي والمهني» وهو توجه اتخذ في وقت لاحق شكل العمل المؤسسي 
والأكاديمي وغير الأكاديمي وفي مسائل إنتاج المعرفة. وأصبحت المعرفة في 
الغرب (وفي بعض دول آسيا الذي حذا حذو الغرب) منتوجًا يشارك في صنعه 
فريق عمل متناسق ومتكامل» لا فرد» مهما بلغت عبقريته. 


300 


كرّست الموسوعة الفرنسية عمل الإنسيكلوبيديين» لا عمل ديدرو الذي لا 
يعدو كونه عضوًا من أعضاء هذه الحلقة الكبرى التى أنتجت الإنسيكلوبيديا في 
نهاية الأمر» والعمل الجماعي هو الذي وقر أيضًا الدفاع المشترك عندما دق نفير 
المعركة وحاول الملكيون والمحافظون وقف مشروع التنور الداعي إلى نهضة 
الأفكار وتغيير مسارها باتجاه العقلنة. فلو كان شخص واحدء ديدرو أو سواه 
يقف وحده وراء هذا المشروع؛ لما تمكن من صد الهجوم» ولكان مصيره شبيهًا 
بمصير ابن رشد فى عصره. كما أن ميزة التتخصص عند كتّاب محتويات الموسوعة 
الفرنسية جعلت هذه الأخيرة مواد علميةء لا مقالات» أي إن صاحب كل مادة من 
المواد كان ملزمًا طرح رأي سواه ورأيه على حد سواء في المادة التي كان يكتبها؛ 
فحتى عندما كان الموضوع أدبيّاء لم يكن صاحبه يعالجه على نحو انطباعي؛ بل 
كان يجهد لتقديمه على نحو علميء أي إن الحجة كانت معيار الصحة أو الخطأ في 
المادة المكتوبة» والنقد والمسافة الطوعية تجاه الموضوع كله من بديهيات الكتابة» 
وهذا ما تتميز به عمومًا الكتابة الموضوعية ولا تلتزمه الكتابة الأدبية إلا في ما ندر. 


أما التكامل في التخصصات» وهو ما أصبح اليوم من ثوابت البحث 
الأكاديمي» فشأنٌ اعتمده الإنسيكلوبيديون» أصحاب الرؤى المتنورة والمنفتحة» 
إذ لا يصح التنوير من دون انفتاح وتبادل وتكامل للخبرات. ومن اللافت في هذا 
المضمار أن الإنسيكلوبيديا وضعت على قدم المساواة العلوم والفنون والمهن؛ 
مُدركة أن العصر المقبل ستكون للتكنولوجيا فيه حصة معرفية ومعيشية واسعة. 
وبذلك أعطت مفهوم الثقافة معنى حديثًا قبل الأوان. 


أما ثوابت عمل النهضة كما عكستها تجربة دائرة المعارف الرائدة عربياء 
فلا تقودنا إلى خلاصات مماثلة» بل يمكننا إيجازها في الآتي: بقاء الثقافة 
الأدبية على طغيانهاء والاعتماد على العمل الفردي والنبوغ» وعدم الاكتراث 
بالاستثمار العملاني للمعارف والعلوم. وهذا يعني أن هوة عميقة تفصل معرفيًا 
بين التجربتين؛ فعدم إبداء الرغبة في الانتقال من الإحساس والتعبير الأدبيين في 
التعامل مع مجمل المعارف والبقاء الطوعي في الموروث التفكيري» أبقى الفكر 


301 


حیث کان» أي في تقلیدیته ومحافظته» إذ إن آلیات التفكير هي التي تتحكم في 
مضامين الفكرء تمامًا كما أن الوسائط الإعلامية» بحسب ما بينه ريجيس دوبريه 


في أطروحته عن الميديولوجياء هي التي تتحكم في المضامين الإعلامية. 


لم يدخل المعلم بطرس البستاني المعرفة غير الأدبية إلى مواد موسوعته إلا 
بشكل اعتراضي وتعريفي» ولم يتعامل مع العلوم والصنائع على نحو يشير إلى رغبة 
في نقلها إلى العقل العربي» إذ إنه لخص المعلومات المتعلقة بهذه الحقول ونقلها 
كأديب لا كعالم رياضيات متخصص أو عالم فيزياء أو علوم طبيعية أو كيمياء أو 
هندسة» الأمر الذي سمح لعدم المطلع عليها بالتعرف إليها بشكل أولي ونظري 
وجمالي» لا على نحو وظيفي وعملاني. فالمثقف عنده أديب» والأديب يكتفي 
بالمعلومة المجردة أو النظرية ولا يرى أن عليه أن ينقل المعرفة إلى حيز التطبيق» 
مثل الفيلسوف الأفريقي الذي يكتفي بالتعامل مع الأفكار في عالمها العُلوي. 

إضافة إلى ذلك» فإن صاحب دائرة المعارف لم يرغب فعلا في الاستعانة 
بفرق بحثية تساعده في تقديم مادة متخصصة ومعمقة» مكتفيًا ببذل قصارى جهده 
في الترجمة والنقل. وهو لم يكن يؤمن بالعمل الجماعي؛ بل اقتصر إيمانه على 
الإيمان بنفسه ونبوغه» الأمر الذي أدى إلى انتقال عملهء بعد وفاته» إلى امتداداته 
البيولوجية المباشرةء لعدم تكوينه فريقًا يعمل على متابعة المشروع؛ إذإن المشروع 
الذي قاده كان مشروعًا فرديّاء مسبوكا فى وضعة ذهنية أدبية تقليدية» منفتحة على 
المعرفة العالمية» لكن ليس على مندرجاتها التجريبية والعملانية؛ إذ إن مشروع 
النهضةء المسبوك في هذا القالب القديم» لم يكن في إمكانه موضوعيًاء لا على يده 
ولا على يد سواه من نوابغ النهضة العربية» أن يُحدث خرقًا نوعيًا مثل ذلك الذي 
أحدثته الموسوعة الفرنسية قبل قرن من الزمن. 


ما الذي يمكن أن نقوله في النهاية؟ 


إن ما عبرت عنه حركة النهضة العربية؛ حركة المثقفين العرب الكبرى في 
في الانفتاح على العالم الخارجي» لكن هذه الحركة لم تتمكن من تأسيس عصر 


302 


جديد لأنها اعتمدت على الموروث الذهني والثقافي القديم» بخطاب جديد لكن 
من دون أفعال جديدة ومجددة. لذلك نلاحظ أننا ما زلنا نراوح مكاننا؛ فالنهضة 
لم تتمكن من إحداث تغيير نوعي في مسارنا الثقافي العام الذي بقي إلى حد بعيد 
كما كان عليه. 

هل يعني ذلك أن التاريخ يكرر نفسه دائمًا؟ كلاء بل يعني أن المثقف العربي» 
في وضعته الذهنية العميقة» ومن حيث لا يدريء يريد لهذا التاريخ ألا يتغير 
على نحو يستيدل مساره بمسار نوعي آخر. والتعبير الوحيد المقبول هو «التغيبر 
الطرّفى» (Changement périphérique)‏ الذي لايحدث تبديلا بنيويًا فى طرا ائق التفكير 
والتخطيط والتنفيذ. ١‏ 


المراجع 


ابن خلدون» أبو زيد عبد الرحمن بن محمد. المقدمة. ط 4. بيروت: دار إحياء 
التراث العربى» [د. ت.]. 


. 06 طه. فى الشعر الجاهلى. القاهرة: دار الكتب المصرية»‎ ee 
طرابيشي» جورج. المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي.‎ 


لندن: رياض الريس» 1991. 


العرويء عبد الله. «إرث النهضة وأزمة الراهن.» في: شربل داغر وآخرون. عصر 
النهضة: مقدمات ليبرالية للحداثة. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي 


العربى» 2000. 


303 


JUN الفكمل‎ 


المثقفون العرب والتغيير المجتمحي 
أي قراءة 3939 واستشراف؟ 

«لقد فاجأته [المثقف] الثورات العربية ب ”إنسان عادي“ يسبقه إلى منعطف 
ليس لمعرفته خبرة فيه. هذا ”الإنسان العادي“ باغت النص العربي» فهو 
لم يخرج منه. طال الحديث النظري عن فاعل تاريخي» ولكن على وجه 
الحدس: حدس توقع الحدث دائمًاء وانتظره انتظار القريب» في مراحل 
سابقة» ثم أجل *حتميته' إلى أجل غير مسمى. بقي التوقع وغاب الانتظار. 
بين هذا وذاك راجت ينبغيات هي أقرب ما يكون إلى الحس المشترك بين 
الناس. أما البحوث الميدانية» بدءًا بالاجتماعية منهاء فاكتفت بتوصيف ما 
استفاد منه الموصوفء في حياته» لا الواصف في علمه. وإذا كان للتحليل 
النظري أن يجد دائمّاء في طياته» ما يوحي بالتنبؤء فإن البحث الميداني 
المدعي دقة المنهج لا يمكنه ادعاء رائحة الميادين الثائرة؟. 


الطاهر لبيب"“ 


الفكرة الأساس التى تنطلق منها دراستنا هذه هى «التغيير المجتمعى» وكيف 
قرأه المثقفون واستشرفوه؛ وما دورهم فيه؟ وهل تنبأ المثقف العربي ب «ثورات 


(1) انظر: الطاهر لبيب» «أسئلة الثورة». الطريقء العدد 1 (صيف 2011): ص 28. 


305 


الربيع العربي؟2» وعلى وجه الخصوص. يتساءل بعض المثقفين لماذا فجأته 
هذه الثورات» ويعدونها تحديًا لصلاحية العلوم الاجتماعية وعلم السياسية 
والأنثروبولوجيا (العربية والغربية) وأدواتها ومناهجها التي رأت أن المجتمعات 
العربية «راكدة» واعصية على التغييرة”)؛ ومن ثمء لم تتنبأ بهذا التغيير أو تستشرفه. 


نقصد بالتغيير المجتمعي" كل ما يحدث في المجتمع من تحولات في 
Lab‏ وموتساته وثقاضه وخازاته وأعرافة عبر الزن من مرحلة إلى اريو 
جيل إلى جيل. ويتفق الاجتماعيون العرب» اصطلاحاء على أن «كل تحول يقع في 
التنظيم الاجتماعي» سواء في بنائه أو وظائفه في خلال فترة زمنية معينة» وينصب 
على كل تغيير يقع في التركيب السكاني للمجتمع» أو في بنائه الطبقي» أو في 
نظمه الاجتماعية» أو في أنماط العلاقات الاجتماعية أو في القيم والمعايير التي 


(2) رب سائل يسأل: هل من قدرة للمثقف وعلم الاجتماع على الاستشراف والتنبؤ؟ ويجيبنا خلدون 
حسن النقيب الذي يُعد أول من أسس المنهج الاستشرافي في دراسات علم الاجتماع العربي المعاصرء 
ورأى أن الاستشراف والدراسات المستقبلية من الضرورات الملحة في العلوم الاجتماعيةء على الرغم من 
فشل علم التنبؤ بالحوادث الكبرى في تاريخ المجتمعات. ويرى النقيب أيضًا أهمية دور النخب والمثقفين 
في هذا الاستشراف, نظرًا إلى تميزهم في قدراتهم واطلاعهم. ويحسب رأيه» فإن عملية التنبؤ والاستشراف 
بمستقبل أي مجتمع تكون في ضوء الاتجاهات السائدة في ذلك المجتمع» أي في فترة زمنية: عادًا أن قدرة 
العلوم الاجتماعية على التنبؤ بالتغير الاجتماعي محصورة في تحليل الاتجاهات العامة بشيء غير قليل من 
الدقة» لكن هذا لا يضمن لنا أن نحدد بالدقة نفسها اللحظة الحاسمة التي سيجري فيها التغير. للاستزادة 
عن هذا الموضوع. انظر: علي الزعبي» #خلدون حسن النقيب وسوسيولوجيا المستقيل: قراءة تحليلية»» 
إضافات (المجلة العربية لعلم لاجتماع)ء العدد 2 (ربيع 2013). 

في المقابلء يرى الباحث الجزائري فتحي بولعراس محدودية النظرية في العلوم الاجتماعية عمومًا 
وعلم السياسة خصوضًا في «التنبؤ»» «إذ لم تستطع هذه النظريات التنبؤ ب «الثورات العربية». انظر: فتحي 
بولعراسء «الإصلاحات السياسية في الجزائر بين استراتيجيات البقاء ومنطق التغيير»؛ المجلة العربية للعلوم 
السياسية» العدد 35 (صيف 2012)» ص 9. 

(3) جاك قبانجي» «لماذا «فاجأتنا؟ انتفاضتا تونس ومصر؟: مقاربة سوسيولوجية؛» إضافات العدد 
14 (ربيع 2011( 

(4) يرى محمد كولفرني أن العلوم الاجتماعية استعملت مصطلحات عدة للتعبير عن ظاهرة التغيير» 
مثل التطور والتحول والتقدم» لكنها تتفق كلها على أنها تعيير عن تبدل الظواهر الاجتماعية عبر الزمان. 
للاستزادة عن دلالة مفهوم التغيير الاجتماعيء انظر: محمد كولفرني» «التغيير الاجتماعي والسياسي: دراسة 
تأصيلية نقدية للمفاهيم»» المجلة العربية للعلوم السياسية: العدد 20 (خريف 2008). 


306 


تؤثر في سلوك الأفرادء والتي تحدد مكانتهم وأدوارهم في مختلف التنظيمات 
الاجتماعية التي ينتمون إليها“. وهو ثورة وحداثة» كما يراه محمد أركون*» 
وتحديث وتطور ونمو وتقدم وثورة وإصلاح» وهذه كلها مفاهيم ترتبط في ما بينها 
ارتباطًا منطقيّاء كما يرى بوتومور. هناك اتفاق أيضًا على أن التغيير المجتمعي أمر 
حتمى واحصيلة النمو الفكري للإنسان»» كما يرى كوندورسيه» وأن «تطور العقل 
الإنساني كان هو العامل الحاسم في التطور الاجتماعي»» بحسب أوغست كونت. 

لا ننسى هنا أيضًا الأخذ في الحسبان عامل الخصوصية المجتمعية» بمعنى 
أن ما يصلح من مهمات التغيير المجتمعي في مجتمع معين» لن يصلح بالضرورة 
في مجتمع آخر» حتى لو كان قريبًا منه» فمن «الخطأ أن نعتبر النموذج الغربي مثلا 
يُحتذى في عملية التغيير الاجتماعي التي تُجابهنا اليوم“”. ويرى بعض علماء 
الاجتماع الغربيين» خصوصًا سبنسرء أن أي تغيير في المجتمع ينبع من داخله» ولا 
يأتيه من الخارج» وإن كان للعوامل الخارجية دور مساعد أو مُحفز أحياناء إذ «لا 
يمكن للتغيير الاجتماعي أو السياسي أن يحدث من دون نضوج الرؤية والهدف 
من داخل هذا المجتمع»". وتختلف درجة التغيير بين مجتمع وآخر» اوبعض 
المجتمعات التي قد تبدو للمراقب الخارجي كما لو كانت جامدة» ليست في 
الواقع كذلك» فهي أيضًا تتغير» وإن يكن ببطء شديد»0. 


(5) أحمد زكي بدوي» معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية: إنكليزي - فرنسي - عربي (بيروت: 
مكتبة لبنانء 3 199)» ص 382. 

للاستزادة عن دلالة مفهوم التغيير المجتمعي في التراث العربي» انظر: عمران محافظة وحسين 
محافظة» «الإنسان كضامن لحقوقه: من مقاومة الإسلام للجور إلى الاعتراف بالحق في التغيير»» إضافات» 
العدد 16 (خريف 2011). 

(6) محمد أركون. الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد (الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب» 1993). 

(7) هشام شرابي» مقدمات لدراسة المجتمع العربي» ط 3 (بيروت: الدار المتحدة للنشرء 1984)» 
ص 93. 

(8) هشام شرابيء النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين» ط 2 (بيروت: مركز 
دراسات الوحدة العربيةء Ue«(1999‏ 9. 

(9) سعد الدين إبراهيم وآخرون» المجتمع والدولة في الوطن العربي» مشروع استشراف مستقبل 
الوطن العربي» ط 2 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيةء 1996)» ص 39. 


307 


يهم بحثنا إذا المتغيران: «المثقفون العرب»"" الذين يحملون أكثر من 
رؤية تجاه حركة المجتمعات العربية؛ و«التغيير المجتمعي؛. الدائم بوصفه سنة 
المجتمعات الإنسانية والطبيعة» وضرورة ومطلبًا اجتماعيًا. يحمل المتغير الأول 
(المثقفون) قراءاته المتعددة عن واقع المجتمع» محاولًا استشرافه وأخذ دوره في 
تغييره» فهل سمحت هذه القراءات للمثقفين العرب باستشرافهم عملية التغيير 
التي حصلت بين نهاية عام 2010 وبداية عام 2011ء وساعدتهم على ذلك 
حين فجأتهم ”ثورات الربيع العربي»: ولم تكن على الموجة التي قرأوا فيها واقع 
المجتمعات العربية وآليات تغييرها وحركتها؟ هذا يطرح بدوره سؤالًا محوريًا 
وإشكاليًا: أبحث المثقفون العرب أو فكروا في التغيير الآتي من تحت؛ أي من 
الواقع الميداني أو الحياة اليومية والعملية» بتعبير بيار بورديوء أم كانوا يعملون 
وينتظرون التغيير الآتي من فوق» من النظام نفسه؟ ولماذا؟ 


لاندعي أننا قادرون فى بحث محدود الإجابة عن هذه الإشكالية وفرضياتهاء 
خصوصًا أن كتابات كثيرة تناولت قضية التغيير المجتمعى؛ لذا حصرنا مجموعتنا 
البحثية في زاوية بحثية نعتقد أنها تصلح «مدونة بحثية»”'"2 من الناحية العلمية 
نقصد البحوث والدراسات والمقالات المنشورة فى مجلة المستقبل العربى 
(دورية فكرية ثقافية عربية شهرية) ذات العلاقة المباشرة» من خلال العناوين 


الرئيسة أو الفرعية» بالتغيير المجتمعى22. 


(10) نقصد ب «المثقف». في هذا السياق. معناه العام المجرد. لا الأيديولوجي (بحسب التعريف 
والتصنيف الغرامشي الطاغيين في الخطاب العربي)؛ أي الشخص الذي ينتج فكرًا وثقافة» يشكل عام أو 
تخصصيء كتابة وفنًا. انظر: أحمد مفلح» قي سوسيولوجيا المثقفين العرب (بيروت: منتدى المعارف» 
3)). 

في هذا الكتاب أيضًا بحثنا موضوع المثقف العربي والتغيير الاجتماعي (لا المجتمعي)» وتناولنا فيه 
موقف المثقف العربي من القضايا الاجتماعية العامة والتطورات السياسية والفكرية في العالم؛ مثل العولمة 
والأصالة والمعاصرة وحوار الحضارات والتدين» لذا اقتضى الأمر الشرح. 

(11) المقصود ب المدونة؛ (و5دم:20) هنا مجموعة من النصوص المكتوبة» أو الأعمال الكاملة 
لمؤلف معين: أو مجموعة كتابات عن موضوع معين» واستخدمناها بدلا من «عينة؛ التي تصلح لمجموعة 
بشرية وكمية يجري عليها البحث. 

(12) اخترنا مجلة المستقبل العربي للأسباب التالية: أنها مجلة شهرية مُحكمة علميّاء ثابتة الصدور 
من دون انقطاع منذ عام 8 وأنها مجلة لا هوية قُطرية أو أيديولوجية ضيقة لهاء بل مفتوحة لجميع = 


308 


فى المقابل» نظرًا إلى ثبات صدور مجلة المستقبل العربي التي وصلت 
أعدادها إلى 425 عددًا (فى تموز/ يوليو 2014)» اخترنا الأعداد الصادرة في 
فترة محصورة بتاريخين لهما دلالتهما وغناهماء بين بداية عام 1991 ونهاية عام 
0 (العقد الأخير من القرن العشرين والأول من القرن الواحد والعشرين» 
0 عددًا)» أي على مدى عشرين عامًا!*'». وهي مساحة زمنية غنية بالمحركات 
أو المعوقات والكوابح السوسيو - معرفية والسياسية والاقتصادية والفكرية 
الدافعة إلى التغيير المجتمعي (سلبًا أو ایجاټا» ومن ثمء فإن فيها غنى للمثقفين 
العرب كي يقرأوا واقعهم بموضوعية ود يستشرفوا ويتدخلوا. 


توقفنا فى هذا الاختيار عند البحوث والدراسات والآراء المنشورة في 
المجلة» وتركنا باب مراجعات الكتب والتقارير وتغطية المؤتمرات (وهذه كلها 
الأبواب الثابتة في المجلة). وكان هناك 2010 بحوث ودراسات ومقالات. 
منوعة بين فكر قومي وسياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وتربوي وإعلامي.. 


= الكتاب والمثقفين العرب من مختلف الأقطار الذين يرسلون إليها بحوثهم الفكرية بتوجهات مختلفة؛ ولا 
تهتم موضوعاتها بقضية علمية محددة بل تستقبل مختلف الموضوعات على أن تهتم بالمجتمع العربي 
وقضاياه؛ من بُعد قومي عربي وحدويء وتُوزع في مختلف الأقطار العربية على نحو واسع ولافت» وتسعى 
إلى تقديم ثقافة إلى عموم فئات المجتمع وشرائحه. 

(13) من الأسباب التي دفعتنا إلى اختيار هذه الفترة التاريخية للدراسة تفكك الاتحاد السوفياتي 
(رسميًا في كانون الأول/ ديسمبر 1991) ونهاية الحرب الباردة بسيطرة الولايات المتحدة الأميركية 
بوصفها القطب الأوحد في العالم» وحرب الخليج الثانية وسابقة احتلال دولة عربية من دولة عربية أخرى 
(مزو العراق الكويث فى 2 اب/ أشيطس 1990): والحرب: على المراق ارك الل ال ر 
الولايات المتحدة (عاصفة الصحراء في 17 كانون الثاني/ يناير 1991)ء ما يعني تفكك الحد الأدنى من 
التضامن والتعاون العربي والسير وراء السياسات الأميركية بشكل مباشر من الأنظمة العربية كلهاء وعقد 
مؤتمر مدريد للسلام بين دول الطوق العربية وإسرائيل في تشرين الثاني/ نوقمير 1991 (ما عدا مصر)ء 
ويداية التراج جع العربي رسميًا تجاه تحرير فلسطين؛ وظهور تيارات الإسلام السياسي في البداية ووصوله 
إلى الحكم قر بعضى الدول العرييةه ومن ثم بداية ظهور التيارات السلفية؛ وصولا إلى إعلان دولة الخلاة 
الإسلامية مع «داعش» ؛ وزيادة الضغط المعيشي والاقتصادي وتراجع مشروعات التنمية في المجتمعات 
العربية لمصلحة الأنظمة والحكام» مع ارتفاع وتائر القمع والدكتاتورية والفسادء وفي الحد الثاني لاختيار 
هذه «المدونة» المفترضة (في عام 2010) بداية ما يسمى ثورات «الربيع العربي» (التونسية في كانون 
الأول/ ديسمبر 2010ء والمصرية فى كانون الثاني/ يناير 2011 واليمنية في كانون الثاني/ يناير 2011» 
والليبية في شباط/ فبراير 2011» والسورية في 3 آذار/ مارس 2011). ١‏ 


309 


وغير ذلك» تناولت مختلف شؤون المجتمعات العربية وشجونها. لكن تبين لنا 
أن هناك ست عشرة دراسة فقط تناولت موضوع التغيير المجتمعي» أي أقل من 
واحد في المئة (0.79 في المئة)» منها دراستان تناولتاه بطريقة مباشرة (واحد فى 
الألف)ء جاء في عنوانها الرئيس أو الفرعي كلمة «التغيير»» والباقي بطريقة غير 
مباشرة» وكانت موضوعاتها وضع النظام العربي وإصلاحه وتطويره أو تغييره» ما 
يعني أنها تناولت الموضوع الذي نحن في صدده» على نحو أو آخر» والوضع 
الاقتصادي والتنموي» والتربوي والنهضة» والتحديث والإصلاح المؤسساتي. 
بقي أن نشير في هذا المجال إلى أن اختيارنا مجلة المستقبل العربي «مدونة» بحثية 
لا يعني أن كتّابها هم وحدهم المثقفون العرب. فهناك مثقفون عرب آخرون كثر 
لم يكتبوا فيها لأسباب شخصية وأيديولوجية وأكاديمية» وغيرهاء لكننا اخترنا عينة 
بحثية تجمع عددًا منوعًا من المثقفين وتعطينا خيارات لموضوعنا. 

سنستخدم تقنية «تحليل المضمİ( (Content Analysis)‏ الكيفي» كما حددها 
برنارد برلسون» متوقفين عند وحدة «تحليل الموضوع؟ التي تعني هنا تصورات 
المثقفين العرب وتطلعاتهم ونظرياتهم وأفكارهم بناءً على أن المثقف هو 
الشخص الذي ينتج الأفكار والنظريات التي تساهم في صناعة الرأي العام والتغيير 
ویستهلکها"“'. يتقاطع منهجنا الوصفي في هذه الدراسة بين علم الاجتماع 
الثقافي وعلم اجتماع المعرفة؛ بمعنى آخر: كيف ينظر هؤلاء المثقفون العرب 
الذين اخترنا تحليل أعمالهم المعرفية والبحثية إلى الواقع وتغييره؟ 


أولا: تعريف التغيير المجتمعي عند المثقفين العرب 
التغيير المجتمعي» كما رأيناء هو التحوّل الا ي الي الذي يغيّر 


مسار تاريخهء استثنائيًا كان هذا التحول أو موقئًاء بسيطًا أو معقدًاء داخليًا نابعًا من 


(14) استفدت في هذا المجال من حواراتي المتواصلة مع مارلين نصرء وهي مناسبة لأقدم إليها 
الشكرء ومن دراستها. انظر: مارلين نصر» «تحليل المضمون في البحوث العربية: صعوبة السيطرة على تقنية 
مستوردة۲» في: البحث والباحث في العلوم الإنسانية في العالم العربي» متابعة وإخراج فارس أبي صعب 
وريما نور الدين» باحئات» ج 3: 1997-96 (بيروت: تجمع الباحثات اللبتانيات» [1997]). 


310 


المجتمع نفسه أو خارجيًا مستوردًا أو منقولًا أو مفروضًا. وهناك من رأى صعوبة 
فى دراسة التغيير المجتمعى لأن المجتمعات الإنسانية لا تسير على وتيرة واحدة 
في تغيرهاء إذ لكل مجتمع خصوصيته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وأحواله 
التي تميزه من غيره*"2. وربما يكون التغيير هادنًا لا يتجاوز «الإصلاح» بوصفه 
ترقيعًا أو تغييرًا غير جذري وشاملء أو مفاجنًا وعنيمًا يصل إلى «الثورة» بوصفها 
نقطة تحول في الحياة الاجتماعية والأوضاع السياسية» تطيح ما تداعى من الزمن 
وتقيم نظامًا اجتماعيًا تقدميًا جديدًا*". وهذا التعريف على صعيد اجتماعي 
عام» فكيف قرأه المثقفون العرب في نصوص المدونة البحثية التي توقفنا عندها؟ 
مثقفان مصريان فقط (ما نسبته 12.5 في المئة) هما اللذان توقفا عند تقديم 
تعريف للتغيير الاجتماعي وتناولا التغيير تناولًا مباث شرًا (أي جاء مصطلح التغيبر 
في عنوانّي بحثيهما). أما أكثرية المثقفين (5 . في المئة)» فتحدثوا عن التغيير 
المجتمعي وأهميته وضرورة في المجتمعات العربية من دون تعريفه. 


ترى ثناء فؤاد عبد الله أن التغيير في المجتمع العربي هو: إنهاء حالة التبعية 
وردم الهوة الحضارية بين المجتمع العربي والمجتمعات المتقدمة والخروج 
من حالة التخلف واستعادة السيطرة على الموارد والئروات العربية واستنهاض 
المجتمع العربي للمشاركة الإبداعية في صنع التاريخ» وسد الفجوة بين الأغنياء 
والفقراء» والقضاء على الفقر» وتحرير الإنسان العربي من قوى القهر والتسلط 
والسيطرة التي تنخر روحه وقواهء ومعالجة مشكلات التفكك الاجتماعي؛ 
وخلخلة القيم والتحرر من القيم البالية العتيقة» لإتاحة الفرصة لإحلال حضارة 
العقل والإنجاز والكفاءة محل القيم التقليدية» وبناء مؤسسات سياسية واقتصادية 
واجتماعية جديدة وإقامة مجتمع الديمقراطية السياسية والاجتماعية على الوجه 
الأكمل ...إلخ”". 


(15) محمد الدقسء التغيير الاجتماعي بين النظرية والتطبيق (عمّان: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع» 
1997( 

(16) محمد عمارة؛ الإسلام وضرورة التغيير (القاهرة: نهضة مصرء 2007( 00 3 

(17) ثناء فؤاد عبد اللهء «ممكنات التغيير في المجتمع العربي؛» المستقبل العربي» العدد 176 
(تشرين الأول/ أكتوبر 1993)» ص 38. 


311 


تعتمد عبد الله على نحو غير مباشر» مقولات هشام شرابي في شأن «النهضة 
الحضارية الشاملة4؛ وعدتها ومنهجيتها «التحول الثوري» من أجل «التبديل 
الجذري». لكنها تعود إلى مقولة «... لتشكيل 'الضغط؛' المناسب على القيادات 
والنظم والسلطات القائمة لاتخاذ الخطوات الفعلية لبدء التغيير والإصلاح 
الحقيقي الشامل“'. وترى أن أي نسق اجتماعي يحوي نوعين من العمليات: 
الأولى تعمل على الحفاظ عليه وضمان استمراره مثل التنشئة الاجتماعية ونقل 
الإرث الثقافي وأساليب الضبط الاجتماعيء» والثانية تعمل على تبديله وتغييره 
ابتداءً بالتعديل» مرورًا بالإصلاح» وانتهاءً بالثورة"©. 


للتغيير في المجتمع العربي مثبطات ومعوقات» بحسب عبد الله أيضاء تقوم 
على: محدودية عدد القوى الاجتماعية الحديثة وأدائه واستمرار عد القبيلة وحدة 
التنظيم الاجتماعي» وجفاف إنجازات التنمية والتحديث ومحدوديتهاء وجمود 
النظام الإقليمي العربي الذي يبدو معارضًا لإجراء أي بادرة تغبير أو إعادة تشكيل 
الواة قع العربي الراهن» وطبيعة الدولة العربية الأمئية والرغبة المتزايدة في نظام 
تقر تقوده تخب 'تكتوقراطية غير مقيدة ة بالعوامل المحلية والضعف التنظيمى 
والعقائدي لمجموعة المعارضة السياسية. ّ 


أما التخبير المسجتمغي عند خليل العثنتي فهوء الوم حابجة عزبية» في غل 
الأزمات التي نمر بها. ويُقصد بالتغيير هنا «تجديد الفكر وتنقيحه» على نحو 
ينعكس على شكل المعارمنات والأفعال» ويجعلها أكثر قدرة على التكيف مه 
المتطلبات والتحديات الجديدةء داخليًا وخارجيا“*. على الرغم من عد التغيير 
نقلة نوعية في شكل المجتمعات العربية وجوهرهاء يرى العناني أن التغيير نفسه 
gai‏ نقمة إذا جاء على حساب الثوابت الدينية والثقافية والمجتمعية التي أكسبها 
التاريخ ثقلها الموروث»*. 


(18) المرجع نقسه» ص 39. 

(19)المرجع نفسه» ص 28. 

)20( خليل العناني» (إشكاليات التغيير في الوطن العربية؛ المستقبل العربي: العدد 296 (تشرين 
الأول/ أكتوبر 2003)» ص 167. 

(21) المرجع نفسه» ص 166. 


312 


ليس المقصودء بحسب العناني نقسه» التحجرء أو رفض هذه الفرصة 
التاريخية للتغيير بقدر ما يعني عدم ضياع تلك الثوابت في خضم الرغبة القوية في 
التغيير» بل يصبح مجديًا أن ينطلق التغيير من هذه الثوابت» إذ يعبر عن علاقة الفرع 
بالأصل. ويتوقف نجاح التغيير في الوطن العربي على حل «هذه الإشكالية»**» 
إشكالية الأصالة والمعاصرة: أو «القديم» و«الحديث». والحل في رأي العناني 
أيضًا أن يكون القديم المتمثل في التراث الثقافي والحضاري أساسًا للانطلاق نحو 
التجديد والتحديث» وبالعكس يصبح الجديد المتمثل في الحداثة والتطوير إضافة 
إلى هذا الإرث التاريخي*©. وباختصارء يريد العناني التجديد والتغيير والثوابت 
في الوقت نفسهه لذا تراه يعتمد الدعوة إلى «الإصلاح بدلا من مفهوم التغيير» لأن 
الفرق بينهما كبير. فالإصلاح هو تغيير تدريجي يلتزم الثوابت الأساسية لشعوب 
المنطقة ويُلزمها مبادئ ورؤى معينة» بينما التغيير قد ينطوي على بتر الجذور 
وخلق بيئة جديدة قد تختلف مع تلك الثوابت والمعتقدات والرؤى التي ترسخت 
عبر مراحل الزمن المختلفة»*» وهنا يعتمد العناني موقف عمارة السابق. 


هذان. إِذَاء هما التعريفان اللذان وردا في مدونتنا البحثية. أما النصوص 
الأخرى» فخلطت بين تعريف التغيير المجتمعي وعوامله وأهدافه أو نتائجه. إذ 
عد عبد الله عبد الدائم أن أولى ضروب التغيير المجتمعي تأتي من التربية ووسائل 
التعليم*. والتربية المقصودة هنا ليست المدرسية وطابعها التعليمي فحسب» 
بل الشبكة التربوية الواسعة التي تضم الأسرة والمجتمع والتعليم النظامي وغير 
النظامي والمؤسسات الثقافية. ومثله ينادي مصطفى محسن الذي طالب بدمقرطة 


(22) يرى العناني أن هناك ثلاث إشكاليات غاية في الأهمية يجب التصدي لها قبل الشروع في 
التغبير: تتعلق بحقيقة التغبير وجوهره. وهل سيعبر عن الاستجابة لرغبات الشعوب العربية وتطلعاتهاء وهو 
ما يعني ضرورة إحداث تغبيرات حقيقية» وإن كان هذا التغيير يُفرض من القمة أو أنه سيأتي من القاعدة 
ومدى مواءمة التغيير بين القديم والحديث» الأصالة والمعاصرة. 

(23) المرجع نقسه» ص 168. 

(24) المرجع نقسه» ص 170. 

(25) عبد الله عبد الدائمء «التربية والقيم الإنسانية في عصر العلم والتقانة والمال»» المستقبل 
العربيء العدد 230 (نيسان/ أبريل 1998). 


313 


التربيةء بناءً على أن هذه العملية وجه من وجوه التغير المجتمعي*. ومثلهما نبيل 
علي الذي يربط بين التربية والتعليم والمعرفة والتغيير المجتمعي» حيث المعلومة 
والمعرفة صارتا ركيزتين أساسيتين في البناء الاجتماعي والاقتصادي”. 

أما نادر فرجاني» فيربط بين التقدم والتغيير المجتمعي و«تجاوز حالة الانكسار 
التي تسم الموقف العربي الراهن في معترك الصراع العربي- الإسرائيلي... ونقلة 
جوهرية في مضمار التنمية الإنسانية»». ويلخص الجدول (1-10) تعريف 
التغيير المجتمعي عند المثقفين العرب. 


الجدول (1-10) 
تعريف التغيير المجتمعي عند المثقفين العرب 







te 
TÊ f 
ل‎ 1 |. 
م‎ 

3 

0( به 
| 1 
3 
1 


1 


E‏ والتطوير والتبديل الجذري ا 


والتحول الثوري 






€ 
ع‎ 
EE 


ai‏ إصلاح النظام العربي كله 


)26( مصطفى محسنء «التربية ومهام الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي: مصاعب الحاضر 
ومطالب المستقبل؛» المستقبل العربي» العدد 294 (آب/ أغسطس 2003). 

(27)انظر: : نبيل علي» «إقامة مجتمع المعرفة كمحور للنهضة»» المستقبل العربي» العدد 342 (آب/ 
أغسطس 2007). 

(28) نادر فرجاني» «الحكم الصالح: رقعة العرب في صلاح الحكم في البلدان العربية»» المستقبل 


العربي» العدد 256 (حزيران/ يونيو 2000)» ص 4. 





314 


تابع 








الثورة على السلطة إذا أخفقت في | , 
لتغيير 


التغب 
يسين عا اة اة عل درن 


يُتبين من الجدول (1-10) أن أغلبية المثقفين العرب تغلب «الإصلاح»29) 
(62.5 فى المئة) و«التحسين» و«التبديل؟ و«التطوير» و«النهضة» و«قتل 
البديهيات» و«تغيير الدولة ذاتها من الداخل» أي في تبديل نمط الإرادة التي 
تسيرها وتحولها من إرادة خارجية مرتبطة بعصبة أو عصابة» إلى إرادة داخلية» 
أي نابعة من المجتمع ذاته وتابعة له»» كما يرى برهان غليون”» وكلها ربما تعني 









)9 2) يعد الإصلاح (Reform)‏ والثورة («دنادداه26) نقيضين» على الرغم من أنهما يُنظر إليهما بوصفهما 
وسيلتين من وسائل التغيير المجتمعي. وقبل الثورة الفرنسية» لم يكونا يتعارضان بمثل هذا الوضوح الحاصل 
اليوم. وعلى الرغم من أنهما يحملان معاني مختلفةء فإن استعمالاتهما كثيرًا ما كانت تتداخل. ويعني 
الإصلاح حرقيًا أن #يعيد تشكيل؟ (7050 -20)» أي أن يشكل من جديد» لهذا يمكن أن يفهم بمعنيين مختلفين: 
تعديل حالة مغلوطة للأشياء. أو تحويرها نحو الأحسنء والعودة بشيء ما نحو وضعه الأصلي. وهكذا يمكن 
النظر إليه على نحو جذري أو محافظ, أو في هاتين الحالتين معًا أحيانًا. أما الثورة فمشتقة من الكلمة اللاتينية 
(Revolution)‏ بمعنى حركة شيء ما من مكان إلى آخر. واستّخدم هذا المصطلح في فجر الحقبة الحديثة 
للإشارة إلى اندلاع اضطراب سياسي وللدلالة على حدوث تغبير في الحكم. لهذا كثيرًا ما يُنظر إلى الثورة 
بوصقها أكثر جوهرية» أو أكثر جذرية من الإصلاح. ففي حين يوحي هذا المصطلح بالعودة إلى الجذورء 
تعني الثورة الانبتات عنها. للاستزادة في شأن هذا الموضوع, انظر مادة «الإصلاح والثورة؛ في: طوني بينيت» 
لورانس غروسبيرغ وميغان موريس» مفاتيح اصطلاحية جديدة: معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع» ترجمة 
سعيد الغانمي (بيروت: المنظمة العربية للترجمةء 2010)» ص 89-83. 

)30( برهان غليون» #پناء المجتمع المدني العربي: دور العوامل الداخلية والخارجية؛» المستقبل 
العربي» العدد 158 (نيسان/ أبريل 1992)» ص 121 


315 


التغيير» أو وجهًا من وجوهه. لكنها «رتوش» وليست تغييرًا مجتمعيًا جذريّاء 
بمعنى الانتقال بالمجتمع من حال إلى أخرى مختلفة؛ ذلك أن التغيير الحقيقي هو 
التغيبر الجذري العميق الأقرب إلى «الثورة» الشعبية» وهذا المعنى لم يقاربه إلا 
٠ es‏ في المئة)» وواحد من 
هذين الاثنين شترط على أن تكون هذه الثورة في حال إخفاق السلطة في التغيير. 
SS‏ 
أحدهما منصب رئيس مجلس أمة (نواب) ووزير خارجية في بلده (العراق)» 
والثاني قاد حلفا معارضًا ضد نظام دولته في موجة الربيع العربي (سورية). ونسبة 
5 في المئة من المثقفين ترى التغيير نهضة. وإن التفاوت في معنى التغيير 
المجتمعي؛ في ما أرى؛ أضعفه وأضعف تأثير المثقفين أنفسهم ودورهم التغييري 
والاستشرافي وشدّت قواهم وصوتهم ووحدتهم. 


إضافة إلى ذلك» يتضح أن المثقفين العرب ينساقون وراء «الثابت» بدلا 
١‏ من «المتغيرة» بعكس الفكر الفلسفي والاجتماعي السائد في تاريخ الفكرء وهذا 
ما نراه صراحة عند بعض المثقفين (العناني مثلًا)» أو من خلال الاكتفاء أحيانًا 
بإصلاح المناهج التربوية فحسب من دون «تثويرا هذه المناهج وعملية التعليم 
كلهاء أو من خلال الاكتفاء باستيراد المناهج من دون «توليدها» من رحم المجتمع 
وحاجاته ومتطلباته. ويختلف المثقفون العرب أيضًا في أمر التغيير المجتمعي. 
فهل يكون من خلال إصلاح المؤسسات المجتمعية بناء على أنه شأن جماعي 
بالدرجة الأولى ومهما يكن دور الفرد فيه يبقى مرتبطا بمجموع وأمة» كما يرى طه 
جابر العلواني"؟ آم هل يبدأ الإصلاح مع الفرد» لا مع المؤسسات (الأشكال) 
لأن الإنسان هو الجوم 22؟ 
ما يمكن استنتاجه هنا بعد التوقف عند تعريف التغيير المجتمعي عند بعض 
(31) طه جابر العلواني» الأزمة الفكرية ومناهج التغبير: الآفاق والمنطلقات ط 2 (القاهرة: المعهد 
العالمي للفكر الإسلامي» 1996( ص 7. 
(32) انظر: سعدون حمادي» «الوحدة العربية من منظور المشروع الحضاري»ء المستقبل العربي» 


العدد 269 (تموز/ يوليو 2001)» ص 122. 


36 


المثقفين العرب هو غياب التحديد الواضح لهذا المفهوم» الأمر الذي أبعد هؤلاء 
المثقفين عن الاهتمام بالتغيير في المجتمع وعطل دورهم وأضعف | ستشرافهم. 
وربما كان غياب هذا الفهم والاهتمام نتيجة اعتقاد أكثرهم أن التغيير المجتمعي 
يأتي من فوق» من النظام والدولةء بمعناه الأبوي» لا من القاعدة التي لادور لها 
بوصفها رعية» ومن ثم ربما لا حاجة» بالنسبة إلى هؤلاء المثقفين» إلى تعريف 
التغيير المجتمعي وتحديده أو حتى الاهتمام به مباشرة. 


ثانيًا: عوامل التغيير وقواه 
قسمنا موضوعنا بحسب فرضياتناء من خلال النصوص التي درسناهاء فثتين 
أو عنوانين تغيريين: التغيير الشامل والجذري للنظام عن طريق الثورة» والتغيير 
القطاعي. لكن نظرًا إلى محدودية المساحة في هذه الدراسةء فإننا لن نستطيع 
مناقشة هذه العوامل القطاعية كلهاء بل سنتوقف عند العوامل التى أخذت مساحة 
أكبر وتكررت في مدونتنا البحثية: التربية والعلاقة بالخارج والحركات الإسلامية. 


1 - التغيير الشامل أو الإصلاح؟ 


واحدة من إشكاليات التغيير في الوطن العربي كما طرحها خليل العناني: 
«هل سيفرض التغيير من القمة أم یات من القاعدة؟»*» ويقصد بها هل سيأتي 
التغيير المنشود كمبادرة من قمة النظام السياسي؟ أم هل سيكون لقوى المجتمع؛ 
بطبقاتها وعقائدها المختلفة» دور في هذا التغيير؟ وهل التغيير المطلوب يعني 
تبديل النظام برموزه وسياساته وأشكاله جذريًا بالثورة عليه وإزاحته؟ أم هل يكون 
بإصلاحه بالتدربج فحسب؟ وتقاطعت أكثر الآراء الواردة في مدونة البحث عند 
ور الام قاذ لي NC RER‏ 
أو مؤسساته» وطالب بعضها بإصلاحه فحسب. وهناك من طالب بالتغيير من 
خلاله (المطوع”* والأنصاري والكواري)» في حين طالبت نسبة لا تزيد على 


(33) العناني» ص 166. 


(34) محمد عبد الله المطوع» «التغير القيمي في مجتمع الإمارات»» المستقبل العربي» العدد 152 
(تشرين الأول/ أكتوبر 1991). 


317 


5 في المئة صراحة بتغيير النظام نفسه والخروج عليه (حمادي وغليون). 
اللافت أن أكثر الآراء أيضًا اتفقت على «اختصار» القوى المغيرة المقابلة 
للنظام بالنخب أو المؤسسات أو القوى الحيةء لا القاعدة الشعبية (كما سنرى 
في الجدول (22-10)). مع الإشارة في هذا المجال إلى أن بعض الآراء أعطى 
النظامٌ معنى آخر أوسع وأكبر من النظام الحاكم في كل دولة من الدول العربيةء 
وأخذ يتكلم على النظام العربي الواسع ببعده الأيديولوجي القومي» وطالب 
بالتغيير السياسي والمجتمعي الذي يهم الأمة العربية كلهاء لا يعني خصوصية 
كل مجتمع من المجتمعات العربية» ولا شك في أن هذا «يْميّع“ هدف التغيير 
المجتمعي المنشود ويضعفه ويُفقد المجتمعات خصوصيتهاء لأن لكل مجتمع 
من المجتمعات العربية خصوصيته ومشكلاته ومصاعبه وآفاته» ومن ثم عوامل 
تغييره وآليات هذا التغيير المختلفة عن المجتمع الآخرء وربما تفاوتت في 
المجتمع نفسه الخصوصيات بين منطقة وأخرى؛ بحسب ديموغرافيتها ووسائل 
معيشتها وعلاقة النظام بها وتنميتها ...إلخ. 

يطالب الباحث العراقي كاظم حبيب بإقامة دولة القانون وتأمين الحياة 
الدستورية وإشاعة الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان» وغيرهاء في بلدان 
العالم الثالث. وبحسب رأيه» لأصبحت هذه المهمات منذ سنوات تشكل جوهر 
النضال الذي تخوضه هذه الشعوب [العالم الثالث]» وهي المحرومة منها بصيغ 
وأساليب ومستويات شتى 6" وهذا كلام صحيح ومنطقي من حيث توصيف 
واقع هذه الشعوبء لكن غير الصحيح أو المنطقي والغريب في هذا الكلام الذي 
ُشر في نيسان/ أبريل 1 199 مع ما لهذا التاريخ من دلالة (في العراق مثلًا والباحث 
عراقي)» أن الباحث يُطالب «المجتمع الدولي» بموقف إنساني موحد حيال «أي 
دولة تتجاوز حقوق الإنسان وحرياته وتعتدي على كرامته وتصادر إرادته وتهدد 


وجوده», 


(35) كاظم حبيب» «حول الواقع الراهن في بلدان العالم الثالث واتجاهات التغيير المنشود فيها 
رأي للمناقشة»؛ المستقبل العربي» العدد 146 (نيسان/ أبريل 1991): ص 35. 
(36) المرجع نفسه» ص 35. 


318 


أما قُطر دائرة تفكير عصام نعمان فكان أقصرء إذ رأى التغيير من باب 538 
عربي اتحادي» تتبلور في سياقه مرجعية قومية للقوى الثقافية والسياسية الحية في 
الوطن العربي» ويجري من خلال مؤسساته ومنظماته النهوض بالمجتمع الأهلي 
العربي والارتقاء به»”*؛ ما يعني أن نعمان مثل حبيب يهرب من الخصوصية 
الواقعية القادرة على الإجابة عن «التغيير المجتمعي» المطلوب وآلياته وسل 
إلى الفضاء القومي (مع الانتباه هنا أيضًا إلى خصوصية الوضع في بلد الباحث 
لبنان» فكأنه هرب من واقعه الطائفي والمذهبي الذي يحكم بلده ويُخضع أي تغيير 
فيه لتوافق هذه الطوائف)» وتُلقي هاتان الرؤيتان (المجتمع الدولي والقومية) 
«التغريبيتان بالمعنى الوطني والخاص في كل مجتمع من المجتمعات العربية» 
التغيير المجتمعي الموضوعي والفعلي والفاعل في تسطيحات واسعة فيتية 


238( 0 


ويضيع 

من السهل طبعًا طرح مثل هذه النظرة الرومانسية الحالمة نحو «مؤتمر عربي 
اتحادي»» وسنسلم بأن الأنظمة العربية كلها رضيت به» لكن هل نسي نعمان أن 
الأنظمة التى تحمل هذا الفكر القومى أضرّت بالنضال القومى أكثر من الأنظمة 
المحافظة؟ وهل نسي أن الأنظمة كلها ستدس أعوانها في مثل هذا الاتحاد وتحوّله 
إلى مؤسسة سلطوية تضاف إلى المؤسسات الأخرى» ولنا في تجربة الوحدة 
المصرية - السورية» وفي المجلس الأعلى السوري - اللبناني مثال؟ فهل ننتظر 
التغيير حتى نجد حلا لمثل هذه العقد التاريخية على مدى المجتمعات والدول 
العربية؟ أم هل نسعى إلى الحلول والتغييرات المجتمعية المحددة والمحدودة 
التي تكبر وتنتشر وتتوسع بمنطقها الطبيعي» وحينئذ لا يلغي قمعها وحدها التغيير 
برمته كما لو كان على المستوى القومي أو الإسلامي أو الأممي الواسع الذي هو 
أقرب إلى الحلم والمثالية منه إلى الواقع؟ 


)37( عصام نعمانء «العرب والعصر: رؤية قومية للخروج من الهزيمة؛, المستقبل a‏ العدد 
8 (نيسان/ أيريل 1992): ص 37. 

(38) ما يقال عن هذه النظرة الرومانسية القوميةء يقال عن أي نظرة أيديو لوجية أخرى» إسلامية كانت 
أو أممية» لكن يما أن مجلة المستقبل العربي» عينتنا في هذا البحث» تحمل الفكر القومي» فقد جاءت النظرة 
عند بعض الباحثين يعد قومي. 


319 


من المنطلق العقائدي القومي نفسه أيضاء يسأل» أو يتساءل» أحمد يوسف 
أحمد في تحليله أزمة النظام العربي الراهن وسيل الخروج منها: «هل النظام 
العربي الراهن قابل للإصلاح أم أنه قد استنفد كل الإمكانات في هذا الشأن» ولم 
يعد مطروحًا سوى تغييره جذريًا؟2”0. وبحسب رأيه» فإن محاولات الإصلاح 
الأخرى غير التغبير الجذري أخفقت كلهاء ولا سبيل إلى إعادة الإصلاح» لكن 
هذا التغيير ليس أمرًا سهلاء وربما تمتد آثاره إن تُفذ إلى أي تضامن عربي مشترك. 
بمعنى آخرء العمل العربي المشترك من وجهة نظر أحمد قبل «تغيير النظام 
جذريًاك وهنا يثير قضية إشكالية شبيهة بقضية «الوحدة أو التحرير؟» التي سيطرت 
على الفكر القومي في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته حين خسرنا الوحدة 
ولم نحقق التحرير» ويثير أحمد قضية «التضامن أو التغيير؟»؛ ومرة أخرى خسرنا 
الاثنين. فالنظام العربي يتجه إلى مزيد من الشرذمة» وليس إلى الوطنية والقطرية 
فحسب. بل إن الطائفية والمذهبية والفئوية وصلت إلى حد التقاتل وأسقطت 
الفكر القومي وحولت التغيير إلى خراب. ويحسب رأبي لو كان التغيير وثقافة 
التغيير في حينها لأغنانا ذلك» على الرغم من الثمن الذي كان سيدفع» عما نحن 
فيه اليوم من تفكك وتخلف. 


قرأت ثناء عبد الله في دراستها المباشرة ممكنات التغيير في المجتمع 
العربي» وعدت في بدايتها أن التغيير هو التبديل والتعديل مرورًا بالإصلاح 
وانتهاءً بالتحول الثوري» لكن هذا التحول بالنسبة إليهاء وإن لم تحدّد وجهته 
(تجاه من؟)ء هو «التبديل الجذري لأسس البنية الاجتماعية والسياسية القائمة فى 
المجتمع العربي 46 15 هي حركة مجتمعية دائرية تبدأ بالتبديل وتنتهي 4« هكذا 
تفهم عبد الله الثورة» هى تخاف حتى ذكرهاء لهذا وقعت في التباسات وصلت 
إلى حد التناقض في هذا الموضوع» فتراها مع الثورة وضدهاء تواجه النخب 
السلطوية وتهادنهاء مع تحرك القرى والجماعات المحرومةء لكن «بهدف زعزعة 
استقرار الجماعات والنخبات السلطوية والنظم القائمة ودفعها في اتجاه التسليم 

(39) أحمد يوسف أحمدء «الوضع العربي الراهن وسيل الخروج منهاء المستقبل العربي» العدد 


9 <أيار/ مايو 1992)؛ ص 91. 
(40) عبد الله» ص 38. 


بحتمية التغيير والاعتراف بحقوق هذه الطبقات الكادحة. وهذه العملية 6 
تضمنها بعض مظاهر العنف - ولو نسبيّاة””*. فإذا حلّلنا هذا الكلام» ستتوقف عند 
«التياسات» كثيرة. 


في مقابل هذه الآراء» هناك آراء ترى استحالة التغيير في الواقع العربي من 
دون «دولة بالمعنى الصحيحء كي تقوم بثورة في إطارها... إلا فهي ثورة على 
أي قاعدة وضمن أي rés «246 LL]‏ ذلك هو تمرد وعصيان. بمعنى آخر 
يحق للنظام» أي نظام قمعه» خصوصًا أن المجتمعات العربية كانت في مرحلة 
أوائل تسعينيات القرن الماضي في مرحلة «ترسيخ الدولة» وإنضاجهاء ما يفسر 
للأنصاري سرّ #ثيات» سلطة الدولة القطرية الراهنة و«قوتها» في وجه الثورات 
وحركات'المعارضة والتغيير السياسي» مح بقاء جميع رموزها الجاكمة في اربع 
قرن من دون تغيير. 

يحار المرء في محاولة تفسير هذا الكلام» ولا يخرج بنتيجة تقنعه أنه قد فهم. 
فهل أن الدولة القطرية لم ترسخ بعد عقود على وجودها في التاريخ المعاصر؟ هذا 
يعني أن القيمين عليها وحكامها غير مؤهلين ومن ثم يجب تغييرهم. ولا أدري؛ أو 
لم أفهم» فربما معنى الترسيخ الذي يقصده الباحث هنا. فهل هو ترسيخ مؤسسات 
الدولة؟ أم أنه النهوض بالمجتمع على المستويات كلها ليفرز قادة وطبقة سياسيةء 
ومن ثم مؤسسات مؤهلة؟ ثم هل أن الدولة ستفرز مجتمعًاء أم أن الأمر على 
العكس من ذلك؟ وفي حال ترسيخ الدولة بشكلها السلطوي الذي نعرفه اليوم» 
فهل من مجال للتغيير سوى الخراب كما نلاحظ ذلك في مجريات ما يسمى 
«الربيع العربي؟ اليوم؟ أم هل يريد الباحث القول بشكل غير مباشر إن التغيير 
السياسي يأتي من الدولة نفسها ومؤسساتها؟ وأي وجه من وجوه الترسيخ لمنطق 
الدولة قدمته هذه الأنظمة» من حقوق وتنمية وديمقراطية وحرية واحترام الإنسان 
ذاته ...إلخ؟ وما معنى النمو والتطور والنضج للوصول إلى اكتساب مقومات 

(41) المرجع نفسه. ص 39. 

(42) محمد جابر الأنصاري» «الدولة القطرية: هل يمكن بتاء ديمقراطية راسخة قبل ترسيخ دولة 


«مكتملة النمو؟... تحتمل تعددياتها؟» المستقبل العربي» العدد 175 (أيلول/ سبتمبر 1993)» ص 80. 


321 


الدولة التامة في تكوينها؟ وهل الدولة هي السلطة والنظام الحاكم وأجهزة القمع 


بحسب رأيه؟ 


يدافع الأنصاري؛ وربما يسوق ويبرر أيضًا «الطبيعة السلطوية أو التسلطية 
للأنظمة العربية» من راديكالية وتقليدية على السواء» بوصفها «مسألة عطش 
الحاكم العربي إلى السلطة ليس إلا؟ ومسألة الإرث الاستبدادي للدكتاتورية 
ليس غير؟ أم أن للمسألة وجهها الموضوعي الآخر... وهو وجه التطور التاريخي 
بمنطقه الذي يحتم اكتمال الدولة وسلطاتها وركائزها وإنضاجه قبل الشروع في 
تغييرها ديمقراطيًا أو ثوريًا أو نحو ذلك؟ والملاحظ - تاريخيًا - أن الدول كلها 
في الشرق والغرب جنحت نحو المركزية السلطوية المفرطة في عهود تأسيسها 
وتثبيتها»”*». ومرة أخرى يثير أسئلة إشكالية. . فما هذه التزعة الفردية عند الحاكم 
العطشان إلى السلطةء وأين الشعب؟ وهل يترك مثل هذا الحاكم من دون تغيير؟ 
ولماذا يقع الخلط بين منطق الدولة وفردانية الحاكم؟ ولماذا لا يُسار مبكرًا إلى 
التغبير الإيجابي قبل ترسيخ سلطوية هذا الحاكم وأخذ الدولة بمكوناتها كلها إلى 
الخراب؟ 


أما علي خليفة الكواري» على العكس من الأنصاريء فيرى «أن المستقبل 
آتِ لا ريب في ذلكء والمستقبل وليد الحاضرة*». من هنا يجب على أهل 
المنطقةء لا حكامها فحسب «أن يشاركوا:في صنع المستقبل»» و«من هنا تنبثق اق 
أهمية الدعوة إلى تغيير مسار الحاضر... وتبرز أهمية تنمية عزائم أهل المنطقة 
تجاه المشاركة الفعالة في تشكيل مستقبلهم؛ ذلك أن المشاركة تمثل ضرورة 
0 كونها مسؤولية تاريخية لا يجوز التنصل منها. إِذا المسؤولية 
كة بين «الحكومات وشعوبها»ء إذ إن «الوصول إلى المستقبل المنشود 
لب ل أو جه الخلل الكثيرة المتعددة في المجتمع والدولةء وفي العلاقات 
ن بين الحكومات والشعوب»“. 
(43) المرجع نقسه» ص 82. 


(44) علي خليقة الكواري» «ما العمل... من أجل المستقبل؟»» المستقبل العربي» العدد 195 (أيار/ 


مايو 1995)» ص 59. 
(45) المرجع نفسه» ص 63. 


322 


الحدول (2-10) 

قوى التغيير المجتمعي وعوامله عند المثقفين العرب 
enr‏ 
. 


ارات 1 لقيم ذات المصلحة 


امراق 
»تسق [el af‏ 

ما يمكن استنتاجه من الجدول (2-10) في شأن القوى التي يقع على عاتقها 
التغيير» أن ربع (25 في المئة) المثقفين العرب يرون أن المغير الأول هو النخبة 
العربية؛ واللافت أن هذه النسبة تتساوى مع نسبة المطالبين في القول بدور للدولة 
والسلطة والنظام والحكومات» مع الشعب» في التغيير (25 في المئة). لكن تزيد 


323 









=. 






| 






ب 
Re‏ 










LR 


- _ 



















LEA LE 
2ه‎ els 





نسبة مطالبي المجتمع المدني والمؤسسات الاجتماعية والأهلية والقاعدة الشعبية 
والقوى الحية بالتغبير المجتمعي على الثلث (35.5 في المئة). 

اللافت في هذه النسب أن للمجتمع المدني والقوى الشعبية والمؤسسات 
الأهلية والمجتمعية دورًا عند المثقفين العرب يفوق دور النخبة التي تساوى 
دورها مع دور النظام والدولة (مع الشعب كما ورد عند بعض المثقفين)» بمعنى 
أن المثقفين أنفسهم لا يطرحون أنفسهم ب بصفتهم نخبة في طليعة المغيرين في 
المجتمع. 


2 - التغيير القطاعي 


نتوقف عند عنوانين - Li‏ : التربية والتغيير» والعلاقة بالخارج والحركات 
الإسلامية. 


أ- التربية والتغيبر 


قلنا إن التغيير المجتمعي وحل معضلات المجتمع يحتاجان إلى وعي 
جماهيري يقوم به المثقفون» ومن أبرز وسائل ترسيخ هذا الوعي التربية بوسائلها 
ومناهجها الإصلاحية والتغييرية بمعناها التحديثي (بمعنى الحداثة) والتقدمي 
والعلمي» بناءً على أن هناك علاقة متبادلة بين التربية والتغيير المجتمعي» بحسب 
مالك بن نبي» لأنها تؤثر في البناء الاجتماعي القائم من خلال إعادة الفحص 
المستمر للآراء والأفكار» وتتأثر به““. وربما أخذتنا التربية إلى تكريس «ثبات» 
المجتمع من خلال الضبط الاجتماعي الذي تكرسه التنشئة الاجتماعية؛ ما يعني 
قتل التغيير المجتمعي. فعن أي تربية يتحدث المثقفون العرب اليوم؟ أهي التربية 
التي تغير المجتمع كما يرى جون ديوي أم هي التربية التي «تعاود ! إنتاج قيم طبقة 
معينة في المجتمع وتعوق التغيير بحسب بيار بورديو؟ أم هل هي التربية المضبوطة 
بقيم مجتمعها السياسي كما يراها إميل دوركهايم؟ 


(46) انظر: مالك بن نبي» ميلاد مجتمع: ترجمة عبد الصبور شاهين (دمشق/ الجزائر: دار الفكر» 
1986(. 


324 


رأى ثلاثة مثقفين عرب (سوري ومصري ومغربي)» من أصل ستة عشر (أي ما 
نسبته 18.75 في المئة)» أن إصلاح التربية وتحديث برامجها وإدراج الديمقراطية 
فيها عوامل مؤثرة ومهمة في التغيير المجتمعي» وإصلاحها مع إصلاح العقل 
«مهمة أساسية وضرورية من أجل إصلاح عالمنا وبناء مستقبلناء وإن تكن وحدها 
غير كافية»» لأن التربية المقصودة هنا ليست ذات الطابع التعليمي وحده. ولا 
التربية النظاميةء بل الشبكة التربوية الواسعة التي تضم الأسرة والمجتمع والتعليم 
النظامي وغير النظامي والمستمر والمؤسسات الثقافية”*. فمن خلال ما تقدمه 
المناهج التربوية من انتماء وقيم» ومن خلال تحديث وسائل التعليم وتطويرها من 
تلقينية إلى إبداعية وبحثية» في المراحل الدراسية كلها من الحضانة حتى الجامعةء 
يمكن إيجاد التغيير الملائم والمنشود في المجتمعات العربية. ف «الثورة التربوية 
في عصرنا شرط لازم لكل ثورة مهما يكن coule‏ 


يوافق مصطفى محسن عبدٌ الدائم على ما ذهب إليه» من جهة أن التربية 
التغيبرية هي التي تمارس في مختلف مؤسسات المجتمع ومجالاته» بدءًا من 
الأسرة إلى المدرسة والجامعة والجمعية والنادي والحزب والنقابة والمؤسسة 
الإنتاجية Pl...‏ وإن المجتمعات المتقدمة» بحسب رأيه» لم تصل إلى ما 
وصلت إليه من حداثة وتقدم شامل دفعة واحدة» بل حدث ذلك عبر مسار طويل 
كانت دعامته المحورية آليات التربية والتعليم والتكوين والاستثمار الرشيد 
للرأسمال البشري. لكن محسن يتساءل: هل ينعم أبناء المجتمعات العربية 
جميعهم بعدالة توزيع المعرفة والثقافة والتكوين؟ بالطبع جوابه كلاء لذا لیس 
باستطاعة التربية العربية والتعليم» في وضعهما الراهن» التغيير في المجتمعات 
والنهوض بهاء لا لأن دورهما التغييري ضعيف» بل لأن العلاقة بين التربية والتنمية 
الاجتماعية والبشرية مأزومة بسبب الأمية والتسرب وعدم تكافؤ الفرص التربوية 
واتساع الفجوة المعرفية. لذا ينادي محسن بدمقرطة التربيةء بناءً على أن هذه 
العملية وجه من وجوه التغير المجتمعي «لا تشكل مجرد حقل للتعليم والتكوين 

(47) عبد الدائم» ص 65 و79. 


(48) المرجع نفسه» ص 79. 
(49) محسن» ص 40 و44. 


وتأهيل الرأسمال البشري وفق توجهات فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية 
وحضارية معينةء ولا حتى مجرد مجال للترويض الأيديولوجي والتدجين السياسي 
والثقافي عبر ما تُمارسه على الأفراد من تنشئة اجتماعية ممنهجة ومتعددة المناحي 
والأبعاد... وإنما يجب النظر إلى التربية. .. على أنها لب المشروع المجتمعي 
ونواته المركزية»°. والتربية هي العامل الأساس والضروري في هذه الدمقرطة. 


أما نبيل علي» فيربط بين التربية والتعليم والمعرفة والتغيير المجتمعي» إذلا 
يمكن نكران أهمية الدور الذي يقوم به التعليم القائم على أسس ومناهج متطورة 
تبني شخصية ة المتعلم وعقله وفکره» وتحمله إلى المستقبل. فالتربية والتنمية 
صنوان» وبحسب رأيه. فإن التعليم «أهم عوامل التغيير على وجه الأرض»“. 


لا نبتعد كثيرًا من هذا المجال التربوي - العلمي؛ إذ هناك نسبة لا بأس 
بها (25 في المئة) من المثقفين العرب في عينة الدراسة رأت مدخلا للتغيير 
المجتمعي من خلال العمل الفكري والبحث العلمي وتجديدهما (كما نرى في 
الجدول (2-10)). ربما كانت وجهة نظر هؤلاء من الناحية النظرية سليمة» لكن 
من ناحية موضوعية ينقصها الكثير» مثل الحد من الأمية والأمية الثقافية» والحرية 
لنشر الفكر أو الأفكار المتنوعة ونشر البحوث العلمية والعمل بها وتنفيذهاء إذ لا 
يكفي نشرهاء وتعزيز الجامعات والمراكز البحثية ...إلخ. وهذا كله يحتاج إلى 
تغيير في المجتمع أولاء ومن ثم تأتي هذه التطلعات بعد التغيير» وفي أبسط الآراء 
ريما أوجدت هذه التطلعات جدلية بين التغيير المجتمعي ودور الفكر والبحث 
العلمي. لكن لا يمكن فى ظل واة قع المجتمعات العربية عَد الفكر والبحث العلمي 
ا ی ال را کا وك خيد الإله بلقزير ترط ای 
في ساحة العمل الفكري - التغييري في المجتمعات العربية هو تجاوز «الاعتقاد 
التقليدي بأن البرامج السياسية والفكرية الجاهزة التي عشنا عليها منذ ثلاثة عقود 
كافية لأن تجيب عن الإشكاليات والحاجيات الجديدة التي يطرحها الوضع 
العربي في لحظته الراهنة)62). 


(50) المرجع نفسه.ء ص 37. 

(1 )علي ص 97. 

)52( عبد الإله بلقزيز» «مستقبل العمل الوطني في الوطن العربي في ضوء التحولات الدولية 
الجارية6: المستقبل العربيء العدد 145 (آذار/ مارس 1991). 


326 


ب- العلاقة بالخارج والإسلام 


نتوقف عند ملاحظتين: الأولى» أي تغيير في المجتمع ينبع من داخله ولا 
يأتيه من الخارجء والثانية» لكل مجتمع خصوصيته ومساره التاريخي. 


بالنسبة إلى النقطة الأولى» يرى خليل العناني أن حالة الترهل العربية الراهنة 
أدت إلى أن أصبح التغيير ضرورة تمليها العوامل الخارجية. وتتقاطع الآراء 
كلها التي درسناها في مدونتنا البحثية عند التبعية التي تعيشها الأنظمة العربية للقوى 
والدول الغربية» وضرورة الخروج منهاء وليس ذلك بالضرورة بقطع العلاقة مع 
الغرب» بل بإبقاء التعاون معه فحسب من منطلق الندية والتعاون والأصول التي 
تسمح بها العلاقات الدولية. فمستقبل المجتمعات العربية لن يكون» بحسب ثناء 
عبد الله» «إلا وليد القوة العربية ماديًا وبشريًاء LES 9 LES‏ . إن الاعتماد على القدرة 
cs a‏ و PAS Le ea ASC en‏ 
وبحسب رأيها تشهد المجتمعات العربية تغييرات انتقالية عميقة» وتتفاعل في 
ظلها تناقضات وصراعات تاريخية» لكن هذه التغييرات التي لا مجال لصدها 
تجري «من دون رغبتنا» وفي الاتجاهات التي لا نريد وبفعل الخارج والتغلغل 
الرأسمالى» الأمر الذي أدى إلى تغيير التكوينات الاجتماعية» ما أفقد بعض 
المناطق هويتها. لذا «لم يعد من الممكن ترك مستقبل المجتمع العربي... لتحدده 
وتقرره عناصر أجنبية ودراسات ونماذج عالمية)!*. 

أما بالنسبة إلى النقطة الثانية» خصوصية المجتمع ومساره التاريخي» فنتوقف 
عند وجهتي نظر؛ تأخذ الأولى المنحى القومي والعمل العربي المشترك وتمثل 
5 في المئة من مجموع آراء المثقفين العرب الذين درسنا نصوصهم» في مقابل 
5 في المثة طالبوا بتعزيز العمل القطري/ الوطني. أما وجهة النظر الثانية» 
وهي محافظة» فقد رأت في الثبات على القيم الإسلامية والمحافظة على القيم 
الدينية والعادات والتقاليد جا إلى جنب مع أي تغيير مجتمعي“. فالعناني 

(53) العناني» ص 168. 

.15 je call ie (54) 


(55) المرجع نفسه» ص 26. 
)56( نلفت» في هذا المجال» إلى غياب وجهة النظر الإسلامية المباشرة عن التغيير المجتمعي في = 


327 


على سبيل المثال يطلب التغيير» لكن ليس «على حساب الثوابت الدينية والثقافية 
والمجتمعية التي أكسبها التاريخ ثقلها الموروث»”*» فكيف ذلك؟ إنه يضيف أنه 
لا يقصد هنا «التحجر؟. 


صحيح أن خصوصية مجتمعاتنا العربية إسلامية الثقافة والقيم والعادات» 
لکن هذه الخصوصية لا تفرض علينا نكران مسار هذه ا 0 
فهل أن مجتمع اليوم في القرن الواحد والعشرين هو نفسه مجتمع التراث» أمن 
المعقول أنه لم يتبدل مع الثورات الصتاعية والمعرفية والاتصالات؟ إنه في هذه 
الحالة يكون ميئًا. وهل نتمسك بالموروث لأن التاريخ أكسبه ثقله؟ وهل أن 
التاريخ منهج علمي لنذبح التغيير المجتمعي من أجله؟ أسئلة لم نسمع إجابات 
عنهاء ومبررها الوحيد ربما كان العقيدة الدينية» اقتناعًا وإيمانًا بالأصولية الثقافية 
والفكرية؛ أو مراعاة وخوفًا من متدينى المجتمعات العربية» وفى الوجهتين إساءة 
إلى الدين الذي يُعد ثورة فكرية واجتماعية في عصره؛ وإلى المجتمع بالحكم عليه 
بالجمود والثبات في عالم بات التغيير فيه يمثل إشكالية وحاجة عالمية» وأزمة 
التغيير ذاتها ريما تكمن في عالمية التغيير» على حد تعبير العلواني. 


في المقابلء هناك من المثقفين العرب من طالب بضرورة الانتباه إلى تنامي 


= مدونتنا البحثيةء ربما لأن المجلة (المستقبل العربي) ذات توجه قومي عربي» لكن هذا لا يمنع أن هناك 
دراسات سابقة قليلة في المجلة نفسها تناولت هذا الموضوع من وجهة نظر إسلامية. ولا يمنع أيضًا أن بعض 
الدراسات» مثل دراسة خليل العناني» رأت في التغيير المجتمعي المحافظة على التراث والقيم الإسلامية. 
ومن الدراسات التي بحثت التغيير المجتمعي ببعد إسلاميء دراسة لعاطف العقلة عضيبات الذي ربط فيها 

بين الحركات الإسلامية في المجتمع العربي - الإسلامي والتغييرء عادًا أن هذه الحركات كانت «آليات 
اجتماعية - سياسية ساعدت في التجديد من جهة والمحافظة على المجتمع الإسلامي من الاهتراء الداخلي 
والتهديد الخارجي من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك» أضفت هذه الحركات كثيرًا من الحيوية السياسية 
والروحية على التاريخ الاجتماعي العربي - الإسلامي» وقد نجح بعضها في تحقيق مشروعات توحيدية 
جزئية. لكنء على الرغم من ذلك لم تنجح أي من هذه الحركات الدينية - الاجتماعية التي شهدها مجتمعنا 
العربي - الإسلامي في تحقيق هدفها المنشود وهو استعادة المجتمع الفاضل طبقًا للنموذج الذي وجد في 
صدر الإسلام أيام الرسول والخلفاء الراشدين». انظر: عاطف العقلة عضيبات» «الدين والتغير الاجتماعي 
في المجتمع العربي - الإسلامي: دراسة سوسيولوجية»» المستقبل العربي؛ العدد 126 (آب/ أغسطس 
9 ) ص 130. 

(57) العناني» ص 166. 


328 


الحركات الإسلامية» وعارض وصولها Piaf Lau gs dot te ALI‏ 
ونذكر في هذا المجال أن قلة هم الذين تنبهوا وتنبأوا بمستقبل المجتمعات 
العربية مع تطورات الحركات والتيارات الإسلامية والتغييرات التي بدأت تُدخلها 
المجتمعات العربية» خصوصا التي اتخذت من الطوائف والمذاهب والتيارات 
عصبيات شرذمت هذه المجتمعات. فكتب أنطون سعادة مثا في عام 1948« 
وربما كان من أوائل الذين تنبهوا لخطورة تحويل الدين إلى عصبية: «إن الجامعة 
الدينية الروحية لا خطر منها ولا خوف عليها. أما الجامعة الدينية» المدنية 

والسياسية؛ فتجلب خخطرًا كبيرًا على الأمم والقوميات ومصالح الشعوب»*". 
خاتمة 


مجموعة من الأسئلة يمكن طرحها بعد قراءة هذا الموضوع؛ لكن علينا أولا 
الاعتراف أن المجتمعات العربية كيان متغير وقابلة للتغيير» وهذا شرط وجودها 
الطبيعي واستمرارهاء وليس صحيحًا القول إن قضاء هذه المجتمعات وقَدّرها 
أن تبقى ثابتة لا تتغير» فمهما كانت هذه المجتمعات ثابتة للمراقب الخارجي» 
فهي تتغيره لكن ريما كان ذلك ببطء شدهذا"» وتراوح درجة التغيير ونوعيته بين 
مجتمع عربي وآخرء لكن تبقى شروطه تجديد الفكر ونقده والعمل الجماعي 
البعيد عن الأحادية والوحدانية المغلقتين والتسامح. 


التغيير لا يعنى دائمًا التغير نحو الأفضلء و«الأفضل» هنا نسبى بين الآراء 
والعقائد والأيديولوجيات. والمهم هو مصادر التغيير وعوامله ونوعيته» وهذا 
ما اختلف المثقفون العرب وأخفقوا في تقويمه وتوجيهه وتعزيزه ونشره. ريما 


(58) يقول أحمد عن تطور الحركات الإسلامية» منتقدًا ومعارضًا وصولها إلى السلطةء إنه لا يمكن 
تجاهل حقيقتين: الأولى أن أنصار هذه التيارات باتوا يشكلون بصفة عامة أقوى معارضة خارج مؤسسات 
النظم العربية الحاكمة» والثانية أن الخط البياني لتطور قوتها آخذ في الصعود. وهذا يعني أن القوميين العرب 
لا يستطيعون أن يفكروا في الإصلاح والتغيير من دون أن يتخذوا من هذه القوة الجديدة موقفًا محددًا سليم 
المنطلقات وواضح الرؤية. انظر: أحمد» ص 92. 

(59) انظر المحاضرة السابعة لأنطون سعادة فى: أنطون سعادة» الدليل إلى العقيدة السورية القومية 
الاجتماعية (بيروت: الركن للطباعة والنشرء 1993): ص 171. 

(60) للاستزادة عن هذا الموضوع. انظر: إبراهيم وآخرون. 


329 


لأن هذا الإخفاق والاختلاف ليسا بسبب سوء تقدير عند المثقف فحسب» كى 
لا نظلم المثقف زيادة على ظلمه من الحاكم ومن العادات والتقاليد ومن الأمية 
ومن الآخر الغربى نفسه» ما جعله غريبًا أو انتهازيًا أو انهزاميًا أو انطوائياء أو مندفعًا 
متهورًا أحيانًاء وفي الإجمال لا يمثل #ضمير الجماعة وذاكرة الأمة»» كما يقول 
محمد شكري سلام”*» وهناك من كان «أذكى منه اجتماعيّاء الشيخ الداعية 
والإعلامي والمغني» هؤلاء الذين احتلوا المنابر والصفحات الثقافية والإعلامية 
واستطاعوا التأثير في المجتمعاتء فغاب المثقف واغتربء وما عاد يفهم واقع 
مجتمعه. ومجتمعه ماعاد يفهمه . وإلا كيف نفسر هذه النسبة المتدنية من الكتابات 
عن التغيير المجتمعي في فترة ومنطقة تغلي بالتطورات والتبدلات؟ وكيف نفسر 
هذا التفاوت في معنى التغيير المجتمعي وعوامله وقواه وانتفاء الاستشر شراف عند 
بعض المثقفين العرب؟ مع الانتباه هنا إلى أننا لا تُعمم ما توصلنا إليه من نتائج في 
هذه الدراسة على جميع المثقفين العرب» بل هي نتائج استخلصناها من مدونة 
محددة» لكنها ربما تعطينا فكرة ما عن دور المثقفين العرب وا ستشرافهم. 


لفتنا في النصوص التي درسناها أن معظمها كتب في تسعينيات القرن الماضي. 
فمن أصل ست عشرة دراسة» هناك إحدى عشرة دراسة كُتبت في التسعينيات» منها 
ثماني دراسات بين عامى 1991 و1993.» فى مقابل خمس دراسات فى بداية القرن 
الحادي والعشرين» آخرها في عام 2007. وبعدها حتى عام 2010 وهو التاريخ 
الذي وضعناه نهاية الفترة الزمنية التي ندرسهاء لم يُكتب شيء (على الأقل في مجلة 
المستقبل العربي)ء أي إننا كلما اقتربنا من «ثورات الربيع العربي» كانت الكتابة عن 
التغيير والاست* ا ا وربما لهذا 
السبب كانت مقولة أن هذه الثورات وقعت في غفلة من بعض المثقفين صحيحة؛ 
بمعنى أن القاعدة الشعبية كانت أجرأ وأنضج وغير آبهة بتنظير هؤلاء المثقفين الذين 
سبقتهم إلى التغيير والثورة التي فجأتهم» وهم الذين كانوا ينتظرون التغيير من فوق 
من النظامء أو من إصلاح بعض القطاعات مثل التربية والفكر والتنمية والبحث 
العلمي التي لا تعني المواطن الجائع أو المقموع ومسلوب الحرية والمّهان كثيرًا. 


(61) محمد شكري سلام» «وظائف المثقف وأدواره بين الثابت والمتغيرة» المستقبل العربي العدد 
0 (تشرين الأول/ أكتوبر 1995)» ص 74. 


أكثر من ذلك» تبين لنا أن بعض المثقفين العرب لم يكن مهتمًا كثيرًا بالتغيير 
المجتمعي المباشر» والدليل هو تدني نسبة الكتابة عن التغيير المجتمعي بشكله 
المباشر (12.5 فى المئة)» فى مقابل 86.5 فى المثة لغير المباشر. ولا تزيد 
نسبة الكتابة عن التغيير بشكل عام على 1 في المئة (تحديدًا 0.79 في المئة) 
من مجموع إنتاجهم البحثي في ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية. فمن أصل 
0 دراسات فى 240 عددًا من مدونتنا البحثية (المستقبل العربى)»ء هناك 16 
دراسة فقط تناولته. 


أما إذا أردنا الربط بين بلدان المثقفين الذين كتبوا (في مدونتنا البحثية) عن 
التغيير المجتمعي والبلدان العربية التي حصلت فيها «ثورات الربيع العربي»» فلم 
E E SE LER E‏ فمن مصر مثا جاءت 
أكبر نسبة (6 مث مثقفين» منهم امرأة» وهي الوحيدة بين الستة عشر مثقفًا)» وحصلت 
SS‏ 
متعلقة ب «الإصلاح» و«النهضة» (يمكن مراجعة الجدول )1-10((« ولم يکن 
E E‏ ووصل الإسلاميون إلى الحكم» 
وحكموا فعلا مدة عام» ولم د يستشرف هؤلاء الباحثون المصريون وصول الإخوان 
إلى الرئاسة» سوى باحث واحد (أحمد يوسف أحمد) عارض وصول الحركات 
الإسلامية إلى الحكم. 

أما في سورية فهناك مثقفان كتبًا عن التغيير: الأول نجح في إمكانية الوصول 
إلى «ثورة» على النظام» ووصل إلى أن يقود» أو يتسلم» مركرًا قياديًا في هذه الثورة 
(برهان غليون). أما الثاني» فكان يكتب عن التغيير القطاعي» وتحديدًا الإصلاح 
التربوي (عبد الله عبد الدائم»» وكانت «الثورة» أبعد منه وغير ملتفتة إلى نتاجه؛ 
كما لم يسمعه النظام» فذهب نتاج عشرات الأعوام من البحث في هذا المجال 
هياءً. 

أما العراقيان» فاللأول (كاظم حبيب) طالب بتدخل المجتمع الدولي لفرض 
الليبرالية» وتدخل المجتمع الدولي فعلاء لكنه زرع الفوضى ودكتاتوريتها الخاصة 
Sa)‏ للعصابات واللادولة. وطالب الثاني (سعدون حمادي) بعمل عربي 

مشترك» فكان هذا العمل فعلاء لكن ضد بلاده ومع الحلف الغربي الذي قادته 


331 


الولايات المتحدة ضد نظامه نفسه الذي عَد أن العمل العربي المشترك يسمح له 
بالاعتداء على دولة عربية أخرى. 

باختصارء يمكن القول إن نتاج المثقفين العرب كان في اتجاهء والحراك 
الشعبي كان يسبقه في واد آخر. والسؤال أين مثقفو تونس مثلاء وهي البلاد التي 
افتتحت «الربيع العربي4؟ وأين اليمن وليبيا؟ 


الجدول (3-10) 
بلدان المثقفين العرب الذين كتبوا عن التغيبر المجتمعي ونسبتهم 





أما تخصصات الباحثين» فراوحت بين خمسة اقتصاديين وخمسة من العلوم 
السياسية (31.25 في المئة لكل تخصص)» وائنين من علم اجتماع واثنين 
تربويين (5.12 في المئة لكل تخصص». وواحد متخصص بالفلسفة وآخر في 
العلوم والمعلوماتية. وهذا يدل على أن مفهوم التغيير المجتمعي عند المثقفين 
العرب تنموي اقتصادي وسياسيء أي إن العلاقة هي مع السلطة والدولة أكثر 
منها علاقة بين فئات المجتمع وشرائحه وطبقاته وصراع بعضها مع بعض» وهذا 
يعني أن المثقف غرق في الصراع مع السلطة السياسية» وفي القضايا التنموية» 


332 


في مقابل الصراع الاجتماعي ومشكلاته المعرفية والفكرية» وإن وجد هذا 
الاهتمام الاجتماعي فمناصفة مع التربية والضبط والقيم. 

بالنسبة إلى الاستشراف عند المثقفين العرب» كما يبين الجدول (4-10)ء 
فإنه ضعيف» لكنه غير معدوم؛ إذ إن نسبة 18.5 في المئة فقط من المثقفين العرب 
في مدونتنا قرأت سيناريوات مستقبلية واستشرفتها في حال لم يجر تغيير مجتمعي» 
راوحت بين «حروب أهلية» في المجتمعات العربية» و«عدم الاستقرار في أكثر 
من قطر عربي»؛ واستكون هناك تغييرات أكثر دلالة في مصر والسودان والأردن 
ولبنان وتونس». أصابت هذه الاستشرافات والتحليلات في وجه. ما يعني أن 
المثقف العربى قادر على الاستشراف والقراءة المستقبلية العلمية» لكنه مقصرء 
ولتقصيره هذا ربما تكون أسباب أمنية ونفسية وخوفء أو أسباب منهجية وضعف 
واستسهال للكتابة الوصفية والتاريخية والإنشائية. بيد أن هذه الاستشرافات 
أخفقت في وجه آخرء إذ لم يقل لنا هؤلاء المستشرفون مثلا بين أي من فئات 
المجتمع أو طبقاته أو شرائحه أو مذاهبه وطوائفه ستقع هذه الحرب الأهلية؟ فهذه 
الحروب أو شكل منها وقع فعلاء وتحديدًا في سورية بلد المستشرف نفسه. لكن 
هل بدأت حربًا أهلية؟ أم هل أنها تحولت إلى حرب أهلية من ثورة شعبية ضد 
النظام؟ وهل توقع غليون نفسه» وقد تسلم دورًا فاعلًا في هذه الثورة» أن تنحرف 
الثورة إلى مثل هذه الحرب؟ ومثل غليون لم يقل لنا المثقفان المصريان الشابان 
غير المخضرمين بالعمل السياسي سبب عدم الاستقرار» وكيف أن الباحثة الشابة 
الأكاديمية استشرفت التغييرات في أكثر من بلد عربي. 

من جهة أخرى» كان واضحًا غياب استشراف أي دور للحركات الإسلامية 
ووصولها إلى السلطةء إلا من مثقف مصري واحد تكلم في الموضوع» ليس من 
باب الاستشراف أو التحذير» بل من باب رفضه وصول هذه الحركات وتسلمها 
السلطة» على الرغم من أن ظاهرة الإسلام السياسي كانت واضحة منذ هزيمة 
عام 1967 والثورة الإيرانية (1979)» وصولا إلى المشكلة الأفغانية (1979)» 
واغتيال الرئيس السادات (1981)» وظهور حركة حماس (1987)» وحرب 
الجزائر (1992) ...إلخ. 


الحدول (4-10) 
ستشراف المثقفين العرب 


















tek ا‎ 


60 
ع 


é 
À 


عدم الاستقوار في أكثر من قطر عربي 


التحرر من الوهم. ستكون التغيرات أكثر دلالة في مصر 
والسودان والأردن ولبنان وتونس 





1 
ل 






( 


نخلص مما تقدم» ومن عنوان دراستنا الذي وضعناه «المثقفون العرب 
والتغيير المجتمعي: أي قراءة ودور... واستشراف»» إلى أن قراءة المثقفين كانت 
مشوشة وغير واضحة لمعنى التغيير المجتمعي وعوامله وقواه» وأن دور المثقفين 
كان ضعيقًاء وليس معدومّاء وأن قوى المجتمع الشعبية سبقتهم وفجأتهم بثوراتها 
وربيعها العربي. أما استشرافهم؛ فموجود. لكنه مشوش ومغلف بالتردد وعدم الثقة. 


334 


نختم كما بدأنا دراستنا برأي مواز فكريًا وعقائديًا للطاهر لبيب؟ إذ يقول فهد 
الشريف» مدير تحرير جريدة المدينة السعودية: رحلت تلك الأوهام حين كانوا 
(المثقفون العرب) ينظرون إلى عطائهم بوصفه إنارة للطريق ومنقذا من الضلال» 
وما عاد لهم حضور بارز في تحريك مجريات الأمور كما كانوا في السابق إبان 
التحولات المجتمعية والفكرية» بل إنهم مثلهم مثل سائر الفئات الاجتماعية 
الأخرى. فالثورات الشعبية التي يعيشها العالم العربي أتت من البسطاء وشباب 
لا يحملون في أجندتهم أي مشروع فكري أو سياسيء بقدر ما يدفعه واقع مرير 
يعيشه» حركهم تواصل اجتماعي حقيقي بينهم كأفراد تجمعهم مصلحة واحدة 
ومصير تاريخي هو البحث عن حرية إنسانية وحقوق مدنية مساواة بأقرانهم من 
أبناء الشعوب المتقدمة62. 

هذا بالنسبة إلى المتغير الأول فى دراستنا (المثقفون العرب)» أما بالنسبة 
إلى المتغير الثاني (المجتمعات العربية)» فإنها تتغير اليوم» بتأثير خخارجي أحيانًا 
له شروطه الاقتصادية والثقافية والأمنية» وبتأثير داخلي رجعيء أو بحاكم قامع 
يسوي المجتمع ويختصره ويصيره بحسب مصالحه وأهوائه. والعلاقة بين هذين 
المتغيرين غير سوية. لماذا؟ هذا موضوع آخر. 


المراجع 


إبراهيم» سعد الدين وآخرون. المجتمع والدولة في الوطن العربي. مشروع 
استشراف مستقبل الوطن العربي. ط 2. بيروت: مركز دراسات الوحدة 
العربية» 1996. 


ابن نبي» مالك. ميلاد مجتمع. ترجمة عبد الصبور شاهين. دمشق/ الجزائر: دار 
Sal‏ 4 1986. 


(62) انظر ملخصًا عن هذه المحاضرة «المثقفون العرب في عالم متغير التي قدمها فهد الشريف في 
نادي تبوك الأدبي (23 نيسان/ أبريل 2011)» في: نايف اليانفي؛ الشريف في أدبي تبوك يشخص؛» صدى 
تبوك (21/ 5/ 1432ه)ء في: http:/bit.ly/INZMet1.‏ 


335 


أحمد» أحمد يوسف. «الوضع العربي الراهن وسيل الخروج منهة. المستقبل 
العربى. العدد 159 (أيار/ مايو 2 199). 

أركون» محمد. الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد. الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب» 
1993. 

الأنصاري» محمد جابر. «الدولة القطرية: هل يمكن بناء ديمقراطية راسخة قبل 
ترسيخ دولة «مكتملة النمو»... تحتمل تعددياتها؟». المستقبل العربي. العدد 
5 <أيلول/ سبتمبر 1993). 

بلقزيز» عبد الإله. «مستقبل العمل الوطني في الوطن العربي في ضوء التحولات 
الدولية الجارية». المستقبل العربى. العدد 145 (آذار/ مارس 1991). 

بولعراس» فتحي. «الإصلاحات السياسية في الجزائر بين استراتيجيات البقاء 
ومنطق التغيير». المجلة العربية للعلوم السياسية. العدد 35 (صيف 2012). 

حبيب» كاظم. «حول الواقع الراهن في بلدان العالم الثالث واتجاهات التغيبر 
المنشود فيها: رأي للمناقشة». المستقبل العربي. العدد 146 (نيسان/ أبريل 
1991(. 

حمادي» سعدون. «الوحدة العربية من منظور المشروع الحضاري». المستقبل 
العربي. العدد 269 (تموز/ يوليو 2001). 

الدقس» محمد. التغيير الاجتماعي بين النظرية والتطبيق. عمّان: دار مجد لاوي 
للنشر والتوزيع» 1997. 

الزعبي» علي. «خلدون حسن النقيب وسوسيولوجيا المستقبل: قراءة تحليلية». 
إضافات (المجلة العربية لعلم الاجتماع). العدد 22 (ربيع 2013( 

سعادة» أنطون. الدليل إلى العقيدة السورية القومية الاجتماعية. بيروت: الركن 
للطباعة والنشرء 1993. 

سلام» محمد شكري. «وظائف المثقف وأدواره بين الثابت والمتغير». المستقبل 
العربى. العدد 200 (تشرين الأول/ أكتوبر 1995). 


336 


شرايى» هشام. مقدمات لدراسة المجتمع العربى. ط 3. بیروت: الدار المتحدة 

للنشر» 1984. 
. النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين ع. ط 2. بيروت: 

مركز دراسات الوحدة العربية» 1999. 

عبد الدائم» عبد الله. «التربية والقيم الإنسانية في عصر العلم والتقانة والمال». 
المستقبل العربي. العدد 230 (نيسان/ أبريل 1998). 

Le‏ الله els‏ فؤاد. «ممكنات التغيير ف في المجتمع العربي». المستقبل العربي. 
العدد 176 (تشرين الأول/ أكتوبر 1993). 

عضيبات» عاطف العقلة. «الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع العربي - 
الإسلامي: دراسة سوسيولوجية». المستقبل العربي. العدد 126 (آب/ 
أغسطس 1989). 

العلواني» طه جابر. الأزمة الفكرية ومناهج التغيير: الآفاق والمنطلقات. ط 2. 
القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي» 1996. 

«Le‏ » نبيل. (إقامة مجتمع المعرفة كمحور للنهضة». . المستقبل العربي. العدد 
2 (آب/ أغسطس 2007). 

عمارة» محمد. الإسلام وضرورة التغيير. القاهرة: نهضة مصرء 2007. 

العنانى» خليل. «إشكاليات التغيير فى الوطن العربي». المستقبل العربي. العدد 
6 (تشرين الأول/ أكتوبر 2003). 

غليون» برهان. لابئاء المجتمع المدني العربي: دور العوامل الداخلية والخارجية». 
المستقبل العربي. العدد 158 (نيسان/ أبريل 1992). 
العربية». المستقبل العربي. العدد 256 (حزيران/ يونيو 2000). 


قبانجي» جاك. «لماذا «فاجأتنا» انتفاضتا تونس ومصر؟: مقاربة سوسيولوجية». 
إضافات. العدد 14 (ربيع 2011). 


337 


الكواري» علي خليفة. «ما العمل... من أجل المستقبل؟». المستقبل العربى. 
العدد 195 (أيار/ مايو 1995). 

كولفرني» محمد. «التغيير الاجتماعي والسياسي: دراسة تأصيلية نقدية للمفاهيم». 
المجلة العربية للعلوم السياسية. العدد 20 (خريف 2008). 

لبيب» الطاهر. «أسئلة الثورة». الطريق. العدد 1 (صيف 2011). 

محافظة» عمران وحسين محافظة. «الإنسان كضامن لحقوقه: من مقاومة الوسلام 
للجور إلى الاعتراف بالحق في التغيير». إضافات. العدد 16 (خريف 2011). 

محسنء مصطفى. «التربية ومهام الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي: مصاعب 
الحاضر ومطالب المستقبل». المستقبل العربى. العدد 294 (آب/ أغسطس 


.(2003 


المطوع. محمد عبد الله. «التغير القيمي في مجتمع الإمارات». المستقبل العربي. 
العدد 152 (تشرين الأول/ أكتوبر 1991). 

مفلح» أحمد. في سوسيولوجيا المثقفين العرب. بيروت: منتدى المعارف» 
2013. 

نصرء مارلين. «تحليل المضمون في البحوث العربية: صعوبة السيطرة على تقنية 
مستوردة». في: البحث والباحث في العلوم الإنسانية في العالم العربي. متابعة 
وإخراج فارس أبي صعب وريما نور الدين. باحثات» ج 3: 1997-1996. 
بيروت: تجمع الباحثات اللبنانيات» [1997]. 

نعمان» عصام. «العرب والعصر: رؤية قومية للخروج من الهزيمة». المستقبل 
العربي. العدد 158 (نيسان/ أبريل 1992). 


القسم الرابع 


المثقف والثورات العربية 
أسئلة الهوية والوظائف المفتقدة 


المثقف العربي وإشكال الحرية والهوية 
زمن الموجة الأولى من الربيع العربي 


رأسمال المثقف وعيه. وفى زمن التحولات الكبرى» يصاحب هذا الوعي 
الدفاع المستميت عن قيمة القيم التي تشكل شرط نموه وسموه» وهي الحرية. 
وهو ما يفترض من المثقف اكتمال رؤيته للحرية التى يريد» وليس التوقف عند 
تبيان الموقف من الاستبداد الذي لا يريد. وإذا كان الاستبداد عدو الوعي - إلا 
أن يكون وسيلة في خدمته - فإن أزمة الهوية التي انفجرت في دول الربيع العربي» 
أعادت إلى ساحة السجال - بل القتال - بقوة إشكال تعريف: من نحن؟ وهذا من 
الإشكالات المركزية التي تفاعل معها المثقف العربي سلبًا وإيجابّاء والتي تنتظر 
تقعيدًا وحسمًا حتى لا تظل سؤالًا سرمدًا في الثقافة العربية. 1 


يستضمر الوعى الجمعي العربى «ثقافة الإجماع» تجاه السلطة الحاكمة» 
إجماع بُني على الطاعة المطلقة التي تسوغ إقصاء المشككين في شرعية السلطة؛ 
بل تبرر حتى تصفيتهم جسديًا. في مقابل هذه الثقافة الإجماعية القسرية» نبتت في 
المجتمع هويات عدة تتساكن على الرغم منهاء واختزنت بُذور الشقاق والانقسام 
بين فئات المجتمع الواحد عوضًا عن أن تصبح تعددية ثراء؛ الأمر الذي فرض على 
المثقف العربي صوغ مقولاته المحددة في كيفية قلب المعادلة» بمعنى التأسيس 
لثقافة تعددية تجاه السلطةء وهوية موحدة لكل أبناء الوطن؛ والفشل في ذلك معناه 
الأساسي تخلف المثقف عن مواكبة التحولات المجتمعية العميقة» أو التحول 
إلى قلم للإيجار لقوى في الدولة وأخرى في المجتمع. 


341 


تقوم فرضية البحث أساسًا على أن الربيع العربي أسقط كثيرًا من منسوب 
ثقة الجمهور في المثقف العربي؛ ما جعل من تأهيل النخبة نفسها شرطا مقدمًا 
على تأهيل الجمهور. ويعني ذلك ضرورة إعادة تقويم أداء المثقف إبان هذه 
المرحلة وفق انتظارات الناس فيها وقضاياها الملحة. والتفكير بصوت جهير 
و جماعي لوعادة تحديد الكثير من المفاهيم التي تمس حقل الاجتماع السياسي» 
وهو ما يمكن أن يتوج بصوغ ما يمكن نعته من «ميثاق المثقف العربي“ يؤسس 
لأعراف الحوار البناء والانحياز للقيم والعلو على الشعارات التسطيحية والسمو 
عن الوعي التجزيئي» ويجعل من المثقف أكبر من أن يكون مجرد خبرة للتوظيف 
أو قلم للإيجار. 


إن المخاض المفصلي الذي عاشته دول الثورات العربية أثار حجم الفروق 
في خطاب المثقف العربيء بين لحظة كان فيها منظرًا مجردًا لمتطلبات التغيير» 
واللحظة التي أصبح فيها التغيير واقعَا؛ فكانت من أهم إشكالات هذه الدراسة 
البحث في دلالات الحرية في فكر المثقف العربى إبان التحولات التى عرفتها 
المنطقة العربية» وهل شكلت معطى مؤسسًا للتقدم نحو بناء دولة ديمقراطية أم 
انتكاسة لها؟ وكيف يمكن للمثقف العربي أن يساهم في التأسيس لهوية جامعة 
لا تهددها الثقافة الانقسامية التي تفصل بين شرائح المجتمع بجدران سميكة من 
الكراهية؟ 


أولا: المثقف العربي زمن الموجة الأولى من الربيع العربي 
تحدید مفاهيمي 


تعد مفهوم «المثقف» من المفاهيم الحداثية التي جرى تداولها في حقل 
الاجتماع السياسي والثقافي العربي» فهو بذلك من المفاهيم التي لا يكتمل 
استيعابها إلا بالعودة الثنائية إلى الدلاللات التي يحملها في نسق ولادته؛ وكذا 
طبيعة المضامين التي أصبغت عليه في المجال الذي انتقل إليه. فما الوظائف 
التقليدية المميزة للمثقف؟ وما المتوقع منه في المنعطفات التاريخية المفصلية ‏ 


للدولة والمجتمع؟ 


1 - المثقف: خاصيات مميزة 


لا يمكن فهم دلالات مفهوم «المثقف» بالعودة إلى جذره اللغوي العربي» 
لكن تلزم العودة بالضرورة إلى مصدر توليده من الكلمة الفرنسية ابهءهااء؛ه: التي 
لا يتجاوز استعمالها في التراث الفرنسي إلا بأكثر قليلا من قرن من الزمان» بينما 
أثير المفهوم في التراث الإنكليزي في القرن السابع عشرء حيث كانت بداية انتشار 
مفهوم «المثقف» بالمعنى الإيجابي مع قضية دريفوسء «فمنذئذ بدأ استعمال 
اللفظ. وجرى تبنيه من قبل البعض من دون أن يفقد بشكل كلى سمعته الأصيلة 
السيئة التي تحيل إليها المعاجم»". | 


شكلت قضية دريفوس شهادة ميلاد «المثقفين»» من دون أن يعنى ذلك 
أن وظيفة النقد والانتصار لقضايا عادلة لم تبدأ إلا مع بيان إميل زولا وزمرته. 
فالتاريخ الإنساني مليء بمواقف مفكرين جمعوا إلى وعيهم الوقاد شجاعة التعبير 
عن الموقف في أوضاع حرجة؛ لكن لحظة البيان التضامني مع دريفوس جسد 
ثلاثية: التعبير عن ذات تشتغل بالعمل الذهنى وتنتسب إلى «المثقفين»؛ تجاوز 
ميدان التخصص للتعبير عن قضية تهم الرأي العام؛ الانحياز إلى العدالة كقيمة 


أصبح مفهوم المثقف يحيل بعدها إلى شخص يتجاوز حقل مهارته المهني 
ليتورط في الشأن العام» وهذا ما «عبر عنه سارتر حين أعلن أن المثقف ”هو 


Arian Chebel d’Appollonia, Histoire politique des intellectuels en France, 1944-1954, Tome 1, (1) 
Questions au XX siècle (Bruxelles: Editions Complexe, 1991), p. 12. 
# 


(2) تعود قضية دريفوس إلى عام 1894ء حين أدين الضابط اليهودي ألفرد دريفوس بالتجسس 
لمصلحة ألمانياء ما جر نقمة على اليهود من لذن الشارع الفرنسي؛ وبعد التحريات عرف الخائن الحقيقي» 
لكن الجيش حاول إخفاء الحقائق» وانقسمت القوى معسكرين؛ معسكر مؤيد لدريفوس ضم «جمهوريين 
ومناهضين للسامية واشتراكيين تحلقوا حول إطار رابطة حقوق الإنسان»» ومعسكر معارض ضم «وطنيين» 
ورجال دين انضووا إلى لواء عصبة الوطن الفرنسي6. وكتب إميل زولا رسالته المعروفة «إني أتهم؛ معلنًا 
فيها انحيازه إلى دريفوسء ما شكل مبادرة تحلق حولها «المثقفون»؛ إذ ظهر أول بيان باسم المثقفين مها) 

03m 61898 Ds / SUN 0 HS 14 ul Manifeste des intellectuels)‏ 45 على مراجعة الحكم الصادر 
في حق دريفوسء ووقعته أسماء وازنة» أمثال: إميل زولا وأناتول فرانس ومارسيل بروست وليون بلوم؛ 
ولذلك عد هذا البيان بمنزلة شهادة «ميلاد رسمية» للمثقف 


343 


الشخص الذي يهتم بأمور لا تعنيه إطلاقًا'. المثقف كائن طفيلي» فضولي بطبيعته» 
يتجاوز بما عنده من روح نقدية وباحثة كل إلزام مهني. وهذا ما حدده ماركس 
إذ أشار أن الفيزيائي المتخصص بالذرة حين يتحدث عن الانشطار النووي فهو 
يتحدث بوصفه عالمّاء أما حين يتحدث عن الاستخدام العسكري للذرة فهو يعبر 
عن نفسه بوصفه its‏ 


المثقف مقتنع أن العالم لم يوجد لوصفه بل للمساهمة في هندسة بنائه؛ 
لذلك يرفض أن يظل «خبيرًا؛ في مجاله» وتُستخدم خبراته خدمة لقضايا ربما لا 
يتبناهاء مادام المطلوب من الخبير مهاراته لا آراءه؛ أما المثقف فينخرط في السجال 
العمومي بحسه النقدي, رافضًا الاستسلام بسهولة إلى المقولات التجزيئية» أو 
التسطيحية» أو الشعاراتية؛ «أما المنعزل أو غير المنخرط في الشأن العام فالأولى 
أن یسمی باسم مهنته أو حرفته» كعالم أو كشاعر أو كروائي أو LS‏ 

ينخرط المثقف في الشأن العام بحس نقديء الأمر الذي يفترض فيه وعيًا 
متقدمّاء أي إن «المثقف شخص يفكر»؛ والجهد الفكري الذي يضاف إليه 
الفعل النقدي خاصيتان لا يمكن توقعهما من أغلب الأدباء والفنانين العرب» 
الذين تحكم معظمهم مواقف الاسترزاق من ذوي السلطة. أو التملق للجمهور. 
وإن تفكير المثقف في موضوع ماء نظري أو واقعي, لا يجعل منه «مُفكرًاه «لأن 
ثمة إسرافًا في استخدام هذه المفردة الأخيرة» واستسهالا إعلاميًا في إطلاقها على 
المثقفين. وأعتقد أن من المفترض أن تقتصر على من ينتجون إنتاججا فكريًا كونيًا 
وأصيلا فعله». 


(3) جيرار ليكلرك» سوسيولوجيا المثقفين» ترجمة جورج كتورة (بيروت: دار الكتاب الجديد 
المتحدة» 2008( ص 19. 

(4) علي حرب. أوهام النخبة أو نقد المثقف (بيروت: المركز الثقافي العربي» 4) ص 175- 
176. 

(5) محمد عابد الجابري» المثقفون فى الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد (بيروت: 
مركز دراسات الو حدة العربية» 2000)» ص 5 

(6) عزمي بشارة» #عن المثقف والثورة»» تبين» العدد 4 (ربيع 2013)؛ ص 132. 


344 


إن الاشتغال الفكري للمثقف» ومحاولته تقديم رؤية هندسية بناثية لقضايا 
المجتمع تجعل منه «داعية» وشخصًا «رساليًاك» أي فردًا #يتمتع بموهبة خاصة 
تمكنه من حمل رسالة ماء أو تمثيل وجهة نظر ماء أو موقف ماء أو فلسفة ماء 
أو رأي ماء وتجسيد ذلك والإفصاح عنه إلى مجتمع ماء وتمثيل ذلك باسم هذا 
المجتمع. وهذا الدور له حد قاطع» أي فعال ومؤثرء ولا يمكن للمثقف أداؤه إلا 
إذا أحس بأنه شخص عليه أن يقوم علءًا بطرح أسئلة محرجة»0©. 

لکن متى بدأ المثقف العربى فى حمل «رسالته»؟ بل متى كان ميلاد هذا 
المثقف؟ فإذا كان ميلاد «المثقف» فى النسق الغربى قد تحقق بوصفه بديلا من 
«رجل الدين»» أي بحلول العلمانية التنويرية بديا من الجمود الكنسي» فإن نقل 
المصطلح إلى النسق العربي لم يمر من دون إشكال كيفية «توطين» المصطلح في 
غير تربته؛ وهو ما كان الجواب عنه من خلال «آلية الاستنساخ» أو «منهج التبيئةه. 

اعتمدت آلية الاستنساخ على النقل الميكانيكي للمفهوم بدلالاته التاريخية 
في الغرب» وإسقاطه بكل حمولاته في السياق العربي؛ وكان من آثار هذا الإسقاط 
الكلي عدم الاعتراف بمثقف حتى يبشر بفكر التنوير العَلماني. وجرت مقاربة 
المفهوم من خلال الأيديولوجيا عوضًا عن مقاربته من خلال واقع اجتماعي 
يفترض إمكانية سبق تحققه في التاريخ العربي» وهو ما يساعد عند إثباته سهولة 
تداولهء لأن الأمر لا يعدو إحياء للدلالة بمفهوم مغاير» لا استنبانًا قسريًا للمفهوم 
والدلالة معًا. كذلك تركت آلية الاستنساخ الخريجين من المعاهد التقليديةء 
والمشتغلين على التراث بنفس محافظ يتوجسون من المصطلح» ويرفضون 
استعماله كليًا بوصفه سلاحًا أجنبيًا يفضي إلى القضاء على المفاهيم التراثية التي 
ألفوهاء من مثل «الفقيه» و«العالم» و«المجتهد». وساهم ذلك كله في تكريس 
الثنائيات السرمدية الصراعية التى طبعت الفكر العربى منذ عصر النهضة: أصالة/ 
معاصرة» تقليد/ تحديث» شورى/ ديمقراطية» دين/ عَلمانية. 

(7) إدوارد سعيد» المثقف والسلطةء ترجمة محمد عناني (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع» 2006)» 
ص 43. والعنوان Represeniations of the intellectual) 3» ASU | Lo M‏ ولذلك نجد له ترجمة أخرى 


بالعربية تحت عنوان صور المثقف أنجزها غسان غصن في عام 1996. 


345 


في المقابل» يقوم منهج التبيئة على الملاءمة مع «مرجعية» النسق العربي؛ الأمر 
الذي يمنح «مثقف اليوم» جذورًا من تاريخه لا من تاريخ غيره. وبذلك تكون تبيئة 
المفهوم ذات هدف إجرائي يستوعب التراث ومستجدات الآخر وواقع اليوم في 
آن واحد. وهو منهج اتبعه مفكرون كبار أمثال محمد عابد الجابري وعزمي بشارة. 


اشتغل الجابري على «التأصيل الثقافي للمفاهيم الحديثة»”»» وخلّص إلى أن 
مثقفي اليوم يشكلون استمرارية لسابقيهم» أي لا معنى للحديث عن ولادة حديثة 
للمثقفين العرب» لكن الأولى الحديث عن «عودة المثقفين» في الثقافة العربية 
ابتداءً من القرن الماضي» واستثنافهم «الكلام» على القضايا نفسها التي تكلم عليها 
المثقفون العرب الأوائل» وفي قضايا طرحوها أول مرة بخطاب جديد» خطاب 
النهضة العربية الحديغة. ٠‏ 


أما عزمي بشارة» ففتح للمثقفين باب التصالح مع التراث العربي الإسلامي 
من خلال تركيزه على الوظيفة النقدية للمثقف لا على المدخل الأيديولوجي؛ 
لذلك اعتبر أن «جزءًا من دور ما سمي في حينه ”العلماء“ و'أهل العلم'» وإن 
كان المقصود إليه تمييز المختصين بالفقه والعلوم الشرعية» هو الدور العمومي 
المرتبط بنقد المجتمع والسلطان خلف مقولة “قولة حق عند سلطان جائر'» الذي 
يرتبط بما نسميه اليوم دور المثقف6©؛ ما يجعل الحوار بين المثقف العَلماني 
والمثقف الإسلامى حوارًا مستأنقًا لتكسير بنية الثنائيات الانقسامية الصلبة 
في الثقافة العربية» وتأكيد أولوية الوظائف المنتظرة من المثقف؛ خصوصًا في 
المراحل المفصلية من تاريخ المجتمعات العربية. 


2 - المثقف في منعطفات المجتمع المفصلية 


تُشكل النخبة المثقفة «سلطة علمية» تنتقل من اهتمامها التخصصي بميدانها 
المعرفي الذي تبدع فيه» إلى الانشغال بالشأن العام والاشتغال فيه. ونتيجة إرث 


(8) الجابري» ص 16. 


(9) المرجع تفسه» ص 15. 
(10) بشارة» «عن المثقف والثورة» ص 129۔ 


346 


المثقف المعرفى ونبوغه فى تخصصه الأكاديمى وانفتاحه على التجارب الإنسانية 
المختلفة وانتصاره للقيم, نتيجة ذلك كله يغدو نظريًا ملادًا أخلاقيًا ومعرفيًا في 
نظر «الجمهور» الذي يرى فيه قدرته على تفسير الواقع» واستبصار ما هو آت 
بافتراض أن رؤيته الاستراتيجية تتغذى من التفصيلات اليومية من دون أن تغرق 
في يومياتها المرهقة. 

ما زال يُنظر إلى المثقف في كثير من الحضارات بوصفه داعية قيم» ومقاومًا 
من أجلها؛ و«في حضارات اللغات الثلاث أو الأربع التي أعرف شيئًا عنهاء يُعتبر 
ذلك صحيحًا بشكل بارز وغامرء لأن هناك عددًا كبيرًا من الناس لا يزالون يشعرون 
بحاجة إلى النظر إلى الكاتب - المثقف كشخص ينبغي أن يُصغى إليه كمرشد 
للحاضر المربك» وكقائد زمرة أو جماعة تنافس من أجل قوة ونفوذ أكبر»". 
وتغدو وظيفة المثقف أكثر أهمية في المنعطفات المفصلية في تاريخ الشعوب» 
كما هي الحال بالنسبة إلى الدول العربية التي عاشت ربيعها غير المكتمل. 

عدم اكتمال الربيع العربي هو ما يسوغ الحديث عن موجة أولى من موجاته؛ 
وذلك يعود ببساطة إلى كون تاريخ الثورات الإنسانية يؤكد أنها حصلت عبر 
موجات» سواء بمعنى حصول الموجة في دول تنقارب جغرافيًا وحضاريّاء أم 
توالي الثورة في مد وجزر داخل الدولة المعنية الواحدة؛ ولا يشكل العالم العربي 
في هذا الباب استثناءً. والحديث عن أفول دور الثورات يحوز الصدقية عندما يكون 
بالإمكان إصلاح النظام السياسي وتغبيره من خلال آلياته الداخلية» ومؤسساته 
التمثيلية القائمة. وهو ما يبدو مستبعدًا حتى اللحظة في النظام السياسي العربي 
الذي لم يستوعب عمق تحولات وعي الشعوب, وارتفاع سقف طموحاتها بعد 
ثورات 2011. 

يبدو الأمر إِذا مستبعدًا حتى اللحظة من دون استحالته؛ فالثورات لا تقام 
لذاتهاء لكن خدمة لغايات وقيم. واستطاعت تجارب في أوروبا الشرقية أن تجعل 


(0 إدوارد سعيد» خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة ترجمة أسعد الحسين (دمشق: دار نينوى 
للدراسات والنشر والتوزيع» 1 1)» ص 282. 


317 


تحولاتها تنجح من خلال توافقات عسيرة؛ على النمط الإسباني» كما تجاوز كثير 
من دول أميركا الجنوبية عادة الانقلاب على نتائج الانتخابات الديمقراطية من 
خلال توافقات تاريخية بين الجيش والقوى المدنية. 

في اللحظات المفصلية» يقع ابتلاء صدقية المثقفين؛ إذ شكلت مثلا قضية 
دريفوس والحرب العالمية الثانية اختبارًا صعبًا للمثقفين الذين كان عليهم أن 
ينحازوا إلى قيمهم بشجاعة:» أو اختيار السلامة والحفاظ على امتيازاتهم وما 
يستلزم ذلك من صمت أو انحياز إلى قوى ظالمة. وعلى الرغم ممّا تحمله 
المرحلة المفصلية للمجتمع من ابتلاءات حقيقية للمثقف. فإنها تكون فرصته 
النادرة لإثبات استحقاقه التمثيل الفكري لطموحات الشعوب العربية» «ذلك أن 
المثقف العربي الحديث» لم يؤت له أن يقوم بالدور الذي قام به المثقفون الغربيون 
منذ فولتير وروسو إلى سارتر وفوكوء أي لم يشارك في صناعة الرأي العام وصوغ 
الوعي الجماعي أو في التأثير في الدينامية الاجتماعية والسيرورة التاريخية؛ كما 
لم يؤت له أن يمارس الدور الذي كان يمارسه العلماء والفلاسفة في العصر 
الإسلامي» بمعنى أنه لم يشكل سلطة رمزية معترفا بدورها وأهميتها»*'. 

تشكيل المثقفين سلطة رمزية معترف بأهميتهاء وجعل المثقفين أنفسهم 
ممثلين للشعب أو ناطقين باسمه» ليس مسألة بسيطة أو مسألة سياسية؛ بل مسألة 
سوسيولوجية: «إنها تطال التمثيل المعرفي والسياسي لفئة اعتبرت سابمًا أن لا 
صوت لها””*'. لا يمكن إنكار الوظائف التنويرية التي قام بها المثقف في العالم 
العربي؛ فإليه يعود الفضل في الاحتجاج على حق الشعوب في حياة كريمة» وفي 
التأصيل لقيم العدالة والحرية» وفي مواجهة الاستبداد على الرغم من الهوامش 
الضيقة التي تحرك فيهاء وإليه يعود الفضل في إعادة قراءة التراث بمناهج عقلانيةء 
وفتح النوافذ على التراث الغربي من أجل استيعابه والتثاقف معه؛ كما أن له فضل 
مواجهة الأفكار المتطرفة التي تتدثر بدثار الدين أو غيره. 


(12) حرب» ص 42. 
(13) ليكلرك» ص 61. 


348 


لا در تنقص من أهمية المثقفين مفاجأة ثورات دول الربيع العربي لهم» حيث 
فاجأت حتى أعتى أجهزة الاستخبارات الدولية ومراكز الدراسات المستقبلية 
اللدراية؟ ل إن خاضة العنا جا من الراك لعي انتم De‏ 

مشتركة في جل الثورات؛ ونقرأ في التقرير السنوي للحكومة الفرنسية المسمى: 
«الكتاب الأبيض حول الشباب» في أيار/ مايو 1967 الذي جاء فيه: «إن الشاب 
الفرنسي يفكر في الزواج مبكرًا... وهدفه الأول والأسمى هو النجاح المهني. 
لهذا ففي انتظار تحقيق هذا يعمد. إذا كان شابًاء إلى الادخار ليشتري سيارة» وإذا 
كانت شابة إلى الادخار لشراء جهاز عروس... إنه يهتم بكل المشكلات الكبرى 
في الحاضرء لكنه لا يطالب بالدخول في الحياة السياسية مبكرًا... فنسبة 72 في 
المئة من الشباب يعتقدون أنه لا يجب تخفيض حق التصويت إلى أقل من 21 
سنة... إن الشاب الفرنسى لا يفكر فى الحرب المقبلة» ويعتقد أن المستقبل رهين 
بالفعالية الصناعية خصوصّاء وبالنظام الداخلي والتحام السكان»*"؛ ومن يقرأ 
التقرير يشعر بسخرية الأقدار؛ فبعده بعام انفجر طوفان «الثورة الطالبية» في عام 
1968. 


لذاء تشبه الثورات المياه الجوفية في تراكم أسبابهاء كما تشبه البراكين في 
قوة انفجارها وفجائيتها؛ إذ تسعى الثورات لنقل القيم المجردة التي كان يدافع 
عنها المثقف كصور ذهنية» إلى واقع يومي تُبتلى فيه صدقية الجميع» وفي مقدمهم 
المثقفون. فوسط الوقائع المفصلية والخلافية يبرز المثقفون الحقيقيون» «والحق 
أن ظهور 'المثقف' لا يمكن أن يتم إلا بظهور ”الخلاف*» ظهور الآراء المتعددة 
المتنوعة المختلفة6”*'. ولا تترك التحولات المصيرية مجال الحياد لأحد؛ فليس 
ثمة منطقة رمادية. كما أن الآراء ما عادت مجرد وجهة نظرء بل انحياز إلى القيم 
والشعب» أو إلى الفساد والاستبداد. وتكون محاكمة الشعب للمثقف بأثر رجعى؛ 
فبعد أن ينجلي الغبار عن الحوادث» تقع غربلة ما قيل عنها من لذن مثقفي تلك 


(14) محمد الشيخء » المثقف والسلطة: دراسة في الفكر الفلسفي الفرنسي المعاصر (بيروت: دار 
الطليعةء 1 )ص 5 نقلا عن: 
Hervé Gamon & Patrick Rotman, Génération, Tome 1: Les années de rêve (Paris: Seuil, 1987), p. 401.‏ 
(15) الجابريء ص 38. 


الفترة. شكلت الموجة الأولى من الربيع العربي سقوطا مريعًا لكثير من المثقفين؟ 
فهل خانتهم أيديولوجياتهم» أم تقديراتهم» أم ارتضوا ببساطة أن يكونوا خبراء 
للويجار؟ 

لا ينتظر من المثقفين وحدة الرؤية؛ فكل له مرجعيته» وموقفه» ومنهجيته. 
ولذلك لم يُستغرب اختلاف الأحكام والتقويمات للثورة الطالبية الفرنسية مثلا 
من لدّن مثقفين كبار؛ إذ عدّها ريمون آرون «سيكو - دراما اجتماعية»» بينما 
نعتها كلود ليفي - شتراوس ب «طفولية الجماهير“*"» على العكس من سارتر 
الذي انحاز إليها وصرح: «حسب اعتقادي كانت حركة ”مايو 1968“ أول حركة 
اجتماعية ذات نطاق واسع حققت زمنها شينًا قريبًا من الحرية»”'. 

l‏ اختلفت تقديراتهم وسط محيط تعددي يؤمن بالاختلاف ويضمنه؛ 
وإيجاد هذا er are tes‏ والتوافق 

بين المثقفين العرب. حتى تصبح ثقافة الاختلاف مضمونة من لذن قوانين الدولة 
ا ا ee‏ 
إنتاج استبداد النظام السياسى» ومنهجية الحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع ضد 
رغبات التفتيت والتدمير» بسبب تعدد الهويات والولاءات وتنازعها. 


ثانيًا: الحرية كل لا يتجزأ 

في اللحظات الحاسمة» حين تكاد تنعدم الرؤية تحت وقع الحوادث 
المتسارعة والمتناقضة» ينتظر الجمهور من المثقف الموقف الواضح غير القابل 
للتسويف. أما ترك الحوادث حتى تبرد» ودراستها كما يُدرس التراث» يجعل من 
ا ا 
منه أخطاء دعائية قاتلة لحلم المسار الديمقراطي للشعوب» ولا ينفع بعد ذلك 
الاعتذار» بعد أن يكشف التاريخ زيف الوقائع والحوادث التي جرى التنازع في 
شأن مسمياتها؛ إنه سقوط مُدو لمثقف يقبر الأحلام كلها التي دغدغ بها مشاعر 


(16) نقلا عن: الشيخ» ص 85. 
(17) المرجع نفسهء ص 94. 


متابعيه عقودًا من الزمن؛ الأمر الذي يطرح السؤال عن كيفية حفاظ المثقف العربي 
على استقلالية رؤيته وتصوراته ابتداءً» وكيف يكون جسرًا من جسور العبور من 
التحرر إلى الحرية في لحظات التاريخ المفصلية. 


1 - المثقف ومعادلة استقلالية الوعى والإرادة 


يغلب على خطاب المثقفين تسويقهم أنفسهم بوصفهم أنصارًا لكل ما هو 
جميل؟ فهم أنصار المظلومين وداعمو القيم والمطالبون بالحرية. بيد ن التحولات 
المجتمعية المفصلية تُسقط كثيرًا من الأقنعة» وتبدو وجوه مثقفين عارية» وهم 
يُبررون دموية السلطة» أو تحالفات أحزابهم اللاأخلاقية» أو يسعون إلى كسب 
امتيازات في أثناء الفوضى الانتقالية» أو يقتنعون بتواضع قدرهم فيركنون إلى ۰ 
هامش الفرجة» ليصبح المثقف تابعًا مفعولا به» بعد أن كان يدعي غير ذلك. 


يسقط كثير من المثقفين في امتحان الصدقية» وهم يشرئبون إلى مواقع 
السلطةء أو تعميهم الأيديولوجياء أو يقفون في المزاد؛ فيحولون البندقية من كتف 
إلى أخرى مع تحولات المانحين. وفي مثال حرب الخليج» كان لافنا أن مواقف 
كثير من المثقفين عرفت «تغيرًا كبيرًا ومثيرًا في المواقف التي يتخذها المثقفون» 
حتى لقد قبل إن أقسامًا كاملة في صناعة النشر المصرية (إلى جانب كثير من 
الصحافيين) انقلبت إلى الاتجاه العكسي» وبدأ بعض القوميين العرب يتغنون 
بالمدائح للمملكة العربية السعودية والكويت» وهما اللذان كانا من الأعداء 
البغضاء في الماضيء فأصبحا من الأصدقاء والرعاة الجده»"". ومع الانقلاب 
العسكري الذي عرفه السودان في عام 1989» بتوافق بين العسكر وأنصار حسن 
الترابي» كان لافنا صمت الإسلاميين عن إدانة هذا الفعل غير المستساغ بالمعايير 
الديمقراطية والشرعية. 

لا يكتمل الوعي حتى يتحد مع القدرة على التعبير عنه» وعي متقدم وإرادة 
حرة» ذلك أن «الرغبة في الكشف عن الحقيقة ليست إِذَا سوى أحد الشرطين 


(18) سعيدء المثقف والسلطة. ص 191-190 


351 


ليكون الشخص مثقفاء أما الشرط الآخر فهو أن يكون شجاعًا»”". وإذا كان 
موقف السياسى يتغير بحسب موقعه فى السلطة أو المعارضة» فإن المثقف يعلو 
نظريًا عن هذا التوصيف» لأنه بذاته يشكل سلطة نقدية تجاه الاختلالات التى 
Let told 5 GR sl‏ 
الحكام أو رغبات «العوام». لذلك تظل من أهم انشغالات المثقف الحرء كيفية 
الحفاظ على مسافة بينه وبين سلطتي الحكام والجمهور» حتى تظل تصوراته بعيدة 
عن التأثر بأهواء اللحظة. 

تعد استقلالية المثقف مسألة مصيرية لممارسة وظيفته النقديةء لأن السلطة 
المستبدة لا تعتقد في الوظيفة التنويرية للمثقف» لكن في توظيفه من أجل الدعاية 
لأطروحاتها. وفي لحظات الثورة تصبح سلطة الجمهور أخطر السلطات التي 
SS‏ 
الثوري المحافظة «على مسافة نقدية» ليس من النظام فحسبء بل من الثورة أيضًا 
فهو يملك الجرأة الكافية» ليس لمواجهة النظام فحسب» وإنما لنقذ الجمهور 
«LA‏ مع أن ممارسة النقد الثاني في ظرف ثوري مهمة أصعب معنويًا من نقد 
النظام الحاك ٠۲‏ . 


هل تعنى رقابة المثقف للحراك المجتمعى الابتعاد عن الفعل السياسى 
المباشر؟ وهل يعني ضمان الاستقلالية عدم اكتساب المثقف الصفة الحزبية 
مثلاء والاقتصار على الاشتغال في مؤسسات المجتمع المدني؟ وهل يعني كون 
المثقف «رجل فكر» هي العناية بالبحوث الأكاديمية فحسب؟ ينبغي التأكيد هنا 
أن التأسيس للدولة المدنية والأمة المواطنية لا يتحقّق إلا عبر المدخل السياسي؛ 
والمثقف عندما يشتغل بالسياسة» يتعلم كيف يفكر بطريقة أخرى مغايرة لما كان 
عليه قبل الاشتغال السياسي. في أنظمة الاستبداد» ألجأت الأوضاع مثقفي اليسار 
والحركات القومية إلى إدارة «ظهورهم للعمل السياسي أو للمجتمع السياسي؛ 
وبدلا من الاعتراف بالإخفاق» راح بعضهم ينظر إلى حسم المعركة في مكان آخر 


(19) الجابري» ص 24. 
(20) بشارة» #عن المثقف والثورة»» ص 137. 


352 


غير المجتمع السياسى؛ وهذا المكان هو المجتمع المدنى»*؛ بيلك أنه مجتمع 
مدني كسيح» لاعتبار نظري وآخر ميداني. 


على المستوى النظري» جرى إسقاط النتائج الآنية ومابعد الحداثية التي 
وصل إليها الغرب باعتبار مفارقة المجتمع المدني لما هو سياسي؛ وهي نتيجة 
يمكن قبولها فى مجتمعات ترسخت فيها الديمقراطية ودولة المؤسسات. لكنها 
تبدو استسلامية لنمط الاستتباع التى تنهجه ميدانيًا السلطة المستبدة في الوطن 
العربي تجاه المنظمات المدنية المختلفة؛ استتباع يرسم حدود حركية هذا 
«المجتمع المدني»» ويحدد طبيعة تمويله والمستفيدين منه؛ بل يحصر قبل ذلك 
حتى لائحة الجمعيات والمراكز التي تحوز مشروعية فعلها القانوني. 


شكلت ثورات الربيع العربي أملا في بناء مجتمع سياسي تعددي» ومجتمع 
مدني تطوعي؛ وتتكامل استراتيجيات الفعل في ما بينهما بالنسبة إلى المثقف من 
أجل بناء حياة سياسية سليمة. فالأول تحقق تعدديته الحزبية تمثيلا حقيقيًا لقوى 
المجتمع واتجاهات الرأي العام» لينشئ مؤسسة برلمانية تؤدي وظيفة تمثيل 
الناخحبين. والثاني ينقذ المجتمع من التفتيت» ويؤسس لمنطق التضامن بين الأفراد 
على أسس تطوعية» والقيام بالوساطة بين مؤسسات الدولة والمواطنين» ودعم 
الديمقراطية التمثيلية بديمقراطية تشاركية تهتم بالمواطن بوصفه فردًاء لا رقمًا في 
مجموع. 


إن انخراط المثقف في العمل الحزبي لا ينقص من قيمته؛ إذ ليس السؤال عن 
انتسابه أو عدمه. لكن عن قدرته وحرصه على عدم السقوط في التسويق الهجين 
للمنطق الحزبي القائم على تزكية الذات وتسفيه الخصم. لذلك تتهدد استقلالية 
المثقف بانخراطه المجاني في معارك انتمائه الحزبي» وإهماله أدواته النظرية التي 
تسعفه في الحفاظ على مسافة بينه وبين الواقع» عوضا عن الغرق في السياسة 
السياسوية. 


(21) عزمي بشارة المجتمع المدني: رؤية نقدية (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة 
السياسات» 2012)» ص 30. 


353 


يؤكد محمد عابد الجابري ومنصف المرزوقي وراشد الغنوشي وغيرهم» 
أن المثقفين الكبار يجعلون من الأحزاب السياسية التي انتموا إليها أدوات تطوير 
للبناء المجتمعي كله وآليات تنوير وفضاءات تنشئة للمناضلين على الأسئلة 
العميقة» وجسورًا لإنجاح المراحل الانتقالية الصعبة» بما أن المثقف يجعل من 
ممارسته السياسة خدمة لقيم كبرى لا تيهانًا في تفصيلات صغرى. ولا شك في 
أن الحرية تشكل أولى القيم الكبرى التي ينتصر لها المثقف الحر في الأحوال 
والظروف كلهاء الأمر الذي يجعله ينظر ابتداءً إلى حريته واستقلاليته بوصفهما 
حقين غير قابلين للتفاوض بالمطلق. 


2- المثقف جسر من جسور العبور من التحرر إلى الحرية 

ليست الثورة قيمة في ذاتهاء وإلا كانت الفوضى هي المؤسسة للفعل وغايته. 
إنما تتخذ الثورة مشروعيتها عند استحالة التغيير والإصلاح من داخل النسق 
السياسي» لذلك تظل في الأخير آلية من أجل إعادة بناء نسق الاجتماع السياسي 
الكلي لا الجزئي؛ إنها آلية للانتقال من سقف التحرر إلى فضاء الحرية. 


إن الانتقال من التحرر إلى الحرية يعد انتقاللا من عنفوان الثورة إلى البناء 
المؤسسي الديمقراطي للدولة. وهو بناء استراتيجي لا يكتمل إلا بصيرورة 
تاريخية تراكمية تمنح للحرية كمال أركانها الثلاثة: 

- سيادة الدولة: يتجاوز الاعتراف بسيادة الدولة وظيفة ترسيم العلاقات 
الدولية على قاعدة المساواة بين الدول الأعضاءء كما نص على ذلك ميثاق الأمم 
المتحدة”*؛ «بل هو في نظر الكثير من الدول والشعوب اعتراف أيضًا بمساواتهم 
وكرامتهم» وحماية لهويتهم الخاصة وحريتهم الوطنيةء وتأكيدًا لحقهم في صوغ 
مصيرهم وتحديده بأنفسهم»*. . وتقوم سيادة الدولة على معادلة تكتمل باستقلال 
الدولة خارجيّاء وسلطتها المطلقة على كامل ترابها داخليًا. 


(22) «المادة 2: تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها»» في: ميثاق الأمم 
المتحدةء النصل الأو ل: في مقاصد الهيئة ومبادئهاء في: http://bit.ly/1kqJtD3.‏ 
Commission Intemationale de l’Intervention et de la Souveraineté des Etats, La Responsabilité (2 3)‏ 


de protéger (Ottawa: Centre de recherches pour le développement international, 2001), p. 8, at: http:#/bit. 
ly/10j7Grd. 


354 


- سيادة الشعب: يشترك مختلف دساتير الدول الديمقراطية في النص على 
أن السيادة للشعب؛ وما يبدو اليوم من مسلمات الدستور الديمقراطي تقف وراءه 
نضالات أمم وثورات شعوب وفلسفات أنوار واجتهادات فقهاء قانون. و«أنهض 
اليقين المتصاعد في سيادة الشعب الجمهورٌ للثورة على العروشء وبناء عالم 
السياسة المعاصر... وأصبح وراء قوة الحكام في عام 1789 مكوّن ميتافزيقي 
جديد» هو الشخصية السيادية للأمة»*. 


- المواطنة الجامعة: إذ تبنى الدولة على عناوين قبول تعدد الهويات داخلها 
بحمولاتها الثقافية الإيجابيةء ومن دون التحول إلى مشروعات سياسية تبتغي 
اقتسام النفوذ داخل الدولة وفق تراتبية معينة لانتماءات الأفراد؛ وذاك ما يجعل 
مرتكز الاجتماع السياسي يقوم على مفهوم المواطنة وما يرسّخه من مبادئ العدالة 
والتضامن والمساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد الوطن. 

تكون الشعوب في مراحل التاريخ المفصلية أقرب إلى حيازة حريتها الشاملة 
بقدر ما تكون أبعد عن تحقيق ذلك؛ فالمنعطفات التاريخية تنفتح على مختلف 
السيناريوات المتناقضة» بما أنها منعطفات تنفجر فيها التناقضات المجتمعية» 
وتفتح فيها الأبواب على مصراعيها للتدخلات الإقليمية كلها التي تنفر لنصرة 
هذا الطرف أو ذاك خدمة لأمنها ومصالحها القومية. ولا يقع استبدال واقع العجز 
والتشرذم والاستبداد إلا وفق تصور متخيل. 

بما أننا سنحاكم الواقع المجسّد والمتقلب إلى صورة مجردة» فإننا سندخل 
إلى مجال لا يستطيعه الناس جميعًا؛ إنه مجال نخبوي بامتياز. وهنا يواجهنا إشكال 
تعدد الصور المتخيلة من لدن مختلف المثقفين والنخب التى تنتسب إلى الثورةء 
بل يغلب على هذا التعدد التناقض. وإذا كانت خلافات عموم الناس وصراعاتهم 
تتعلق بحاجات ومطالب سياسية واجتماعية آنيةء فإن خلافات المثقفين تتعلق 
بالصور المتخيلة عن مستقبل لم يتحقق بعد. إنه خلاف استباقي في شأن المتوقع» 
بما أن المثقف المفكر هو من يغير العالم ذهنيّاء قبل أن يتغير ميدانيًا؛ «والمفكر 


Léon Duguit, Souveraineté et liberté: Leçons faites à l'Université Colombia (New-York), (24) 
1920-1921 (Paris: Librairie Félix Alcan, 1922), p. 98, at: htip://bit.ly/ImORR'yj. 


355 


الذي لا يستطيع تغيير العالم» » فكريّاء بتجديد أفكاره أو بتغيير طريقته في التفكير» 
أو بابتداع ممارسة فكرية جديدة» لن يغير شيئًا . ذلك أن المفكر هو فاعل اجتماعي 
لكونه فاعلا فكريًا قبل أي فعل آخر»(*. 


إن الانتقال في المراحل المفصلية من التحرر إلى الحرية يقتضي بالضرورة 
التحرر من ثقل التاريخ وقبضة الأيديولوجيا؛ فلا حرية سياسية ممكنة من دون 
التحرر من ثقل عقائد تاريخية تمنح قدسية للسلطة السياسية. وهو مأزق عاشه 
تاريخ المسلمين مع الفقه السني في أحكامه وآدابه السلطانية» الذي جعل المدخل 
الشرطي لوحدة الأمة وحدة السلطة المركزية» فمنحها الطاعة المطلقة من خلال 
بيعة تُرفية. وعلى الرغم من أن الفقه السياسي الشيعي نبت ونما معارضًاء فإن 
انتصاره للحرية لم يعن هدمه قداسة السلطةء ما دامت رؤيته العقدية والفقهية 
قامت على الإمامة بالنصء ما جعلها إمامة مقدسة عند المعارضة أيضًا. لذلك 
استمر حضور الدين في دول الاستبداد العربي بوصفه متكنًا وسندًا لمشروعية هذا 
النوع من الحكم» الأمر الذي آل إلى تنشئة الرعايا على #ثقافة الخضوع» عوضًا عن 
«ثقافة المشاركة». 


والتحامهم الجماعي بمختلف الأطياف المجتمعية في خرق جدار الخضوعء 
وكذا إسقاط أصنام الأيديولوجيات؟ وتجاوزوا بذلك النخب المثقفة في التأسيس 
لمنطق الفعل المشترك. لكن مجرد ما غادر الشباب ساحات الاعتصامات انبعث 
الاصطفاف الأيديولوجي التقليدي؛ ما أفسح للقوى المضادة للثورة وقفَ حركية 
الشعوب نحو الديمقراطية» واسترجاع حقوقها المغتصبة» لتتحول المعركة ضد 
«الإرهاب» و#جماعات التطرف»؛ ولتحصر اختيارات الشعوب بين استقرار 
تضمنه أنظمة سلطوية أو فوضى يؤجججها تطرف جماعات غلو وتشدد. كأن الربيع 
العربي لم يثبت يبت أن الحراك السلمي للشعوب قادر على إخماد جذوة العطرف» 
RAT bles 9‏ القتالي»» وهو يكنس من على السلطة رؤوس أنظمة تعفن 
فسادها على كراسي الحكم. 


(25) حرب» ص 30. 


صحيح أن الربيع العربي «أنجب الإسلام السياسيء لكنه قبل ذلك رحل 
الطغاة» وتدعونا نتائجه وتداعياته إلى فتح المنازلات الثقافية الكبرى التي تسعف 
بإنجاز ثورة ثقافية0**)؛ منازلات ثقافية كبرى يقودها المثقفون» وتؤسس لوسط 
مجتمعي يتقبل منطق الاختلاف. ويقع «التثاقف» الداخلي الذي يرى أن الاختلاف 
دليل عافية مجتمعية» ويصوب الجميع بوصلتهم لوأد أي محاولة لعودة الاستبداد 
الذي لا يهمه هوية المتحالّف معه قدر اهتمامه بالحفاظ على مصالحه بعيدًا عن 
أي نوع من الرقابة؛ إنها مسؤولية تاريخية. 


لكن ما معايير المثقفين العرب للحكم على استبداد نظام معين؛ آلياته 
الديمقراطية أم هويته الأيديولوجية؟ في الواقع» تعمي الأيديولوجيا كثيرًا من 
المثقفين» فيجعلون من التناقضات الفرعية مع شركاء الثورة تناقضات مركزية؛ 
وفي المقابل يقدمون على مصالحات غير مفهومة مع قوى مضادة للثورة تجعل 
مقومات الحياة الديمقراطية وشعارات حقوق الإنسان تحت الأحذية العسكرية 
أو شبه العسكرية. ويرتضي المثقف المعاصر حينئذ أن يعيد أدوار فقيه الأحكام 
السلطانية بثوب حداثي» وينتقل من وظيفة النقد وقول الحقيقة إلى وظيفة التبرير 

إن لأنظمة الاستبداد خبرة فى صناعة مثقفى الدعاية لإنجازات وهمية» 
وبث الكراهية بين شرائح المجتمع. وتشرح الحقبة المكارثية - التي تحولت إلى 
أسلوب حياة في خمسينيات القرن الماضي للولايات المتحدة الأميركية - كيف 
تجري صناعة المثقف أو الاحتيال عليه من لذن الأجهزة الأمنية حتى في الدول 
الديمقراطية العريقة» حيث موّلت الاستخبارات الأميركية حينذاك آلاف العناوين 
من الكتب» ومجموعة من المجلات الرصينة التي تستهدف إشراك مثقفين 
مرموقين في حملات موجهة من دون علمهم في الكثير من الأحيانء وحوّلت 
المجتمع الأميركي إلى مجتمع وشاية لتطهير أميركا من «أعدائها الشيوعيين؛؟؛ ذلك 

(26) كمال عبد اللطيف. #مدخل إلى قراءة الأبعاد الثقافية للثورات العربية»» في: مجموعة مؤلفين» 
الانفجار العربي الكبير: في الأبعاد الثقافية والسياسية (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة 


السياسات» 2012)» ص 57. 


357 


أن «التشجيع على الوشاية بالآخرين كان من سمات المجتمعات الشمولية» ولكن 
الحرب الباردة جعلت الإبلاغ عن الآخرين من ضمن التقاليد الأميركية»!7©. 


كانت الدعاية الرخيصة تجري من خلال الكتب والمجلات؛ أما فى زماننا 
الحالي» فإن الدول المستبدة تضخ ملايين الدولارات لدعم قنوات 29250025 
تموّل «مثقفين» مهمتهم المساهمة في الحفاظ على رأي شعبي يقدس 
الدكتاتوريات. وذلك كله من دروس التاريخ المعادة؛ ففي «ألمانيا OÙ‏ استمرت 
الكتل الجماهيرية في تبيان انحيازها للأنظمة الشمولية طوال عقد الخمسينيات 
[من القرن الماضي]»*. وإذ تغنى شباب ثورات الربيع العربي بالشعارات والقيم 
الجميلة» جماعية الفعلء وسلمية > «MN‏ وبناء المنطق المشترك» والتسامح مع 
الخصوم. فإن القوى المضادة للثورة بعثت كل رديء في النفوس البشرية» لتبرر 
وحشية اعتداءاتهاء ولينشغل الناس بالنتائج غافلين عن الأسباب» ولتتحوّل 
شعارات البناء والنهوض إلى مطالب للهدم والانتقام. فماذا ينتظر من المثقف 
عندها؟ إذ «لا يجوز أن يقتصر عملنا كمثقفين على تحديد الوضع فحسب» 
وإنما على إدراك إمكانيات التدخل الفعال أيضًا20”» بأنفسنا أو بقبولنا ما ينجزه 
الآخرون؛ وهو موقف لا يستطيعه إلا ذاك المثقف العمومي «القادر على الجمع 
بين الثقافة الواسعة والفكر العقلاني واتخاذ الموقف»0”!؛ لكن ما أثبتته موجة 
الربيع العربي الأولى أنهم كانوا قلة. 


(7) فرانسيس ستونور سوندرزء من الذي دفع للزمار؟: الحرب الباردة الثقافية» ترجمة طلعت 
الشايب (القاهرة: المركز القومى للترجمةء 2009)» ص 219. 

(28) «تظهر التتائج أن الرأي العام في المنطقة العربية يعتمد على التلفزيون بوصفه أكثر وسيلة 
إعلامية لمتابعة الأخبار السياسية بنسبة 76 في المئة» في حين حلت شبكة الإنترنت في المرتبة الثانية وبنسبة 
7 في المثة؛ وحل في المرتبة الثالئة كل من الراديو والصحف اليومية بنسبة 6 في المثة لكل منهماه. انظر: 
برنامج قياس الرأي العام العربي؛ المؤشر العربي 2014 (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة 
السياسات» 2014)» ص 137» في: .1858م ةير انطا/: مالحا 


Guy Hermet, «Les Démocratisations au Vingtième siècle: Une comparaison Amérique latine/ (29) 
Europe de l'Est,» Revue internationale de politique comparée, voi. 8 (2001), p. 293. 


(30) سعيدء خيانة المثقفين» ص 304. 
)31( 2 5 «عن المثقف والثورة»» ص 132. 


358 


ثالثا: المثقف العربي 
بين خطاب الوحدة وواقع البلقنة 


يكاد يترافق انهيار كل نظام سياسي مع بروز إشكالية الهوية بنحو صادم» 
وبشكل يفوق التوقعات. فالهويات المتعددة دينيًا أو إِثنيا أو قبليًا أو لغويًا أو 
عرةيًا أو حتى جهويًاء في الدولة الواحدة» تكون مجبرة في نظام الاستبداد على 
البقاء في لحظة كمون؛ لكنها سرعان ما تنبعث لتُحدث انفجارات كبرى يصعب 
السيطرة عليها بعد سقوط النظام السياسي» فيبدأ السباق اللاعقلاني بين الهويات 
لترسيخ مواقع واكتساب امتيازات في الواقع الجديد؛ وذاك ما يشكل عنوان تهديد 
لاستمرارية الدولة بذاتهاء أو يتجه نحو سيطرة «العصبية» الأقوى على باقي 
العصبيات. فما مساهمات المثقف لوقف هذه المخاطر التى تستهدف وحدة كيان 
الدولة واستمرارها؟ وما الذي يقترحه هوية جامعة لأبناء وطن قليلى الخبرة فى 
كيفية تدبير اختلافاته؟ | ۰ 


1 - درس مانديلا المنسى: «نضالنا لم ينته) 


تختلف طرائق التعامل مع تعدد الهويات وحجم انفجاراتها مع كيفية تدبير 
المرحلة المفصلية بكاملهاء ومع قوة الدولة أو هشاشتها. ويمكن التمييز بين أربعة 
سيناريوات تظل هي الغالبة في تجارب الشعوب: 

- يتجلى السيناريو الأول مع الثورات الأيديولوجية التي تلجأ إلى استعمال 
«مكنسة الثورة العملاقة» لتطهر بشكل حاسم وعنيف أجهزة الدولة من سدنة النظام 
السابق لتحل في محلهاء كما كانت الحال مع الثورة البلشفية أو الثورة الإيرانية. 
فيجري استبدال نظام سلطوي بآخر سلطويء ولا يسمح للهويات أن يعلو صوتها 
إلا بما يسمح به النظام الشمولي الجديد. 


- أما السيناريو الثاني فيتمثل في الانهيار الخطر لمؤسسات الدولة» وإخفاق 
التوافقات بين أبناء الوطن الواحد» واستقواء الأطراف كلها بهوياتها الدينية أو 
القبلية أو اللغوية أو الإثنية؛ ما يؤجج حروبًا أهلية تودي بحياة الآلاف من الأبرياء» 


359 


وتستمر سنوات عدة قبل أن تخبو جذوة الانتقام» والوعي أن الوطن بإمكانه أن 
يسع الجميع» ونماذج هذه الحروب من الغزارة بمكان2©. 

- في السيناريو الثالث» تستقر تقر الدولة على توازنات هشة» ومحاصصات 
طائفية؛ وتظل مثل هذه النماذج من الدول «ضعيفة لأن مجتمعاتها تكون أقوى. 
وأكثر استقلالية» مما يصعب معه على الدولة “تطويعها'؛ وتٌذكر مجتمعات 
الفليبين ولبنان والمكسيك وسيراليون كنماذج لهذه الحالة“””» وينحو اليمن 
نحو هذا المسارء الناتج أساسًا من مقاومة القوى الطائفية أو القبلية لأي محاولة 
لبسط الدولة كشخص معنوي سيادته على مختلف الفرقاء؛ ما يستحيل معه ولادة 
مؤسسات حقيقية» ويستمر تدبير العقبات المختلفة التي تعترض الدولة والمجتمع 
من خلال تسويات غير مقننة. 

- أما السيناريو الرابع» فهو تعبير عن نجاحات نسبية لحل إشكال تعدد 
الهويات من خلال الاعتراف بهاء وهو استحداث فضاء مجتمعى يؤمن بالعيش 
المشترك» وقيام دولة تضمن مؤسساتها عدم التمييز بين المواطنين؛ ومن نماذجه 
جنوب أفريقيا في سعيها بعد انهيار نظام الفصل العنصري إلى «توحيد ما ظل 
متفرقّاء وهو ما يمكن أن يشكل خلاصة مجموع السياسة الحالية. إن المقصود هو 
بناء ”أمة قوس - قزح““ التي تتسع لأعراقها المتنوعة كلها حفاظا على السلم 
المجتمعي والتنمية المجالية والمستدامة لكل أبناء الوطن. 

كان مسار الربيع العربي واعدًا في تبنيه السيناريو الرابع» وكانت الإفادة ممكنة 
مثلا من كيفية تدبير المثقف والحقوقي والمناضل الكبير نلسون مانديلا للتحولات 
المجتمعية المفصلية في تاريخ جنوب أفريقيا؛ وكان يمكن الإفادة في الأقل من 
خلال مدخلين أوردهما مانديلا في إحدى خطباته المتأخرة التي حضرها ونقلها 


(32) من هذه الدول التي عرفت أو تعرف حرويًا أهلية: البوسنة والهرسك. روانداء بوروندي» 
أفغانستان» أنغولاء أرمينياء أذربيجان» السودان, لينان» العراق. ومن دول الربيع العربي التي A‏ على 
ربيعها: سورية وليبيا واليمن. 

Séverine Bellina, et al, L'État en quête de légitimité: Sortir collectivement des situations de (33) 

fragilité (Paris: Éditions Charles Léopold Mayer, 2010), p. 31. 


Veronica Federico, Citoyenneté et participation politique en Afrique du Sud (Paris: (34) 
L'Harmatan, 2012), p. 16. 


إدوارد سعيد. كانت العبارة الأولى «نضالنا لم ينته؛» وتكملتها في «العبارة الثانية 
وصفه للحملة المضادة للأبارتايد ليست ببساطة حركة لإنهاء التمييز العرقي؛ بل 
كوسيلة (لنا كلنا لنؤكد إنسانيتنا المشتركة). ويقصد ب *كلناء كل أعراق جنوب 
أفريقياء بما فيهم البيض المؤيدين للأبارتايد» ينظر إلينا كمشاركين في صراع هدفه 
النهائي التعايش والتسامح وتحقيق القيم الإنسانة». 


ما ساهم في إجهاض مسار الربيع العربي الواعد اعتقاد كثير من المثقفين 
والسياسيين والمجموعات الشبابية أن النضال أسفر عن نهايته مجرد إسقاط 
رؤوس أنظمة استبدادية. وإذا كان هذا الاعتقاد يقبل من الشباب المتحمسين 
القليلي الخبرة بأحابيل التاريخ ومكره. فإنه يظل مستغربًا من مثقفين لم يجأروا 
في كل لحظة محذرين ومنذرين شعوبهم أن «نضالنا لم يتتوه» وأن قلب أولويات 
الثورة هو ما ينسف أهدافها كلها؛ إذ أثبت مثقفون كثر أنهم لا يعون واقعهم إلا 
إذا جاءهم كما يرسمونه في مكتوباتهم؛ لذلك تظل المفاجآت تصفعهم» وعوضًا 
عن استباقها يغوصون في تفسيرها بأثر رجعي لا يستفيقون منه إلا على مفاجآت 
أخرى» حتى ترهقهم الحوادث فيركنون إلى التفسيرات السطحية؛ أو يعيدون 
على المسامع الأفكار والمفاهيم نفسها. في حين أن مشكلة المثقف تكون أحيانًا 
كثيرة في أفكاره» ما يُلزمه «إعادة ترتيب العلاقة بالأفكار لنسج علاقات جديدة مع 
الواقع» من خلال شبكة جديدة من المفاهيم“*. إنه نوع من المراجعة النقدية 
التي تمس المفاهيم» وربما تلحق عند مثقفين آخرين البنية التصورية الكلية؛ أو 
منهج المقاربة» أو موضوعات الاشتغال من أجل تواصل تفاعلي متبادل التأثير مع 
مفردات الواقع العصي على التطويع. 


إن من دروس ثورات الربيع العربي أن إمكانات نجاح الثورات ذات النفس 
التمثيلى للأطياف المجتمعية كلها تكون أرجى نتيجة إذا سبقتها توافقات فكرية 
بين مختلف النخب المثقفة والسياسية» ما يعني تحقيق التواصل بين الأطياف 
المختلفة: العَلمانية والإسلاميةء والتقدمية والمحافظة» والقومية والوطنية. وذاك 


(35) سعيد» خيانة المثقفين» ص 40. 
(36) حرب» ص 21. 


ما يفترض اصطناع مفاهيم لها دلاللات مشتركة. وإيمان الجميع بفضاء التعددية» 
وبمنطق الاحتجاج والمناظرة» وإدانة مقولات التكفير والتخوين؛ ثم الانتقال 
بعدها من قبول الاختلاف نظرّاء إلى تجسيده ميدانًا بالتأسيس لمواثيق أخلاقية 
والعمل المشترك في مراكز البحوث والدراسات ومنظمات المدني 
والمؤسسات الجامعية. . وهي عمال تؤسس في بنية المجتمع أخلاقيات القبول 
بالمختلف معه» وتدبير الاختلاف بالحوار والآليات الديمقراطية؛ وتهدف في 
الأمد البعيد إلى ترسيخ قواعد ذهنية ونفسية تستبطن في سلوك الأفراد من خلال 
معاملاتهم اليومية؛ ويصبح كل ما يهدد السلم الأهلي والتوافق المجتمعي فعلا 
مشيتا ومُدانًا من الأطياف كلهاء أكان من السلطة أم من مجموعات متطرفة أم من 
أصوات إعلامية أو غيرها. 


كان من مآسي دول من الربيع العربي أن شعوبها ملأت الساحات معبرة 
عن إرادة جماعية ومطالب موحدة» لكن نخبها السياسية سية - المفترض فيها الوعي 
المتقدم - سرعان ما صدّرت انقساماتها إلى الشارع؛ في حين قرر مثقفون كثر دعم 
هذا الفصيل أو ذاك؛ الأمر الذي شكل لعموم الشعب صدمة مزدوجة من نخبه؛ 
صدمة الاستجابة المتأخرة لثورته» وصدمة تحويل الثورة لخدمة أهداف كيانات 
مستبدة أو هويات انقسامية. 


2- في صوغ عنوان هوية جامعة 
يظل «التحدي الكبير الذي يواجهه المشرق العربي تحديدًا هو تحول الصراع 
ضد النظام إلى صراع هويات لا يفتت المشترك القومي فحسب. بل يمنع تشكل 
أمة مواطنية أيضًا»”*)؛ وهذا أخطر التحديات الذي يجعل الشعب الذي ثار ضد 
النظام المستبد يتمنى أن لو استقبل من أيامه ما استدبر لما قام بالثورة. ذلك أن 
الهويات المتحاربة تزيغ عن شعار إسقاط النظام السياسي لتتحول إلى تهديد 
مباشر لوحدة كيان الدولة» كما أنها تخفق في استنبات الأمة المواطنية؛ إنه بؤس 
البدائل القاتل الذي يهدد ثورات الربيع العربي» ومن أمثلته ما يقع في سورية. 


(37) بشارة» المجتمع المدنيء ص 18. 


362 


إن إغفال التحولات التي تط رأ على فئات المجتمع؛ وعدم القدرة على رصدهاء 
يُفقد إمكانات الفهم السليم للواقع» ويُقلص ادعاء المساهمة في تصحيح مساره 
بسبب قصور في تشخيصه. وتّمكن مراكز استطلاع الرأي المهنية من تتبع متغيرات 
مواقف الرأي العام أو استقرارها بالنسب والأرقام؛ ويظل أمام المثقفين والخبراء 
والباحثين والمهتمين مهمة إعادة صوغها ضمن قوالب مفاهيمية أو تصورية من 
أجل الوعي بالواقع كما هو كائن» لا كما يراد تخيله. وعودة إلى الأنموذج السوري» 
فإن نتائج استطلاع الرأي العام العربي الذي أجراه المركز العربي للبحوث ودراسة 
السياسات في عام 2014» تشير إلى تراجع نسبة الذين يؤيدون تنحي بشار الأسد 
عن السلطة» بوصفه أحد أهم مفاتيح حل الآزمة السورية» مقارنة باستطلاع مؤشر 
عام 2013/2012 بفارق 8 نقاط» وإن كانت النسبة ضئيلة إلا أنها موحية. 


الشكل (1-11) 
المستجيبون المؤيدون والمعارضون 
لعبارة امن الأفضل لسورية اليوم أن يتنحى بشار الأسد عن السلطة»** 


r %100 
%90 
%80 


%70 





%60 لا أعرف/ رفض الإجابة 








%50 





أعارض 
%40 


mn 
3-5 %30 








%20 


%10 





%0 








2013/2012 2014 


(38) برنامج قياس الرأى العام العربى» المؤشر ا 4ص 283. 
پر تامج فاس اراي العام ري سر العربي ص 


363 


أما الأسباب التي فسر بها المستجيبون للاستطلاع معارضتهم لتنحي بشار 
الأسد فتممّلت في الجدول (09)1-11©: 


الجدول (1-11) 
أسباب تفسير معارضة تنحى بشار الأسد 











التخوف من الحركات الجهادية والتكفيرية 


والإرهابية 







الطائفية والحرب الأهلية 


: 
إن ما يجري في سورية هو مؤامرة خارجية | a‏ 
لمو لاتقل Ca née‏ 
Cp‏ 
ودورد یک كك 
E‏ 
[rs |‏ 
| 1 









إن الأسباب الثلاثة الأولى التي أوردها المعارضون لتنحي بشار الأسد 
(التي تصل إلى 42.4 في المئة من مجموع المعارضين لتنحيه)؛ تتعلق أساسًا 
بالتخوف من مستقبل البدائل من نظامه. التي تتمثل في هويات تقوم على أسس 


(39) المرجع نفسه. ص 285. 


دينية ومذهبية متطرفة أو انتماءات أهلية؛ أما الذين عبّروا عن انحيازهم الكلي 
لنظام الأسد من خلال مواقف مبدئية؛ أو بوصفه نظام ممانعة» أو لأن ما يجري في 
سورية مؤامرة خارجية فيصل إلى 29.3 في المئة من مجموع المعارضين لتنحيته. 
db «ll‏ عموم الناس ينحازون إلى الاختيار السيّئ عندما يبدو أن مستقبلهم 
يُنذرهم بما هو أسوأ؛ وليس هناك أسوأ من سيناريو انهيار الكيانات الوطنية تحت 
ضغط الهويات المتنازعة التي تتحول من سقف مطالب اجتماعية وثقافية إلى 
مشروع سياسي يبحث له عن «جغرافيا» يستقل بهاء أو عن عن «حصته» في الثروات 
الوطنية ومؤسسات الدولة التمثيلية والأمنية والعسكرية والإدارية. فكيف يمكن 
المثقف العربي أن يساهم في التأسيس لهوية جامعة لا تهددها الثقافة الانقسامية 
التي تفصل بين شرائح المجتمع بجدران سميكة من الكراهية وانعدام الثقة؟ 


إن في تجارب الشعوب عبرة؛ لذلك ليس من المستساغ أن يغفل المثقفون 
من مختلف المشارب مثلا عن الدرس اليوغسلافي الذي يؤكد أنه ٠لا‏ يوجد سبب 
في الدنيا لكي لا يعتبر القومي الديمقراطي العيش في دولة ديمقراطية متعددة 
القوميات أمرًا محيدًا. فقد كان ممكنًا تحول يوغسلافيا إلى دولة ديمقراطية متعددة 
القوميات من هذا النوع مثلاء بدل سلسلة المذابح والتطهير العرقي نحو إقامة "دول 
ديمقراطية“0. ففي الثورات الناجحة لا تكون الانتماءات القبلية والطائفية 
المحدد الحاسم في تشكيل الأمة لكن ما يشكلها حقيقة هو «النضال المشترك من 
أجل تحقيق المثال المشترك. أقصد بالحديث عن المثال وجود هدف يعتقد ساكنة 
الدولة نفسها بشكل أو بآخر ضرورة استكمال تحقيقه قيقه7”0». وعبّرت ثورات الربيع 
العربي في الشوارع العامة عن إرادة العيش المشترك من أجل شعارات جامعة: 
ESR SESS‏ ك مع الثورات 
التي تنتهي فريسة ة الهويات المتصارعة في ترسيخ الوعي ne‏ 
الشعب» وتبذر بذور الكراهية التي تنحول إلى رغبات تدميرية قاتلة تؤمن بثنائية 
نحن/ هم بين أبناء الوطن نفسه. 

(40) عزمي بشارة» أن تكون عربيًا في أيامنا (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. 2009)» 


.17 ص‎ 
Duguit, p.31. (41) 


تعد من الأخطاء القاتلة للمثقفين ورجالات الفكر الانجرار ع 
قضايا إشكالية تزيد من صب الزيت على نار الوضعية الانقسامية داخل مجتمع 
حديث عهد بأجواء الحرية» ولم يستوعب بعد مسؤولية الحفاظ عليهاء أ ويتمرن 
على كيفية تدبير الاختلاف. وهي قضايا ينبغي لها ألا تثار ! إلا بعد إحكام مقدمات 
«إعادة الثقة مجددًا بين مختلف الفاعلين فى المشهد السياسى. وهذا الأمر يتطلب 
الكثير من الجرأة والشجاعة؛ وتجسير الفجوات؛ وبخاصة في القضايا الخلافية 
الكبرى الموصولة بالأبعاد الاجتماعية والثقافية» من قبيل قضية الهوية» والعلاقة 
بين الدين والسياسة؛ ومسائل التنوع الإثني والطائفي والعقائدي»“. إن السؤال 
الأولى بطرحه بديلا من :من نحن؟؟2 في لحظات ما بعد الثورة هو «ما نريد أن 
نكون؟)» الذي يقدم رؤية مستقبلية في كيفية صوغ هوية جماعية لمكونات الشعب 
الذي شكلت ثورته بداية تأريخ جديد لمسيرته التاريخية. 


إن تمثيل الشعب في تنوّعه لا يعني في الدول الديمقراطية العريقة قيام 
مؤسساتها التمثيلية على المحاصصة الطائفية أو الإثنية أو القبلية؛ لأنها انتماءات 
أولية إذا ما تضخمت أدت إلى حروب أهلية. كما أن منطقها لا يتوافق مع منطق 
الدولة الحديثة التي تعترف لمواطنيها بحقوقهم وواجباتهم على قدم المساواة. 
بمعزل عن هذه الانتماءات المختلفة التي ينبغي أن تشكل مشاتل ثراء للهوية 
الوطنية» لا تهديدًا لوحدة المجتمع» » أو نقضًا لمنطق العيش المشترك. 

إن التمثيل القائم على الانتماءات الأولية لن يستطيع تمثيل الإرادة العامة 
للأمةء كما أنه لا يستطيع الادعاء أنه يسعى إلى خدمة المصلحة العامة. لذلك انتقل 
دور التمثيل إلى الأحزاب السياسية التي أكد الفقيه القانوني الألماني هانس كيلسن 
أنه «من الوهم دعم فيمتزاظة ممكية من lets‏ فالديمقراطية 
بالضرورة والتأكيد ديمقراطية أحزاب»“. وبهذاء يغدو من مهمات المثقفين 
المشتركة مع الفاعلين المختلفين في المجتمع السياسي والمجتمع المدني دعم 


(42) عبد اللطيف»› ص 58. 


Bernard Manin, Principes du gouvernement représentatif (Paris: Champs Flammarion, 2006), (43) 
p.271. 


366 


العمل الحزبي السياسي» ورد الاعتبار له من خلال تعددية سياسية فعلية» تقوم 
على تنافسية برامجية» وتنشى البُنى الداخلية على الديمقراطية والشفافيةء وتكون 
مثال النزاهة العسيرة على الاختراق من لدّن لوبيات الفساد. وتخضع لقانون منظم 
تكون غايته دمقرطة المجتمع لا إنشاء وسائط مجتمعية زائفة. 

إنها شراكة المثقف مع مكوّنات واقعه الفاعلة من أجل استنبات أشكال 
التنظيم السياسي والاجتماعي «الجديدة» بشكل غير قسري» بل بقبول طوعي 
من فئات الشعب في تمثيله من لذن هذه الأشكال التنظيمية المستحدثة ثة» بدلا 
من التشكيلات المجتمعية التقليدية المتوارثة؛ وترى أهمية ذلك وصوابيته حاليًا 
ومستقبلاء وتحفظ الروح التضامنية بين مختلف مكونات الشعب ولا تطمسهاء 
وتدعم الوحدة الكلية للمجتمع ولا تناقضهاء وتؤسس لوحدة تقبل بالاختلاف 
الذي يحتكم إلى التدبير العقلاني والآليات الديمقراطية» لا التفتيت الذي تسعره 
ذهنية القبيلة وسلاح الطائفة. 


خاتمة 


استحكم الاستبداد في التاريخ العربي حتى ظنّ باحثون أنه جزء من ماهيته؛ 
وعد العامة من الناس أن طاعة الحكام من غير شرط من مستلزمات الاعتقاد 
والتدين. وعلى الرغم من تمدد مقولات الديمقراطية وحقوق الإنسان على 
مختلف دول العالم» ظل العالم العربي عصيًا على التغيير لتجذر ثقافة الاستسلام 
للمستبدين في البنى الذهنية والنفسية للنخب والشعبء «ورسّخ في العقائد 
دينٌ الانقياد لهم والتسليم» وقاتل الناس معهم على أمر هم قتالهم على العقائد 
الإيمانية»*. لذلك كان الفعل الثوري لشباب الربيع العربي فعا تاريخيًا بامتياز 
استطاع أن يكسر قشرة الاستبداد الصلبة» وأسقط عن النفوس «دين الانقياد) بتعبير 
ابن خلدون؛ وأعاد سؤال بناء الشرعية» وأسقط عن الشعوب العربية Sup‏ كون 
الاستبداد قدرها التاريخي الحتمي. 


(44) أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون» مقدمة ابن خلدون» إعداد إبراهيم Cr‏ وإحسان 
عباس (تونس: الدار العربية للكتاب» 2006)» ص 271. 


367 


لا يعود التاريخ إلى الوراء؛ وما فجره الشباب من أسئلة الشرعية وقضايا الحرية 
والكرامة والعدالة الاجتماعية ستظل تقض مضجع كل استبداد. وعلى الرغم من 
أن أي تحول لا يولد مكتملاء بل ربما يقود التحرر إلى سلطوية جديدة تحكم 
بالدستور عوضًا عن أن تحتكم إلى الدستور الديمقراطي» فكان إحكام التصورات 
والخطى في مراحل التحول المجتمعى المفصلية مقدمة صحية للاستمرارية. 
وعلى الرغم من غلبة منطق الردة على مطالب الثورة» فإن ذلك مدعاة للتأكيد أن 
التاريخ يترنح ولا يسقط؛ لأنه أثبت دومًا أنه يتقدم بشكل حلزوني. 

لا يُعد ترنح الربيع العربيء إِذَاء استثناء عند تدبير التحولات المفصلية في 
تاريخ الشعوب؛ ويظل الأهم هو الاستفادة من دروسه الميدانية التي سطرتها 
دماء آلاف الشهداء. ومن هذه الدروس المتعلقة بأدوار المثقفين فى التحولات 
المفصلية لمجتمعاتهم أن ثورات الشباب العربي لم تسبقها أو تستصحبها ثورة 
فكرية؛ لذلك تقع على عاتق المثقفين مسؤولية إعادة صوغ بناءات فكرية تؤسس 
لتوافقات فكرية في شأن قضايا ومفاهيم مشتركة» من أجل تجاوز الثنائيات 
الانقسامية السرمدية في فكرنا المعاصر. 

يُنتظر من المثقف العربي أن يعيد مراجعة مفاهيمه» وبناء تصوراته» وتكييف 
مناهجه» وتجديد مقارباته بغاية ولادة المثقف العربي من جديد ليُساهم بفاعلية في 
قيام نظام ديمقراطي يضمن سيادة الدولة من أن يخترقها الاحتلال الأجنبي» وسيادة 
الشعب من أن يُسقطها الاستبداد. والمواطنة الجامعة من أن تنسفها الانتماءات 
الأولية التي لا تعترف بمساواة المواطنين أمام قوانين تمثل الإرادة العامة للشعب. 


من الحمق انتظار وحدة موقف متماه للمثقفين؛ فكل له مرجعيته وتصوراته 
في كيفيات تصريفها. لكن ما يعول عليه هو انحياز المثقفين كلهم إلى الدفاع 
عن قيمة القيم: الحرية؛ ما يعني التأسيس لوعي مشترك للدفاع عن فضاءات 
التعددية بمعناها الحقيقي» لأن إعدام هذا الفضاء هو إعدام لكل مثقف. وتزهر 
أفكار المثقف مع الحرية» وهي المطلب الأول لكل ثورة» وكمال حرية المثقف 
بألا يغفل على الحفاظ على استقلالية تفكيره والتعبير عنه. وإن صدقية المثقف 
يصنعها وعي وقاد وإرادة شجاعة؛ أما الإرادات الرخوة فتسقط في التملق أو 
الارتزاق عاجلا أو آجلا. 


368 


يختلف المثقف عن السياسي كون هذا الأخير تحكمه رؤية آنية» عكس 
المثقف الذي ينظر إلى الحاضر والمستقبل القريب بعين التاريخ» ما يجعل رؤيته 
استراتيجية تنحاز إلى القيم ولا تغرق في التفصيلات التي تقلب أولويات الثورة. 
وإذا كان السياسى يستنجد انتصارًا لأهدافه حتى بالانتماءات العصبية» مثيرًا 
مسألة الهوية التجزيئية لكيان المجتمع الموحدء فإن المثقف في مثل هذه القضايا 
الاجتماعية والسياسية المصيرية لا يبحث عن صحة فرضياته أو بطلانها فحسب» 
بل يطرح السؤال الأهم: متى يطرح القضية وأين ولماذا؟ وهو ما يعني تأجيل 
القضايا الانقسامية في المجتمع إلى حين إحكام مقدمات بناء نظام ديمقراطي» 
ومجتمع يقبل بالتعدد في آرائه وتوجهاتهء قبولا ذهنيًا ونفسيًا غايته تحقيق التسليم 
بنتائج الاختلاف من دون تهديد وحدة الأمة المواطنية أو كيان الدولة الموحد. 


المراجع 
1- العربية 


ابن خلدون. أبو زيد عبد الرحمن بن محمد. مقدمة ابن خلدون. إعداد إبراهيم 
برنامج قياس الرأي العام العربي. المؤشر العربي 2014. الدوحة/ بيروت: المركز 
العربى للأبحاث ودراسة السياسات» 2014 فى:  http//bit.Iy/2mfl8S8.‏ 
بشارة» عزمى. أن تكون عربيًا فى أيامنا. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 
2009. 
. لعن المثقف والثورة». تبين. العدد 4 (ربيع 2013). 
. المجتمع المدني: رؤية نقدية. بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث 
ودراسة السياسات» 2012. 
الجابري» محمد عاید. المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن 
رشد. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 2000. 
حرب. علي. أوهام النخبة أو نقد المثقف. بيروت: المركز الثقافي العربي» 2004. 


369 


سعيد» إدوارد. خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة. ترجمة أسعد الحسين. دمشق: 
دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع» 2011. 

د ا المثقف والسلطة. ترجمة محمد عناني. القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع» 
2006. 

سوندرزء فرانسيس ستونور. من الذي دفع للزمار؟: الحرب الباردة الثقافية. ترجمة 
طلعت الشايب. القاهرة: المركز القومي للترجمةء 2009. 

الشيخ» محمد. المثقف والسلطة: دراسة في الفكر الفلسفي الفرنسي المعاصر. 
بيروت: دار الطليعة» 1991. 

عبد اللطيف. كمال. «مدخل إلى قراءة الأبعاد الثقافية للثورات العربية». فى: 
مجموعة مؤلفين. الانفجار العربي الكبير: في الأبعاد الثقافية والسياسية. 
بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» 2012. 


ليكلرك» جيرار. سوسيولوجيا المثقفين. ترجمة جورج كتورة. بيروت: دار الكتاب 


الجديد المتحدة. 2008. 
الأمم المتحدة. ميثاق الأمم المتحدة» الفصل الأول: في مقاصد الهيئة ومبادئهاء 
فى: http://bit.ly/1kqJtD3.‏ 


2- الأجنبية 


d’Appollonia, Arian Chebel. Histoire politique des intellectuels en France, 1944- 
1954, Tome 1. Questions au XX: siècle. Bruxelles: Editions Complexe, 1991. 

Bellina, Séverine et al. L'État en quête de légitimité: Sortir collectivement des 
situations de fragilité. Paris: Éditions Charles Léopold Mayer, 2010. 

Commission Internationale de l'intervention et de la Souveraineté des Etats. La 
Responsabilité de protéger. Ottawa: Centre de recherches pour le développement 
international, 2001. 

Duguit, Léon. Souveraineté et liberté: Leçons faites à l'Université Colombia (New- 
York), 1920-1921. Paris: Librairie Félix Alcan, 1922. 

Federico, Veronica. Citoyenneté et participation politique en Afrique du Sud. Paris: 
L’Harmatan, 2012. 

Gamon, Hervé & Patrick Rotman. Génération, Tome 1: Les années de rêve. Paris: 
Seuil, 1987. 

Hermet, Guy. «Les Démocratisations au Vingtième siècle: Une comparaison Amérique 
latine/Europe de l'Est.» Revue internationale de politique comparée. vol. 8 (2001). 


Manin, Bernard. Principes du gouvernement représentatif. Paris: Champs Flammarion, 
2006. 


370 


الفصل الثاني عشر 


المثقف العربي وأزمة الهوية 
دراسة في توتر علاقة المثقف الحدائي 
بالربيع العربي 
امحمد جبروت 


أبانت حوادث الربيع العربي وتطوراته ضعمًا شديدًا في التجاوب بين فئة 
عريضة من المثقفين وثوران الشارع العربي» تجلى بوضوح في المواقف المتحفظة 
لعدد من أعلام الثقافة والفكر في العالم العربي من مجريات الحوادث ومالاتها. 
وفْسَر هذا الضعف في التجاوب بين الطرفين (المثقف والشارع) بعوامل مختلفة» 
تبرز اضطرابًا واضحًا في الإدراك؛ كالقول بتباين تطلعات كل منهماء أو الزعم 
بالتنازع الخفي في شأن القيادة» ومن عليه اتباع الآخر. 

غير أننا نعتقد أن أسباب هذا «البّرد» في علاقة المثقف عمومًاء والمثقف 
الحداثي بالجمهور العام» تحتاج إلى تحليل وتأمل أعمق» وتناول أوسع؛ إذ 
نحسب أن جذور هذه الأزمة التي انفجرت وتفشّت مظاهرها مع الربيع العربي لا 
توجد قريبة من السطح» بل تقع بعيدة في الأعماق البنيوية. وما لاحظه الجميع من 
فتور في العلاقة بين مثقفي الحداثة العرب وثوران الشارع منذ أواخر عام 2010 
ليس حدئًا عرضيّاء متصلًا بهذه الأوضاع المستجدة» بل هو وصف عام يمتد إلى 
زمن بعيد» ويتصل بهوية المثقف في العالم العربي» وظهوره على مسرح التاريخ 


371 


العربي الحديث والمعاصر”". وإذا كانت هذه الأزمة فى الماضى ثاوية» وحجبها 
عدد من الأزمات الأخرىء» فإن الربيع العربي» فحسب. قام بتعريتها وكشفها أمام 
Sul‏ 


فرضيتنا الأساس في هذه الدراسة التى سنعمل على إثباتها والاستدلال عليها 
هي أن العلاقة المتأزمة بين شطر عظيم من مثقفي الحداثة والثورات العربية بشكل 
عام ترجع أسبابها إلى عناصر بنيوية» ترتبط بهوية المثقف العربي وخصوصية 
نشأته بالمجال العربي؛ ولا يمكن في حال من الأحوال تجاوز هذه العلاقة المتأزمة 
وحسمها من دون إعادة النظر في مفهوم المثقف ورسالتهء وتأصيله بمايُمَكنه من 
ممارسة سلطته الأدبية والأخلاقية©» . وانطلاقًا من هذه الفرضية» سنقسم عملنا في 
هذه الدراسة ثلاثة مباحث: في ظهور المثقف ومثقف الحداثة في العالم العربي: 
تحليل لأزمة الهوية؛ مثقف الحداثة في سياق الربيع: مظاهر تفشي أزمة الهوية؛ في 
الحاجة إلى مثقف جديد: إمكانية إصلاح عطل الهوية. 


من الناحية المنهجية» سنقارب هذه المحاور بمنهج تحليلي» يروم بلوغ 
العناصر الجوهرية المفسرة للعلاقة الفاترة بين المثقف وجمهوره المفترض» 
وذلك في أفق التنبيه إلى الحلول الممكنة لهذه الأزمة؛ فغياب المثقف عن 
المشهد؛ و كسر شوكته الأدبية والأخلاقية يهدد بكارئة حضارية» وانحطاط عام 
سينعكس سلبًا على مصير الإصلاح في العالم العربي» وسيصرف العرب من 
جديد إلى مجلس «الفقيه». 


(1) تناول عدد من المفكرين العرب أزمة المثقف. وظهر عدد من الأعمال يتناول هذه الخاصية 
التي لازمت ظهور المثقف في العالم العربي؛ ويحضرنا في هذا المقام ما كتبه عبد الله العروي في: عبد الله 
العروي. ثقافتنا في ضوء التاريخ» ط 2 (ييروت/ الدار البيضاء : المركز الثقافي العربي» 8)») وكذلك ما 
كتبه أيضًا علي حرب في: علي حربء أوهام النخبة أو نقد المشقف» ط 2 (بيروت/ الدار الييضاء : المركز 
الثقافي العربي» 1996). وفي ما يتعلّق بالأزمة الأخيرة» تحضرنا الحلقة النقاشية التي نظمها مركز دراسات 
الوحدة العربية في بيروت في أيار/ مايو 2013» وستكون لنا عودة إلى هذه النصوص في الفقرات التالية. 

(2) إذا كناء في هذه الدراسة:؛ ترد أزمة المثقف العربي إلى أسباب هوياتية» كما سيتضح من الصفحات 
التالية» فإن بعض المفكرين العرب يُرجعها إلى أسباب أخرى, مرتبطة بافتقار المثقف إلى سلطة التأثير التي 
ترجع هي الأخرى إلى غياب حرية التعبير وغياب الديمقراطية؛ ومن ثم فدور المثقف في نظر بعضهم هذا 
مرتبط بترسيخ الديمقراطية وانتشار الحريات. انظر على سبيل المثال: علي أومليل» السلطة الثقافية والسلطة 
السياسية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيةء 1996)» ص 256. 


372 


في هذا السياق» نظرًا إلى الطابع العام للإشكالية التي نخوض في أسئلتهاء 
وجدنا أنفسنا مكرهين على التعامل مع أمثلة ونماذج من المثقفين والخطابات» 
وغير قادرين - في المقابل - على الإحاطة بتعبيرات المثقف الحداثئي كلها 
ونماذجه. ولا يخفى أن هذا العمل الانتقائى يثير كثيرًا من الاعتراضات في شأن 
أحقية عيّنة المثقفين التي اشتغلنا عليها وتمثيليتها وصدقية الأحكام التي انتهينا 
إليها. وستحاول في هذه الدراسة التعامل مع هذه الاعتراضات.» والتقليل من 
آثارها قدر الإمكان» في انتظار أن تتاح الفرصة لنا أو لغيرنا للقيام بعمل موسّع 
وتحليلي يتناول «الجهد الثقافي الحداثي» في كليته. 


أولًا: في ظهور المثقف ومثقف الحداثة في العالم العربي 
تحليل لأزمة الهوية 

إن المثقف من حيث موارده ووظائفه الرئيسة ليس عنصرًا قديمًا ومتجذرًا 
في التاريخ الإنساني» بل ارتبط ظهوره بالنهضة الأوروبية وما تداعى عنها من 
أنوار فرنسية وألمانية وإنكليزية ...إلخ؛ ولو أننا نجد بعض المؤرخين الذين 
يعودون به قرونًا إلى الوراء» وحتى العصر اليوناني". فالمثقف ينتسب إلى فثة من 
المتعلمين الجدد» ظهروا فى بداية عصر النهضة على هامش الكنيسة» ونازعوها 
سلطة التوجيه العام» استنادًا إلى سلطة العقل وثقة به. ومن ثم يعدهم كثير من 
الباحثين أحد مظاهر العَلمانية المبكرة في السياق الأوروبي©. 


قبل عصر النهضة. كانت الجهة الوحيدة المستبدة بمصير الإنسان وقائدته» 
هي الكنيسة ورجالاتها؛ التي كان شغلها الشاغل ربط الإنسان بعالم الآخرة 
والمعاد» ودلالته على سبل نجاته» المتوقفة على الخضوع والاستسلام لتعاليم 
رجالاتها ...إلخ. بيد أن مع بروز المثقفين الذين جمعتهم في البداية ما يصطلح 
is «(L'Humanisme) 4.5 Yi 4 JL ae‏ السلطة الكنسية في التراجع» 


(3) جيرار ليكلرك» سوسيولوجيا المثقفين» ترجمة جورج كتورة (بيروت: دار الكتاب الجديد 
المتحدةء 2008)» ص 30-29 و38-37. 

Jacques Le Goff, Les Intellectuels au Moyen Age (Paris: Le Seuil, 1957). (4) 

(5) ليكلرك: ص 35-33. 


373 


وتراجعت معها منظومتها المعيارية الدينية» وحلّت في محلها بالتدريج سلطة 
المثقف المبنية على معيارية العقل التي اعتنت بتوجيه الإنسان وقيادته إلى النجاة 
في الدنيا والنجاح فيها والتنعم بثرواتها. وتطورت سلطة المثقف وازدهرت مع 
مرور الوقت» وبلغت أوجها مع عصر الأنوار. وتجلى ذلك في التأثير الكبير الذي 
بات يمارسه المثقفون في الحوادث السياسية والاجتماعية. وتزامن هذا الازدهار 
مع ظهور علوم جديدة نضح بها عصر النهضة» وشكلت رافدًا أساسيًا للمثقف 
وعقلانيته» وأهمها علوم التاريخ والاقتصاد والسوسيولوجيا. 


على الرغم من الحضور المبكر للنخبة الثقافية في التجربة الغربية» الذي 
يعود - في الأقل - إلى القرن الخامس عشرء فإن لفظ المثقف تأخر ظهوره 
إلى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ وذلك بالتزامن مع القضية 
الشهيرة ة المعروفة بقضية دريفوس ابتداءً من عام 1897؛ فقبل هذا التاريخ» لم 
يكن هذا اللفظ دالا على هذه الفئة من الناس. 


في سياق السجال في شأن هذه القضية» كتب السياسي الفرنسي كليمنصو 
مقالة تحدث فيها عن هذه النخبة من أصحاب الإنتاج الرمزي التي ناصرت 
دريفوس وسماهم المثقفين“. وتلقف خصوم دريفوس هذه الكلمة واستعملوها 
على نطاق واسع؛ ومنذ ذلك الحين» أمست هذه اللفظة باشتقاقاتها المختلفة 
لصيقة بهذه النخبة» ووصفا لازمًا لها. وكانت هذه الكلمة في بدايتها شتيمة» لكنها 
سرعان ما استعادت محتواها الإيجابي بعد مدة قصيرة من تداولها. 


انطلاقا من هذا الموقف الذي التزمته هذه النخبة فى هذه الواقعة وغيرهاء 
يبدو أن مفهوم المثقف تاريخيًا وبشكل عام؛ اقترن بعدد من المفاهيم والمواقف 
من قبيل: مفهوم الالتزام والانحياز إلى الشعب والانتصار لقيم العدالة والإصلاح 
(6) استخدم جورج كليمنصو تسمية «مثقف» (بالخط المائل) في مقالته الافتتاحية في جريدة الفجر 
à (L'Aurore)‏ , 23 كانون الثاني/ يناير 1898» في شأن موقّعي عرائض لمصلحة إميل زولا؛ ومنح المفهوم 


معناه الحديث: «صاحب قضية, لكن أيضًا المرء الذي يؤثر في الرأي العام ويسمح بالأمل في المستقيل؟. 
انظر: .23/1/1898 Georges Clemenceau, «A la dérive,» L Aurore,‏ 


374 


والتحلي بأخلاق الشرف والنزاهة ...إلخ”. وكتبت في شأنه أدبيات كثيرة» 
اختلفت من مدرسة فكرية إلى أخرى؛ ومن أبرز هذه الأدبيات ما كتبه أنطونيو 
غرامشي في شأن المثقف العضوي وبيار بورديو وريجيس دوبريه. 


اللافت في تحليل مفهوم المثقف وسياقه. أن هذا الأخير لم يكن «تقني 
المعرفة» فحسب» باصطلاح جون بول سارتر*» متخصصًا بفروع من فروعها 
الحديثة» من فيزياء أو تاريخ أو أدب ...إلخ» ولم يكن فنانًا تشكيليًا أو Les‏ 
سينمائيًا ...إلخ؛ بل هو إضافة إلى ذلك كله» صاحب موقف ملتزم» منحاز 
إلى القيم والعدل والحقء وقيم البراءة والنيات الحسنة والشرف كلها ...إلخ» 
ولا ينتسب إلى النخبة المسؤولة التي تتجسد في السياسي بالدرجة الأولى؛ 
ومن ثم» فالمثقفون - بعبارة مختصرة - هم من يوظفون معارفهم لخدمة مثال 
معين"". ومن ثمء فالمثقفون في التجربة الغربية هم - في الأساس - جماعة 
وظيفية» يوحدها الإنتاج الرمزي (التعليم والبحث والإنتاج الثقافي والفني والنشر 
والإعلام ...إلخ)؛ وهم - أيضًا - من إفرازات التحول النهضوي الذي ابتدأ في 
القرن الثالث عشر الميلادي تقريبًا؛ وتعمل هذه الفئة على التأثير في الحوادث 
من خلال البيانات والعرائض التى تصدرهاء والمقالات التى تدبجهاء والحوارات 
واللقاءات التي تؤطرها وتنفذها ...إلخ”©. ومن ثم» فهي تجمع في ذاتها ثلاثة 
أوصاف رئيسة: الانتماء إلى «المهن الرمزية» والارتباط بسؤال النهضة والإصلاح 
والتنوير والتقدم. 


إن هذه الوقفة القصيرة مع أوضاع تولد المثقف في السياق الثقافي الغربي 


(7) يمكتنا في هذا السياق استحضار تعريفات وإشارات عدة في شأن مفهوم المثقف» منها على 
سبيل المثال لا الحصر ما ذكره إدوارد سعيد في كتابه المثقف والسلطة» كونه يتفاعل مع أوسع جمهورء كما 
يعد سنده» إضافة إلى أنه غير منتم وهاوء يسعى دائمًا إلى تعكير صفو الحالة الراهنة. انظر: إدوارد سعيد 
المثقف والسلطةء ترجمة محمد عناني (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع» 2006)» ص 2118 و23. 

Etienne Barilier, «Vie de L’esprit, vie de la cité,» Revue européenne des sciences sociales, (8) 

vol. 28, no. 87 (1990), p. 22. 

)9( ليكريك» ص 90. 

Barilier, p. 22. (10) 

(11) ليكريك» ص 88-65. 


375 


ودلالته» عَنت لنا بجملة من الأسئلة» تتعلق بنظيره في الوطن العربي؛ من أبرزها 
hS‏ 
التاريخية العربية؛ أم هو انعكاس للمثاقفة المتأخرة مع الغرب» ونتيجتها؟ يمثّل 
هذا السؤال مدخ ملاتا لمراجعة سياق المثقف في العال العربي ودلاته؛ ومن 

ثم الوقوف على حدوده النظرية والعملية. ذلك أن الأزمة الحادة التي تميز علاقة 
ا ا ا ا 
نشأة المثقف في العالم العربي والعوامل التي أحاطت بها والتطورات النوعية التي 
شهدتها علاقاته التواصلية. 


قبل الإجابة عن هذا السؤال» لا بد من الاختيار بين فرضيتين: تدعى الأولى 
قدم المثقف في الحضارة العربية الإسلامية؛ وتدعي الثانية حداثته» وتربط ظهوره 
بالجهد الذي بذله العرب في سبيل التحديث مع بداية العصر الحديث. على 
الرغم من الصعوبة التي تطرحها مسألة الاختيار هذه والمقدمات الاستدلالية 
التي تشترطهاء فإننا نؤيد الرأي القائل إن المثقف في المجال العربي هو كائن 
حديث؛ يتصل ظهوره بصدمة الحداثة وتداعياتها الثقافية'». وسنحاول فى ما يلى 
الاستدلال على هذا الموقف. ١‏ 


كان معظم المشتغلين بالمهن الرمزية المحتكرون للتوجيه العام في العالم 
العربي قبل القرن التاسع عشرء مرتبطا بالمؤسسة الدينية ومن الأوفياء لها؛ فجلهم 
فقهاء أو في مقامهم» ولا يزاحمهم أحد في مخاطبة الجمهور العام وفي المناسبات 
والفضاءات كلها. وعلى الرغم من الانفتاح الذي ميّز هذه الفئة من علماء الإسلام 
من جهة إقبالها على القضايا الدنيوية ومعالجتها بعض المسائل المصلحية المادية؛ 


(12) من الذين اعتنوا بهذه الإشكالية» محمد عابد الجابري في كتابه المثقفون في الحضارة العربية. 
وعلى الرغم من إقراره بخلو تجربتنا الحضارية من مفهوم المثقف ولفظه. فإنه انطلاقًا من تلق معين لتجربة 
الغرب في هذا الباب. قام بما سماه تبيئة هذا المفهوم وجعله أداة لقراءة التجرية العربية» غير أنْنا نرى في هذه 
الدراسة أن المنهج التبيئي غير سليم في هذا الموضوعء ذلك أن التجربة العربية يدءًا من عصر النهضة ستولد 
مثقفيها الذين سيشبهون في كثير من الجوانب أقرانهم الغربيين» ويختلفون تمامًا عن المثقفين التقليديين. 
ومن ثمء بدلا من التبيئة التي اشتغل بها الجابري. فضّلنا نحن الاشتغال بالتولد التاريخي. انظر: محمد عابد 
الجابري» المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد. ط 2 (بيروت: مركز دراسات 
الوحدة العربيةء 2000)» ص 10-9 . 


376 


فإن الغالب عليها كان الموقف الديني الذي يرد كل شيء إلى الله» ويفتش عن 
حكمه في النوازل. ونظن أن هذه الفئة والممارسة التي نسبت إليها بقيت بعيدة عن 
الوظيفة التاريخية للمثقف كما بتّناها سابقًا. 


غير أن هذا التقرير لا يعني خلو الحضارة الإسلامية ممن فكروا في الدنيا 
وشأنها؛ بل على العكس من ذلك» وُجد إلى جانب الفقهاء بعض «المعرفيين» 
الذين استندوا إلى العقل؛ واستبد بهم التفكير في المصير الدنيوي بدلا من المصير 
الأخروي. غير أنهم لم يخاطبوا الجمهورء ولم ينافسوا الفقهاء في هذا الباب» 
وبقيت آراؤهم وعلومهم محجوبة عن العموم. الأمر الذي فوّت على الحضارة 
العربية فرصة حقيقية لظهور المثقف؛ وتكوّنت هذه الفئة بالدرجة الأولى من 
الفلاسفة 092 


إن التحول الجوهري الذي حصل في العالم العربي مع حلول «عصر 
النهضة» من الناحية المعرفية؛ هو التحوّل من الانشغال بالبحث عن مرضاة 
الله - فحسب - الذي تفقد حياله الانشغالات الأخرى أخلاقيتهاء إلى الانشغال 
بالنهضة والإصلاح الذي تُرجم إلى مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالرغبة الملحة 
في تحقيق الارتقاء بالحياة الدنيوية الفردية والجماعية وتذليل صعوباتها*". 
فالمثقف في العالم العربي» أكان من جهة ظهوره أم تطورهء هو انعكاس مباشر 
لسؤال النهضة والإصلاح» وتجسيد لمقدار الانشغال بالأسئلة الزمنية. وجعلته 
هذه النشأة وجهًا لوجه آمام الفقيه الذي كان يحتكر التوجيه العام» ودخل معه في 
أحيان كثيرة في صراع حاد وقوي» على خلفية شرعية مخاطبة العموم ومضمون 
الخطاب. فمفهوم الفقيه - والصورة التي يحملها عن نفسه وعن الإسلام الذي 
يعد ناطقًا باسمه - لا يتيح للمثقف فرصًا حقيقية للعمل؛ وفي هذا السياق» اتهم 


(13) ناقش علي أومليل هذه الجدلية في تاريخنا العربي» ودلل بالملموس على أن العالم كلما أوغل 
في العلم» زاد بُعدًا عن المجتمع وعزلة عنه؛ بينما الفقيه هو الوحيد الذي حافظ على صلة معينة بالمجتمع؛ 
ومن ثم ما يسمى امثقمًاه في التاريخ العربي غير دقيق. . اتظر: أومليل» ص 227. 

(14) في بحثه #المثقفون في الحضارة العربية4» غفل الجابري عن البعد التاريخي في مفهوم المثقف؛ 
فهو ليس من قبيل المفاهيم النظرية المجردة» بل هو في جوهره وصف لعملية تولد وانيثاق تاريخيء ولا عبرة 
بالتعميمات التي حصلت لدى الغربيين من هذه الناحية» من قبيل ما قام به جاك لوغوف في شأن «المثققون 
في العصر الوسيط»؛ وإن كنا نلمس قدرًا من الدقة في ما قام به» حيث عَدَ المثقفين غير رجال الدين. 


377 


عدد من المثقفين بالفساد والانحراف والكفر والزندقة ة أحيانًا9). وتحضرنا في 
هذا السياق حملات التشويه والنقد الجارح الذي تعرض له عدد من المثقفين في 
العالم العربي في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين» بمن فيهم أولئك الذين 
جاءوا من الفقه إلى الثقافة. ومن أهم هذه الحملات ما تعرّض له رفاعة الطهطاوي 
وعبده والأفغاني وقاسم أمين ولطفي السيد وطه حسين من طرف عدد من الفقهاء 
ومن ساروا على نهجهم". وفي المقابل» اتهم الفقهاء بدورهم من لذن المثقفين 
بالرجعية والتقليد والظلامية ...إلخ» وعَدوا عقبة في وجه النهضة والتقدم وعجلة 
من عجلات التأخر التي تجر نحو الماضي”'. 

إن التيارات الإصلاحية العربية الحدائية (ليبرالية واشتراكية...) فى جوهرها 
من أثر عمل المثقفين» ومن التداعيات المباشرة لنشاطهم؛ إذ ساهم بعضهم 
مساهمة مباشرة في تأسيس أكثرهاء ولم يكن يُتّصور قيام أحزاب وأيديولوجيات 
حداثية في العالم العربي في غياب المثقف. ومن أهم المثقفين العرب الذين كان 
لهم أثر بارز في هذه اللحظة التأسيسية رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال 
الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ولطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى 
وفرح أنطون ...إلخ. 


(15) أف عدد من الأعمال التي أشارت إلى هذا الصراع بين المثقف والفقيه؛ منها كتاب: خالد 
زيادة» الكاتب والسلطان: من الفقيه إلى المثقف (بيروت: الدار المصرية اللبنانية» 2013)) ويحيى محمد. 
القطيعة بين المثقف والفقيه: جوانب القطيعة بين البنيتين العقليتين: المثقف الدينى والفقيه (الدار البيضاء: 
أفريقيا الشرق» 2001). | 

(16) انتقد محمود شاكر بعنف الجهد الإصلاحي لرفاعة الطهطاويء وعدّه ترجمة لإرادة الأعداء 
والمستشرقين الذين كانوا يتربصون بالأمة. كما نقل سيد بن حسين العفاني في كتابه أعلام وأقزام في ميزان 
الإسلام نصوص عدد من الفقهاء والتقليديين الذين عاصروا الأعلام المذكورين أعلاه» التي تشكك في 
صدق هؤلاء المثقفين وصوابهم وتتهمهم بالتواطؤ مع الأعداء وتسفه أفكارهم: سيد بن حسين العفاني» 
أعلام وأقزام في ميزان الإسلام (جدّة: دار ماجد عسيري» 2004(. 

(17) وجه علي حرب نقدا لاذعًا للمثقفين العرب» وبين عجزهم وهامشيتهم» واحترافهم السلبي 
للنقد. وفي سياق موضوعناء لفت - ربما من دون أن يقصد ذلك - إلى أزمة الهوية التي عاناها هذا site‏ 
التي جعلناها فرضيتنا في هذه الدراسة؛ وذلك حين قوله: #إنهم يرون العلة في الواقع لا في الأفكار» أو في 
أنماط الفهم» أو في طريقة التعامل مع الحقائق؛؛ ما جعلهم أصحاب مقولات متحجرة» ويسعون دائمًا إلى 
قولبة الواقع بحسب أطرهم النظرية ...إلخ. انظر: حربء أوهام النخبة» ص 43. 


378 


تكوّنت طبقة مثقفي الحداثة في العالم العربي في بدايتها - بالدرجة الأولى - 
من مجموعة من أساتذة الجامعة بعد تأسيسها وعدد من الكتاب والباحثين 
والصحافيين الذين تميزوا بحس نقدي واضح» ظهر في ممارساتهم المختلفة» ولا 
سيما في المقالات الصحافية والكتب والمنشورات التي كانوا يصدرونها؛ وظهر 
أيضًا في المحاضرات التي كانوا يقدمونها إلى الجمهور. ومن ثم» يمكن تعريف 
المثقف الحداثي العربي على النحو الآتي: إن مثقّف الحداثة العربي من الناحية 
الوظيفية ينتمي إلى قطاع الإنتاج الرمزي (جامعيون وصحافيون وكتاب وفنانون 
وسينمائيون Gall...‏ وهو من النتائج المباشرة لنازلة النهضة والحداثة العربية؛ 
وهو أيضًا صاحب موقف ووجهة نظر إصلاحية/ زمنية» لا يتردد في التعبير عنهاء 
سواء من خلال المقالات أو الحوارات أو العرائض والبيانات ...إلخ؛ ولا يُفوت 
أدنى فرصة لذلك» هاجسه الأساس التقدم. وهو من هذه الناحية يختلف عن 
الفقيه المهجوس us sl‏ ويستند إلى العقل بوصفه مصدرًا للمعرفة. وجعلته 
هذه الخصائص تطبيقيًاء ومن الناحية العملية ميالا إلى العلمنة والتغريب. 


لا يخفى أن هذا التعريف أو التوصيف يجعل من مثقف الحداثة في نهاية 
المطاف صاحب وجهة نظر أو أيديولوجياء ورسالة أخلاقية قائمة على الالتزام 
والنزاهة الفكرية وأخلاق الشرف ...إلخ» ومن لم يتحقق من هذه الصفة لا 
يجوز إلحاقه بفئة المثقفين» وإن امتهن بعض المهن الثقافية» كالبحث والتدريس 
والصحافة والفن ...إلخ. ومن ثم» واستحضارًا لما سبق: إن أزمة الهوية التي 
يعانيها مثقف الحداثة العربى» التى نخصّها بالدراسة فى هذا البحث ويتجلى 
جانب مهم منها في هذا التعريف» يمكن تفصيلها على النحو الآني: 

- الولادة المغتربة: يتجلى بعض أزمة المثقف فى الوطن العربى فى نشأته 
url‏ فالمثقفت كما حاولنا تعريف سياق تولده» ليس «مولودًا A tes‏ 
التاريخ العربي» بل هو نتيجة المثاقفة المتأخرة مع الغرب الحديث» وأثر مباشر 
لسؤال الحداثة في العالم العربي» الذي لم يكن سؤالا محليًا ناتجًا من الدينامية 
التاريخية الذاتية» بل تولد من واقعة الصدمة مع الغرب التي أحدثتها جيوش نابليون 
(1798) واحتلال الجزائر (1830) وحربًا إسلي (1844) وتطوان (1860) في 


379 


المغرب... وتعد العلاقة المتوترة بين الفقيه والمثقف بشكل عام في العالم العربي 
من أثر هذه النشأة. 

- ضعف منسوب الأصالة الثقافية: تجلت أزمة هوية المثقف أيضًا في نقص 
منسوب الأصالة في أجوبة كثير من المثقفين العرب وأطروحاتهم» الذين لم يهتموا 
بالاعتراضات الدينية والتحفظات الثقافية التي كانت تُواجه بها أعمالهم وآراؤهم» 
ولم يبذلوا جهذا معتبرًا للتوفيق بين دعواهم الإصلاحية والنهضوية؛ والمضمون 
الديني والثقافي للمجتمع العربي؛ ولا سيما في بعده الإسلامي؛ ما جعل كثيرًا 
منهم يتجلون للعموم في صورة جماعة عَلمانية وتغريبية وإلحاقية ...إلخ» تدعو 
إلى فصل الدين عن الحياة العامةء ونياتها غير طيبة تجاه الخصوصية الحضارية. 

- تنازع الشرعية بين الفقيه والمثقف: إن أزمة الهوية هذه التي يعاني تبعاتها 
مثقف الحداثة فى التجربة العربية الحديثة» وبالنظر إلى الحيثيات المحيطة بهاء 
جعلت المثقف والفقيه في تزاحم وتنافس دائمين» يتنازعان السلطان على العموم؛ 
فالأول يربطه بالدنياء والثاني يربطه بالله. بل وفي كثير من الحالات» وجدنا الفقيه 
يحاكم أعمال المثقف وإنتاجاته ويحكم عليهاء والعكس صحيح. ولا يخفى أن 
هذا التنافس في عمقه عكس علاقة غير ودية بين الطرفين» ما فتئت أن تحوّلت إلى 
علاقة سلبية بين معظم المثقفين و«ممثلي الإسلام». 


في سياق هذا التنافس والصراع» نجح مثقف الحداثة العربي في كسب 
جمهور عريضء ونجح في التأثير في اتجاهاته وآرائه؛ ود رن معظم هذا الجمهور 
من فثة المتعلمين» خصوصًا من خريجي الجامعات والمتصلين بالوسائط الثقافية 
الحديثة من صحافة ونشر ...إلخ» الذين يقطنون الحواضر. وفي المقابل» عجز 
عن الوصول إلى الأغلبية التي لا تعرف الكتابة والقراءة» وتعمر البوادي وطرمًا 
عظيمًا من الحواضر؛ هذه هي الأغلبية التي بقيت خاضعة لسلطان الفقيه. 

إضافة إلى ذلك» لم ينحصر الصراع بين الفقيه ومثقف الحداثة في العالم 
العربي» الذي يجد مبرراته في حيثيات التولد التاريخي للمثقف العربي» في 
المستويات الفوقيةء وفي أروقة المدرجات الجامعيةء وفي أعمدة الصحف ...إلخ» 
بل تجاوزها إلى المستويات التحتية؛ إذ انتقل إلى المجالين الاجتماعي والسياسي» 


380 


وتطور إلى صراع بين التيارات الإسلامية التي أمّها الفقيه» والتيارات الحدائثية التي 
أنها المثقف29. ١‏ ا 

إن هذه الأزمة العميقة التي عاناها المثقف الحداثي في العالم العربي» في 
أبعادها الثلاثة» التي نسميها في هذه الدراسة أزمة الهويةء لم تنجح الأيام في حلها 
أو تسوية معضلاتها؛ إذ لا يزال الفقيه قادرًا على إلحاق الهزيمة بالمثقف في كل 
موقف أو مناظرة تجمعهما؛ ومن ثم» قادرًا على تجريده من شرعياته الأخلاقية 
ووسائل تأثيره» الأمر الذي يدعو مثقف الحداثة في العالم العربي إلى مراجعة 
علاقته بمعطيات الهوية وفي مقدمها الإسلام» والتخلص من ضعف النشأة الذي 
تسببت فيه حالة الاستلاب التغريبي» والصلة غير المتوازنة بالتجربة الغربية. 

إن ما لا شك فيه هو أن أزمة الهوية هذه التي عاناها مثقف الحداثة في العالم 
العربى» مفهومًا ووظيفة» وفى امتداداتها الاجتماعية والسياسية» كانت أحد 
العوامل الرئيسة التي أثرت في دوره ومكانته في الربيع العربي. 


ثانيًا: مثقف الحداثة فى سياق الر بيع 
مظاهر تفشي أزمة الهوية 


نعني بالمثقفين في سياق الربيع العربي نخبة من أصحاب «الحرف 
الفكرية» أو الرمزية الذين شاركوا فكريًا في «الربيع العربي» بالتوجيه والنقد. من 
خلال تصريحاتهم وحواراتهم ومقالاتهم ومنشوراتهم ol...‏ وتتكون أساسًا 
من جامعيين ومفكرين وكتّاب الرأي وصحافيين وفنانين وسينمائيين ونجوم 
تلفزيون ...إلخ. وإذا كان لا يتوقع أحد من المثقفين نزولهم إلى الشوارع وقيادة 
التظاهرات والفاعليات الاحتجاجية. ولو أن بعضهم قام بذلك» فإن المتوقع 
منهم - بالدرجة الأولى - تأطير الشارع ثقافيّاء ودفعه إلى الأهداف التقدمية التي 
يتطلع إليها. 

lis 33 (18)‏ الصراع أحد مظاهر أزمة المثقف العربي بوصفها إنتليجنسيا معزولة» تحمل هم 
التغییں تكونت في سياق الاحتكاك بالغربء والأخذ من ثرواته المعئوية. وانتبه عبد الله العروي إلى هذه 
الأزمة في مقالة قديمة؛ انظر: العرويء ثقافتنا في ضوء التاريخ. ص 179-171 


351 


CA Gr GI Ho 4 dat 320) RAD بين يدي هله‎ 

الأسئلة الآتية: ما موقع مثقفي الحداثة العرب من الربيع العربي؟ وكيف تطور 
موقفهم من الربيع العربي؟ وما خلفيات هذا التطور؟ وأين 5 تجلت أزمة هوية 
المثقف الحداثي في سياق الربيع العربي؟ pe Le‏ الشر ور À D Cm ot Vi‏ 
هذه الدراسة تقديم الجواب الشافي عن هذه الأسئلة/ الإشكالية» واستقصاء حقيقة 
دور مثقف الحداثة بدقة وتفصيل؛ ؛ لأن ذلك يتطلب - ببساطة - بحمًا سوسيولوجيًا 
وثقافيًا عميقًاء لا ندذعيه. غير أننا نروم في المقابل تقديم دلائل على التوتر الذي 
ی علاقة الشارع بالمثقف الحداثي وتفسيرها انطلاقًا من الفرضية الأساس التي 
تقود عملنا فى هذه الدراسة» وهى أزمة الهرية التى يعانيها المثقف العربى» وذلك 

استنادًا إلى مجموعة من النماذج المختارة التي تعبّر عن حساسيات ثقافية مختلفة. 


تجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن موضوع المثقفين العرب والربيع 
العربي شغل عددًا من المفكرين؛ وكان موضوعًا لعدد من المقالات والدراسات 
والحلقات النقاشية؛ من أهمها الحلقة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية 
في بيروت في 29 أيار/ مايو 2013. ولعل الغاية الرئيسة من هذا الاهتمام الواضح 
بموضوع «المثقف والربيع العربي» أكان من المؤسسات الثقافية أم الأشخاص 
هي الرغبة في رفع اللبس الذي اكتنف موقف المثقف ودوره في لحظة الربيع» 
تقريبًا التى تؤطر عملنا فى هذه الدراسة. 

اندلعت حوادث الربيع العربي في نهاية عام 2010» وتطورت بالتدريج من 
الناحيتين الكمية والنوعية لتلمس أهم البلدان العربية بدرجات وأشكال متفاوتة 
ويمكن التمييز في هذا السياق بين لحظتين فارقتين في فاعليات الربيع العربي: 

- لحظة الانطلاق والوحدة: تميزت هذه اللحظة بثوران الشارع» وتداخل 
المناكب والأكتاف في الميادين؛ لافرق بين إسلامي وحداثي إلا بالصمود والنضال. 
واستغرقت هذه اللحظة معظم الوقت» وإلى سقوط الرؤوس الكبيرة ة للأنظمة: :زين 
العابدين بن علي في تونس (14 كانون الثاني/ يناير 2011) وحسني مبارك في 
مصر (11 شباط/ فبراير 2011)» ومعمر القذافي في ليبيا (20 تشرين الأول/ 
أكتوبر 2011). وكانت الشعارات الأساسية التي طغت في الميادين» وصدحت 


382 


بها الحناجر في هذه اللحظة شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية» ولم 
تبرز فى هذه الفترة شعارات ذات بُعد طائفى أو مذهبى ضيق. وتكوّنت عَظمة 
الشارع الثائر في هذا الطور من الشباب بمستوياتهم التعليمية المختلفة. 


- لحظة الوعي والتمايز: نعني بها اللحظة التي بدأ فيها التفكير في المستقبل» 
وأنموذج الدولة التي ستخلف أنظمة الاستبداد في العالم العربي» واتسع النقاش 
في شأن الأولويات والمرجعيات الكبرى لعملية الإصلاح؛ إذ بدأ الفرز في 
صفوف الثوار وظهر التباين في المواقف والتوجهات. وتعد واقعتا الدستور في 
مصر (2012) وتونس (2014-2013) عتبة هذه اللحظة الجديدة. 


أمسى في هذا الطور استعمال أوصاف وألفاظ من قبيل الإخوان والسلفيين 
والإسلاميين والليبراليين واليساريين أو التيارات المدنية... وما إليها من الأوصاف 
ضروريًا للحديث عن الفاعليات السياسية للشارع. وإذا كانت هذه الخلافات قد 
نشأت في البداية صغيرة وضعيفة» غير أنها ما فتئت تكبر وتتصلب مع مرور الوقت 
وتوارٌّد الإشكالات والقضاياء إلى أن أمسى الشارع العربي قبيل «الانقلابات» 
منقسمًا بين تيارين رئيسين: تيار إسلامي يقوده عدد من القوى والأحزاب 
الإسلامية؟ وتيار مدني تقوده مجموعة من القوى والأحزاب المدنية. وكان لنتائج 
الاستشارات والتجارب الانتخابية المبكرة التي شهدتها تونس ومصر أثرٌ قويّ 
في تغذية هذا الانشقاق وترسيخه؛ إذ أبانت بصورة لا لبس فيها عن ميل الشارع 
العربي ميلا واضحًا إلى القوى الإسلامية والتقليدية. 


عرف موقف مثقفي الحداثة العرب من الربيع العربي» وتبعًا للتطورات التي 
عرفها هذا الأخير بين اللحظتين» هو الآخر تقلبًا واضحا؛ ففى اللحظة الأولى 
اعترف مثقفو الحداثة بشرعية مطالب الشارع؛ وأوّلوها بصورة إيجابية» وظهر 
ذلك في مقالاتهم وحواراتهم؛ غير أن هذه المواقف سرعان ما تغيرت وطرأ 
عليها تحوّل جوهري في اللحظة الثانية» بعدما تمايزت صفوف الثوار (إسلاميون 
ومدنيون)» وبعدما أظهرت الاستشارات الأولى رجحان كفة المحافظين على 
غيرهم مع ما تُكئفه هذه الحقيقة في ذاتها من مخاوف ومحاذير للتيار المدني“. 


(19) من أهم الأسماء التي ظهر عليها هذا التقلب بوضوح عبد الإله بلقزيز ويوسف زيدان وعلاء = 


383 


إن الذي يعنينا أكثر في هذه الدراسة هو مواقف المثقفين وأدوارهم في 
اللحظة الثانية؛ المثقفون الذين اضطر عدد منهم إلى الانفصال عن الربيع العربي» 
والتبرؤ من استحقاقاته ونتائجه؛ وتعنينا أكثر - من زاوية فرضية هذه الدراسة - 
الأسباب العميقة لهذا الانقلاب. 


تبدأ مشكلة هؤلاء المثقفين مع الربيع العربي في طوره الثاني من التسمية*» 
حيث تحفظ كثير من أعلامه على تسمية الحراك الشعبى الذي عرفته البلدان 
العريية وييقاء وكحاشر | ألما وصفه الفرزة؟ وذلك رما لنا عة اة 
والوصف من قيم وأحكام توحي بإيجابيته. وفي هذا السياق» ابتدعوا تسميات 
جديدة من قبيل «الانتفاض العربي»» وغيرها من التسميات*. فالربيع مثلاء وفي 
العادة يعقب الشتاء بقساوته وبرودته» غير أن ما شهده العالم العربي في نظر هؤلاء 
يدعو إلى الشك؛ ويتساءلون: هل فعلا ما رأيناه هو بشائر الربيع ونسماته الأولى؟ 
أم تُذّر شتاء أو خريف أقسى؟ ف «خطاف واحد لا يشي بقدوم الربيع»؛ كما يُقال. 


المثقفون في نعت فاعليات الشارع بالغموض والافتقار إلى النظرية©. بل 
وصفه بعضهم بالفوضى» وجعله مثالا لاستراتيجية الفوضى الخلاقة التي تقف 
وراءها جهات خارجية أو إقليمية متآمرة”؛ وهو ما يعوق - في نظر هؤلاء - 


الأسواني وسعيد بن سعيد العلوي وجورج طرابيشي. .. ولعل أبرز شهادة على هذا التقلب تصريح رضوان 
السيد في ندوة «الربيع العربي: تغبير اجتماعي انتفاضة على السلطة» التي نظمها مركز فارس في لبنانء قاتلا: 
«إن معظم المثقفين القوميين واليساريين كانوا يركّزون على الإصلاح الديمقراطي والصراع مع الأصوليين» 
لذلك ترددوا عندما حصل التغيير ثم أصبحوا عمليًا ضده». 

(20) نعني بالمثقف في الفقرات التالية مثقف الحدائة؛ ولا حاجة إلى تكرار هذه الإضافة حيثما ورد 
لفظ المثقفء إلا عند الضرورة. 

(21) سعيد بنسعيد العلويء العدالة أولًا: من وعي التغيير إلى تغيير الوعي. سلسلة الكتاب الجامعي 1 
(الرباط: جامعة محمد الخامس - منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانيةء 2014)» ص 27» محمد نور 
الدين أفايةء «المثقفون العرب والربيع العربي: تحليل أداءة» المستقبل العربي» العدد 415 (أيلول/ سبتمبر 
3 ص 113. 

(22) العلوي» ص 47 و105. 

(23) انظر مداخلة د. عبد الإله بلقزيز في: «المثقفون العرب والربيع العربي: تحليل أداء؟» المستقبل 
العربي» العدد 410 (أيار/ مايو 2013)» ص 122» في: http//bit.Ay/1YVkdo3.‏ 


384 


تحقق أهداف الإصلاح والتقدم. ولا يحتاج المتابع إلى ذكاء خاص ليكتشف 
أن المقصود بالوضوح النظري لدى هؤلاء هو الانتساب إلى إحدى الخانات 


الأيديولوجية والنظرية المعروفة: الليبرالية أو الاشتراكية أو «الحداثية» بشكل 
عام. 


تالت RP ee ere‏ 
(جذرية مطاليه التي مب dl cute‏ النظام)» في خيبة أمل كبرى لعدد من المثقفين» 
ووضعهم في مواجهة حقائق العزلة وضعف التأثير. ودفعتهم هذه الحال إلى تأويل 
الواقع تأويلًا مرياء وأرجعوا صلتهم الباهتة بالحراك الثوري إلى أزمة أعمق» هي 
أفول الأيديولوجيات العربية الكبرى (ليبرالية واشتراكية وقومية ...إلخ)» التي 
عنها صدرت أزمة المثقف29©. 


إن مخرجات الربيع العربي المبكرة» والإرهاصات التي عبر عنها في 
طوره الثاني كانت وراء الشك والارتياب الذي يم على هه مثقفى الحداثة العرب 
بعد العام الأول من عمر الربيع؛ ولا أدل على ذلك الشواهد الكثيرة التي قدّمها 
هؤلاء المثقفون» المحتفية بالربيع العربي في بدايته والممتدحة له ورأت فيه 
فرصة لالتحاق العرب ا ا ومن ثم الانتماء إلى 
التاريخ. وتصديقًا لهذا الموقف. كتب رموز هذه الجماعة من المثقفين عددًا مهما 
مق اللات الغا ي معان الا الي وتات وجرا وتجاور 
بعضهم النظر إلى العمل ونزل إلى الشوارع وشارك الشباب وقائعهم الاحتجاجية 
وملاحمهم الميدانية. 


ونّقت يوميات الثورتين المصرية والتونسية حضور عدد من هؤلاء المثقفين. 
ومن أبرز الأسماء التي تؤرخ بكتابتها ومواقفها منحى العلاقة بالثورة منذ انطلاقتهاء 
الكاتب المغربي عبد الإله بلقزيز من خلال كتابه ثورات وخيبات: في التغيير 
الذي لم يكتمل بعد الذي واكب من خلال مقالاته الثورات العربية في تموجاتها 
المختلفة» وانتهى بعد شهور من المتابعة والتحليل إلى تدوين عبارات الخيبة 
والإحباط؛ ففي نظره. إن ملايين الشباب الذين ثاروا في الميادين» طالبين راغيين 


(24) المرجع نفسه» ص 34. 


في الدولة المدنيةء ودولة الكرامة والحريات» لم يصلوا إلى مُرادهم؛ وصبت نتائج 
الانتخابات التي فرضت بشروط الثورة في مصلحة قوى ليست حليفة للشباب» 
وتنظر بريب وشك إلى مطالبهم؛ وتتكوّن معظم هذه القوى من إسلاميين*. ومن 
ثم» ما دامت هذه هي مخرجات الصناديق» فالربيع العربي ليس حركة تقدمية في 
تاريخ العرب» بل على العكس من ذلك هو انتكاسة. 

من الأمثلة الشرقية في هذا الباب» نجد الكاتب والروائي يوسف زيدان الذي 
يُعد كتابه فقه الثورة شهادة صادقة عن تموجات علاقة المثقف الليبرالي بالربيع 
العربي» حيث احتفى زيدان بالثورة المصرية؛ وعدّها نقلة تاريخية نوعية» وساهم 
بقلمه في توجيه الحراك من خلال مقالاته المتعددة في جرائد الأهرام والوطن 
والمصري اليوم» وغيرها من الصحف. ,غير أن اللافت في موقفه هو انحيازه في 
النهاية إلى «الانقلاب على مرسي»» وتنكره للقيم الثورية التي كان يُنظر إليهاء وفي 
مقدمها قيمة الديمقراطية؛ إذ عد الإسلاميين غير جديرين بقيادة الدولة المصرية» 
ولا يمكن أن يكونواء بالصورة التي هم عليهاء طرفًا في العملية الديمقراطية» 
ولاسيما بعدما تحولت الثورة إلى فورة. وذهب بعيدًا في هذا المضمار حين 
اعترض على المبدأ الديمقراطي في مصر الثورة؛ إذ رأى أرض الكنانة غير 
es‏ - أصلا - للديمقراطية» نظرًا إلى انتشار الأمية والجهل وغير ذلك من 
السلبيات...**. وشابهه في هذا الموقف صديقه الروائي علاء الأسواني الذي 
كان يطلب من الثورة شيئًا آخر غير الذي انتهت إليهء فانقلب عليها”*. 


إن مثل عبد الإله بلقزيز ويوسف زيدان وعلاء الأسواني كثر» خصوصًا 
في الحالة المصرية؛ فيهم جامعيون وكتاب وصحافيون وفتانون ...الخ حيث 


(25) عبد الإله بلقزيزء ثورات وخيبات: في التغيبر الذي لم يكتمل (بيروت: منتدى المعارف» 
2؛» ص 306-305. 

(26) يوسف زيدانء فقه الثورة (القاهرة: دار الشروق» 2013)؛ ص 12416 1935 

(27)إن صفحة يوسف زيدان على الفيسبوك مليئة بالدلائل والشواهد التي تثبت تورطه في «الانقلاب 
على الديمقراطية»؛ ولعل دوافعه كما شرحها ونشرها في مقالة له كتيها بعد تولي مرسي الرئاسةء وأعاد 
نشرها قبيل الانقلاب عليه بأيام قليلة» يمكن إجمالها في استسلام الرئيس للمذهبية» واستسهال الأمور 
والمركزية ...إلخ. وأثبتت الأيام في ما بعد أن هذه الدوافع وهمية غير حقيقية. انظر: يوسف زيدان, «الأسئلة 
التأسيسية (7/ 6( :هل يقع القرعون الجديد في ثالوث سقوطه؟؛. المصري اليوم» ,: http//bit.1y/1 Vw4Hx7.‏ 


386 


أركسهم الخوف والدوغمائية الفكرية والأيديولوجية» وطوح بهم بعيدًا عن واحة 
الديمقراطيةء ورمى بهم في الثكنات» حيث رائحة البارود تزكم الأنوف. 


من منظور الفرضية الأساس في هذه الدراسة» ترجع العلاقة المتوترة بين 
الربيع العربي في طوره الثاني» وهذا الفريق من المثقفين» إلى أزمة الهوية المزمنة 
التي يعانيها المثقف العربي الحداثي في أبعادها المختلفة» خصوصًا في بعدّيها 
الرئيسين: ضعف منسوب الأصالة في تصوراته» وصراعه القديم والمتجدد مع 
الفقيه؛ وكلاهما من أثر التباسات النشأة كما أسلفنا القول» ويمكن بيان ذلك على 
النحو الآتي: 


- ضعف منسوب الأصالة: كان هاجس المثقفين العرب الذين تحمّظوا 
على الربيع العربي ابتداءً أو انتهاء» الأساس في تعاقب الليل والنهار في فصل 
الربيع هو التفتيش عن حظوظهم الفكرية والثقافية التي يحبل بها الربيع» وينتظر 
ولادتها في المستقبل. ومن ثم» لم يكن هاجسهم حفظ التنوع وصون الاختلاف 
وتأطيرهما ثقافيًا بما يحقق سلامة الوطن والمواطنين» والاستثناف السريع لوتيرة 
الحياة العادية التي تتحقق معها شعارات الثورة من عدل وكرامة وحرية. ففي نظر 
هؤلاء؛ تُمقّل المخرجات السياسية للربيع العربي ردة حضارية وعودة إلى الوراء؛ 
تهدد جل المكاسب التحديثية التي حققها العالم العربي على الصعد الاجتماعية 
والسياسية والثقافية؛ ومن ثم» وجب التصدي لهذه المخرجات والعمل بقوة 
وبالوسائل المتاحة كلها من أجل وقف زحف التقليد. ولا يخفى أن هذا النظر هو 
نظر أيديولوجي بامتياز» لا يكن ودا للمرجعيات النهضوية غير الحداثية والدينية 
تحديدًاء ولا يقدم تسوية مُرضية لإشكالاتها في إطار الدولة الحديثة من ناحية» 
وأساء لعلاقاتهم بالجمهور من ناحية ثانية. 

- سيادة الفقيه: برز الفقيه بوصفه فاعلا جماهيريًا بقوة في خلال حوادث 
الربيع؛ وأبان الواقع عن الحاجة الملحة إلى وظيفته بوصفه متتججما للفتوى. وفي 
هذا السياق» سعت مجموعة من الفقهاء إلى مواكبة الربيع العربي فقهيّاء والإجابة 
عن الأسئلة الواردة عليهم من ساحات التغيير أو التي يفترضونها؛ وذلك ببيان 
«حكم الله» فيها. واستعملوا في هذا الباب منابر الجمعة والكتابة والبرامج 


387 


التلفزيونية ...إلخ. وإلى جانب هؤلاءء» وجد أيضًا عدد من الدعاة ونجوم 
الفضائيات الذين اشتغلوا على القضية نفسهاء أي تديين الحراك الجماهيري. ومن 
أبرز الأسماء التي تنوب عن غيرها في هذا المقام؛ وكان لها دور بارز تفاعلًا مع 
حوادث الربيع: يوسف القرضاوي وأحمد الريسوني وسلمان العودة... 


إن الذين طغوا في الشوارع» وامتلأت بهم سدود الميادين المختلفة في 
العالم العربي» لم يكونوا للأسف من بينهم أتباع كثر للمثقفين» أو حتى سمّاعون 
لهم. ومن ثم» لا يتوقع منهم» والحالة هاته» الاهتداء بمواعظهم الفكرية والسياسية 
والسير بتعاليمهم؛ بل كان لهم أئمة آخرون. يأتمرون بأمرهم» وينتظرون أفكارهم 
ويتلقفون أقوالهم (الفقهاء). 

من الأمثلة التي يحسُّن ذكرها في هذا المقام, التي تُبرز بجلاء دور الفقيه 
وتقدمه على المثقف في تأطير فاعليات الحراك الثوري» مثال الفقيه أحمد 
الريسوني الذي تكتسي أعماله دلالة» خصوصًا من هذه الناحية؛ إذ انصب جهده 
على رفع التناقض بين الإسلام ومقتضيات الثورة والتحديث المتمثل بعضها في 
التظاهر والديمقراطية والقبول بالآخر وتأصيل الحريات ...إلخ. وفي هذا الصدد. 
يقول أحمد الريسوني في مقدمة كتابه فقه الثورة: «في بداية شهر شباط/ فبراير 
71 اتصل بي شاب مصري من ميدان التحرير بالقاهرة» وقال لي أسعفونا يا 
مولاناء اكتبواء تكلمواء فقد هجمت علينا فتاوى بعض الشيوخ السلفيين وبعض 
فقهاء دار الإفتاء» فأحدثت بلبلة في صفوفناء بما تنادي به من تحريم للتظاهرات 
والاعتصامات» وتحريم للخروج على النظام» ووجوب طاعة ولي الأمر. ووو...» 
فعكفت في تلك الليلة على كتابة مقال - أو فتوى - بعنوان: #وجوب عزل الرئيس 
المصري ومحاكمته»*؛ ولم أنم ولم أسترح حتى أنهيته وأرسلته». ولم تكن 
هذه المقالة الوحيدة التي كتبها الريسونى في هذا الباب» بل أتبعها مقالات أخرى 
تذهب في اتجاه دعم الثورة وترشيدها.  ١‏ 


(28) أحمد الريسوني» فقه الثورة: مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي (بيروت: منشورات مركز 
«les‏ 3 )»ص 8. 


الذي يهمنا في هذا المثال» ليس محتوى الكلام أو المقالة» أو قضايا باقي 
المقالات التي كتبها الريسوني في سياق تفاعله مع حوادث الثورة المصرية 
وتطوراتها وسائر الثورات العربية؛ لكن المهم عندناء والبالغ الدلالة هو هذه 
الصلة الوثيقة التي نشأت بين الميدان والفقيه» كما تجسّدت في شخص الريسوني» 
ومن قبله في شخص القرضاوي» ورهافة الحس التي تعامل بها جانب مهم من 
الثوار مع الفتاوى؛ فنزول الأجوبة الفقهية لبعض المشايخ» وفتاوى دار الإفتاء 
على الثوار في ميدان التحریر MS DS‏ بفتنتهم» لولا تدخل فقهاء آخرين أمثال 
الريسوني وغيره. 

إن الأزمة الهوياتية التي يعانيها قطاع مهم من المثقفين العرب تضر بوظائفهم 
التاريخية» وينشأً عنها فراغ قاتل» لا يملأه الفقيه مهما علا شأنه. فما حصل من 
ثورات وتوترات في الشارع العربي» وما تغْنّی به شباب الساحات من أناشيد 
وشعارات» وما تحمّق من تلاحم ووحدة في التظاهرات» ذلك كله مدعاة لعمل 
المثقف» ويجب أن يشكل بؤرة اهتمامه وانشغاله؛ فما حصل في أصله ليس 
نازلة فقهية» يُراد فيها حكم الله» وإن كان بعضهم آراد آن يُلبسها هذا اللبوس؛ بل 
الحاصل نازلة سياسية واجتماعية» تتعلق بالصراع من أجل دنيا أفضل» يسودها 
العدل والكرامة والحرية. بناء عليه» الفارس المفترض في هذا الميدان هو 
المثقف لا من أحد غيره؛ لكن الواقع - وللأسف - يشهد أن عصابة مهمة من 
هؤلاء المثقفين تنكرت لميدانهاء وبقي الجواد بلا فارس؛ إذ فقدوا الثقة بأدواتهم» 
واستبدلوا الأقلام والكلمات بالبنادق والرصاصء ظائّين أنهم بذلك ينقذون ما 
يمكن إنقاذه من قيم الحداثة والتقدم. 

يكرّر هذا الفريق من المثقفين الخطأ نفسه الذي وقع فيه حكام الاستبداد» وهو 
احتقار الشعوب؛ وهم بذلك يقطعون حبلهم السري بالعموم» ويختارون مغادرة 
التاريخ طوعًا؛ فالذين تورطوا في الانقلاب على إرادة الشعوب» أو تآمروا مع ما 
يسمى بالثورة المضادةء فقدوا شرعيتهم الثقافية» ولم يبق لهم من دور وموقف 
للمثقف إلا الصفة (الشكل)ء بعدما رحل الموصوف (الوظيفة). 


389 


ثالثًا: فى الحاجة إلى مثقف جديد 
إمكانية إصلاح عطل الهوية 

انطلاقًا مما سبق» يتبين لنا أن أزمة المثقف العربى كما حاولنا تجليتها من 
خلال الفقرات السابقة» ليست أزمة طبيعية من قبيل ما تعيشه بلدان كثيرة فى 
العالم غربًا وشرقاء التي ترتبط بعوامل وتطورات جديدة؛ بل هي أزمة غير طبيعية» 
يتصل بعضها بوظيفته الجوهرية التي تفترض فيه استقلالا مزدوجًا عن السلطة 
(السياسي) والجمهورء وتفترض فيه أيضًا النزاهة والشرف... ويتصل بعضها 
الآخر بتولده التاريخي غير المكتمل والمتأخر في البيئة العربية» الذي أورثه عددًا 
من العلل والأعطاب. 1 

لذا إذاكانت رسالة المثقف العربي - شأنه شأن غيره من المثقفين في العالم - 
هي التنوير» وحفز الجماعة على التقدم الإنساني؛ بكل ما تتطلبه هذه الفضيلة 
العملية من قيم واستقلال؛ فإن ما حققه المثقف العربي على هذا الصعيد على 
مدى قرن ونصف تقريبًا من العمل محكوم بالأحوال التي أحاطت به؛ ويتلاءم - 
اطرادًا - مع وضعه المأزوم بنيويًا. 

ربما لن نختلف كثيرّاء إذا قررنا ابتداءً أن الحصيلة التنويرية للمثقف العربى» 
وبالأخذ في الحسبان العوامل المحيطة بتولده وتجربته في التاريخ العربي الحديث» 
متواضعة؛ إذ لا يزال كثير من أوصاف زمن ماقبل «الحداثة» راسخًا ولصيقًا بالحياة 
الفكرية والعملية للإنسان العربي. ولعل سيد الدلائل فى هذا السياق» ما كشفت 
عنه حوادث الربيع العربي من انزلاق قوي وحاد أحيانًا نحو المحافظة والاستعادة 
السريعة ل ايوتوبيات؟ الماضي. 


إن العجز الوظيفي الذي عاناه المثقف العربي يمكن رده إلى عوامل كثيرة» 
مختلفة الجنس والطبيعة؛ غير أن أبرز هذه العوامل وأقواها تفسيرًا لظاهرة العجز 
هذه يمكن إجمالها في ثلاثة عناصر كبرى: 

- ارتباط فئة عريضة من المثقفين بالسلطة» ومراهتتهم عليها في إشاعة قيم 
التنوير والتحديث؛ إذ وجدنا عددًا من الأسماء الثقافية الوازنة في العالم العربي في 
خدمة عدد من الحكام المستبدين» ومن بطانتهم. وأفقدتهم هذه الصلة الصدقية 


390 


والتأثير» نظرًا إلى السيرة السيئة للاستبداد في العالم العربي» وتجاوزاته الخطرة في 
حق البلاد والعباد» ورعايته الفساد والظلم... فالاستنارة بوصفها مطلبًا - خلاف 
ما مارسه عدد من المثقفين العرب - كانت ولا تزال مطلبًا ملحا يعني الجمهور 
والسلطة السياسية معَاٍ غير أن المثقف العربي» ولأسباب غير واضحة» تحالف مع 
السلطة السياسية» وغض الطرف عن رجعيتهاء وركز جهده النقدي على الجمهور 
طلبًا للتنوير والحداثة» ما أفقده الصدقية والقدرة على التأثير» وجعله في صورة 
عراب للحکام. ٤‏ 


- تماهي عدد من المثقفين مع تجربة المثقف الغربيء ما أورثهم علاقة غير 
ودية مع الدين؛ وظهر هذا العيب بوضوح لدى المثقف الليبرالي والماركسي 
وبعض القوميين. فضعف النشأة الذي عاناه المثقف العربي» وبحكم ملابسات 
التولد والانبئاق» أسلمه إلى تقليد نظيره الغربي في جوهره العّلماني؛ الأمر الذي 
أدى به إلى حالة من الاغتراب الواقعي - الثقافي» وأضعف تواصله وتجاوبه مع 
الجمهورء ولاسيما بعدما ألصقت به أوصاف ويُّهم بالتغريب والإلحاد والعلمانية. 


- ثورة الإعلام والاتصال التي عرفها العقدان الأخيران؛ التي غيرت قواعد 
التواصل وقيمه جذريًا. وفى هذا السياق» تراجعت الوسائط التقليدية مثل الكتاب 
والصحيفة المقروءة» التي كان يرتع فيها المثقف» وبرزت في المقابل وسائط جديدة 
أكثر انتشارّاء وأبلغ تأثيرًا مثل الشبكات الاجتماعية (تويتر والفيسبوك ...إلخ) 
وصفحات الإنترنت ومنتدياته وقنوات السمعي - البصري... التي يغيب عنها 
المثقف أو يحضر فيها ظرفيّاء وبصورة محدودة وغير مؤثرة. 


لذاء فالمثقفون العرب الذين حافظوا على حد أدنى من التأثير في الأوساط 
الشعبية العربية» واستمروا في أداء رسالتهم التنويرية» هم أولئك الذين حافظوا 
على قدر من الاستقلالية عن السلطات السياسية والفاعلين السياسيين» وفي 
بعض الأحيان كانوا عرضة لأذاها؛ وهم الذين تخففوا أيضًا من غلواء العلمانية 
التي أصابت عددًا من المثقفين؛ وأبدعوا في هذا الاتجاه نصوصًا وأطروحات 
متصالحة مع الدين؛ وحرصوا على الحضور بشكل أو بآخر في وسائل الاتصال 
الحديثة بأنواعها المختلفة ...إلخ. وفي هذا السياق تعد سيرة عبد الوهاب 


391 


المسيري وعزمي بشارة سيرة بيضاء وأنموذجية للمثقف العربي الملتزم الذي لا 
يزال يمتلك شرعية القول والتنوير. 

بسبب هذا الضعف الداخل على المثقف من أبواب متفرقة» عاد الفقيه من 
جديد إلى مسرح الحياة؛ وزاد الطلب على الفتوى» وتزامن ذلك مع صعود الحركة 
الإسلامية وامتدادها في العالم العربي» وذلك في سياق إقليمي مضطرب» عنوانه 
العريض الإهانة والاحتقارء والاستبداد السالب للحرية. وإذا كان حضور الفقيه 
في الحياة العامة العربية ليس أمرًا معيبًا من حيث المبدأء نظرًا إلى عوامل مرتبطة 
بطبيعة الإسلام من جهة» وطبيعة المجتمع العربي من جهة ثانية» فإن المعيب في 
هذا الحضور هو توسيع سلطان الفقيه» وتعدّيه على منطقة العفو ”©!؛ إذ أمست 
أسئلة النهضة والتقدم تؤول بالتدريج إلى الفقيه» وتسحب من الحقيبة المعرفية 
للمثقف؛ هكذا وجدنا قسطا عظيمًا من العرب مهمومًا بسؤال الشرعية الدينية 
للديمقراطية مثلا أكثر من انشغاله بوعودها التحررية وكيفيات إنجازها. 


إن الثورة التي فجأت الجميع في العالم العربي» وتُنسب إلى الجميع» أي 
المجهول» جاءت تَوَجْعًا و تألم من الظلم والطغيان والاحتقار والاستئثار بالسلطة 
والثروة» وما إلى ذلك من الشرور والويلات؛ ورفعت شعارات تعد عتبة حقيقية 
للانتقال إلى التنوير السياسي والاجتماعي» وبناء مجتمع عربي مختلف. قوامه 
الحرية والعدل والكرامة والتسامح والديمقراطية. واستوعب بعض المثقفين 
العرب هذه الدلالة في الربيع العربي» ومن ثم عمل على احتضانه فكريّاء واجتهد 
في بناء الصلة به وبقواه الفاعلةء بينما رأى فيه بعضهم عكس ذلكء وكرّس من 
خلاله قطيعته عن الجماهير» وتجرد من قيمة المثقف وكفاءته التواصلية. 

من الحوادث الدالة في هذا السياق» تزايد حالات «الاستقالة» بين المثقفين؛ 
فمنذ مدة» قرأ الجميع خبر اعتزال الروائي المصري علاء الأسواني الكتابة؛ ومنذ 
مدة قريبة» طالعنا الخبر نفسه منسوبًا إلى الروائي والكاتب يوسف زيدان؛ وريما 
نطالع في ما نستقبل من الأيام والشهور أخبارًا مماثلة. فهذه الاستقالات المتتابعة 


(29) طارق آوبروء إمام قي فرنساء ترجمة سعيد بن سعيد العلوي (بيروت: جداول للنشرء 2014)» 
ص 78 و103. 


392 


التي اختار أصحابها طوعًا التوقف عن الكتابة - من وجهة نظرنا - هي إقرار بالفشل 
الوظيفي» والعجز عن التأثير في السلطة والجمهور؛ الأمر الذي أكره هؤلاء على 
التخلي عن لقب المثقف. والعودة إلى «العيادة» أو #محترف المعرفة». 

مل الربيع العربي فعا فرصة سانحة لتجديد شرعية المثقف في العالم 
العربي وبنائها التي خانتها في الماضي ملابسات التولد والالتصاق بالسلطة. ونجح 
بعضهم في هذه المهمةء حين اعترف للشعوب العربية بأصالتهاء وخفف الوطء 
عنها» حيث لم يشرط التقدم باللادينية» وحاول التوفيق بين الحداثة والإسلام... 
ولعل أبرز الأمثلة في هذا المجال عزمي بشارة الذي اعترف بحق الشعوب العربية 
في ممارسة سيادتهاء وتحمل مسؤولية مستقبلها. 


لذاء العطل الهوياتى الذي يعانيه مثقف الحداثة العربي» ليس عطلا مزمًا لا 
يمكن إصلاحه أو تجاوزه؛ بل على العكس من ذلك تؤيد مجريات الحوادث 
والوقائع أن هذا الأمر ممكن» ويرتبط بالدرجة الأولى بالتخلص مما سمّيناه 
التباسات النشأة التى لا يمكن تجاوزها إلا بإيجاد تسوية معقولة لعلاقة الحداثة 
بالإسلام في السياق العربي» تسوية تعترف بخصوصية التجربة العربية. 


هذه التسوية» كما هو واضح من وصقهاء ليست مسؤولية المثقف Sol‏ 
بل هي تسوية تاريخية واجتماعية وجماعية» تتدخل فيها أطراف متباينة» ومن 
شأن النجاح فيها إنقاذ الإسلام من آفتي العزل والاستغلال. ومن النتائج المرجوة 
لمثل هذه التسوية» إذا ما جرت على وجهها الحسن. تأطير عمل الفقيه والمثقف. 
وجعلهما في تكامل وتعاون وظيفي» بدلا من النزاع والتنافس؛ فلا وجود لأحدهما 
على حساب الآخر. 
خاتمة 

إن الأزمة التاريخية التي عاناها المثقف العربي» والتي عرضناها في هذه 
الدراسة بوصفها أزمة هوية» مسؤولة بشكل أو بآخر عن إخفاق المثقف التحديثي 


في دوره التنويري والإصلاحي وتواضع تأثيره. وإذا كانت هذه «الإعاقة الطبيعية» 
التى عاش بها المثقف فى الديار العربيةء خذلت حركته» وحدت من نفوذه فإن 


393 


أثرها في ظرف الثورات كان أكبر» وتجلى ذلك - كما أسلفنا القول - في ضعف 
تجاوب عدد كبير من المثقفين مع التطورات النوعية للحراك الثوري. والإحساس 
العميق بالخيبة تجاه الحوادث ومآلاتها 20 


أحدث تأزّم موقف المثقف مع الجمهور العربي فراعًا مهولا في المعنى» 
وغرق الناس في الأسئلة» وافتقدوا المثقفين في وقت الحاجة إليهم؛ ما وسع 
الميدان أمام الفقيه الذي وجد نفسه في مقام المثقف» وحاول ملء ء فراغ المعنى 
الذي أحدثه الانسحاب القسري للمثقفين. ومن ثمء طفحت ميادين التغيير 
بالأجوبة الدينية» ودخلت الثورة بالتدريج في نزيف دلالي بدأ يهدد رسالتها 
التقدمية والنهضوية والإصلاحية. 


إن ما حصل ويحصل في العالم العربي من حوادث جسيمة يؤكد بالملموس 
حاجة العرب إلى المثقف التنويري أو التحديثي» وافتقارهم الحاد إلى رسالته؛ 
وإن الخصومة الناشئة شئة بين المثقف الحداثي العربي وجمهوره التي انكشفت بحدة 
خلال حوادث الربيع» تُتيح للمثقف فرصة ذهبية للتخلص من إعاقته وتجديد 
شرعيته. ولعل أقصر السبل للظفر بذلك الحفاظ على استقلاليته» والتحلي 
بأوصاف النزاهة والأصالة (الإبداع)؛ وذلك بابتداع منهج في السيرء سليم يَعبْر 
به بين ممرات السلطة الضيقة بتجسيداتها المختلفة (المال والسياسة والجمهور 
والدين). 


1- العربية 
أفاية» محمد نور الدين. «المثقفون العرب والربيع العربي: تحليل أداء». المستقبل 
العربي» العدد 415 (أيلول/ سبتمبر 2013). 


(30) نستحضر في هذا السياق الأحاديث التي جرت في حلقة النقاش التي نظمها مركز دراسات 
الوحدة العربية المشار إليها سابقّاء والكتاب الذي أصدره عبد الإله بلقزيز عن هذا الموضوع في: بلقزيزء 
ثورات وخيبات. ص 21-20 و320-318. 


394 


525 طارق. إمام في فرنسا. ترجمة سعيد بن سعيد العلوي. بيروت: جداول 


للنشر» 2014. 

أومليل» على. السلطة الثقافية والسلطة السياسية. بيروت: مركز دراسات الوحدة 
العربيةء 1996. 

بلقزيز» عبد الإله. ثورات وخيبات: في التغيير الذي لم يكتمل. بيروت: منتدى 
المعارف» 2012. 


الجابري» محمد عابد. المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن 
رشد. ط 2. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 2000. 

حرب» علي. أوهام النخبة أو نقد المثقف. ط 2. بيروت/ الدار البيضاء: المركز 
الثقافى العربى» 1996 . 

الريسوني» أحمد. فقه الثورة: مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي. بيروت: 
منشورات مركز نماء» 2013. 

زيادة» خالد. الكاتب والسلطان: من الفقيه إلى المثقف. بيروت: الدار المصرية 
اللبنانية» 2013. 

زيدان» يوسف. فقه الثورة. القاهرة: دار الشروق» 2013. 

سعيد» إدوارد. المثقف والسلطة. ترجمة محمد عنانى. القاهرة: رؤية للنشر 
والتوزيع» 2006. 


العروي» عبد الله. ثقافتنا في ضوء التاريخ. ط 2. بيروت/ الدار البيضاء: المركز 


الثقافى العربى» 1988. 
العفاني» سيد بن حسين. أعلام وأقزام في ميزان الإسلام. جدة: دار ماجد عسيري» 
2004. 


العلوي» سعيد بنسعيد. العدالة أولا: من وعي التغيير إلى تغيير الوعي. سلسلة 
الكتاب الجامعى 1. الرباط: جامعة محمد الخامس - منشورات كلية الآداب 
والعلوم الإنسانية» 2014. 


ليكلرك؛ جيرار. سوسيولوجيا المثقفين. ترجمة جورج كتورة. بيروت: دار الكتاب 


الجديد المتحدة» 2008. 
«المثقفون العرب والربيع العربي: تحليل أداءة. المستقبل العربى. العدد 410 
sels / Li)‏ 2013( فى: http://bit.ly/1 Y Vkdo3.‏ 


محملد. يحيى. القطيعة بين المثقف والفقيه: جوانب القطيعة بين البنيتين العقليتين: 
المثقف الدينى والفقيه. الدار البيضاء: أفريقيا الشرق» 2001. 


2- الأجنبية 


Barilier, Etienne. «Vie de L’esprit, vie de la cité.» Revue européenne des sciences 
sociales. vol. 28. no. 87 (1990). 


Le Goff, Jacques. Les Intellectuels au Moyen Age. Paris: Le Seuil, 1957. 


396 


الفصل الثالث عشر 
المثقف العربي والوظائف المفتقدة 
في ثورات الربيع العربي 


سعيد أقيور 
تُشكل التحولات التاريخية» بحوادثها غير المسبوقة» منعطمًا استثنائيًا في 
مسار الشعوبء يُدخلها زمن الطفرات الكبرى التي تؤثر حتمًا في بُناها الفكرية 
والسياسية والاجتماعية» وتعيد تشكيل تاريخها المعاصر بتفاعلاته الإقليمية 
والدولية. وتستوي فى هذه التحولات التاريخية إمكانية تحقيق التطلعات 
المشروعةء وترجمة الأحلام العريضة إلى مخططات وبرامج واعدة؛ تشكل 
في وفت لاحق وثبة عملاقة نحو المستقبل» كما حصل في عدد من الدول 
والمجتمعات» أو إمكانية النكوص والردة والانتكاس إلى ما هو أسوأ؛ فتجهض 
الأحلام» وتفتر الإرادات والعزائم وتبدأ المراجعات المنتهية بالتراجعات ونهاية 
التفكير في جدوى التغيير. 
إن التحولات التاريخية نقلات نوعية تختزن محددات عدة بوصفها فترة 
التناقضات الحاصلة بين الآمال الحالمة والوقائع الصادمة» ولحظة بروز قيم 
مجتمعية صاعدة تعيد مساءلة القيم السائدة» ومحطة بروز نخب جديدة وتبوثها 
المشهدء وسقوط كثير من «الأسماء الوازنة» التي كانت تؤثث المجال السابق 
وتؤثر فيه» ولحظة تأسيس قواعد سياسية جديدة ومرحلة المفاوضات والتسويات 
والتوافقات العسيرة والشاقة» وزمن صوغ استراتيجيات واضحة» وخطط محددة 
المعالم» تستحضر خطورة الانتقال وتستشعر ردات الفعل المنتظرة. 


397 


بما أن التاريخ لا يسير في اتجاه خطي مستقيم» إنما يعرف انعطافات ووثبات 
وتراجعات» فالانتقال إلى وضع أفضل ليس عملية سهلة ولا سباحة حرة» إنما له 
شروطه الذاتية والموضوعية. ومن ثم يغدو التساؤل عن دور المثقفين على وجه 
التحديد تساؤلا مشروعًاء فى ظل هذه الانعطافات التاريخية الكبرى التى تمر منها 
مختلف الشعوب؛ وهي تبحث عن مستقبل يجسد أحلامها المجهضة. . 

إن التحولات والمنعطفات التاريخية الاستثنائية تحتاج إلى نخب استثنائية 
يُفترض فيها التأسيس لقطيعة نوعية مع ماض مرفوض من قطاعات اجتماعية 
واسعةء وإحياء الآمال في معانقة غد الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. . وفي 
زمن التحولات الكبرى هذه» تكون مسؤولية المثقفين كبيرة» والحاجة إليهم ملحة 
لسلطتهم المرجعية والمعرفية» ولتعزيز التطلعات المشروعة لشعوبهم» كما فعل 
مثقفو عصر النهضة الأوروبية» ومثقفو الولايات المتحدة الذين كتبوا وثيقة إعلان 
استقلالهاء من دون أن تُغفل دور المثقفين فى موجات التحرر فى أوروبا الشرقية 
وأميركا اللاتينية | | 

إن منظومة القيم» المستمدة أساسًا من المرجعية الفكرية التي يبشر بها 
المثقف» ويسعى إلى ترسيخها مبادئ موجهة لسلوك السياسي وتحالفاته 
وصراعاته» تعرضت لامتحان حقيقي في كثير من التجارب العالمية» بالتأكيد 
لن تكون محطة الربيع العربي آخرها؛ إذ تُلاحظ صدمة المثقف وانكفاؤه وعدم 
انخراطه النوعي في هذه التحولات» على الرغم مما بذره وما قدمه إلى مصلحتها 
سابقًا من مواقف أدت به في كثير من التجارب العربية إلى السجون والمعتقلات 
والتهجير وخسران كي رمن معارك الديمقزاطة والحرية؛ ذلك.عندما فلك أن 
هذه التحولات أعمق وأعقد مما كان يتصوره. وهذا من دون الحديث عن كوكبة 
من «المثقفين» قامت بدور الفرملة لتطلعات الشعوب بذريعة أن ثوراتها لم تكن 
وفق تصوراتهم ونظرياتهم. 

لا يمكن الاستفادة من التحولات التاريخية ما لم تتعاضد مجموعة من 
العوامل التي تفضي إلى البحث عن قيم التعايش والتسامح وقبول الآخر؛ الأمر 
الذي يفترض أن يرسخه المثقفون من خلال بناء منظومة قيمة مشتركة؛ أو ما يمكن 


398 


تسميته ميثاقًا أخلاقيًا؛ ويجري هذا التأسيس من خلال آليات عدة؛ من أهمها الآلية 
الثقافية وأدواتها المعرفية. 

إن للمثقف. برمزيته وسلطته المعرفية» دورًا بارزًا ومؤثرًا في دفع المسار 
السياسي والاجتماعي إلى الأمام أو تعويقه» من خلال التأثير في تركيبة المجتمع 
ومؤسساته وقيمه وأنماط سلوكه من خلال تفعيل أدواره المفترضة في التحولات 
التاريخية الكبرى» وفي مقدمها الوظيفة النقدية التي تجعل منه ضمير أمته ومرآتهاء 
خصوصًا عندما ينخرط في الشأن العام SES es‏ وليس بالضرورة تدبيرًا 
وتسييرًا. فالمثقف ليس رجل سياسة بالمعنى الدقيق للكلمة؛ لكن مرجعيته 
المعرفية هي التي تحدد طبيعة انشغاله ونوعية وظائفه وكيفية تأثيره في المجال 
السياسى. ويبقى دوره فى الأساس نقديًا؛ فهو شاهد ناقد على مايجري في مجتمعه 
من تحولات وتغیرات» لکنه نقد إيجابي يستهدف استنبات القيم والتصورات» 
وتسريع وتيرة التحولات وضمان سيرها في الاتجاه الصحيح. 


بيد أن في ظل موجات التحرر التي عاشها عالمنا العربي» مع ضرورة 
الانتباه لمزالق التعميم» يبدو أن قطاعًا عريضًا من المثقفين العرب ليس مهيئًا 
بعد للديمقراطية» وللمساهمة الإيجابية في تثوير مجتمعاتهم وتطويرهاء لا فكرًا 
ولا ممارسة؛ إذ ذ تنكر معظمهم لدوره ووظائفه فسائد الاستبداد وتمترس خلف 
«اقتناعاته الأيديولوجية»» شاهرًا سلاح الإقصاء حتى غدا معوقًا حقيقيًا أمام 
التغيير؛ وهذا ما يفوت فرصة التحول التاريخي نحو مستقبل أفضل» ويحد من 
تأثيره السياسي وفاعليته والتاريخية» ويغير الصورة النمطية للمثقف لدى العامة. 


شكل الربيع العربي أملًا لشعوب المنطقة لتعانق أحلامها في موجة متجددة - 
بعد موجات التحرر في الغرب وأميركا اللاتينية» ثم في أوروبا الشرقية - تهب 
على تاريخها المتجمد منذ قرون. لكن هذه التطلعات المشروعة سرعان ما 
اعترضها كثير من التحديات المرتبطة أساسًا بطبيعة التحولات نفسها. وضمن 
هذه التحديات تختبئ ثقافة انقسامية تحركها أسئلة الهوية ومنظومة القيم وأنموذج 
الحكم وتنازع المصالح وهشاشة النسيج الشعبي وقصور وعي المثقفين عن 
استيعاب تحديات المرحلة وهشاشة تنظيمات المجتمع المدني. 


399 


لذاء تأتي أهم القضايا التي تشتغل عليها هذه الدراسة في شأن تحديد مفهوم 
المثقف من حيث الماهية والوظائف» وصعوبة الحديث عن المثقف الفرد فى زمن 
المؤسسات التي تتولى صناعة سيئاريوات المستقبل» وتفاعل المثقفين العرب 
مع ثورات شعوبهم والارتهان للأيديولوجيا والامتيازات السياسية والمادية 
والانعكاسات السلبية على مآلات التحول التاريخي للدول العربية» والبحث عن 
آليات تسمح للمثقف العربي باستثناف أدوراه ووظائفه من خلال التأسيس لميثاق 
أخلاقي - معرفي خاص بالمثقف. 


أولا: المثقف والربيع العربي 


شكلت الثورات العربية التي انطلقت شرارتها الأولى من تونس البوعزيزي 
حدثا تاريخيًا متفردّاء ما زالت تفاعلاته مستمرة» ويطرح إشكالات متجددة عن 
مدى الاستفادة منه» ودور النخب في تحصين منجزاته أو الإجهاز على مكتسباته 
وذلك في ظل تعدد المقاربات وتضارب مصالح الفاعلين المحليين» والتأثر 
بالمعادلات التي تحكم التوازنات الإقليمية والدولية. ويفترض ذلك ابتداءً في 
التساؤل عن المثقف. عن ماهيته ووظائفه وإمكانية إعادة تحديد الحراك العربى 
لماهية المثقف العربي وأدواره. ١‏ 
1 - المثقف: الماهية والوظائف 
يؤرخ كثير من المهتمين بمجالات الثقافة والفكر لولادة مفهوم المثقف 
بحوادث محاكمة الضابط الفرنسي دريفوس في عام 1894 على خلفية مد ألمانيا 
بمعلومات عسكرية حساسة. الأمر الذي جعله متابعًا بتهمة الخيانة العظمى. لكن 
ظهور أول بيان للمثقفين في تاريخ الفكر الغربي توقعه «جماعة المثقفين» الذي 
نشر في عام 1898» في شأن قضية هذا الضابط المغمور, حوّله إلى قضية عامة 
اختلفت في شأنها المواقف. 
عرف مفهوم المثقف في سيرورته التاريخية تطورات وتحديدات متباينة؛ كما 
ارتبط بدلالات منها ما هو إيجابي» كالتعبير عن آمال الناس وتطلعاتهم من خلال 


400 


الاهتمام بالشأن العام» ومنها ما هو سلبي كالعزلة والعيش في الأبراج العاجية» 
والتماهي مع السلطة الحاكمة. وعبّر رايموند وليامز عن نظرة الإنكليز السلبية 
للمثقف بقوله: «إن الكلمات الإنكليزية التي تعني المفكرين والصبغة الفكرية 
وطبقة المفكرين كانت ذات دلالات تحط من قدرهاء وقد ظلت هذه الدلالات 
سائدة حتى منتصف القرن العشرين» والواضح أن هذه الدلالات لا تزال قائمة»". 

هذا التحديد للمثقف» وكذا الموقف منه» كان غاتجًا فى الحضارة العربية 
الإسلامية؛ ما دفع بعدد من المفكرين العرب» وفي مقدمهم محمد عابد الجابري؛ 
إلى القيام بمحاولة تبيئة هذا المفهوم داخل هذه الحضارة وتعليله» ومن ثم استنتاج 
أن «كلمة مثقف لا ترتبط في الثقافة العربية بمرجعية محددة26©!؛ الأمر الذي 
«يتطلب أولا وقبل كل شيء بناء مرجعية لمفهوم المثقف في الثقافة العربية»*» 
لأن الحديث عن المثقفين في الحضارة العربية الإسلامية يسبقه أولا «تبيئة مفهوم 
المثقف بمعناه المعاصر في هذه الحضارة؛ أي نقله إليها وإعطاؤه مضامين داخلها 
تتناسب مع المضامين التي يتحدد بها أصلًا في الثقافة الأوروبية التي منها نقلنا 
هذا المفهوم»”. واستقر رأي الجابري على أن المثقفين في العصور الوسطى 
الأوروبية هم من نتاج المثقفين في الحضارة العربية الإسلامية نتيجة معطى ثقافي 
يتمثل في ترجمة الفلسفة والعلوم من العربية إلى اللاتينية””»؛ لتصبح فئة العلماء 
والفقهاء والمتكلمين والفلاسفة (وأهل الرأي بصفة عامة)»؛ العاملين بفكرهم 
في الحضارة العربية الإسلامية» هي الفئة التي تنطبق عليها أكثر من غيرها مقولة 
«المثقفين؟. 


لكن هؤلاء العلماء ما عادوا يشكلون بمفردهم» في المراحل «aa SU‏ 


Raymond Williams, Keywords: 4 Vocabulary of Culture and Sociery (New York: Oxford (1) 
University Press, [1976] 1985), p. 170. 


(2) محمد عابد الجابري» المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة اين رشد (ييروت: 
مركز دراسات الو حدة العربية» 2000)» ص 9. 

(3) المرجع نفسه» ص 9. 

(4) المرجع نفسه» ص 10. 

(5) المرجع نفسه» ص 33. 


401 


مجموع المثقفين في الوطن العربي؛ خصوصًا بعد أن وقع التحوّل من الدراسة 
في المسجد إلى المدرسة التي أنشأها الاستعمار ابتداءً لأبناء الأعيان» وبناء نخب 
عصرية تتماشى والثقافة الوافدة. وفى عُقب الاستقلال» نهجت السلطة فى الدولة 
الحديثة آلية استتباع العلماء في الحقل التقليدي» وتعويضهم بنخب عَلمانية تتفهم 
الوضع الجديد الذي أصبحت عليه دولة ما بعد مرحلة الاستعمار. ومن ثم أصبح 
الانتماء الطبقى والرتبة الاجتماعية والموقف السياسى» معايير أساسية تحدد 
صورة المثقف وطبيعة تفاعله مع القضايا المختلفة من تفسير العالم عند هيغل» 
إلى تغييره عند ماركس؛ ليصبح هذا التغيير مع غرامشي في حاجة إلى المثقف 
العضوي الملتحم مع قضايا شعبه وهمومه وتطلعاته المشروعة؛ ثم ليتوسع هذا 
المفهوم مع بروز إشكالات وتحديات جديدة لتظهر معها صورة متجددة لهذا 
المثقف» ولينعت بالمثقف المحافظ والكونى والطائفى وغيرها من الأوصاف 
التي تصل حد التناقض. 

تتجلى القيمة الحقيقة لحادثة دريفوس في عبور المثقف مجالّه الثقافي» 
الذي يستوطنه ويعيش فيه وبه» إلى فضاء الشأن العام؛ ليتبنى وظيفة جديدة هي 
التعبير عن المجتمع؛ ليصبح ضميره وملادًا له. هكذا سيستقر مفهوم المثقف 

مع الوظائف المنوطة به» وفي مقدمها الوظيفة النقدية والوظيفة التنويرية» مع 
ا التداخل والتشابك بين الوظائف المختلفة. 

لا يستقيم الحديث عن المثقف من دون الحديث عن وظيفة التنوير ورسالة 
الوعي التي يحملها؛ فمن المهمات المنوطة بالمثقف أو المفكر محاولة «تحطيم 
قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات ”الاختزالية“ التي تفرض قيودًا شديدة على 
الفكر الإنساني وعلى التواصل ما بين البشر“؛ فهو المتتج للمفاهيم والإشكالات 
الموجهة للمشروعات الكبرى التي تسمو بالوعي لدى الناس» وتقف في وجه 
الظلم والاستبداد بأنواعه وخطاباته وأدواته كلها. ولذا ينظر كثير من الحضارات 
إلى المثقف كونه يجمع بين الإرشاد والقيادة» والتنوير والنضال؛ ففي «حضارات 


(6) إدوارد سعيد. المثقف والسلطةء ترجمة وتقديم محمد عناني (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع» 
8 ) ص 19. 


اللغات الثلاث أو الأربع التي أعرف شيئًا عنهاء يعتبر ذلك صحيعحا بشكل بارز 
وغامرء لأن هناك عددًا كبيرًا من الناس لا يزالون يشعرون بحاجة إلى النظر 
للكاتب - المثقف كشخص ينبغي أن يصغى إليه كمرشد للحاضر المربك» وكقائد 
زمرة أو جماعة تنافس من أجل قوة ونفوذ أكبرة0. وكفر سارتر بهذه المقولة بعد 
الانتفاضة الطالبية في فرنسا في عام 1968؟ فهل ينبغي لنا أيضًا أن نواري التراب 
هذه الرؤية الاحتفالية بالمثقف مع الربيع العربي؟ 


عندما يتقدم المثقف الصفوف مبلعًا رسالته» يجد الجماهير إلى جانبه مساندة 
A O‏ 
المثقف الحق المسكون بإنتاج الأفكار «يتفاعل مع أوسع جمهور ممكن» » أي إنه 
de aie eds‏ 
منه المثقف قوته. وليست مشكلة المثقف. .. هي المجتمع الجماهيري كله؛ بل 
إنها تتمثل في ذوي السلطة في داخله» أي الخبراء» وفي الشلل “ (أي الجماعات 
المؤتلفة على أساس المصالح أو الأيديولوجيا»» وفي المهنيين الذين يقومون 
بتشكيل الرأي العام نویج خی HN‏ ينشق على السلطة» وتشجيع الاعتماد 
على مجموعة صغيرة Le)‏ تزعم العلم بكل شيء وتقبض بأيديها على زمام 
الحكم. ومن وصفناهم بذوي السلطة في الداخل“ char Gi dl‏ 
خاصة. ويميز المثقف بين المجتمع الجماهيري الذي ينبغي أن تتعزز أدواره 
لينحو في اتجاه دمقرطته واللوبيات التي د تخترقه لتستفيد من منافعه. من هناء تبرز 
أهمية فهم المثقف للمجتمع المدني وأدواره الحاسمة كصيرورة دمقرطة» وليس 
كمجرد إسقاط نظام. فإسقاط النظام ربما لا يقود إلى الديمقراطية» ولا سيما إذا 
لم يتوافر لدى قوى الثورة برنامج انتقال إلى الديمقراطية؛ وإذا ما اكتفت بدور 
هو ترداد ما يردده الشارع من دونها Ai‏ وتجعله معرفته بالمجتمع المدني 
يدرك الأسباب المتعددة لضعف بنياته التي تعود أساسًا إلى حرب الدولة المستبدة 


(7) إدوارد سعيدء خيانة المشقفين: النصوص الأخيرة» ترجمة أسعد الحسين (دمشق: نينوى للتحقيق 
والنشرء 2011)» ص 282. 

(8) المرجع نفسهء ص 23. 

(9) عزمي بشارة» المجتمع المدني: دراسة نقدية (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة 
السياسات» 2) ص 12. 


403 


يترجم التصور العتيق بأساليب عصرية. ومن ثم» يجري الانحياز إلى «الشأن العام 
والتشكيك في الحقيقة الرسمية المتمثلة في السلطات أو في المؤسسات»2"96. 


لا يمكن لهذه الوظيفة التنويرية الإبداعية التي تعكس حيوية التفكير وصناعة 
الأفكار, أن تؤد تي أكلها إلا في رحاب الاجتهاد والاستقلالية وفي أجواء الحرية؛ إذ 
لا إبداع مع الاستبداد والدكتاتورية. وهكذا يلتقي المثقف مع قدره ليصبح مناضلا 
من أجل الحرية بوصفها شرطا لاستمرار رسالة التنوير» وفعلا تاريخيًا له صوت 
مسموع إبان الأزمات الكبرى والتحولات التاريخية التي تشتعل في خضمها 
الصراعات الفكرية والسياسية والهوياتية. 
إذا تخلى المثقف عن وظيفته النقدية هذه» فسيتحول إلى أداة فى يد 
«المقاولين؛: سلطة» حزبء طائفة. لذاء عليه أن يبحث عن الحقيقة ويعمل من 
أجلهاء بوصفها غاية في ذاتها وليست وسيلة فحسب يمكن توظيفها واستغلالها. 
ومن ثم يتجاوز انتماءاته المختلفة» إن وجدت. ليصبح فاعلا مؤثرًا؛ فالمتقف أو 
المفكر «شخصية يصعب التكهن بما سوف تقوم به في الحياة العامة» ويستحيل 
”تلخيصها“ في شعار محدد» أو في اتجاه حزبي ”معتمد'» أو مذهب فكري جامد 
ثابت. وحاولت القول إن علينا أن نحدد معايير الصدق 00 الشقاء 
البشري والظلم البشريء وأن نستمسك بها مهما يكن الانتماء الحزبي للمثقف 
اکر افر ہیما نکن خت قري ریما نکن رای اه شري 
يشوّه أداء المثقف أو المفكر فى الحياة العامة شىء قدر SL‏ 
0 0 أو اللجوء إلى الصمت حين يقتضيه الحرصء أو الانفعالات الوطنية: 
أو الردة والنكوص بعد حين» مع تضخيم صورة ذاته»"". 
في النسق الغربي» ما عادت المواقف النقدية للمثقفين مكلفة» بل ينال 
أصحابها الامتيازات؛ إلا أن يخوضوا في قضايا من «تابوات» الماسكين بزمام 
(10) جيرار ليكلرك» سوسيولوجيا المثقفينء ترجمة جورج كتورة (بيروت: دار الكتاب الجديد 
المتحدةء 2008)» ص 60 


(11) سعيد المثقف والسلطةء ص 22. 


404 


وسائل الإعلام» والمؤسسات المالية» ولا تهم شعوبهم بشكل مباشر؛ الأمر الذي 
يجعل المثقف في الغرب أمام سؤالي الموقف الأخلاقي والموضوعية الأكاديمية. 


في المقابلء تظل قضايانا العربية المحك الحقيقي» لا للمثقفين العرب 
فحسبء لكن أيضًا لمختلف المثقفين في العالم» وفي مقدمها قضية فلسطين. 
فمثلاء سجل جان بول سارتر مواقف قوية بالنسبة إلى الثورة الجزائرية» بيد أنه 
بالنسبة إلى فلسطين» ف «لأسباب لم نتأكد منها بعد» ظل سارتر ثابتًا في مناصرته 
للصهيونية المتعصبة؛ إما لأنه كان يخاف من أن يبدو معاديًا للساميةء أو لأنه شعر 
بالذنب بشأن الهولوكوست» أو لأنه في نفسه إعجاب عميق للفلسطينيين كضحايا 
ومقاتلين ضد الظلم الإسرائيلي أو بسبب آخر لن أعرفه أبدّ!2'». 

لكن المواقف النقدية للمثقف في بلداننا العربية ما زالت مكلفة جدًا؛ فقول 
«الحقيقة» في وجه ساطات مستبدة» لا تت تتحرك إلا وفق عقلية أمنية» ولا تعترف 
بالمثقف إلا باعتباره عضوًا في جوقة المداحين للنظام السياسي» ما تجعله 
يتأرجح بين الموقف النضالي والاستعداد الدائم لأداء الثمن الباهضء أو الصمت 
والنكوص إلى الهامش» أو الارتماء فى أحضان السلطة» أو البحث عن بدائل في 
عالم الاغتراب» أو التحول إلى خبير يقدم خبراته إلى مؤسسات من المجتمع 
المدني أو المجتمع الدولي الأكاديمي. 


يبدو أن المثقف الجامع وظيفتي التنوير والنقد هو «المثقف العمومي» 
الذي يتجاوز تخصصه ليعبّر حقول التبشير والتوعية والتنوير إلى حقول التفاعل 
(Public Intellectual) | 2 gexfl Léñtallé . fuill s‏ هو «المتخصص صاحب الثقافة 
الواسعة الذي يكتب ويُّنتج بلغة مفهومة للعموم عن قضايا تهم المجتمع والدول 
بشكل عام. .. أي المثقف الذي يؤدي دورًا في الشأن العام انطلاقًا من كونه مثقمًا؛ 
أي مستخدما معارفه الشاملة والعابرة التخصصات. المثقف هنا هو مثقف عام 
(General)‏ أي لديه ثقافة عامة تتجاوز الاختصاصء وهو مثقف عمومي (Public)‏ 9« 
الوقت ذاته» أي متفاعل مباشرة مع المجال العمومي وقضايا المجتمع والدولة. 


(12) سعيد» خيانة المثقفين» ص 199. 


405 


ومن هناء لا تقتصر صفة المثقف على الثوري أو المثقف النقدي فحسبء بل 
تشمل من يساهم في مناقشة الشأن العام بأدوات عقلانية» ومن منطلق المواقف 
الأخلاقية. فمن يسا هم بالتحليل العقلاني وحده هو متخصص وخبير؛ ؛ ومن يساهم 
لحك الف مق ا المثقف العمومي هو ذلك القادر على 
الجمع بين الثقافة الواسعة والفكر العقلاني واتخاذ الموقف»'. 


- الربيع العربي والانتظارات المتجددة 


شكل الربيع العربي لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة وشعوبهاء وزمتًا مشابها 
في بعض ملامحه لما عاشته ُ شعوب أخرى من محطات ثورية» أو حتى ما عاشه 
الوطن العربي نفسه من منعطفات كانت لها انعكاساتها المختلفة على مسار 
الفاعلين والجماهير إبان حركات التحرير الوطني. فهل كان الربيع العربي موجة 
ا ر ا may‏ 

يعرف عزمي بشارة الثورة بقوله إنها «تلك اللحظة التاريخية التي تتحدى 
فيها إرادة الشعب الحرة نظام الهيمنة والسلطة وأدوات السيطرة التي تكرسه من 
خارج دستورها وقواعد لعبتها. هي تلك اللحظة فعلًا التي لا يعود فيها الشعب 
مجارًا على ألسنة المثقفين ورمرًا في أذهان نقاد الأنظمة» بل يصبح واقعًا فعليًا 
عينيًا نسبيّاء له لون وطعم ورائحة وعرق ودم» يخرج من الثورة أفضل ما فيه» وقد 
يُخرج في الثورة أيضا أسوأ ما فيه. هذا إذا ما تحولت الثورة إلى حالة من النفي 
فحسب» أي حالة من غياب الدولة»*'. 


إن من خاصيات الثورة عدم انحسارها في قطر واحدء بل هناك القابلية 
للانتشار؛ لذلك نتحدث عن موجات ثورية عوضًا عن الحديث عن ثورة منعزلة 
إلا ما ندر. ومن الموجات الثورية المبكرة في عصرنا الحديث «الموجة الأولى بين 


العامين 20 18 و1824» وتمثلت مراكزها في الجانب الأوروبي من حوض البحر 
الأبيض المتوسط؛ في إسبانيا (1820) ونابولي (1820) واليونان (1821) . وقد 


(13) عزمي بشارةء «عن المثقف والثورة۲ء تبين» العدد 4 (ربيع 2013)» ص 133-132. 
(14) عزمي بشارة» «الثورة والمراحل الانتقالية»» مجلة الديمقراطيةء السنة 13 العدد 51 (2013)» 
ص 21. 


406 


أخمدت هذه الثورات في جميع البقاع باستثناء اليونان»”". و«جاءت الموجة 
الثانية من المد الثوري في الفترة بين العامين 1829 و1834» وتركت آثارها 
على جميع أوروبا شرقي روسيا وعلى قارة أميركا الشمالية»©2. وكانت الموجة 
الثورية الثالثة الأضخم في عام 1848» «فقد اندلعت الثورة في وقت واحد تقريبًا 
وانتصرت (موقتًا) في فرنساء وجميع إيطالياء والدول الألمانية» والجزء الأكبر من 
إمبراطورية الهابسبيرغ وسويسرا (1847). كما أنها أثرت بصورة أقل حدة في 
إسبانيا والدانمارك ورومانياء وبصورة متقطعة في أيرلندا واليونان وبريطانيا. ولم 
يكن ثمة ما هو أقرب إلى مفهوم الثورة العالمية التي كان يحكم بها الثوريون من 
هذه الانتفاضات العفوية العامة التى اختتمت بها المرحلة هذا الكتاب. فما كان 
العام 1789 مجرد انتفاضة شعب واحد الآن» وكأنه 'ربيع الشعوب* في القارة 
الأوروبية برمتها»”'. 


هل يمكن الحديث عن عام 1 على الرغم من التحديات كلهاء بوصفه 
ربيع الشعوب العربية؟ إذ قارب بعضهم حراك الربيع العربي بوصفه صناعة غربية» 
ومؤامرة دولية ترعاها الولايات المتحدة الأميركية لبناء شرق أوسط جديد» من 
خلال سيناريو الفوضى الخلاقة» ليتيح إعادة التموقع للقوى الكبرى. ومن أبرز 
من تبنى هذا التوجه طارق رمضان الذي خصص کتابًا ينتصر فيه لهذه الرؤية*'. 
وهو تصور نظري بني على مداخل معرفية وآليات منهجية ومقاصد تغيّت الانتصار 
الأفضل لاختيارات الشعوب. لذلك يُعد مفارقًا بالكلية في مقدماته وتحليلاته 
«لتصورات» مثقفين ذهبوا المذهب نفسه؛ لكن ما تحكم بهم هو مطلب الاستقرار 
في ظل النظام الاستبدادي نفسه. أي جعلوا شعارهم المركزي «الاستقرار أو 
الفوضى»؛ وهم بذلك كانوا يرددون بشكل سخيف شعار الأنظمة التي طالبت 
الميادين بإسقاطها «نحن أو الفوضى». 


(15) إريك هوبزباوم» عصر الثورة: أورويا (1848-1789)ء ترجمة فايز الصياغً» تقديم مصطفى 
الحمارنة (بيروت: المنظمة العربية للترجمةء 2007)» ص 220. 

(16) المرجع تفسه» ص 221. 

(17) المرجع نفسه. ص 224. 

Tariq Ramadan, L'/slam et le Réveil Arabe (Paris: Presses du Chatelet, 2011). (18) 


407 


لا يمكن أن نغفل البتة أن الحراك العربي كان نتيجة عقود من الزمن عاش فيها 
العرب ازدواجية مفارقة ما بين الواقع الاستبدادي والشعارات المتغنية بحقوق 
الإنسان وفضائل الديمقراطية» حيث منح المثقفون تلك المطالب تصورات ذهنية 
كان التحاكم إليها يحضر عند العامة من الناس وهم يقارنون بين الخطاب الرسمي 
وفعله؛ وما كان ينقص وعي المثقف هو إرادة صلبة تغامر برفع السقف. ويكون لها 
استعداد دفع الثمن لتتحول الشعارات إلى واقع. 

كانت النخب شبه كافرة بجماهير الشارع في قدرتها على المبادرة» وكسر 
قيدها ليستجيب القدر إلى صرخة حريتهاء ونقل الربيع العربي الجماهير المتهمة 
باستسلاميتها من قفص الاتهام ووضع فيه النخب المثقفة التي أبان معظم من ادعى 
الانتماء إليها أنه ظل حبيس سيناريواته النمطية فى كيفية إحداث التغيير وأسلوبه؛ 
كما أن عددًا من المنتسبين إلى «طبقة» المثقفين اتجه للدفاع عن مصالحه الآنية 
عوض الانتصار لقيم كان يدّعي الإيمان بها. 


عاش الربيع العربي موجة ثورية شبيهة بما حدث في تاريخ الأمم المختلفة؛ 
فالعرب ليسوا بدعًا من الناس» وهذه الحوادث الثورية التى عاشتها المنطقة العربية 
نتيجة منطقية لعقود من القهر والقمع والاستبداد ونهب الثروات» ونتيجة الرفع 
من منسوب الوعي من مثقفين وجهوا بوصلة الشعوب إلى أن وراء التفقير وسلب 
الحرية مفسدين ومستبدين. فالفقر لا يصنع ثورة» لكن المسألة الاجتماعية «تؤدي 
دورًا ثوريًا في العصر الحديث وليس قبله» وذلك حينما بدأ الناس يشككون في 
أن الفقر هو شيء كامن في الظرف الإنساني» ويشككون في أن التمبيز بين القلة 
التي نجحت بحكم الظروف أو القوة أو الغش بتحرير نفسها من أصفاد الفقر وبين 
الكثرة الكاثرة العاملة والمصابة بالفقر هو تمييز محتم وآزلي»'. 

لكل مرحلة تحدياتهاء والرؤية الاستباقية لا يستلهمها العامة من الناس الذين 
تبتلعهم الحوادث اليومية» ويتصرفون وفق حاجات آنية تكون أحيانًا وبالا على 
مستقبلهم» ولا سيما أن الإعلام يصنع الوعي الشعبي تصنيعاء فيتلقى منتوجه 


(19) حنة أرتدت» في الثورة» ترجمة عطا عبد الوهاب (بيروت: المنظمة العربية للترجمة؛ 2008)» 
ص 29. 


408 


بذهنية لاقطة لا ناقدة؛ وتكون من مهمات المثقفين تبيان خطورة الخطابات 
الشعبوية للسياسيين» وعدم الاستسلام للوصفات التسطيحية الجاهزة. إن فعل 
المثقف استجابة لتحديات تاريخية» وهو ما يفترض تحول وظائفه وفق تغير 
المراحل» وإذا كان التركيز على نقض الاستبداد الداخلي قبل الثورة» فإن التحدي 
بعدها يتوجه فى المساهمة العقلانية لبناء مرحلة انتقالية بأقل الخسائرء وتكون 
من مهمات المثقف بناء ثقافة سياسية عقلانية» بما أن الديمقراطية «لا ترتكز على 
مجموعة من القوانين فحسب؛ بل بشكل خاصء على ثقافة سياسية»*؛ الأمر 
الذي يعني الانتقال بالثقافة السياسية العربية من قهر الخوف والإجماع المتوهم 
إلى ثقافة إبداء الرأي والمشاركة. 


تكون الثقافة السياسية المبنية على المواطنة التى تؤسس للمساواة بين أبناء 
الوطن» وتضع آليات تدبير الاختلاف» من أولى متطلبات التحولات الانتقالية» 
ولا سيما في مجتمعات تتشكل فيها مجموعات مسلحة وتجعل رابطتها هويات 
تتناقض في متطلباتهاء وتفكر بعقلية القبيلة عوضًا عن منطق الدولة. إن السؤال 
الأعمق والمرحلي الذي يسعى المثقفون للإجابة عنه هو «كيف يكون ممكنًا 
ضمان استمرارية مجتمع عادل ومستقر» يتشكل من مواطنين أحرار ومتساوين؛ 
وفي الوقت نفسه منقسمين بشكل عميق؟»*. 


مع انقضاض الثورات المضادة على الثورة وسعيها إلى سلب سيادة الشعب» 
تتغير متطلبات المرحلة» ويصبح مطلوبًا من المثقف التركيز على أن مسألة السلطة 
لا يمكن أن ثُدار بتحالفات المال والسلطة المغتصبة» لكن بالتركيز على الفلسفة 
الديمقراطية في التناوب على السلطة» وفق قواعد دستورية تمثل حقيقة أطياف 
المجتمع كلها. كما أن أنظمة الاستبداد تؤسس لشرعية الواقع» بينما يسعى المثقف 
إلى إقناع الرأي العام الشعبي أن الشرعية تنضبط لمعايير» وأن الخروج عنها يعني 
انهيار» أي تعاقد بين الحاكم والمحكوم» ويمنح الثورة شرعية تفجرها من خارج 
النسق السياسي. 


Alain Touraine, Qu'est-ce que la démocratie? (Paris: Fayard, 1992), p. 26. (20) 


John Rawls, Le Libéralisme politique, Catherine Audard (trad.) (Paris: Presses Universitaire (2 1) 
de France, 1995), p. 6. 


409 


يعود استقرار الأنظمة الديمقراطية أساسًا إلى تحول مفاهيم الشرعية 
والمشروعية وآلياتهما إلى ثقافة سياسية في ذهن المواطنين؛ ولذلك يستحيل 
الانقلاب حيتئذ على الديمقراطية. لكن الدول التي تعيش المراحل الانتقالية 
تكون الديمقراطية فيها نبتة لم يقو عودها بعد» ما يجعل «شكل التغيير الأصعب 
من مجتمع إلى مجتمع مختلف» يتم بشكل خاص في حقل المشروعية التي تستمد 
منها الدولة أو المجتمع على حد سواء هويتها الأيديولوجية)2©. 

يتفاعل المثقف مع إشكالات واقعه المتغيرة» ويجمع عقد تصوراته من 
الحوادث اليومية المتنائرة» وتكتمل صورة تصوراته من شظايا الوقائع الموزعة 
في زمان ومكان مختلفين» ويُخضع منهجيته في التحليل إلى المساءلة والتقويم 
الدائمين» ويشذّب مفاهيمه لتسعفه في تتبع أسئلة كل مرحلة وصوغ إجابات 
نظرية عنها؛ إجابات يمنحها الواقع قوة الصمودء أو تطلب من المثقف إعادة قراءة 
مفردات الواقع لأنه أعقد مما تصور. 


ثانيًا: المثقف العربي وفقدان زمام المبادرة 


وضع الربيع العربي المثقف ومقولاته وأدواته المعرفية ومواقفه السياسية 
على المحك؛ سؤال الصدقية وسؤال الأدوار والمهمات وجدوى المشروعات 
المقترحة منذ نشوء الدولة الوطنية القطرية. لكن أظهر هذا الربيع العربي أن المثقف 
العربي أصبح صورة افتراضية وشبحًا بلا معنى» كأنه مرسوم من الرمال على حد 
تعبير ميشيل فوكو؛ فما عاد دوره حاسمًا كما كان الشأن مع كبار المثقفين الذين 
انتهى تأثيرهم وعهدهم؛ إذ لم يكن أداؤه رياديًا ولا قياديًا في «ثورات التحرر» 
وموجاتها التي عاشتها المنطقة؛ الأمر الذي يطرح السؤال المعياري في تقويم أداء 
المثقف العربي وتقويمه إبان الربيع العربي» وكيفية تحقيق نوع من المصالحة بين 
المثقف ووظائفه المفترضة. 


(22) فريد لمرينيء الفكرة اللببرالية والحداثة السياسية في المغرب (الرباط: مطبعة النجاح الجديدةق 
2010( 43 


410 


1 - المثقف العربي والوظائف المفتقدة 


شكلت حوادث الربيع العربي مفاجأة للسياسيين والمثقفين على حد سواء 
داخل الوطن العربي وخارجه» فلم تتنبأً باندلاعها حتى المؤسسات السياسية الغربية 
العريقة وخلفها مراكز بحثية ضخمة عدة وعددًا؛ وكان الوجه الآخر للمفاجأة أن 
الشرارات الأولى لم تنطلق من الحواضر الكبرى المركزية حيث النخبة» بل جاءت 
من هوامش المدن (سيدي بوزيد بتونس» درعا في سورية ...إلخ). 

لا يمكن على أي حال اتخاذ ذريعة مفاجأة الحوادث للمثقفين العرب جسرًا 
لإسقاط مساهماتهم المعتبرة على مدار عقود في تخصيب الأرضية الاحتجاجية 
أكان من خلال الكتابة التنويرية أم حتى المشاركة الفعلية في كثير من الفاعليات 
والتظاهرات. وتعرض العشرات من المثقفين العرب للاعتقال والنفي وكل 
ضروب القمع والإقصاء الممنهج من لذن سلطات همها الأعظم الحفاظ على 
مصالحها وامتيازاتها. 

لكن المثير في الأمر أن المثقف العربي لم يكن صاحب المبادرة في هذا 
الحراك» كأن لسان حاله يقول «فقدنا زمام المبادرة»؛ في هذه المرحلة التاريخية 
الدقيقة والمفصلية حيث كان الشباب العربى هو المبادر عمليًا فى تحدي الأنظمة 
السياسية الشمولية والنزول إلى الميادين» وتسطير المطالب الغائية من الحراك: 
الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية في توظيف ذكي لوسائل الاتصال الحديثة. 

شكل التحاق عدد مهم من المثقفين بالحراك الثوري نوعًا من التصالح مع 
أدوارهم من جديد» في حين سجلت قلة من المثقفين سبق الاحتضان الفكري 
للحراك؛ بينما تراجع آخرون واتخذوا مواقف سلبية من ثورة الشباب؛ ما حدا 
بهؤلاء في مصر مثلا إلى وضع قوائم سوداء تدين «مثقفين» بوصفهم فلول النظام 
السابق؟ فكل حراك يُفرز مثقفيه. 

في هذه التحولات المفصلية في دول الربيع العربي» يجري تجاوز ثنائية 
المثقف والسلطة؛ ليقف المثقف وجهًا لوجه مع ذاته: أي حرية هذه التي ادعى 
مطالبته بها؟ وهل هي حرية تُحرر الجميع أو حرية تمكن تصوراته من التسلط 


411 


على باقي التصورات؟ من الصعب فصل المثقف العربي عن سياقه الاجتماعي 
والسياسي» فما يعانيه المثقف لم يأتِ من فراغ» بل نتيجة عوامل عدة ساهمت 
في تملصه عن القيام بأدواره ووظائفه» وسجنه في ثالوث الأيديولوجيا والسلطة 
والمال. 


من هذه العوامل الاستبداد الذي أفسد النخبة بتوجهاتها وتخصصاتها 
المختلفة من خلال استتباعها بجملة من الإغراءات والمصالح والامتيازات» أو 
ملاحقتها وقطع الطريق عليها في التواصل والتأثير والتنوير. لكن المشين في الأمر 
هو تحول كثير من المثقفين من ممثل لقيم الدمقرطة والحرية والكرامة وقبول 
الآخر إلى وسائل في أيدي السلطات المحتكرة المجال العام (غلبة السياسي 
وهيمنته على الثقافي)؛ وعندما يتخلى المثقف عن دوره ووظيفته» يصبح معوقا 
للإصلاح» لا قائدًا وموجهًا له. ويمثل قمة الابتذال أنموذج ما وقع في مصر؛ إذ 
جرى الانتقال بشكل غرائبى من تبنى خطابات الديمقراطية والحداثة إلى البُعد عن 
معاني الإنسانية وتبرير عمليات التقتيل الجماعي الذي قامت بها السلطة الجديدة» 
حيث «استسلمت القوى السياسية التى تنافست على السلطة بعد سقوط مبارك 
للانحراف السياسي التدريجي عن النهج الديمقراطي. فبينما اتهم التيار المدني 
العَلماني جماعة الإخوان المسلمين بالتراجع عن شعار ”مشاركة لا مغالبة'» 
الذي توقع له الكثيرون أن يعزز من الحوار ويتيح التشارك من مختلف الفصائل 
السياسية في إدارة الدولة» هرعت القوى المدنية نحو التكالب على السلطة غير 
متورعة عن الاستقواء بالجيش أو الفلول أو حتى قوى الخارج للحيلولة من دون 
انفراد الإسلاميين بالسلطة ومنع أسلمة الدولة“*. فأصبح هذا النوع من المثقفين 
يُبدي ولاءٌ مطلقا للسلطة بغض النظر عن تو جهاتها ومشروعاتهاء ما دامت تحفظ 
له مصالحه»ء وتزيح خصمه التاريخي من مسرح الفعل السياسي» ليكون المثقف 
أول من يهدد قيم التحرر والديمقراطية. 


ثارت نانسي بريميو» في دراستها عن النكوص عن المسار الديمقراطي في 
القرن العشرين» مسألة مساهمة النخب بشكل غريب فى الارتداد عن الديمقراطيةء 


(23) بشير عبد الفتاح» «محنة الديمقراطية التمثيلية» مجلة الديمقراطية» السنة 13 العدد 51 
)2013( 6. 


412 


حيث تقول: #إنه من المعروف أن الديمقراطيات التي ندرسها هنا قد أسقطت من 
DA‏ نخبها السياسية. وتلت تصرفات النخبة سلسلة مسارات. ففى حد أقصى» 
اختار السياسيون (والملوك أحيانًا) الدكتاتورية عمدًا؛ فهم أنفسهم إما أصبحوا 
طغاة» أو جعلوا - بمعرفتهم - أشخاصًا لا ديمقراطيين رؤساء للحكومات. وفي 
الحد الأقصى الآخرء تداعت الدكتاتورية من خلال عجزهم هم وعدم كفاءتهم؛ 
إذ ارتكبوا سلسلة أخطاء تسببت بتحالفات انقلابية. وكانت أخطاؤهم متشابهة بما 
يدعو إلى الدهشة» على الرغم من التنوع الكبير في أوضاعنا؛ فقد أحدثوا دومًا 
تحالفات انقلابية وتشمل النخب العسكرية0*©. فهل يعيد التاريخ نفسه في الوطن 
العربى؟ 


من هذه العوامل أيضًا تضخم الأنا وادعاء امتلاك الحقيقة؛ ما يجعل المثقف 
يتصرف بمنطق الأستاذية المتعالية» فيتحوّل إلى مؤسسة أيديولوجية تحكم على 
المشروعات والأفكار والتنظيمات والاحتجاجات انطلاقًا من «الأنا المتعالية». 
ولعل قصور المثقف العربي عن توقع مثل هذه الانتفاضات والثورات هي التي 
تعزز مقولة «أوهام النخبة»؛ الأمر الذي أسقط كثيرًا من المثقفين في الأيديولوجيا 
المنغلقة البعيدة عن التنافس الفكري والسياسي» وذلك بمبررات الخوف على 
الثورة من الإسلاميين عند صعود نجمهم خلال الحراك العربي» والتباكي على 
الدولة المدنية والديمقراطية» ولا سيما عندما اختير المسجد منطلق التظاهرات 
في بعض بلدان الربيع العربي. كما سقط كثير من المثقفين في شرك الطائفيةء 
ونقلوها من الخطاب الديني إلى الممارسة السياسية» خصوصًا بعد اندلاع الحراك 
في البحرين وسورية؛ ليتضح أن الطائفة عند بعض المثقفين الذين كان لهم وزنهم 
عند «الجماهير» أكبر من الوطن والأمة. 

كانت ولادة المثقف غربية مع نشأة العلمانية» بل كانت منشئًا لها؛ ما شكل 
تحديدًا نخبويًا لهوية المثقف في العالم العربي» لتصبح النخبة مؤسسة بدورها 


Nancy Bermeo, Ordinary People in Extraordinary Times: The Citizenry and the Breakdown (24) 
of Democracy (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2003). 


نقلًا عن: تشارلز تيللي» الديمقراطية» ترجمة محمد فاضل طباخ (بيروت: المنظمة العربية للترجمة» 
2010 ص 77. 


413 


لثقافة انقسامية مستدامة منطلقة من أرضية أيديولوجية إقصائية؛ «وهكذا حين 
يزعم المثقف الحلول مكان رجل الدين (الكاهن, النبي» واللاهوتي)» فهو 
يقوم بذلك تحت اسم 'إنسانية متكاملة“ تنسب الدور الأساسي إلى الخطابات 
عن التاريخ وعن المجتمع. من هناء نجد خيطا رفيعًا قد يربط ولادة المثقفين 
بظهور الأيديولوجيات» أو ربما بما نطلق عليه اسم ”علوم الإنسان» خصوصًا 
نشأة وتكوين ”العلوم الاجتماعية“ التي تحاول التفكير في عالم مات فيه الله 
كما يقول نيتشه/؛ كما تحاول تأويله ب «أنه العالم الذي قال به ماكس فيبر» العالم 
الذي تخلى عن السحرء أو قد حرم السحر وضمانة الدين وهالة القداسة. ومع 
الأيديولوجيات تنتقل السيادة الفكرية من الدين إلى العلم» من اللاهوت إلى 
الخطاب السياسي“*. بل يصل الأمر إلى نفي الديمقراطية عن الآخرء «والرأي 
عندي أن ul‏ أنه تنطوي على أربعة مكوّنات: Asa‏ العقد الاجتماعي» 
التنوير» الليبرالية. العَلمانية تأتي في مقدمة المكوّنات ومن دونها لا تستقيم» 
ولذلك يمكن القول بأنه لا ديمقراطية بلا علمانية»*. 

من هذه العوامل أخيرًا ثورة المعلومات وسرعة التحولات التي أظهرت 
المثقف غير قادر على استثمار شبكة الإنترنت وما توفره من خدماتء لتحقيق نقلة 
نوعية في مجالات الفكر والإبداع والتنوير بعيدًا عن الرقابة التي تشكى منها دائمّاء 
وتّعرّض عن عقود من الحرمان والإرهاب الفكري والمادي؛ ما يكشف القدرات 
المتواضعة لفئة عريضة من المثقفين الذين يبدو كأنهم فقدوا البوصلة» وحرموا 
أنفسهم الاستناد إلى قاعدة اجتماعية حتى في المجال الافتراضي» فحاصروا 
أنفسهم في أبراجهم العاجية بعدما كانوا يشكون حصار السلطات في السابق. 

هل يعني عدم انخراط المثقف بشكل ذاتي في الحراك المجتمعي بعدم 
اكتسابه الصفة الحزبية مثلًا؟ «ليست المسافة التي ينبغي أن يتخذها المثقف من 


(25) ليكلرك ص 34. 

(26) مراد وهبة» «معنى التحول الديمقراطي والحداثة؛» في: مجموعة مؤلفين؛ أين يذهب العرب؟: 
رؤية 30 مفكرًا فى مستقبل الثورات العربية (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشرء 2012)» ص 
157-156. 


414 


الواقع الاجتماعي القائم تلك التي تُتخذ قسرًا أو نفيًا مفروضًا ذاتيًا أو اجتماعيّاء 
وإنما هي ناجمة عن الأدوات النظرية ذاتها باعتبارها عامة وتتخذ مسافة من الواقع» 
بما في ذلك الواقع الاجتماعي»””*. 


من تجليات نكوص المثقف وتراجع أدواره الانسحاب من الحياة السياسية 
والتوجه نحو العمل الفكري الصرف أو الالتحاق بمجالات المجتمع المدني. 
وفي أثناء قمع السلطات المستبدة وتضييقهاء «أدار مثقفو اليسار والحركات القومية 
ظهورهم للعمل السياسي أو للمجتمع السياسي؛ Ja,‏ من الاعتراف بالإخفاق» 
راح بعضهم ينظر إلى حسم المعركة في مكان آخر غير المجتمع السياسي؛ وهذا 
المكان هو المجتمع المدني»*. 


أصبح الاشتغال داخل مؤسسات المجتمع المدني» بعد إفلاس العمل 
الحزبي» استراتيجية جديدة للجيل القديم من المثقفين القوميين واليساريين الذين 
أصابهم الإعياء والإحباط من إمكان قيام ثورة تحرير شعبية تؤسس للدولة المنتظرة» 
خصوصًا أنهم عايشوا «مراجعات» غورباتشوفء ولاحمًا سقوط الإمبراطورية 
السوفياتية والأيديولوجيا المؤسسة لها. فالعمل في مجالات المجتمع المدني غير 
مكلف مقارنة بالعمل السياسي الثوري الذي يتوخى التغيير واستنبات قيم الحرية 
والديمقراطية والتداول على السلطة» بل أصبح ميدانًا للشهرة والاغتناء من خلال 
التمويل الأجنبي. 

هكذا يتجذر اغتراب المثقف عن مجتمعه. فلا هو بخبير» ولا هو بسياسي» 
ولا هو صوت لمن لا صوت له؛ لتتجذر معاناة المثقف العربي ويصبح بمنزلة 
محام فاشل في قضية ناجحة» أو بلا قضية أصلا؛ «فلم يحافظ على كرامته الذاتية 
وعلى شرفه الثقافي»”"». وسعت الأنظمة السياسية العربية الهوة بين المطالب 
الرامية للتقدم والازدهار واللحاق بالآخر المتقدم في المجالات كلها من 
جهة» والواقع المعيوش الذي يزداد بؤسًا وانفرادًا بالسلطة وقمع المخالفين أو 

() بشارة «عن المثقف والثورةة» ص 134. 

(28) بشارة» المجتمع المدني» ص 12. 

(29) حوار مع د. طيب تيزيني» في: الاتحاد (الإمارات)؛ 17/ 6/ 2008. 


415 


ترويضهم بأساليب مجربة لدى دكتاتوريات العالم الثالث من جهة ثانية؛ وبهذه 
«الصورة الفاجعةء تظهر صورة المثقف العربي في معظم تجلياته القطرية» بصيغة 
كاريكاتورية» من حيث هو مسخ يبحث عن خلاصه لدى غريمه القديم» صاحب 
السلطة والثروة والإعلام والحقيقة)0©, 


2- في البحث عن ميثاق أخلاقي للمثقف 


يعد الميثاق بمنزلة رابطة من أجل عمل مشترك؛ له تعريفات كثيرة لغوية 
وعلمية وفلسفية ليست هذه الدراسة البحثية مكانًا ملائمًا لبسطها ولا موضوعًا 
لها؛ لكن يمكن القول إجمالا إن كل ميثاق كيف ما كان نوعه يحدد الأهداف 
والوظائف والمسؤوليات أو المبادئ والقواعد الأساسية المتفق عليها من أجل 
احترامها في الممارسة العملية» ويصبح بناء على ذلك وثيقة مرجعية مؤسسة على 
تعاقد الأطراف المختلفة. فلماذا صفة الأخلاقية وليست السياسية؟ المعيار هو 
الصدق مع الذات في البحث عن المشترك مع غيره» وتدبير الاختلاف والتسامح 
بوصف هذه القيم غاية في ذاتهاء خصوصًا في ظل ثقافة انقسامية سائدة تثير قضايا 
شائكة في غير سياقها الملائم» ما يؤجج الصراعات الطائفية والمذهبية. 


إن من دواعي صوغ ميثاق أخلاقي يتوافق عليه المثقفون التحولات التي يمر 
منها العالم العربي المتسم بفشل المسار السلمي لثورات الربيع العربي» وعودة 
الأنظمة السابقة بعناوين جديدة وببطش أشد. ما ينذر باحتماء الناس بانتماءاتهم 
الهوياتية ولجوئهم إلى السلاح الذي ماعاد محتكرًا من لذن الدولة وخاصية مميزة 
لها كما يتصور ماكس فيبر”؛ ما يشكل تهديدًا للدولة القومية التي تغدو أقرب 
إلى الدولة الهشة. فهناك «مصادر عديدة للقلق بشأن قدرة مرحلة ما - بعد الثورة 
على تطبيق أهدافهاء من دون نشوء تفاهم عام بين الأوساط السياسية والثقافية 
والاجتماعية الفاعلة بشأن الأهداف غير المصاغة للثورات»”. فجُل الدول التي 


(30) المرجع نفسه. 
Max Weber, Le Savant et Le politique, Julien Freund (trad.), Collection 10/18 (Paris: Plon, (31)‏ 
p. 123.‏ ,)1996 


(32) عزمي بشارة؛ «أفكار ميثاقية لأي ثورة عربية ديمقراطية»» الجزيرة نت (3 حزيران/ يونيو 
7171© في: hup:/bit.ly/1OBgavO.‏ 


416 


قطعت مع الاستبداد والرأي الأوحد حصّنت مسيرتها بالتعاقد السياسي المؤسس 
على أرضية فكرية وفلسفية من خلال مشاركة فاعلة للمثقفين. ففي فرنسا مثلاء 
سبق الميثاق المذهبى ass‏ ثية «الحرية والمساواة والإوخاء» الميثاق الدستوري؛ 
كما ضمن اتفاق «التسامح في إطار التعاون» بإسبانيا التوافق في شأن موقع الدين 
ودوره في الحياة السياسية. ومن غايات هذا الميثاق الأخلاقي: 
- التأسيس الفعلي لمنظومة فكرية تعترف بالمختلف معه؛ وتُترجم من 

خلال وجود أصوات عدة لمثقفين ذوي خلفيات أيديولوجية متباينة في أعمال 
ومؤسسات مختلقة. وتحصن هذه المقاربة المكتسبات وترفع سقف المطالب 
السياسية والاجتماعية» وتجعل البوصلة النضالية موزعة على جبهات ثلاث: 

© جبهة الديمقراطية والكرامة والحرية: ضد نظام الاستبداد» وهو التحديث 
الثوري. 

© جبهة السيادة: ضد التدخل الأجنبي» لكون السيادة الوطنية وجهه الآخر. 

© جبهة المواطنة: ضد مطابقة الانتماءات السياسية بالهويات الطائفية 
والمذهبية والقبلية» أي ضد تشظية المجتمع المدني والكيان السياسي22©. 

- الموضوعية وتجاوز أحكام القيمة؛ التي من أهدافها التقليص من غلواء 
الأيديولوجيا وبناء جسور للتقارب وآليات لتفعيل العمل المشترك. 

- البعد عن الدعائية؛ لأن المثقف في الأصل ليس بشاعر مديح للسلطة أو 
الحزب أو الطائفة» خلاف مثقفى السلطة المدعومين بالدعاية والمال. 

_ الخروج من سجن التتخصص والخبرة والالتحام بالناس والدفاع عن 
حقوقهم ومناهضة الظلم والفساد بشتى أنواعه وألوانه» ما يجعل المثقف ضمير 


(33) بشارة؛ المجتمع المدني» ص 18. 


417 


- م تشجيع الإرهاب بوصقه استعمالا للعنف المادي في مواجهة 
الخصم» أو تحر على استعماله مهما كان الاختلاف الفكري أو السياسي» 
حيث كان موقف سارتر من «المكارثية» الأميركية قويّاء وكان موقف كثير من 
المثقفين معارضًا لحكم القضاء الأميركي بإعدام آل روزنبيرغ بتهمة نقل أسرار 
ذرية إلى السوفيات في عام 1 195؟ وكانت سابقة أن يُحكم بالإعدام على شخص 

متهم بالشيوعية وتهديده الأمة الأميركية. وكتب سارتر» يبدي تعجبه لما حدث» 
«عندما يحكم بالإعدام على اثنين من الأبرياء» فإن ذلك يصبح قضية العالم كله»» 
كما قال إن الفاشية اليست بعدد ضحاياهاء وإنما بالطريقة التي تقتلهم بها0©. 

- عدم التكفير العقدي أو التخوين السياسي؛ لأن تكفير المخالف أو تخوينه 
سيقود حتمًا إلى حسم الخلاف بالعنف. والدخول في اقتتال داخلي ينذر بنتائج 
كارئية يتحمل الجميع ثمنها باهظا. 

- عدم إثارة النزعات الطائفية والعرقية والإثنية والقبلية واللغوية بما لا يفسح 
المجال للاحتراب الداخلي والتدخل الأجنبي وترسيخ التبعية. 

- الانحياز لقضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية ومقاومة التطبيع؛ 

فالمثقف ينبغي ألا يحصر نفسه في سجن الدولة القطرية. 

- التأسيس لفضاء التداول الفكري المؤسس للتوافق وحفظ السلم 
المجتمعي» ما يعزز فاعلية مؤسسات المجتمع المدني وتأثيرها. 

- حل النزاعات بعيدًا عن السلطة الحاكمة لا عبرهاء بما يضمن استقلالية 
المثقفين وصدقيتهم؛ فالاحتماء بالسلطة وتجيشها ضد الخصوم سيجعل السحر 
ينقلب على الساحر في وقت لاحقء ولنا في كثير من التجارب عبرة. 

هذا كله كي يحصل لدى المثقف الوعي بذاته ويقتنع بضرورة «إجراء تغيبر 
مثلث : يطال أولا مفهومنا للتغيير ذاته؛ إذ العالم يتغير الآن» ليس وفقًا لنماذجناء بل 


)34( فرانسیس ستونور سوندرزء من الذي دفع للزمار؟: الحرب الباردة الثقافية» ترجمة طلعت 
الشايب (القاهرة: الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية» 2009)» ص 206. 


418 


على نحو يفاجئنا. ويطال ثانيًا صورتنا عن أنفسنا؛ إذ لا يعقل أن يستمر المثقف في 
تقديم نفسه بوصفه يمثل النخبة الواعية والمستئيرة أو المتقدمة» ممارسًا وصايته 
على القيم والحقوق والحريات» في حين أصبح هو الآن الأقل فاعلية وحضورًا 
على المسرح» قياسًا على باقي الفاعلين الاجتماعبين» كرجال الإعلام والأعمال» 
أو كمهندسي الحواسيب ومصممي الأزياء» أو كلاعبي الكرة ونجوم الطرب. 
وأخيرًاء لا مهرب من إجراء فحص نقدي يطال شبكة المفاهيم التي يقرأ من 
خلالها المشقفون الحوادث». 


إن اتفاق المثقفين على ميثاق مرجعي» والعمل على إنجاحه سينهي صراع 
الثنائيات المغرضة التي جعلت كثيرين مصابين بعمى الألوان» فلا يرون إلا الأبيض 
والأسود: الإسلام في مقابل العّلمانية» والديمقراطية لا لقاء لها مع الشورى. كما 
أن التوافق على ميثاق جامع يتوخى تجاوز الثقافة الانقسامية التي استنفدت طاقة 
النخب في صراعات لا تنتهي إلا لتبدأ وتتجدد؛ كما يتيح التأسيس للتنافس الفكري 
والسياسي بأدوات حضارية كمقدمة شرطية لبناء أمة حرة ذات سيادة. 


خاتمة 

كان الربيع العربي بمنزلة الضوء الكاشف من جهة عن هشاشة البنية السياسية 
العربية التى اخترقها الاستبداد والفسادء الذي كشف من جهة ثانية ردة كثير من 
المثقفين عن قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية» ما بُبرز أزمة المثقف 
العربي المعاصر وهو يراوح مكانه ضمن ثالوث السلطة والأيديولوجيا والمصالح. 

شكل هذا التحول التاريخي بشعاراته وعنفوانه وتعقيداته اختبارًا حقيقيًا 
وقاسيًا للمثقف ومقولاته وتصوراته ومشروعاته؛ ذ فمن المعلوم أن الثورات عبر 
التاريخ تفرز مثقفيها وتبرزهم» فهم الذين وضعوا البذور الأساسية للاحتجاج 
والمطالبة بنظام سياسي عادل يحقق المطالب المشروعة والعادلة للجماهير 
الثائرة» من خلال بدائل تتجاوز شعارات التغيير وإرادة نقض أسس الأنظمة 


)35( علي حربء أوهام النخبة أو نقد المثقف (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 
4) ص 20. 


419 


المطاحة إلى بناء تصورات للمرحلة الانتقالية» وتأمين السير في الاتجاه الصحيح» 
من خلال المزج بين وظيفتي التنوير والنقد منهيججًا وسلوكًا عمليًا. 

تبيّن أن الوظائف التقليدية للمثقف لم تبرز بالشكل المطلوب في هذه المرحلة 
المفصلية في مسار الشعوب العربية التي كانت انتظاراتها منه وفيرة» بل نسجت 
على المكدن هن ذلك قطاعات واسيكة مر المقفيق الغرى وتحالقات سيامة 
وأيديولوجية مع المؤسسة العسكرية والأمنية والمستفيدين من الوضع السابق؛ 
تحالفات قوامها الحفاظ على Lu‏ «الدولة العميقة» المتجلية فى المؤسسات 
السابقة» ولو بعناوين وأسماء جديدة» وسد الطريق أمام القوى الجديدة المؤمنة 
بالإصلاح والتحديث والديمقراطية بما يفرغ الثورات العربية من مضمونهاء 
ويجعلها لا ترقى إلى مستوى الثورات الاجتماعية الحقيقية. 

توجب هذه الصورة السلبية لأداء المثقف العربي في أثناء الموجة الأولى 
من ثورات الربيع العربي الاعتبار والاستفادة من دروسها؛ فعلى جميع الفاعلين؛ 
خصوصًا المثقفين» التوافق على ميثاق أخلاقي يحدد المسؤوليات ومبادئ العمل 
المشترك تأميئًا للمستقبل القريب. فالتاريخ يسجل أن الثورات لا تأتي سيلا جارفًا 
من الموجة الأولى» بل يتشكل من موجات متدفقة باستمرار» لينفجر بركانًا عارمًا 
تحدد نتائجه المقدمات والمقاربات والتصورات التي سبقته. 


المراجع 


1 - العربية 
أرندت» حنة. فى الثورة. ترجمة عطا عبد الوهاب. بيروت: المنظمة العربية 
للترجمة. 2008. 


بشارة» عزمي. «أفكار ميثاقية لأي ثورة عربية ديمقراطية». الجزيرة نت (3 
حزیران/ يونیو 2011)» فی: http://bit.1y/10BgavO.‏ 


420 


. «الثورة والمراحل الانتقالية». مجلة الديمقراطية. السنة 13. العدد 51 
(2013). 


. #عن المثقف والثورة». تبين. العدد 4 (ربيع 2013). 


. المجتمع المدنى: دراسة نقدية. بيروت/ الدوحة: المركز العربى 
للأبحاث ودراسة السياسات» 2012. 


تيللي» تشارلز. الديمقراطية. ترجمة محمد فاضل طباخ. بيروت: المنظمة العربية 
للترجمة. 2010. 


الجابري» محمد عابد. المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن 
رشد. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيةء 2000. 

حرب» علي. أوهام النخبة أو نقد المثقف. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي 
العربي» 2004 . 

سعید» إدوارد. خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة. ترجمة أسعد الحسين. دمشق: 
نينوى للتحقيق والنشر» 2011. 

. المثقف والسلطة. ترجمة وتقديم محمد عنانى. القاهرة: رؤية للنشر 

والتوزيع» 2008. 

سوندرزء فرانسيس ستونور. من الذي دفع للزمار؟: الحرب الباردة الثقافية. ترجمة 
طلعت الشايب. القاهرة: الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية» 2009. 

عبد الفتاح» بشير. «محنة الديمقراطية التمثيلية». مجلة الديمقراطية. السنة 13. 
العدد 51 (2013). 


لمريني» فريد. الفكرة الليبرالية والحداثة السياسية في المغرب. الرباط: مطبعة 


النجاح الجديدة» 2010. 
ليكلرك جيرار. سوسيولوجيا المثقفين. ترجمة جورج كتورة. بيروت: دار الكتاب 
الجديد المتحدة» 2008. 


بزباوم» إريك. الثورة: أوروبا (1848-1789). ترجمة فايز الصياغ. 
هوبزباوم عصر ب تر يز الصياع 


وهبة» مراد. «معنى التحول الديمقراطى والحداثة». فى: مجموعة مؤلفين. 
أين يذهب العرب؟: رؤية 30 مفكرًا فى مستقبل الثورات العربية. بيروت: 
المؤسسة العربية للدراسات والنشر» 2012. 


2- الأجنبية 
Bermeo, Nancy. Ordinary People in Extraordinary Times: The Citizenry and the‏ 
Breakdown of Democracy. Princeton, NJ: Princeton University Press, 2003.‏ 
Ramadan, Tariq. L'Islam et le Réveil Arabe. Paris: Presses du Chatelet, 2011.‏ 


Rawls, John. Le Libéralisme politique. Catherine Audard (trad.). Paris: Presses 
Universitaire de France, 1995. 


Touraine, Alain. Qu'est-ce que la démocratie?. Paris: Fayard, 1992. 


Weber, Max. Le Savant et Le politique. Julien Freund (trad.). Collection 10/18. Paris: 
Plon, 1996. 


Williams, Raymond. Keywords: À Vocabulary of Culture and Society. New York: 
Oxford University Press, [1976] 1985. 


422 


الفصل الرابع عشر 
المثقف العربي 
من محنة الاستتباع إلى سؤال الدور في زمن التحول 
إدريس الكنبوري 


لا أحد يجادل في أن هناك حالة أزمة ينوء بها الوضع الثقافي العربي العام؛ 
تتجلى مظاهرها في عدد من المؤشرات؛ منها التأخر الثقافي والسياسي في 
بلدان العالم العربي وانهيار مؤشرات التنمية الثقافية وانتفاء الترابط بين الدوائر 
الأكاديمية البحثية والدوائر السياسية والبيروقراطية ذات العلاقة بالقرار» وتردي 
المخرجات الأكاديمية في العالم العربي وتأزم المنظومة التعليمية وغياب أو قلة 
الاعتماد على النخبة الفكرية والثقافية في صوغ الاستراتيجيات الكبرى داخل 
الدولة والمؤسسات» وضعف الاحتفاء بالرأسمال الرمزي أو غيابه لمصلحة 
التركيز على التراكم المادي وتضاؤل مساحة القراءة... وغيرها من المشخصات 
التي قد يميل بعضهم إلى عد بعضها نتائج لا أسبايًاء تنهض دليلًا على أن الثقافة 
في واقعنا العربي تظل مكانا للاحتفال بالغياب» في مقابل منطق السلطة المحكوم 
بالحضور الطاغي. 

يقع في صلب الحديث عن أزمة واقعنا الثقافي تساؤل متكرر عن موقع 
المثقف العربي ودوره؛ بل إن الحكم على تأزم الواقع الثقافي ينطلق في الكثير 
من الأحيان من الحكم على المثقف بالتأزم» كأن أزمة الواقع الثقافي انعكاس 
لأزمة المثقف. لا العكس. وفي حين يرى بعضهم أن المثقف ليس إلا ضحية 


43 


لتردي الوضع الثقافي العربي العام» بسبب عدم انفتاح المؤسسات التعليمية على 
أطروحاته» وتغلّب الأمية وانسحاب القراءة» ومحارية الماسكين السلطة لفكره» 
والوقوف درعًا بينه وبين جمهوره”» يميل آخرون إلى تحميل المثقف مسؤولية 
ذلك التردي» على أساس أنه يتحرك في تخوم الواقع المجتمعي بنوع من الانعزالية» 
من خلال النزعة النخبوية الطاغية عليهء والانشغال بإشكاليات هى إلى الخاصة 
أقرب منها إلى عموم الناس» وعدم صوغ لغة قريية من العموم تبسط الإشكاليات» 
وتكرس ثقافة القرب”. ولعل ليس ثمة موضوع أسيل فيه مداد كثير» كما أسيل في 
موضوع المثقف العربي وأزمته. فمنذ عقود من الزمن» ساد في الأوساط الفكرية 
والثقافية العربية حديث أزمة المثقف. وانتشرت لازمة الأزمة» خصوصًا منذ أن 
نشر المفكر المغربي عبد الله العروي كتابه باللغة الفرنسية أزمة المثقفين العرب: 
تقليدية أم تاريخانية؟ في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي”» حتى 


ذهب الظن إلى أن المثقف العربي ولد وفي أحشاثه أزمته. 


يمكن القول إن التساؤل المتكرر والدائم عن أزمة المثقف العربي يُخفي 
وراءه - بطريق المداورة - الشعور بالموقع الرئيس الذي يحتله في البنية 
الاجتماعية والثقافية والسياسية فى المجتمعات العربية الحديثة» ومدى الرهان 
الملقى عليه في التحولات المتوالية» والإحساس بالحاجة إلى دوره المتزايد. 
بصيغة أخرىء ينطوي التساؤل الملح عن أزمة المثقف العربي - ضمنئيًا - على 
الشعور بأن هناك وضعًا شَرطيّاء مفاده أن خروج المثقف من أزمته شرط للنهوض 
من التخلف والخروج منه. 

انطلاقا من ذلك تسعى هذه الدراسة - وفقًا لمنهج تاريخي نقدي - إلى 
إعادة قراءة سياقات نشأة المثقف الحديث في بنية عربية - إسلاميةء ابتداءَ من 


(1) أحمد مفلح؛ في سوسيولوجيا المثقفين العرب: دراسة وصفية من خلال تحليل مضمون مجلة 
المستقبل العربيء 2008-8 (بيروت: متتدى المعارف 2013)»› ص 275-274. 
(2) عبد الإله بلقزيز» نهاية الداعية: الممكن والممتنع ني أدوار المثقفين (بيروت/ الدار البيضاء: 
المركز الثقافى العربى»ء 2000)» ص 50. 
Abdallah Laroui, La Crise des intellectuels arabes, traditionalisme ou historicisme? (Paris: (3)‏ 
Maspéro, 1974).‏ 


424 


نهايات القرن التاسع عشرء والوقوف على جملة التحولات والانعطافات التي 
خضع لها؛ وهي تحولات نرى أنها تلتقي في نقطة التقاطع بين المعرفي والسياسي. 
كما تشخخص الدراسة عملية الانتقال من البراديغم الذي كان يؤطره الفقيه والعالم 
بالمفهوم التقليدي» إلى البراديغم الجديد الذي نشأ في ظله المثقف الحديث. 


لا نعي - في أي حال - أننا سنقدم إجابات وافية ونهائية عن هذه الأسئلة 
ومثيلاتهاء بقدر ما يحدونا طموح إلى ملامسة بعض جوانب الأزمة وتجلياتها؛ 
موقنين أن أزمة المثقف قضية من التشابك والتعقيد حيث تستدعي تضافر الجهد 
وتوظيف منهجيات جديدة في المقاربة والتحليل» من أجل الخروج برؤية عربية 
شاملة» تعمل على تشخيص أزمة المثقف العربي وإعادة بناء مفهومه ودوره في 
مناخ ثقافي وسياسي جديد» وتستوعب مظاهر الأزمة الثقافية وتجلياتها وتقدم 
مقترحات وبدائل عملية» عقلانية وموضوعية» من أجل الانفلات من الحلقة 
الدائرية المفرغة التي يتخبط فيها المثقف العربي» وبالنتيجة الوضع السياسي 


أولًا: تعريف المثقف 


لا يكاد جل الدراسات والبحوث الذي يتطرق إلى المثقف يتفق على تعريف 
موحد يمكن أن يكون له قوة معيارية» بقدر ما نصطدم بتعريفات لا حصر لها تتخذ 
لنفسها زوايا متعددة للنظر إلى هذا «الكائن»» أكانت الزاوية السياسية بالتركيز على 
دوره ووظيفته أم الزاوية الأيديولوجية بالتركيز على مواقفه وتموقعه أم الزاوية 
الاجتماعية بالتركيز على موقعه وانتمائه الاجتماعى الطبقى. ويرى كارلوس 
ألتاميرانو أن لفظة المثقف «متعددة المعانى» ومثيرة للجدلء ولا حدود معينة 
لها؛ كما هو الشأن أيضًا بالنسبة إلى الفثة التي ينتمي إليهاء وهي فثة المشقفينء 
ancre‏ ويلاحظ أن اللغات الأوروبية لم تعرف هذا المفهوم حتى نهاية القرن 
التاسع عشر» حيث يُعرّف «القاموس الاشتقاقي الأول للغة الإسبانية» الذي ظهر 


Carlos Altamirano, Intelectuales: Notas de investigaciôn (Bogotä: Grupo Editorial Norma, (4) 
2006), p. 17. 


425 


في عام 1 188» كلمة «المثقف» كالآتي: «الشخص المشتغل بالبحث والتأمل»0؟)؛ 
وهو تعريف عام يشمل المشتغل في حقول الفكر والثقافة والتعليم» كما يشمل 
بالقدر نفسه رجل الكنيسة والكاهن والصوفي. ولم يحصل نوع من التحديد 
للمفهوم إلا بعد قضية دريفوس المعروفة في فرنسا في عام 1898؛ إذ جرى 
الفصل في المفهوم بين الجانب الثقافي والجانب الروحاني. 


بناء عليه» يقترح بعضهم تعريفات للمثقف على أساس الدمج بين الدور 
والسياق الاجتماعي أو التاريخي, أو كليهما. فلا #يكون» أي شخص مثقمًا كونه 
حاملا معرفة» بل يصبح» كذلك في الوقت الذي يخرج فيه بمعرفته إلى الفضاء 
العام» ويتبنى قضايا لا تدرج بالضرورة في مجالات اشتغاله بوصفه رجل معرفة» 
في أي مجتمع أو حقبة تاريخية؛ ويدعم المفكر الفرنسي إيتيان باريليي هذا 
التعريف بتأكيده أن المثقف هو رجل الفكرء بيد أنه رجل الفكر الذي يجعل فكره 
في خدمة فكرة العدالة كمثال". 

إذا كانت لفظة «مثقف» حديثة العهد بالاستعمالء أكان في اللغات ذات 
الجذر اللاتيني أو خارجهاء بما فيها اللغة العربية» فإن الأمر يدعونا إلى إعمال نوع 
من التمييز بين «الكلمة» و«الشىء»» حيث عرفت المجتمعات البشرية كلها فئة 
من «العمال الفكريين» الذين كانوا يُؤْدونَ أدوارًا معينة تُقربهم من مفهوم المثقف 
في العصر الحديث. أمثال رجال الدين والعلماء والكهنة الذين شغلوا حيرًا مهما 
في عملية التداول المعرفي في مجتمعاتهم» وكانوا قبلة الباحثين عن المعرفة أو 
الخبرة والدراية. وفي دراسته عن الديانة اليهودية القديمة» استعمل ماكس فيبر 
عبارة «المثقفين» بهذا المعنى» للدلالة على رجال الدين اليهود في بنى إسرائيل 
الذين تحملوا مسؤولية إعادة مراجعة التقاليد الدينية للشعب اليهودي وكتابتهاء 


Ibid, p. 20. (5) 
Ibid. (6) 


Josep Picé & Juan Pecourt, «El estudio de los intelectuales: Una reflexiôn,» Revista Española (7) 
de Investigaciones Sociolégicas (Madrid), no. 123 (2008), p. 25. 


Etienne Barilier, «Vie de l'esprit, vie de la cité, 1. Qu'est-ce qu’un intellectuel?» Revue (8) 
européenne des sciences sociales, vol. 28, no. 87 (1990), p. 21. 


426 


بالنظر إلى قربهم السابق من الأنبياء”. ويشير فيبر إلى أن الحاخامات اليهود كانوا 
يشكلون «طبقة من المثقفين» المنتمين إلى عموم الناسء أو الغوغاء (قدهةةطفام)» 
والمتميزين من الطبقة الأرستقراطية» حيث كانوا يقومون بدور استشاري 
وتحكيمي بين الناس تطوعًاء فضلًا عن عملهم الكهنوتي الأصلي*". 

إضافة إلى ذلك» أدى البحث عن مفهوم محدد ومرجعي عام لكلمة 
«المثقف» في الأدبيات الاجتماعية إلى كثير من التضارب والاختلاف. ولوحظ 
أن كثيرًا من الدراسات التي انصبت على دراسة «مهنة المثقف» في المجتمعات 
الحديثة كانت تنطلق من «نسيان» الماضي» على أساس أن المفردة لم تظهر إلا 
في نهاية القرن التاسع عشرء ومعها يبدأ تاريخ المثقف. ولسد هذه الثلمة» عملت 
مدرسة كامبردج على صنع منهجية تعتمد دراسة وضعية المثقف ضمن سياقاته 
التاريخية والسوسيولوجية» وذلك بهدف الحيلولة «دون أن يؤثر الحاضر في 
دراسة الماضي»»ء والعمل على دراسة الظواهر الثقافية والفاعلين الثقافيين في 
إطار السياق التاريخي» والبحث في رواج الأفكار بين هؤلاء الفاعلين ضمن 
الإطار نفسه» مرتكزة على منهجية تؤلف بين العلوم السياسية وعلم الاجتماع 
والألسنية”'. 


يلاحظ المؤرخ الفرنسي كريستوف شارل أن مصطلح «المثقف» أصبح مثقلا 
بالخلفية التاريخية والسياسية والأيديولوجية الفرنسية التي نشأ فيهاء الأمر الذي 
يصعب تعميم التجربة نفسها وسياقها الثقافي على مختلف المجتمعات الأخرى 
خصوصا المجتمعات غير اللاتينية نية التي لا تجد مشكلة في «(Intellectuel) ZÂS‏ 
بتنوع تراكيبها في اللغات المتفرعة عن اللاتينية. ويقترح شارل إدماج دراسة 
المثقف ضمن التاريخ المقارن» ويدعو إلى «الدراسة المقارنة للمثقفين»؛ إذ يرى 
أن كلمة «مثقف» لا تبدو غريبة في المعجم اللغوي اللاتيني» لكنها عندما تنتقل 
إلى معجم مختلف أو إلى سياق تاريخي قديم تصبح مثار الغرابة» ولا سيما أن 


Max Weber, Le Judaïsme antique, Translated by Isabelle Kalinowski (Paris: Champs- (9) 
Flammarion, 2010), p. 466. 


Ibid, p. 618. (10) 
Picé & Pecourt, p. 26. (11) 


427 


الكلمة ظهرت مع نمط الإنتاج الرأسمالي الذي يرتكز على تقسيم العمل إلى عمل 


ذهني وآخر يدوي2". 


يضمن هذا الانتقال من سياق تاريخي لم يكن فيه مفهوم المثقف معروفاء 
إلى سياق أصبح فيه المثقف جِرءًا منهء انتقالا Lie‏ حصل على مستوى 
البراديغم المؤطر لرؤية العالم والإنسان في العصر الحديث في أوروباء ابتداءً 
من عصر الأنوار» حين ظهرت فئة «رجال الكلمة» الذين مثّلوا حلقة انتقالية من 
رجل التير E E‏ 
الجذرية والعميقة التي مشت مسّت المجتمع والدولة والنسيج الثقافي. 


ثانيًا: انتقال البراديغم في العالم العربي 
من الفقيه إلى المثقف 


ترتبط نشأة المثقف العربي في العصر الحديث بجملة 7 تحوّللات جوهرية 
مسّت عددًا من الأنماط الثقافية والاجتماعية والفلسفية في العالم العربي» تتجت 
من الاصطدام السياسي والمغرفي يأورويا في نهاية الفرن التاسع عشرء وأدت إلى 
تحوّل في «رؤية العالم» لدى النخبة العربيةء السياسية والثقافية في آن. وارتبط 
ذلك التحول بالإشكالية الرئيسة التي طرحت آنذاك على هذه النخبة» وهي إشكالية 
الانتقال النهضوي من وضع يتسم بالانحطاط والجمود على الصعد المختلفةء 
إلى وضع تتحقق فيه النهضة والخلاص من التخلف. الذي يبدأ من الثقافة على 
صعيد الفرد والجماعة» ولا ينتهي عند الدولة» بوصفها التعبير المكنّف في العصر 
الحديث عن الطموحات المنجزة منذ أن وُلدت مع هيغل بوصفها فكرة تجريدية 
نمثل خلاصة التطور الإنساني. 
شكلت فئة العلماء الدينيين الطبقة المثقفة الوحيدة التى كانت تهيمن على 
عدد من الوظائف المرتبطة بالمعرفة في العالم الإسلامي طوال القرون الماضية؛ إذ 
كان العلماء يقومون بأدوار مهمة في المجتمع وفي العلاقة بين المجتمع والسلطة؛ 


Christophe Charle, «L'Histoire comparée des intellectuels en Europe: Quelques points de (12) 
méthode et propositions de recherche,» dans: Michel Trebitsch et Marie-Christine Granjon (coord.), Pour 
une histoire comparée des intellectuels (Paris: Editions Complexe, 1998), p. 39. 


428 


إذ كانوا قضاة ومفتين وموجّهين دينيين وسياسيين ورجال تعليم وأئمة مساجد. 
كما كانوا قادة المجتمع في القرى والحواضر”'. لكن مع بدء الاحتكاك بأوروبا 
في النصف الثاني من القرن التاسع عشرء وبسبب الجمود الفقهي المتراكم؛ بدأت 
القطيعة ترتسم بين الفئة «العلمائية؛ والعصر الجديد, بالنظر إلى النسق الفقهي 
المغلق الذي لم يستطع التجاوب مع التحولات الحاصلة: ليبرز أنموذج جديد هو 
المثقف» بوصفه ناطمًا بلسان عصر مختلف. 


تشكل الأنموذج الأول الجنيني للمثقف الحديث في العالم العربي من 
جماعة الإصلاحيين العرب الذين اصطدموا بمنجزات المدنية الأوروبية في نهاية 
القرن التاسع عشرء ورأوا فيها ما يتيح مدخلا إلى العصر والخروج من التخلف؛ 
وذلك من خلال التوفيق بين التراث الراكد والفكر الأوروبي الناهض. وترافقت 
هذه الصحوة مع عدد من التطورات التقنية الحديثة التي مكنت النخبة العربية من 
الاطلاع على الأفكار الإصلاحية الأوروبية؛ وفي مقدمها المطبعة التي دخلت إلى 
بعض بلدان المشرق في النصف الأول من القرن التاسع عشرء ووصول بعض 
الصحف الأوروبية التي ساهمت في إعطاء النخبة المدينية العربية صورة عمّا 
يجري في أوروبا من تحولات فكرية وسياسية واجتماعية» خصوصًا الأفكار 
الجديدة التى جاءت بها الثورة الفرنسية*")؛ فضلا عن البعثات الطالبية وانتشار 
نظم التعليم الحديث والرحلات الفردية الخاصة أو السفارية التي هيأت الإطار 
العام الذي تبلور فيه #براديغم» جديد*'» يتضمن رؤية جديدة للعالم وبناء فكريًا 
جديدّاء ويطرح أسئلة مختلفة عن تلك التي كانت مطروحة في المرحلة الماضية 
التي كان فيها الفقيه ورجل الدين هو الممثّل الوحيد للمشروعية الثقافية والمعرفية» 
في إطار البراديغم السابق. 


.25 هشام شرابي» المثقفون العرب والغرب. ط 3 (بيروت: دار النهار للنشر» 1987( ص‎ )13( 
Daniel Panzac, «Révolution française et Méditerranée musulmane: Deux siècles d’ambiguité,» (14) 
Revue du monde musulman et de la Méditerranée, vol. 52, no. 1 (1989), pp. 10-18. 


(15) نعتمد هنا مفهوم «براديغم؛ وفمًا لتعريف توماس كون الذي يعرفه أنه «الالتزام الجمعي 
أو المشترك بمعتقدات معينة». انظر: توماس كونء بنية الثورات العلمية» ترجمة شوقي جلالء عالم 
المعرفة 168 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» 1992)؛ ص 155. 


429 


انطلاقًا من ذلك. برز مفهوم المثقف في سياق إشكالية مزاحمة الفقيه 
وأخذ مكانه» بوصفه الشخص الأكثر انفتاحًا على معارف العصر ولغاته. فإلى 
نحو النصف الأول من القرن التاسع عشرء ظلت «السلطة العلمية الوحيدة التي 
استقرت في تراثنا الثقافى هى سلطة الفقيه»!2'"» بما يعنيه من نفوذ ثقافى وسياسى» 
مستمد من مشروعية تمثيل النص الديني المقدس» وكونه الناطق باسم الشريعة. 

في حوار مليء بالدلالات نقله محمد رشيد رضاء صاحب تفسير المئار, 
بيّن الشيخ محمد عبده؛ مفتي الديار المصرية» في شأن العلم والعلماء ما يظهر 
ثقل البراديغم الجديد وصراعه من أجل تجاوز الأنموذج القديم؛ إذ يقول المفتي: 
#ولكن العلماء في انصراف تام عن شؤون العامة» وقد تركوا هم تلك الشؤون إلى 
الحكام (...) ولم يتبق لأحد منهم علاقة مع العامة فيرد الشيخ عبده: «لا شك 
أن أغلب المشتغلين بعلوم الدين تنقصهم الخبرة بأحوال الناس» ويفوتهم العلم 
بما عليه أهل العصر»”'. 


مثل صعود المثقف انعكاسًا لجمود الفقيه الذي يمثل مشروعية «النص». 
لكنه لا يتوافر على «الخبرة» في التعامل مع الواقع» والمعبر عنه في هذه المقالة 
ب «أحوال الناس». وبلور هذا التصور طموحًا إلى تجاوز تلك المشروعية 
المؤسسة على أحدية الانتماء إلى الماضى» لمصلحة توفيقية جديدة تسعى إلى 
تحقيق المزاوجة بين ذلك الماضي والمنظور التاريخي الجديد, مثلها رجال 
الدعوة الإصلاحية الأولى. | 


ظل حضور الماضي في باطن المثقف الإصلاحي قائمّاء بوصفه الأنموذج 
الذي عليه الرجوع إليه» لكنه ترافق مع الحاضر الأوروبي الذي أصبح يمثّل 
الأنمو ذج الواجب «القياس» عليه؛ ولذلك يمكن تسمية هذا المثقف الإصلاحي 
الأول «المثقف السلفي» الذي لا يرى الخروج من الماضي بانتقاده إلا مقدمة 
للرجوع إليه بإعادة صوغه. متسلحًحا بالقيم الأوروبية الجديدة. ويمكن القول هنا 


(16) علي أومليل» السلطة الثقافية والسلطة السياسيةء ط 3 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 
2011( ص 25 

)17( محمد رشيد رضاء مجلة المنارء 22 مج (المنصورة: دار الوفاء للطباعة 6,291 2002( مج 
4ج 2-1 ص 407-406. 


430 


إن الماضى بالنسية إلى هذا المثقف ظل يمثل المعرفة «(Le savoir)‏ بينما كانت 
أوروبا تمثل بالنسبة إليه المنهج -(La méthode)‏ 


يرى بعض الباحثين أن نمط المثقف السلفي انطلق مع النفس الإصلاحي 
لمجلة المنار لرشيد رضاء بين نهاية القرن التاسع عشر وثلاثينيات القرن العشرين» 
وأن ما يميز هذا المثقف من الفقيه التقليدي أنه كان ذا منزع «إحيائى)؛ أي إنه لا 
يقلّد الماضي بل يعمل على إعادة بعثه في الحاضر وفمًا لتصور عصريء الأمر 
الذي عبر عنه مصطلح «النهضة» الذي أطلق على الحراك الفكري والثقافي لتلك 
المرحلة. ويذهب هؤلاء إلى القول إن هذا المثقف كان يتمثّل قيم عصر الأنوار 
الأوروبي ومبادئه» بدليل تسمية «المنار» التي هي أحد الاشتقاقات اللغوية القريبة 
Hosts‏ 


ثالثا: المثقف الليبرالى 
الصعود والهبوط 
واجه المثقفٌُ السلفي الفقية التقليدي» بينما سيواجه المثقفٌ الليبرالي 
المثقفٌ السلفي» بالموازاة مع تحول جديد في البراديغم» بعد تكريس مفهوم 
الدولة الوطنية فى عقب الاستقلال السياسي. فإذا كان المثقف السلفي قد ارتبط 
بالطموح العام إلى إحياء الماضي الإسلامي المشترك باسم الانتماء إلى الأمةه 
فإن المثقف الليبرالي سوف يولد من رحم الدولة الوطنية» رافعًا لواء الانتماء إلى 
الوطن. ولم يصبح المثقف الليبرالي الجديد الذي سيظهر في خمسينيات القرن 
الماضي» يعمل على إحياء ثقافة مشتر ة» بل أصبحت رسالته تتمثّل في البحث 
عن التاريخ الوطني الخاص» وإعادة كتابة تاریخ الدولة الوطنيةء بوصفه جزءًا من 
تاريخ الأمة المشترك. لكنه جزء مستقل بنفسه في إطار من النزوع الوطني؛ ففي 
الخلفية الفكرية لهذا المثقف يقف وراء التقدم الأوروبي تنظيعٌ محكم للدولة!*". 
Kosugi Yasushi, «Al Manar Revisited: The «Lighthouse» of the Islamic Revival,» in: (18)‏ 


Intellectuals in the Modern Islamic World: Transmission, Transformation, Communication (London: 
Routledge, 2006), pp. 5-7. 


Ali Oumlil, ملعا‎ et État national (Casablanca: Editions le Fennec, 1992), pp. 66-67. (19) 


431 


يرى عبد الله العروي أن المثقف الليبرالي خرج من أحشاء المثقف السلفي؛ 
ذلك أن هذا الأخير لم يتمكن؛ » كونه تعايش في داخله نوعان من المثقفين (السلفي 
المنكمش على الماضي» والإصلاحي المتطلع إلى أورويا)» من إنجاح ذلك 
التعايش» ما مهّد لميلاد المثقف الليبرالي الذي صار ينظر إلى الإصلاح من منظور 
التقارب مع الثقافة الأوروبية”©. غير أن العروي يلاحظ أن المثقف الليبرالي 
سقط في «تراجيديا» قاسية» نتيجة الفجوة القائمة بين قناعاته الليبرالية» والشروط 
الاجتماعية الموضوعية التي لم تكن تسمح لمثل تلك القناعات بالتحقق» الأمر 
الذي أدى إلى انشطاره هو الآخرء بين مثقف تقليدي يسعى إلى استعادة التقاليد» 
ومثقف عصري يريد تقليد أورويا'©. 


إن كنا نوافق أطروحة العروي هذه. إلا أننا تتحفظ في شأن العوامل الكامنة 
وراء انشطار المثقف الإصلاحى. ولا يعود السبب - فى رأينا - إلى صعوبة 
التعايش في داخله بين اتجاه سلفي وآخر حداثي أو عصر ي؛ بل إلى الملابسات 
السياسية التي حدّت من دوره في الأوضاع التي ظهر فيهاء من جهة؛ ومن جهة 
ثانية إلى ثقل الموروث الديني وتحالف الفقيه التقليدي مع السلطة السياسية. 
ويمكن أن نلمح في المحاولات اليائسة لإصلاح المؤسسة الدينية؛ أكان في 
الأزهر المصري أم القرويين المغربي أم الزيتونة التونسيء انعكاسًا واضحًا لميل 
ميزان القوة إلى غير مصلحة المثقف الإصلاحي الذي وجد نفسه في مواجهة 
خصمین ٩2‏ : فبرفعه مطلب الإصلاح الديني؛ وضع نفسه في قلب المعركة مع 


Laroui, La Crise, pp. 145-146. (20) 

Ibid, p. 149. (21) 

(22) يمثل الإصلاحي المغربي محمد بلحسن الحجوي (1956-1874) حالة أنموذجية لهذا 

الصدام بين التقليديين والإصلاحيين؛ إذ جوبه مشروعه الإصلاحي للقرويين في فاس بحرب شرسة. 

ويصف ذلك هو بنفسه قائلا: : «فيينما نحن نبني ونصلح ونرمم بفاس» قد شرعوا في الهدم والتخريب في 

الرباط بغير فأس». واضح أن قاس تشير إلى مركز السلطة الدينية» بينما تشير الرباط إلى مركز السلطة 

السياسية. ومعروف أن الحجوي عندما توفي دفن سرا حتى لا ينبش المتعصبون قبره» ورد إليه الاعتبار في 

ثمانينيات القرن الماضي في المغرب» بوصفه رائد الإصلاح الديني. انظر: حسن أحمد الحجوي» العقل 

والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي (1956-1912) (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 
3) ص 200. 


رجال الدين التقليديين» وبدعوته إلى اللإصلاح السياسي» كان عليه أن يدفع كلفة 
الصراع مع السلطة*. 


بيد أن المثقف الليبرالي لم يكن أسعد حظا؛ إذ أراد تبني مشروع الدفاع 
عن العقلانية والتنوير في وجه المعسكر التقليدي» متبئيًا جزءًا من المنهجية 
التي اعتمدها المثقف الإصلاحي نفسه الذي وضع الفكر الديني التقليدي على 
طاولة النقد. ولم يكن المثقف الليبرالي رجل دينء أو خريج المؤسسة الدينية» 
بيد أن أطروحته في شأن الإصلاح الديني كانت مرتكزة على الإرث الذي خلفه 
الإصلاحيون؛ وربما جاز القول إن هذا هو الوضع الراهن داخل الثقافة العربية 
حتى اليوم» بين الحداثيين والأصوليين. 

دفع المثقف الليبرالي مشروع نقد الماضي والدفاع عن العقلانية» خطوة 
إلى الأمام في مواجهة المثقفين السلفيين الذين تراجعوا عن الثقافة الإصلاحية 
السابقة التي وضع قواعدها الإصلاحيون الأوائل» فأصبحوا تقليديين بحجة 
الدفاع عن أصول الثقافة الإسلامية؛ بل إن المثقفين الليبراليين»ء خصوصًا ذوي 
الأصول المسيحية» دفعوا هذا الاتجاه خطوة أكبر» برفضهم تلك القيود التي 
وضعها الإصلاحيون السابقون» في شأن ما تجوز استعارته من الغرب”*. وبينما 
خاض المثقف السلفى معركته ضد الفقيه التقليدي فى رحاب المؤسسة الدينية 
التقليدية» من دون أن يحرز نجاحًا كبيراء نلاحظ أن المثقف الليبرالي سوف 
يخوض معركته في رحاب مؤسسة علمية مدنية حديثة» هي الجامعة. وتُمكّل 
معركة طه حسين» بسبب كتابه فى الشعر الجاهلى. المثال الأبرز للمواجهة 
بين التقليديين والعصريين» أو ا القديم» و «أنصار الجديد»؛» بحسب 
جاك بيرك؛ إذ رفض التقليديون تطبيق المناهج العلمية النقدية الجديدة على 
التراث القديم» باسم المحافظة» ما أدى إلى محاكمة طه حسين بتهمة الإساءة 


(23) في شأن المشكلات التي واجهها الإصلاحيون الأوائل مع السلطة السياسية» انظر: ألبرت 


حوراني» الفكر العربي في عصر النهضة (1939-1798)» ترجمة كريم عزقول (بيروت: دار النهار للنشر» 
1977( 


.70 ص‎ al 3 (24) 


433 


إلى الإسلام؛ ويرى بيرك أن تلك المعركة شبيهة بتلك التي خاضها المثقفون 
الفرنسيون في قضية دريفوس*. 

لم يكن الانتقال من الجامع إلى الجامعة انتقالا في أساليب التدريس فحسب» 
بل بالأحرى تحولًا في البنية الذهنية للجيل الجديد الذي تشرّب المبادئ الليبرالية 
الأوروبية» وبدأ يعي قدر الفرق بين تعليم تقليدي قديم لا يلائم العصر. وتعليم 
حديث يقدم رؤية جديدة للعالم. فخلانًا للمثقف الإصلاحي الذي عايش تجربة 
انهيار الخلافة العثمانية وواجه اختبار إحياء الخلافة» عايش المثقف الليبرالى حالة 
من التماس المباشر مع الاستعمار الأوروبي» وواجه اختبارًا من نوع مختلف؛ هو 
اختبار الذاتية الوطنية؛ ومثّل التعليم العصري الحديث الذي بدأ مع «المدارس 
الوطنية»» بوتقة صهر هذه الذاتية الجديدة. 


قامت المزاحمة بين التعليمين» التقليدي والعصري» بدور مؤثر في صوغ 
عقلية النخب الجديدة التي بدأت تشرئب إلى استيعاب معطيات الفكر الأوروبي 
الحديث» وترى أن القسط الأكبر من الأزمة يعود إلى استمرار التعليم التقليدي 
ومناهجه البالية. وعلى الرغم من أن هذا التعليم tte‏ من أجل البقاء» وقاوم 
المثقف الإصلاحي» وعرقل الجهد الذي بُذل من أجل تطويره» فالاستعمار 
الأوروبي وجه إليه الضربة القاصمة في النهاية؛ إذ شجع التعليم العصري» وترك 
مؤسسات التعليم التقليدي تموت من تلقائهاء كونها ليست مصدرًا للرقي الإداري 
والوظيفي؛ الأمر الذي نتج منه تكوين جيل جديد من المثقفين©؛ وسوف تقوم 
هذه النخبة بالدور الأساس في التأسيس الأيديولوجي للدولة الوطنية الحديثة» 


20 


أول مرة 


غير أن المثقف الليبرالي سرعان ما سيجابه أزمة هوية» ستُطرح عليه مباشرة 
عقب مرحلة الاستقلال الوطنيء وبناء الدولة الحديثة. فبعد أن نجح ثقافيّاء في 


Jacques Berque, «Une affaire Dreyfus de la philologie arabe,» dans: Jacques Berque & Jean (25) 
Charnay (eds.), Normes et valeurs dans l'islam contemporain (Paris: Payot, 1966), pp. 266-267. 


Pierre Vermeren, Ecole, élite et pouvoir au Maroc et en Tunisie au XX°% siècle (Rabat: Alizés, (26) 
2002), pp. 55-56. 


Ibid, p. 219. (27) 


434 


التأسيس للمفهوم الوطني للدولة وإشاعة الشعور بالذاتية الوطنية والتواضع على 
قيم عَلمانية وعقلانية» في إطار مبدأ المواطنة» دخل في عٌقب الاستقلال حقبة من 
الضبابية في شأن ما المقصود بالانتماء الوطني؛ أهو انتماء إلى نزعة قومية لتمييز 
نفسه من الآخر الأوروبي؟ أم انتماء إلى قيم جديدة تتعلق بالانتماء المشترك 
إلى الحضارة العالمية*©؟ بعبارة أخرى» كانت مرحلة الاستقلال اختبارًا عمليًا 
لأحلامه الفكرية التي صاغها من قبل. 


رابعًا: سقوط «يوتوبيا" الدولة الوطنية 


تتقارب تجربة المثقف الليبرالي العربي» في المرحلة الواقعة بين الحربين» 
مع تجربة نظيره في أميركا اللاتينية؛ إذ عرفا صحوة الوعي الوطني في الفترة 
نفسهاء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ونما الوعي الليبرالي عند المثقف 
الأميركي اللاتيني بفعل الاحتكاك مع الاستعمار الأوروبي» وكان جوابه عن سؤال 
التأخر هو التوفيق بين التراث اللاتيني والثقافة الغربية الليبراليةء من أجل تكوين 
ايوتوبيا وطنية». بيد أن هذه اليوتوبيا اصطدمت بواقع الدولة الوطنية التي خلفت 
الاستعمار الأجنبي*. 


يمكن عكس هذا المخاض على المثقف الليبرالي العربي الذي نشأ هو 
الآخر «مثقفًا غير أوروبي»» بتعبير العروي”"؛ إذ انفتح على الفكر الليبرالي 
الأوروبي في مرحلة الاستعمار؛ لكن سرعان ما تحول ذلك الوعي الإيجابي إلى 
وعي شقي مباشرة بعد الحصول على الاستقلال*. هنا سنلاحظ تحولا في موقع 
المثقف حيال الفاعل السياسي في إطار الدولة الجديدة؛ فهو ما عاد مَلهمًا للأفكار 
والمشروعات الإصلاحية» بل أصبحت هذه المشروعات تأتي من موقع آخرء 


Jacques Berque, Les Arabes d'hier à demain (Paris: Edition du Seuil, 1969), p. 66. (28) 


Carlos Altamirano (dir.), Historia de los intelectuales en América Latina, Volumen 1 (Buenos (29) 
Aires: Katz Editores, 2008), pp. 16-17. 


Laroui, La Crise, p. 149. (30) 


Ibrahim M. Abu-Rabi”, Contemporary Arab Thought: Studies in Post-1967 Arab Intellectual (31) 
History (London: Pluto Press, 2004), p. 74. 


435 


هو موقع السلطة الحاكمة» وما عليه إلا أن يتابع» أو يحكم على مصيره بالزوال. 
Se‏ » لم ينفك مسار المثقف العربي عن المسار السياسي 
العام للدولة الناشئة 


ا المثقف ب الليبرالي في أن bal‏ الور لر مابعد 
والعقلانية والعدالة الاجتماعية» وفي 3 دولة ا الاستقلال لم تكن نر 
تلك القيم؛ كما أن المثقف لم يُستدعٌ في عملية تدشين التطور السياسي والفكريا 
الجديد .بل على العكس من ذلك تمامّاء أصبح المثقف عبئًا على الأنظمة السياسية 
الجديدة؛ فكان عليه أن يختار بين أن يتحول إلى «مثقف عضوي؛ للأنظمة الوليدة» 
أو أن يحلم أن يكون ناطمًا باسم مجتمع لم تتجمع شروط ميلاده» أو طبقة 
اجتماعية لم تتوافر شروط صعودها بعد. وبعبارة حسن حنفيء فإن هذا المثقف 
أصبح مطلوبًا منه «تبرير القمة على حساب القاعدة»؛ بدلا من «تأسيس الدولة من 
القاعدة إلى القمة)322)؛ئ وهو المشروع الذي أنجزه المثقف الليبرالي في أوروياء 
والذي مثّل أنموذجًا مرجعيًا للمثقف العربي”©. فخلافًا للتجربة الأوروبية 
والفرنسية خصوصًاء لم يكن للمثقف الليبرالي العربي دور في صوغ الأساس 
الفلسفي للدولة العربية» ليس ابتعادًا منه» بل إبعادًا له؛ فرؤيته لم تكن مطلوبة» بل 
À eh NN NL y COL‏ 
الإمبراطورية العثمانية «سقطت في براثن à‏ الأنظمة» وأصبحت تتبع النظام بدلًا 

من أن يتبع لها النظام)”*2)؛ ذلك أن أساس الدولة المشاركةء بينما أساس النظام 


الموالاة. 


أدّت خيبة المثقف الليبرالي إلى توتر حاد ناجم عن الفجوة بين الفكر والواقع؛ 
الأمر الذي دفع كثيرين إلى السقوط في ما يسميه أحد الباحثين «عبادة الشخصيةاء 


(32) حسن حنفي» «ما الذي يمنع المثقف العربي من التفكير في المستقبل؟)» الفكر العربي 
المعاصر. العددان 91-0 (1991)» ص 41. 

(33) علي الدين هلال» «أزمة الفكر الليبرالي في الوطن العربي»ء عالم القكرء السنة 26: العددان 
1998(4-3))., ص 115. 

(34) عزمي بشارة» عن المثقف والثورة»» تيين» العدد 4 (أيار/ مايو 2013)» ص 30. 


436 


تعويضًا عن الفشل في الحاضرء واستمدادًا للأمل من الماضي”**؛ إذ يكتب محمد 
حسن الزيات» مثلاء في عام 1949: «والمتوقع الذي لا حيلة فيه أن نظل كما نحن 
لعبة تلعب» أو نهبة تنهب» حتى يبعث الله فينا الرجل الذي ننتظر»00©. 


يرى العروي أن نهاية المثقف الليبرالي حصلت مع حرب فلسطين التي 
ملت «الضربة القاصمة» للحلم الليبرالي العربي» في نهاية الأربعينيات من القرن 
الماضي» ما أدى إلى بروز طبقتين من المثقفين: طبقة اتجهت إلى تبني الأطروحات 
الدينية» وطبقة اتجهت إلى تبني أطروحة اليسار”*. وفي مقابل هذا التصورء يرى 
محمد أركون أن العامل الأساس الذي «أسقط قيمة المثقف الليبرالي4» هو صعود 
الدولة القومية» ممئّلة في الناصرية؛ إذ أصبح هذا المثقف خصمًا للدولة» بتهمة 
الموالاة للغرب. ليبدأ تمجيد «المثقف المجتد»”» وهو من يطلق عليه العروي 
أيضًا تسمية «الشخص التقني» (المبرمح والمهندس ورئيس المؤسسة) الذي يلائم 
الدولة القومية التي تتسم بخاصيتين؛ إنها «دولة الدعوة إلى التقنية والتصنيع؟» وإنها 
«دولة البورجوازية الصغيرة الظافرة». 


خامسًا: المثقف العربى وسقوط الأيديولوجيا 


غالبًا ما يجري التحقيب لمرحلة ما بعد فشل الدولة الوطنية مابعد الاستعمار 


بالمرحلة الأيديولوجية» ذلك أن مشهد المثقفين العرب بدأ يشهد تبلور اختيارات 
أيديولوجية عدة» تتضمن تصورات وقناعات متباينة في شأن عملية الإصلاح 


(35) هذا ما قام به عباس العقاد مثلا في بداية أربعينيات القرن الماضيء حين كتب عبقرياته المعروفة» 
كنوع من البحث عن البطل المخلّص في الماضي أمام انسداد الحاضر. 
(36) نقلا عن: محمد جابر الأنصاري؛ تحولات الفكر والسياسية في الشرق العربي» 1930- 
0 ددراسة فى خصوصية الجدلية العربية (نيقوسيا: دلمون للنشرء 1988): ص 103. 
Abdellah Laroui, /s/am et modernité, 3** ed. (Casablanca: Centre Culturel Arabe, 2009), p.(37)‏ 
.82 


Mohammed Arkoun, «Quelques tâches de l'intellectuel musulman aujourd'hui,» Cahiers de (38) 
la Méditerranée, voi. 37, no. 37 (1988), pp. 1-34. 


(39) عبد الله العرويء الأيديولوجيا العربية المعاصرة» ترجمة محمد عيتاني» ط 3 (بيروت: دار 
الحقيقةء 1979)» ص 57. 


437 


والتغيير. وتعلقت تلك الاختيارات بمحورين أساسيين: محور الدولة بوصفها 
التعبير عن النسق السياسي» ومحور التراث بوصفه التعبير عن النسق الثقافي. 
واستقطب هذا المحور الأخير الاهتمام الأكبر في أوساط المثقفين» ذلك أن 
«المنظومات الثقافية المعرفية والاعتقادية تخفي مواقع اجتماعية - سياسية 
وتكرسها في الوقت نفسه. بقدر ما هي انعکاس لها»“. 


تسجل هذه الحقبة بروز أنواع من المثقفين انخرطوا في التبشير باختيارات 
أيديولوجية متنوعة» تشكل مداخل مختلفة للخروج من التأخر. ومكّلت الدولة 
القومية التي ربطت الاختيار القومي على الصعيد الثقافي والسياسي» بالاختيار 
الاشتراكي على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي» التعبير الأنمو ذجي الأوضح 
لهذه الحقبة. فليس المثقف العربي في هذه الفترة صاحب مشروع ينادي به» 
كما كان الأمر مع المثقف الإصلاحي وخليفته الليبرالي» بل تحوّل «داعية» 
وارجل تبشيرا» ينافح عن قضية تتبناها السلطة» وأداة في خدمة «التجييش 
الأيديولوجي»“؛ إذ استبدل «الموقف» الناتج من تبعيته للسلطة؛ ب «الرؤية» التي 
تنتج من قناعات فكرية صميمة في إطار مشروع نهضويء ذلك أن الدولة أصبحت 
هي صاحبة هذا «المشروع النهضوي»» وأصبح على المثقف أن يتحول إلى قناة 
لترويجه. 

بالقدر الذي كشفت فيه تلك التبعية للمثقف وراء السياسي غياب الرؤية عند 
المثقف» فإنها كشفت العوز المنهجي الذي طبع فكره في التعامل مع تراثه القديم؛ 
فهو حين تصذر للتبشير بالمشروع القومي» سيرًا وراء الحاجة السياسية إلى السلطة 
سقط في التناقض النظري الحاد بين الأمة بالمفهوم التاريخي» والقومية بالمفهوم 
السياسي؛ وكان ذلك» كما يلاحظ الفضل شلق» نتيجة التناقض بين الأيديولو جيا 
السائدة والأوضاع التاريخية الموضوعيةء بعدما عد الأمة #ترانًاة» والقومية 
«حداثة)» من غير أن يدرك آنه سقط مجددًا في ما كان يريد الهروب منه» وهو النزعة 

(40) برهان غليونء اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعيةء ط 2 (بيروت: دار التنوير 


للطباعة والنشرء 1979)» ص 99. 
(41) بلقزيزء ص 81. 


التوفيقية لرواد الإصلاح الأوائل2*. لكن الملاحظة التي يمكن رصدها في مرحلة 
التبشير القومي» هي أن النزعة القومية جمعت في أكنافها مختلف أنماط المثقفين 
الذين وحدتهم الفكرة القومية وفرّقت بينهم سبل المناهج؛ إذ كان هناك الاشتراكي 
الذي ناصر المخططات الاجتماعية والاقتصادية للدولة القومية» والإسلامي الذي 
انجذب إلى قضية إحياء «الأمة» وتصدى للتأصيل الديني للقومية» واليساري 
الماركسي الذي رأى في الدولة القومية ذات المضمون الاشتراكي جسرًا إلى نمط 
الإنتاج الاشتراكيء خصوصًا في القطاع الزراعي”*» وأخيرًا القومي الصافي الذي 
كان يحلم بدولة عربية واحدة ذات «إقليم قاعدة»» وعكف على إعادة كتابة تاريخ 
قومي يجعل الإسلام دين قومية واحدة» لأ دين شعوب. 

لكن هذا المثقف «المركب» الذي عانق القومية لأنها أيديولوجيا السلطة. 
سرعان ما أفاق من حلمه في أول مرة مع فشل تجربة الوحدة المصرية - السورية 
في عام 1961» حين اكتشف أن التناقض كامن في الفكرة القومية ذاتهاء بوصفها 
فكرة تتجاهل حقيقة الدولة الوطنية الحديثة؛ وهكذا وجد أن يوتوبيا الدولة 
الوطنية أصبحت النقيض ليوتوبيا الدولة القومية. كما متّلت هزيمة 1967 بالنسبة 
إلى المثقف العربي منعطمًا شديد الدقة» ولا سيما أتباع الاختيار القومي. ويرى 
إبراهيم أبو ربيع أن الهزيمة مثّلت «قطيعة إبيستمولوجية» في وعي النخبة المثقفة 
في العالم العربي» جرت معها عددًا من التحولات الفكرية والأيديولوجية في 
المشهد الثقافي العام» وقادت إلى رفع سقف الممارسة النقدية حيال التراث 
خصوصًاء ولا سيما ما يتعلق بموقع الدين في المجتمع”“. ويمكن تحديد تيارين 
بارزين في خلال هذه الفترة: تيار النقد الأيديولوجي الذي حاول إعادة النظر في 


(42) الفضل شلقء الأمة والدولة: جدليات الجماعة والسلطة في المجال العربي الإسلامي (بيروت: 
دار المنتخب العربي» 1993)؛ ص 112 -115. 

(43) يرى أنور عبد الملك أن الإنتلجسيا الماركسية في مصر التي أيّدت النظام العسكري» بزرت 
ذلك في أن دورها في إطار «الدولة الوطنية المستقلة» هو أن تكون «أداة بناء», لا أن تطرح نفسها «بديلا 
ثوريًا للسلطة التي عادت أخيرًا إلى الشعب»: وأن تكون «أفضل ct LMI‏ استعدادًا للاشتراكية في الأمد 


Anouar Abdel-Malek, «Problématique du socialisme dans le monde arabe,» اء «بامهء!'.ط‎ la : البعيد. انظر‎ 
société, no. 2 (1966), pp. 139. 


Abu-Rabi”, p. 10. (44) 


439 


التراث بشكل عام» على أساس تحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاعء والدعوة 
إلى إجراء عملية فرز في داخله بما يتوافق مع فكرة التطور المنشود””*» وتيار النقد 
الإبيستمولوجي الذي ركز على اختبار عدد من المفاهيم الغربية المطبقة في تحليل 
الحالة العربية» لعدم قدرتها على الوفاء بمتطلبات هذه الحالة©». 

ما تجدر الإشارة إليه هنا هوء أن هذه الفترة لم تشهد توجه المثقف إلى انتقاد 
الممارسة الثقافية والتجربة السياسية فحسبء بل نشأ نوع ثالث من النقد يرمي 
إلى وضع المثقف نفسه. «أداة» ممارسة هذا النقدء على طاولة النقد؛ هكذا أصبح 
المثقف نفسه موضوعًا للممارسة النقدية. ويمئّل كتاب عبد الله العروي أزمة 
المثقفين العرب (1974) الذي أشرنا إليه فى هذا الدراسة أكثر من مرة» علامة 
فارقة في هذا الشأن؛ إذ وجه فيه انتقادًّا شديد الصرامة لم يكن مسبوقًا إلى المثتقف 
العربي». خلص فيه إلى نتيجة أن «الغالبية العظمى من المثقفين العرب تستمر في 
الميل إلى السلفية أو الانتقائية» والأكثر غرابة من ذلك» فهي تعتقد أنها تتمتع 
بالحرية الكاملة التي تسمح لها بامتلاك أفضل ما لدى الآخر من إنتاجات ثقافية» 
لكنها حرية على طريقة العبد الرواقى!»”“. وجاءت الكتابات النقدية عن أزمة 
المثقف العربي ودوره في الفضاء الاجتماعى فى سياق التأثر بتلك التى ظهرت فى 
أوروباء وأعادت النظر فى مسؤولية المشقفين؛ وأبرز تلك الكتابات فى هذه الفترة 
كتاب جان بول سارتر دفاع عن المثقفين (9)1972». ۰ 

انعكست الهزيمة على مرآة الثقافة هزيمة ثقافية» وعلى مرآة السياسة هزيمة 
للأيديولوجياء ما دفع بكثير من المثقفين العرب إلى إعادة النظر في مجمل الأنساق 
الفكرية التي احتّفي بها حتى ذلك الوقت» حيث شهدت الفترة بين نهاية الستينيات 
إلى نهاية السبعينيات من القرن الماضي طفرة في النقد الذاتي الذي وصل في بعض 
الأحيان إلى جلد الذات» من قبائل المثقفين الذين انبروا إلى ممارسة نقد صارم 
على جملة الأنساق تلك. ويمثل المفكر السوري ياسين الحافظ أنموذجًا لتلك 

(45) غليونء ص 312. 

(46) محمد وقيديء كتابة التاريخ الوطني (الرباط: دار الأمان. 1990)» ص 32. 


Laroui, La Crise, p. 191. (47) 
Jean-Paul Sartre, Plaidoyer pour les intellectuels (Paris: Gallimard, 1972). (48) 


440 


الممارسة النقدية الجذرية لمهمات المثقف فى مرحلة ما بعد الهزيمة» من خلال 
كتابه الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة الذي يختتمه بهذا التنبيه: «لقد آن للثوريين 
العرب أن يتتهوا من الأيديولوجياء وعندها سيكون بإمكانهم أن يهجروا الوعي 
الامتثالي للهزيمة العربية وينتقلوا إلى وعي نقدي لها»”“. 


سادسًا: صحوة «المثقف» الدينى 


منذ حقبة مابعد الاستعمار» تعايش مع نمط التعليم العصري الحديث في 
الوطن العربي تعليم تقليدي قديم» ظل بمنزلة الخرّان بالنسبة إلى الدولة العربية 
الحديثة التي زاوجت بين التقليدانية والعصرانية؛ ذلك أن الدولة الوطنية لم تعمل 
على إنشاء مشروع حديث لتوحيد المجتمع والحسم في الخيارات الاجتماعية 
والثقافية» حيث استمرت معضلة الثناثية في كل شيء؛ «فالمثقف مثقفان» والمرأة 
امرأتان» والتاجر تاجران» والمدرسة مدرستان»*. وحافظت جميع البلدان 
العربية على مؤسسات التعليم العتيقة التي ظلت تخرَج الأطر الدينية التي يُستعان 
بها في إسناد المشروعية الدينية للدولة (مدارس تحفيظ القرآن» ودور التعليم 
العتيق» وكليات الشريعة» ومجالس علمية ...إلخ)» وهي ازدواجية جعلت 
المدرسة تراوح بين القديم والجديد» وحكمت على معركة التقليد والتحديث أن 
تبقى مع ركة مفتوحة ومستمرة بين النخب التي تتخرج في كلا نمطي التعليم الأمر 
الذي عوّق مهمة التحديث الثقافي وإنجاز الثورة الثقافية6©. 

كان من الضروري أن تنعكس هذه الازدواجية على هوية المثقف الحديث 


6 + + 


بالنسبة إلى الطبقات والشرائح الاجتماعية كلهاء» و«محاوّرة وحيد للسلطة 


(49) ياسين الحافظء الأعمال الكاملة لياسين الحافظ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 
5)» ص 877. 
(50) منير شفيق» «مجتمعان تحت سقف واحد؛, المستقيل العربي. السئة 3» العدد 21 (تشرين 
الثانى/ نوفمبر 1980)» ص 100. 
- (51) عبد الله العروي» العرب والفكر التاريخي (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشرء 1983( 
ص 149-148. 


441 


السياسية» يسبب من تلك المنافسة التي كان يمثّلها «المثقف» الديني e‏ 
الذي ظل في خصومة أيديولوجية شديدة مع المثقف الحديث. عادًا إياه مثقفا 
«غريب الوجه واليد واللسان»» في مجتمع ذي خصوصية عربية إسلامية ضاربة 
الجذور في التراث والتقاليد. 


del‏ هذه الخلفية» شهدت مرحلة ما بعد هزيمة 1967 انبعانًا جديدًا 
ل «المثقف» الديني التقليدي» لكن في لبوس جديد يحاول التوليف بين أصالة 
الثقافة وحداثة المنهج واللغة» تمثّل في المثقف الأصولي. طرح هذا المثقف 
الأصولي الأسئلة نفسها التي طرحها المثقف الحديث؛ لكن من زاوية مختلفة 
تمامًا؛ إذ أصبح نقيضه على مستوى التصور الأيديولوجي و«رؤية العالم». وفي 
مقابل الطرح الذي تبناه المثقف الحديث» في شأن ضرورة نقد التراث؛ تبنى 
المثقف الأصولي طرححا مخالقًا يقول بضرورة العودة إلى هذا التراث بدلا من 
انتقاده؛ بل إن هذا المثقف الأصولي وجد في نقد المثقف الحديث الأيديولوجيات 
التي تبناهاء بعد الهزيمةء اعترافا بالإخفاق. 


مجد المثقف الحديث الثورة وخصّص لها الكثير من التنظير» كما مجد 
الشعب والجماهير وأفرد لهما كثيرًا من المؤلفات والمشروعات الفكريةء إبان 

حقبة اليسار العربي والماركسية الثورية؛ غير أن أحلامه كثيرًا ما كان يجري السطو 
عليها من التنظيمات والأحزاب السياسية التي كانت توطّفها للترويج لمشروعاتها 
هي» بدلا من أن تكون أطرًا للتبشير بمشروعاته هو؛ إذ كان المثقفون هم الذين 
يقودون هذه التنظيمات» لكن لم يُعترف لهم بأي دور خاص فيهاة6. وأمام هذا 
الواقع» ظل المثقف يشعر بكثير من الغبن وعدم الاعتراف والتكران؛ فالحزب 
يستثمر سمعته في الدعاية لنفسه» والدولة تحاصره أو تغريهء والجماهير لا تفهمه. 
لتكون الخيبة دائمًا هي ملاذه الآمنء حيث يمكنه أن يمارس نقده الهادر في صمت 


تجاه الجميع» من دون أن يأبه له الجميع. 


(52) على سبيل المثالء في المؤتمر الثاني لرابطة علماء المغرب في عام 1968ء قال رئيس 
الرابطة» الشيخ عبد الله كنون» في كلمته عن العلماء: «إن التقدير يرتكز فيهم لأنهم المثقفون الوحيدون في 
البلاده. انظر: الحاج أحمد بن شقرون» مواقف وآراء رابطة علماء المغرب من التأسيس إلى المؤتمر العاشر 
(1987-1960) (الرياط: منشورات رابطة علماء المغرب. [د. ت.])» ص 162. 

(53) بشارة» ص 13. 


بيد أن نهاية السبعينيات ستمئّل صدمة أيديولوجية وسياسية له بكل ما في 
الكلمة من معنى» عندما وقعت الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979. فبعد 
أن كان المثقفون اليساريون ينتظرون أن تحصل الثورة باسم النظرية الماركسية 
والطبقة العاملة والبروليتارياء في واحدة من الدول العربية» فإذا بها تحصل باسم 
الإسلام لا باسم الماركسية» وباسم «المؤمنين» لا باسم «البروليتاريا»» وخارج 
الوطن العربي لا في داخله. وعمّق ذلك الحدث التحول الكبير الذي حصل بعد 
ل لق EE‏ مة**» ما دفع بكثير من المثقفين 
العلمانيين إلى التحول نحو الإسلام؛ كما لم 3 تبق كلمة مثقف مقصورة على التيار 
العلماني فحسب» حيث اقتحم الصورة مثقف جديد هو المثقف الإسلامي 

)55( 
الثوري 

أعادت الثورة الإيرانية إذا وضع سؤال الإصلاح الديني في مركز البحث 
عند المثقف العربي» بعد دخول الدين المجال العمومي» وما ترتب عن ذلك 
من توظيف للدين في الصراع السياسي**؛ ومن ثم» أصبحت المشكلة الرئيسة 
التي طرحت على المثقف الحداثي» في هذه الفترة» هي ذاتها التي طرحت على 
المثقفين الإصلاحيين الأوائلء مع التأخر في زمن استعادتها: ما الموقف من 
التراث الديني؟ وما یجب أن نأخذ وأ نع من أوروبا؟ وكيف يجري التفيق بين 
تراث مشترك ينتمي إلى الماضي وثقافة عصرية تنتمي إلى الحاضر الأوروبي؟ 
Lin te BE ere as‏ ثية من خلال هذا التوفيق؟ 

غير أن استعادة تلك الأسئلة أصبحت تتزامن مع الشعور بالضعف عند 
المثقف» عوض الاستقواء الذي كان يتسم به في الماضيء حينما كان يعد نفسه 
طليعة التغيير والثورة والإصلاح» ويرى أن المنطق التاريخي يسير سيرًا تقدميًا 
نحو الأمام» مؤيدًا أطروحته في شأن المراهنة على الاستنارة لهدم التقليد بطريقة 
تلقائية» حيث أصبح في موقع الدفاع عن قيم الحداثة في وجه القيم التقليدية 


(54) يُعدَ الشاعر السوري أدونيس مثالا أنموذجيًا عن ذلك؛ إذ كتب قصيدة بعنوان «تحية لثورة 
إيران» في صحيفة السفير اللبنانية» ثم في مجلة مواقف التي كان يصدرهاء في تمجيد الثورة. 

(55) بشارة» ص 32. 

(56) كمال عبد اللطيف. تجليات الثقافي في الربيع العربي (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع» 2014)» 
ص 197-196. 


443 


العائدة» عوض موقع الهجوم الذي كان يحتله في الأمس» وأدرك أنه يفتقر إلى 
صفة «المثقف الجماهيري» التي كان يعتقد أنه يملكها. بل إن حالة الخوف من 
أن يجري تجاوز موقعه والتخلي عنه دفعته إلى تبني خيارات ضد القيم التي 
آمن «Lg‏ أمام الخطر الذي أصبح يممّله التيار الأصولي؛ فتخلى عن حسه النقدي 
تجاه السلطةء وصار أكثر مهادنة في أداء دوره الأمر الذي أسقطه فى مواقف 
متناقضة أظهرتها الحوادث التى مرت بالمنطقة العربية منذ بداية تسعينيات القرن 
الماضي؛ ونتج الشعوز بالمرارة في نفسية المثقف العربي من إخفاق القومية 
العربية وسقوط الا* شتراكية ممثّلة في الاتحاد السوفياتي 2 


سابعًا: انبعاث المثقف الديمقراطى 


لا شك في أن هذه الأوضاع راكمت عند المثقف العربي الإحساس بالخيبة 
وفقدان المعنى» نتيجة توالي الانكسارات وتحطم الأحلام في شأن التغيير 
والإصلاح أو الثورة» بحسب المداخل التنظيرية التي كان ينظر منها إلى دوره 
ووظيفته» وبحسب الأنظمة الفكرية التي كان ينطلق منها. فسواء أكان ليبراليًا أم 
يساريًا أم علمانياء بقي المثقف العربي في وضعية المراقب الذي فرضت عليه 
العزلة والتهميش» بالنظر إلى جملة عوامل» منها رغبة السلطة السياسية في إبعاده 
والاستراحة من ممارساته النقدية غير المرغوب فيهاء وتضييق التنظيم السياسي 
على حريته النقدية وتوظيف مخرجاته النظرية بطريقة انتهازية» وتراجع معدل 
القراءة ورواج الكتاب في المجتمعات العربية» وغياب المؤسسات الثقافية 
والفكرية الحاضنة مشروعاته والمروجة لهاء والهوة الواسعة بين انشغالاته 
ومؤسسات التعليم والتربية» فضلا عن تردي الجامعة وإفراغها من محتواها 
العلمي التنويري» وضحالة الإنفاق على البحث العلمي في الوطن العربيء 
وسيادة الاستبداد السياسى الذي يعوق حرية المثقف فى الجهر بموقفه؛ وهذه 
كلها مظاهر أزمة مركبة ومتشابكة» طرحت على المثقف العربي أسئلة جديدة في 


Rémy Leveau, «Les Intellectuels arabes,» Matériaux pour l'histoire de notre temps, no. 48 (57) 
(1997), p. 41. 


Ibid, p. 42. (58) 


444 


ضوء التغيرات الكونية التى حصلت OL!‏ نهاية ثمانينيات القرن الماضى وبداية 
تسعشاته. 


.م 


تميزت هذه الحقبة بتحول المثقف العربي إلى مبشر بالقيم الديمقراطية» بعد 
انهيار الأيديولوجيات واليقينيات الكبرى التي حرّكت جهده طوال العقود السابقة؛ 
إِذ صار يرى أن الديمقراطية هي الحل. وهي قناعة حصلت له بعد مخاضات عسيرة 
مع الأنظمة التسلطية التي لم تق لونًا أيديولوجيًا لم تركب عليه لتبرير الاستبداد 
أو شرعنة ممارساتها؛ وانتهت به إلى تبني خيار الدعوة إلى الديمقراطية بوصفها 
إكسيرًا للخلاص» بعد أن كان يرفضها في الماضي بوصفها «لعبة شكلية لبرجوازية 
مسيطرة»» ويكرس مهمته للتبشير بسلطة «ثورية» لتحقيق الوحدة والاشتراكية» 
فاسحًا بذلك الطريق - من دون أن يدري - أمام أنظمة متسلطة يرث بعضها 
Ne‏ 


غير أن المعضلة الرئيسة التي جابهت هذه المهمة الجديدة للمثقف هي أن 
الولاء الجديد للديمقراطية لم تكن وراءه تراكمات نظرية تسنده» بسبب غياب 
التقاليد الديمقراطية في الممارسة الثقافية والسياسية طوال العقود الماضية» بالنظر 
إلى أن ثقل المراهنات على الأيديولوجيات الشمولية المغلقة أتاح البيئة الحاضنة 
للنزعة المركزية في الثقافة العربية» بحكم هيمنة التيارات اليسارية والقومية التي 
كانت تعلى من شأن السلطة المركزية وتمجد أحادية السلطة» سواء أتمثل ذلك 
بالزعيم الملهم أم بالحزب الطليعي. وتمثّل هذا الوعي الجديد بأهمية الديمقراطية 
في ممارسات نقدية انصيّت على إعادة تشريح التراث» من أجل الخروج بخلاصات 
في شأن الديمقراطية والعقلانية"“» أو إعادة النظر في الأحكام السلطانية بهدف 
الحسم مع جوانب الاستبداد في ترانا"“. 


(59) أومليل» ص 256. 

(60) نمثل لهذا الاتجاه بمحمد عابد الجابري» انظر: محمد عايد الجابريء العقل السياسي العربي 
(الدار البيضاء: المركز الثقافى العربى» 1990). 

(61) نمثّل لهذا الاتجاه بكمال عبد اللطيف» انظر: كمال عبد اللطيف» في تشريح أصول الاستبداد: 
قراءة في نظام الآداب السلطانية (بيروت: دار الطليعة 1999). 


445 


يضاف إلى ذلك أن المثقف العربي ظل يعيش طفرات فكرية في شكل قطائع 
معرفية مفصولة الحلقات؛ إذ لم ينجز التراكم على مستوى التنظير والخبرات 
بين أجيال المثقفين العرب؛ وذلك خلافا للتجربة الأوروبية التي أنتجت مدارس 
فكرية بسبب التراكم النظري وتواصل الخبرات والحوار بين أجيال المثقفين. 
ويرجع ذلك» بحسب العروي» إلى أن المثقف العربي «بسبب تكوينه المجرّد 
يميل إلى اعتناق أي مذهب يظهر في السوق»» ما يسقطه في «الانتقائية التي لا 
تمثّل ظاهرة انفتاح وتوازن» بقدر ما تشير إلى استقلال المثقف عن مجتمعه» وعدم 
تأثيره فيه”*”. فبالنظر إلى التضخم الأيديولوجي؛ ظل كل جيل يبدأ من الصفر» 
ويبني على غير مثال» بل في الأغلب الأعم يبني على مثال سابق من الغرب» 
ويستعير المنهج تلو الآخر؛ الأمر الذي أسقطه في الغربة على طريقة «اللامنتمي» 
بتعبير كولن ولسون» وأفقده هويته؛ وهي حالة وصفها هشام شرابي ب «الاغتراب» 
الناتج من غياب لغة مشتركة واختيار ثقافي مشترك عند المثقفين العرب» تجعلهم 
على صلة بالجماهير التي يتطلعون إلى تمثيلها”“. ويعرّز هذا التشخيص تقرير 
صدر في عام 2004 عن مركز كارنيغي» يرى أن النخبة الثقافية العربية مغتربة 
عن محيطها و«غير قادرة على الحديث إلى الرأي العام في بلدانها»» لأن الشارع 
العربي يوجد بين أيدي التيارات الدينية*“. 


ثامئا: في الحاجة إلى المثقف في زمن التحول 
أعادت التحولات التي عصفت بالمنطقة العربية» في الأعوام القليلة الماضية» 
طرح السؤال في شأن دور المثقف ووظيفته من جديد؛ ذلك أن الحوادث التي 
اندلعت ابتداء من نهاية عام 2010 في تونسء ثم عمّت باقي البلدان العربية على 
تفاوت بينهاء سلطت الضوء على الحاجة إلى المثقف في المراحل الانتقالية 
الصعبة التي يجتازها الوطن العربي» على أساس أن تلك الحوادث تستبطن في 


»)1983 عبد الله العرويء ثقافتنا في ضوء التاريخ (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشرء‎ )62( 
.176 ص‎ 
.17 شرابی» ص‎ )6 3( 
Marina Ottaway, «Democracy and Constituencies in The Arab World,» Carnegie Papers: (64) 
Middle East Series, no. 48 (July 2004), p. 4, at: http://ceip.org/1OHnRuf. 


446 


حقيقتها خطابات ثقافية سابقة تبنى بعضها المثقفون العرب في العقود الماضيةء 
وأظهرت حالة من الاشتباك بين السياسي والثقافي“. 

فى الحقيقة» أعادت تلك الحوادث إلى الواجهة - بالقدر نفسه - الإخفاقات 
التي تراكمت طوال العقود الماضية» ومسؤوليات المثقف في تلك الإخفاقات. 
فأحد الاستنتاجات المهمة التي يمكن الخلوص إليها من تحليل مشهد الربيع 
العربي» هو أن المثقف العربي لم يكن موصولا بالوقائع الاجتماعية والسياسية 
والفكرية التي تعتمل في مجتمعه في الحقبة الماضية» وظل منكمشًا على تنظيراته 
النخبوية بعيدًا عن الإنصات لنبض الشارع العربي؛ ما جعل هذا المثقف نفسه أحد 
الذين فوجئوا بالانفجار الذي حصل. بل الأكثر من ذلكء بدا أن حوادث الربيع 
العربى اتخذت لنفسها طريقًا غير ذاك الذي ظل المثقف. بنزعاته الأيديولوجية 
المختلفة: Hs cd ph‏ في قيم التنوير والحداثة؛ ذلك أن الذي كسب هو 
الاختيار الذي يعبر عن أيديولوجيا الإسلام السياسي» حيث أظهر الفاعلون الذين 
استفادوا سياسيًا من موجات الربيع العربي تلك الحوادث على أنها «عودة إلى 
المجرى الطبيعي للتاريخ» وإغلاقًا للقوس الذي كانت تمدّله أنظمة تنسب نفسها 
إلى الليبرالية أو اللائكية أو التقدمية» منذ سنوات الخمسينيات إلى اليوم»“. 


فتحت حوادث الربيع العربي آفاقًا جديدة لتأمل المشهد الثقافي والفكري في 
العالم العربي» وتحديد مقدار الدور الذي يمكن أن ينهض بأدائه المثقف» وقدر 
الفراغات التي تركها في خلال مسيرته» بوصفه الفاعل الأكثر التصاقًا بالممارسة 
النقدية» من أجل تصويب المسار وتصحيح الرؤية وضبط المفاهيم؛ وذلك من 
منطلق أن أي حركة تاريخية لا ترافقها رؤية ثقافية مصيرها التعثر والارتباك» مهما 
تكن الطموحات التي تحملهاء وإن أي حركة تاريخية قد لا تكون إلا انتفاضة. لكنّ 
تحوّلها إلى ثورة يتطلب وجود رؤية؛ لأن الفارق بين الانتفاضة والثورة أن الأولى 
ردة فعل لا يسندها مشروع ثقافي» بينما الثانية تعبير عن اكتمال المشروع الثقافي 


(65) عبد اللطيف» ص 48. 


Mathieu Guidère, Le Printemps islamiste: Démocratie et charia (Paris: Edition Ellipses, (66) 
2012), p. 218. 


447 


ودلالة على نضوج الشروط الموضوعية لتنزيله؛ وبينما يمكن رجل السياسة أن 
يكون خلف الانتفاضة» لا يمكن لغير المثقف أن يقف وراء الثورة» من منطلق 
يدمج التحليل النظري بالوعي النقدي”“ كما دلت على ذلك مختلف التجارب 
التاريخية. 


دلت التحولات الجارية في العالم العربي على انحسار السياسي الذي تحوّل 
إلى عملية استهلاكية باردة للشعارات غير المرتبطة بمشروعات فكرية أو رؤى 
استراتيجية في الإصلاح والتغيبر. فطوال الفترات الماضيةء عمل السياسي على 
استتباع المثقف وتقليص دوره» بوصفه سلطة صغرى في داخل السلطة الكبرى 
التي هي sal‏ لأن كليهما سلطة في النهاية؛ بيد أن انحسار السياسي اليوم يقوم 
دليلا على الحاجة الضرورية | إلى المثقف. بوصفه القادر على صوغ البديل» بعد أن 
استنقد السياسي ذخيرته من الشعارات» واصطدم بغياب المشروع. 


يمل المثقف إذاء وهو حامل المشروع والمتسلح بمعول النقدء رهانًا 
أساسيًا في معركة النهوض في العالم العربي؛ بل يظل الرهان الأساس بالنظر إلى 
الأوضاع الموضوعية» سياسيًا وتاريخيّاء للوطن العربي الذي لا يزال يتخبط في 
عدد من الإشكاليات والقضايا التي لم تُحسم منذ مرحلة مابعد الاستقلال» مثل 
قضايا الهوية ومفهوم الدولة والعدالة والديمقراطية والعلاقة مع الآخر والحرية؛ 
إذ متّل فكر النهضة العربية الأولى» في بدايات القرن الماضي» صدى لهذه القضايا 
ومختبرًا لهاء وأكدت حوادث الربيع العربي واحتتجاجات الشارع أن تلك القضايا 
لا تزال مطروحة على الطاولة» ولم يجر التفاوض في شأنها على الرغم من مرور 
عقود عدة على بدء السجال فيها؛ بل إن تلك الحوادث أظهرت نوعًا من التقاطع مع 
تلك المطالب السابقة تال مر ع الوت ار ن ون فن ار ٠‏ 


تتعين في عملية الاستئناف المستمرة هذه. وفي وضعية المراوحة التي 
يعيشها الوطن العربي؛ أهميةٌ الدور الموكول إلى المثقف. وفي إطار هذه المقاربة» 
يبدو النقاش في شأن نهاية المثقف أو موته» وإسقاط ذلك النقاش على الوضع 


(67) بشارة» ص 2.28 
(68) عبد اللطيف. ص 135. 


448 


العربى» بمنزلة محاولة اغتيال المستقبل العربي؛ ذلك أن مثل هذا النقاش لو بدا 
مسوعًا في الساحة الغربية والأوروبية» فإن ذلك قد يرجع إلى أنها حسمت في 
مجمل القضايا وحققت الإجماعات المطلوية في شأنهاء وكان المثقف في أصل 
هذا التأسيس؛ إذ صاغ الرؤية وقدم الأجهزة المفاهيمية وأرسى فلسفة التغيير التي 
أدخلت العالم الغربي عصر الأنوار. بيد أن الحالة في الوضع العربي مختلفة» لأن 
العالم العربي لا يزال يتلمس طريقه نحو النهوض؛ ومن هنا الحاجة الملحة إلى 
دور أكبر للمثقف الناقد صاحب المشروع الذي يطرح الأسثلة ويثير القلق» ويعيد 
النظر في المسلمات. 


إن التحول الذي حصل في أدوار المثقفين» وتحوّل كثير منهم إلى خبراء 
أو تقنيين» يعد في الواقع نوعًا من «تهريب» المثقف عن مجتمعه» وتحييده عن 
محاور الصراع» بإدماجه في منطق المؤسسة. بينما دور المثقف ليس أن يكون 
داخل المؤسسة أو ناطقًا باسمهاء بل رقيبًا عليها وناقدًا أداءها. ولن يتمكن المثقف 
من أداء هذا الدور إلا بالخروج من الأيديولوجيا والعماء الأيديولوجي» وممارسة 
النقد على أدواته نفسها ومناهجه»ء والعمل على تأصيل هذه المناهج بدلا من 
الاستمرار في تصيّدها من نخارج بيئته التي يسعى إلى التأثير فيها. فوظيفة المثقف 
الأساسية تتمثّل في مراودة الأسئلة» حتى تلك الأكثر مدعاة إلى الانزعاج» بما 
يقرب من معنى الاحتجاج» وأن يكون شاهدًا على التحولات الكبرى من موقع 
الفاعلية والتأثير» واصمًا ومحللا ومستكشمًا ومدتقًا في المفاهيم» ومانحًا المعنى 
للحركة التاريخية. 
خاتمة 

حاولنا في هذه الدراسة مقارية مسألة المثقف العربي من زاوية تاريخية نقدية» 
لقناعتنا أن موضوع المثقف العربي موضوع إشكالي بامتيازء وأن أي حديث فيه يقع 
بالضرورة في نقطة التقاطع بين التاريخ السياسي وتاريخ الأفكار؛ ذلك أن دراسة 
دور المثقف هي دراسة علاقته بواقعه. وهنا ضرورة ملامسة التاريخ السياسي. 
وهى أيضًا دراسة للأنماط الفكرية والثقافية عند المثقف في صيرورتها؛ ومن هنا 
ملامسة تاريخ الأفكار. . 


449 


لعل الاستنتاج الذي يمكن الخروج به أننا لا تتحدث عن نمط واحد من 
المثقفين العرب» بل عن أنماط مختلفة ومتغايرة» تخضع لنوع من التحقيب القريب 
من التحقيب السياسي للأنظمة والمشروعات الأيديولوجية في العالم العربي» من 
جهة» ولطبيعة الصراعات والخلافات الأيديولوجية التي تقسّم المثقفين» من جهة 
ثانية؛ الأمر الذي قادنا إلى القول بغياب التراكم الفاعل ل 
جوهريًا في أداء المثقف دوره. 

إضافة إلى ذلك سعينا إلى تأكيد نقطة أساسية» هي أن انشغالات المثقف 
النهضوي وهمومه تورّعت بين مختلف أنماط المثقفين في الحقب اللا حقة» الأمر 
الذي جعلنا نستنتج في الأخير أن المطالب التي استقطبت أصوات الاحتجاج في 
الشارع العربي في الأعوام الأخيرة هي مطالب مكلت هواجمى للمثقف النهضوي 
قبل نحو قرنين من الزمان. 

نعتقد أن استئناف المثقف دوره من جديدء يأتى من خلال مدخل يربط النظر 
بالفكرء والقلم بالعمل؛ ويتمثّل ذلك في هبوط المثقف إلى الهموم اليومية التي 
يعيشها المواطن العربيء بدلا من التنظير من خلال برج عاجي يعزل المثقف 
عن الناس» ويعطي عنه صورة رجل التأمل المجرد, المُفاصل للواقع» والمنقطع 
عن الحياة العامة. أما المدخل الثاني» فيرتبط بإعادة تحديد العلاقة بين الثقافي 
والسياسي» في ظل هيمنة هذا الأخير في المشهد العربي اليوم» وهيمنته على 
مختلف جوانب النقاش العمومي» وتهميشه دور المثقف. 


المراجع 


1- العربية 


ابن شقرون» الحاج أحمد. مواقف وآراء رابطة علماء المغرب من التأسيس إلى 
المؤتمر العاشر (1987-1960). الرباط: منشورات رابطة علماء المغرب» 


[د. ت.]. 


450 


الأنصاري» محمد جابر. تحولات الفكر والسياسية في الشرق العربي» 1930 
0 : دراسة فى خصو صية الجدلية العربية. نيقوسيا: دلمون للنشرء 1988. 

أومليل» على. السلطة الثقافية والسلطة السياسية. ط 3. بيروت: مركز دراسات 
الوحدة العربية» 2011. 

بشارة» عزمى. «عن المثقف والثورة». تبين. العدد 4 (أيار/ مايو 2013). 

بلقزيز» عبد الإله. نهاية الداعية: الممكن والممتنع فى أدوار المثقفين. بيروت/ 

الجابري» محمد عابد. العقل السياسى العربي. الدار البيضاء: المركز الثقافي 
العربي» 1990. 

الحافظ» ياسين. الأعمال الكاملة لياسين الحافظ. بيروت: مركز دراسات الوحدة 
العربية» 2005. 


الحجوي. حسن أحمد. العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي (1912- 
1956( بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 2003. 


حنفي» حسن. «ما الذي يمنع المثقف العربي من التفكير في المستقبل؟0. الفكر 
العربى المعاصر. العددان 91-90 (1991). 


حوراني» ألبرت. الفكر العربي في عصر النهضة (1939-1798). ترجمة كريم 
عزقول. بيروت: دار النهار للنشرء 1977. 

رضاء محمد رشيد. محلة المنار. 2 مج. المنصورة: دار الوفاء للطباعة والنشرء 
2002. 

شرابي» هشام. المثقفون العرب والغرب. ط 3. بيروت: دار النهار للنشر» 1981. 

شفيق» منير. (مجتمعان تحت سقف واحد». المستقبل العربي. السنة 3. العدد 21 
(تشرين الثاني/ نوفمبر 0 198). 


451 


شلق» الفضل. الأمة والدولة: جدليات الجماعة والسلطة فى المجال العربى 
الإسلامي. بيروت: دار المتتخب العربي» 1993. 


عبد اللطيف» كمال. تجليات الثقافي في الربيع العربي. القاهرة: رؤية للنشر 





والتوزيع» 2014. 
. في تشريح أصول الاستبداد: قراءة في نظام الآداب السلطانية. بيروت: 
دار الطليعةء 1999. 


العروي» عبد الله. الأيديولوجيا العربية المعاصرة. ترجمة محمد عيتاني. ط 3. 
بيروت: دار الحقيقةء 1979. 
. ثقافتنا في ضوء التاريخ. بيروت: دار التنوير للطباعة والنشرء 1983. 
. العرب والفكر التاريخى. بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر» 1983. 
غليون» برهان. اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية. ط 2. 
بيروت: دار التنوير للطباعة والنشرء 1979. 
الكويت: المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب» 1992. 
مفلح» أحمد. في سوسيولوجيا المثقفين العرب: دراسة وصفية من خلال تحليل 


مضمون مجلة المستقبل العربى» 2008-1978. بيروت: منتدى المعارف 
2013. 


هلال علي الدين. «أزمة الفكر الليبرالي في الوطن العربي». عالم الفكر. السنة 


6. العددان 4-3 (1998). 


وقيدي» محمد. كتابة التاريخ الوطني. الرباط: دار الأمان» 1990. 


2- الأجنبية 


Abdel-Malek, Anouar. «Problématique du socialisme dans le monde arabe.» L'homme 
et la société. no. 2 (1966). 


Abu-Rabi”, Ibrahim M. Contemporary Arab Thought: Studies in Post-1967 Arab 
Intellectual History. London: Pluto Press, 2004. 


Altamirano, Carlos (dir.). Historia de los intelectuales en América Latina, Volumen 1. 
Buenos Aires: Katz Editores, 2008. 


. Intelectuales: Notas de investigaciôn. Bogotä: Grupo Editorial Norma, 
2006. 


Arkoun, Mohammed. «Quelques tâches de l’intellectuel musulman aujourd’hui.» 
Cahiers de la Méditerranée. vol. 37. no. 37 (1988). 


Barilier, Etienne. «Vie de l’esprit, vie de la cité, 1. Qu'est-ce qu’un intellectuel?.» 
Revue européenne des sciences sociale. vol. 28. no. 87 (1990). 


Berque, Jacques. Les Arabes d'hier à demain. Paris: Edition du Seuil, 1969. 


. (Une affaire Dreyfus de la philologie arabe.» dans: Jacques Berque & 
Jean Chamay (eds.). Normes et valeurs dans l'islam contemporain. Paris: Payot, 
1966. 


Charle, Christophe. «L'Histoire comparée des intellectuels en Europe: Quelques 
points de méthode et propositions de recherche.» dans: Michel Trebitsch et 
Marie-Christine Granjon (coord.). Pour une histoire comparée des intellectuels. 
Paris: Editions Complexe, 1998. 


Guidère, Mathieu, Le Printemps islamiste: Démocratie et charia. Paris: Edition 
Ellipses, 2012. 


Laroui, Abdallah. La Crise des intellectuels arabes, traditionalisme ou historicisme?. 
Paris: Maspéro, 1974. 


. Islam et modernité. 3% ed. Casablanca: Centre Culturel Arabe, 2009. 


Leveau, Rémy. «Les Intellectuels arabes.» Matériaux pour l'histoire de notre temps. 
no. 48 (1997). 


Ottaway, Marina. «Democracy and Constituencies in The Arab World.» Carnegie 
Papers: Middle East Series. no. 48 (July 2004), at: http://ceip.org/1OHnRuf. 


Oumiil, Ali. {slam et État national. Casablanca: Editions le Fennec, 1992. 


‘ Panzac, Daniel. «Révolution française et Méditerranée musulmane: Deux siècles 
d’ambiguïté.» Revue du monde musulman et de la Méditerranée. vol. 52. no. 1 
(1989). 


453 


Picé, Josep & Juan Pecourt. «El estudio de los intelectuales: Una reflexiôn.» Revista 
Española de Investigaciones Sociolégicas (Madrid). no. 123 (2008). 


Sartre, Jean-Paul. Plaidoyer pour les intellectuels. Paris: Gallimard, 1972. 


Vermeren, Pierre. Ecole, élite et pouvoir au Maroc et en Tunisie au XX°* siècle. 
Rabat: Alizés, 2002. 


Weber, Max. Le Judaïsme antique. Translated by Isabelle Kalinowski. Paris: Champs- 
Flammarion, 2010. 


Yasushi, Kosugi. «Al Manar Revisited: The «Lighthouse» of the Islamic Revival.» 
in: Intellectuals in the Modern Islamic World: Transmission, Transformation, 
Communication. London: Routledge, 2006. 


454 


المثقف العربي وأدواره المتجددة 
قضايا وتجارب 


مولد المثقف اللادولتي - حالة العراق 


حيدر سعيد 

يتجدد» دائماء مع سقوط الأنظمة الاستبدادية» السؤال عن دور المثقف في 
السجال السياسي والاجتماعي» وموقعه من التغيير الحاصل والمرحلة الانتقالية» 
وإلى أي حد سيساهم في قيادة الحراك الاجتماعي وإدارته. ومع سقوط أنظمة 
الاستبداد العربية (بدءًا بسقوط نظام صدام حسين في العراق في عام 2003« 
وصولا إلى الأنظمة التي تداعت مع الثورات العربية في عام 2011ء في تونس 
ومصر وليبيا واليمن)» تجدّد هذا السؤال في الثقافة العربية» بقوة وحماسة 
احتفاليةء وأخحذت le‏ الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية أدوارّهاء بعد أن 
شلّت تلك الأنظمة فاعليةً المجتمع. 


مع أن السؤال عن دور المثقف يتضمن ما يُسمى يلغة المناطقة «مصادرة على 
المطلوب». فهو يقوم على مسلمة (لم يُتفْق عليهاء بالضرورة) أن للمثقف دورّاء 
وإنما يتجه السؤال إلى ماهية هذا الدور وكيفيته. يبدو أن الإيمان بالدور الاجتماعي 
والسياسي» التغييري أو التنويري» للمثقف» هو نتاج مخيال جماعي عام يحكم 
ere col‏ ضورء من نيح AA PE Je gro‏ من 
صورة مثقفي مثقفى الثورة الفرنسية» مرورًا بالتراث اليساري والماركسي الذي تفتتحه 
مقولةٌ ماركس عن الفلاسفة: «لقد اكتفى الفلاسفة بمهمة تفسير العالم» وعليهم 
الآن أن يسعوا إلى تغييره»» وتمر بمبدأ ليون تروتسكي عن «الثورة الدائمة»» 
وبأنطونيو غرامشي السجين المعذب صاحب فكرة «المثقف العضوي»» وصولا 
إلى صورة المثقفين الفرنسيين في أيام الاحتلال النازي لفرنساء وسحر المثقفين 


457 


اليساريين ن الثائرين في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته» وانتهاء بنماذج نوام 
تشومسكي وإدوارد سعيد... وغيرهما. 
أشعلت هذه الصور أمام المثقف العربي إمكانية «المثقف المغير أو الناقد»» 
فهي نتاج ذاكرة مفهومية مفعمة بهذه الإمكانية. وحين يستأنف المثقفُ العربي» 
بعد سقوط الأنظمة الاستبداديةء السؤال عن دور المثقف» فهو - على نحو ما - 
ls‏ التفكيرٌ في مفصل أساسي من الإطار المرجعي الكلاسيكي الذي شكله 
وكونه. 


أولا: حفريات في تكوين المثقف العربي 

ASE JR‏ ترتبط صورة «المثقف» (الفاعل» المغير ...إلخ)» على نحو 
أكثر صميمية» برحلة فكرة والإنتليجنسيا» ال (Intellectual)‏ من الثقافة الغربية إلى 
الثقافة العربية بعد الحادث الكولونيالى. فمفهوما «المثقف» و«الإنتليجنسيا» 
مفهومان طارئان على الثقافة العربية وليسا أصيلين» إلا إذا أردنا أن نستنبطهما 
ب «قياس ممائّلة؛ من خلال تكوينات مقاربة» على نحو ما فعل حسين مروة في 
كتابه النزعات المادية في الحضارة الإسلامية ومحمد عابد الجابري في كتابه 
المثقفو ن في الحضارة العربيةء حين حاولا تأصيل «المثقف» في أنماط الفاعلين 
الاجتماعيين التي أنتجتها الثقافة العربية الإسلامية» من خلال تشابه بعض وظائف 
هؤلاء الفاعلين ببعض وظائف المثقف. بغض النظر عن السياقات التي تحكمت 
بولادة المثقفين في أوروبا الحديثة» ومن ثمء افترضا أن الفلاسفة وعلماء الدين 
هم الذين يشكلون طبقة المثقفين في الثقافة 00 الإسلامية. des‏ الممائلة 
وهي الركن الأساس في قيامهاء هي الوظيفة أو الدور المتمائل الذي كان يؤديه 
الفلاسفةٌ وعلماء الدين في الثقافة العربية الإسلامية والمثقفون في الثقافة الغربية. 
هذا التأصيل يسميه الجابري «تبيئة مفهوم المثقف» وإعادة بنائه «بالصورة التي 
تجعله يعبر داخل الثقافة العربية عن المعنى الذي يُعطى له اليوم في الفكر الأوروبي 
حيث يجد مر da‏ الأصلرة»". 


(1) محمد عايد الجابري» المثقفون فى الحضارة العربية: محنة ابن حتبل ونكبة ابن رشد.ء ط 2 
(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيةه 0)©») ص 9 وما يعدها. 


458 


مفهوم المثقف. إِذَاء مفهوم حديث في الثقافة العربية balais,‏ 
بعد الاتصال الكولونيالي بالثقافة الغربية. ومع رحلة المفهوم من الثقافة الغربية إلى 
الثقافة العربية» رحل معه كل ما كان يحيط به من وظائف ومحتوىء ولا سيما الطابع 
الرسولي للمثقف» حيث نشأت فئةٌ المثقفين في الثقافة الغربية الحديثة بديلًا من 
طبقة الكهنوت» توازيًا مع تحول اجتماعي وثقافي وفكري كامل: صعود البرجوازية» 
وصعود الإنسانوية ونسق القيم الحديثء والثورة الصناعية» والمد العلماني» وظهور 
العلموية والوضعية. لكن المثقف (الغربي)» مع ذلك» احتفظ بالمحتوى الرسولي 
للكهنوت» وأصبح مبشرًا بقيم التحوّل الذي تشهده المجتمعات البرجوازية» أي 
أصبح مبشرًا بقيم الأرض»ء بدلا من المبشر السالف بقيم السماء. 


أما المثقف العربي» فلم يكن وريت تحول اجتماعي» بل كان موضوعًا في 
تعارض تاريخي» أو لاتاريخية (ددندهطءوصة)» عاشها المجتمعٌ العربي والثقافة 
العربية بعد الحادث الكولونيالى» أفقدت هذه المجتمعات تطورها البنيوي» 
وأفقدتها إمكانية أن تعود إلى الوراء» وأن تذوب في الآخر والتقدم والحداثة» 
لأن شعور هذه المجتمعات بالهوية وبعظمة الإرث الثقافي والخصوصية الثقافية 
لا يزال يتتعش بقوة لاتاريخية وضعت هذه المجتمعات في إشكالية لم تخرج 
منهاء وأورثتها دماءً ودمارًا وحروبًا وتوترات. 


لم يكن المثقف في الثقافة العربية» كما المثقف الغربي» مبشرًا بقيم تحول 
اجتماعي؛ بل كان مبشرًا بنسق قيم أجنبية على هذه المجتمعات» كان مشهدًا 
لشيزوفرينيا حضارية» أو ل «نفس مبتورة)» بتعبير داريوش شايغان» أي مشهدًا 
لسلسلة فصامات لا تنتهي: فصام بين تحديث وتئوير على مستوى الخطابات 
والنصوص» وتراجع على مستوى المجتمعات» وفصام بين أفكار الإنتليجنسيا 
وأفكار المجتمعات» وفصام بين أفكار المجتمع وطابع معيشته المعتمد على 
التقانة. ولذلك» كانت تتكثف فى المثقف العربى رسولية شديدة» كان يبدو كأنه 
رسول السماء (سماء الغرب ربما) إلى الأرض المتخلفة ومجتمعاتها. ويصدق 
هذا الكلام على المثقفين De A‏ التقليديين» مثل طه حسين والزهاوي 


(2) وصف «الليبرالي» هناء لا يعني أن هؤلاء المثقفين همء بالضرورة؛ ليبراليون بالمعنى الحرفي 
لوصف ليبرالي في الأدبيات الغربيةء أكان بالمعنى السياسي (الإيمان بالحداثة السياسية) أم الاقتصادي - 


459 


وأحمد لطفي السيد... وغيرهم» ويصدق على المثقفين الماركسيين وريثي فكرتي 
«تغيير العالم» و«المثقف العضو ي كما يصدق على المثقفين مايعد الحداثيين 
الذين يؤمنون بالليبرالية الجديدة والعالم المعولم. 

وضعت هذه الحالء فلسفيّاء المثقف العربي أمام تنازع بين نزعة حتمية» 

تفترض أن الوقائع المادية والتقدم المادي شرطان دع القيم» وأنه ينبغي حدوث 
تحولات اجتماعية و اقتصادية كي تتقدم المجتمعاتُء بعدئذ» في قيمها و رأفكار هاء 
Universalism) ill &e 5 5‏ تؤمن بإمكانية وجود نسق قيمي عالمي للمجتمعات 
البشرية كلهاء وأن القيم والأفكار هي التي تساهم في التقدم المادي. وتبلور 
المشروع الكلياني في خطاب المثقفين العرب بتقديم التجربة الحضارية الغربية 
بوصقها الصيغة و ي ي العالمي» ومن ثم» فهم يرون أن مشروع 
الحداثة العربية يجب أن يتحدد ببلوغ «المثال» الغربي. 


قاد صوغ مشروع الحداثة العربية على هذه الشاكلة إلى نتيجتين خطرتين: 
الأولى هي أن يكون عالم المثقف هو عالم الأفكار والمجردات لا عالم الوقائع» 
والأخرى هي أن تُبنى رؤيةٌ المثقف على أن المشكلة تكمن في المجتمع وقواه» 
بما أن المثقف مبشر بنسق قيم أجنبية» في حين اتجهت المجتمعات - يسبب 
a a At‏ للأنظمة الوطنية الشمولية التي 
ظهرت بمظهر علماني حداثي - إلى عبادة الخصوصية الثقافية. 

هذا يعني أنه لم تكن للمثقف العربي مشكلة مع السلطات السياسية» على 


الرغم من الصورة النضالية العارمة التي رسمها PUS‏ الأدبي العربي لشخصية 
«المثقف»» وأن مشكلته الحقيقية هي مع المجتمع وقواه. 


> (الإيمان باقتصاد السوق) أم الثقافي (الإيمان بالقيم الثقافية للحداثة الغربية)ء بل إن مضمون وصف ليبراليء 
هناء هو مَن يدعو إلى الأخذ بالقيم الغربية. لذلك؛ ساد وصف الحقبة الأولى لمرحلة مابعد الكولونيالية 
بأنها احقبة ليبرالية». ولعل العامل الأهم الذي أنتج هذا الوصف هو أن الدول الناشئة» آنئذء كانت وليدة 
القوى الكولونياليةء وظلت مرتبطة بهاء إلى حين أسقطتها الثوراتٌ التي قادها العسكر» في خمسينيات القرن 
العشرين وستينياته. ولعل مصدر تعريف «الليبرالي» بهذا النحو الأخير (أي النخب المغربئة» بغض النظر عن 

إيمانها أو عدم إيمانها بالمعنى الدقيق ل «الليبرالية») هو ألبرت حوراني في: 
Albert Hourani, Arabic Thought in the Liberal Age, 1798-1939 (Oxford: Institute of Royal International‏ 
Affairs, 1970).‏ 


460 


ثانيًا: المثقف والفضاء السياسي الحديث 

إن فهم الإطار التكويني للمثقف العربي مهم جدًا لفهم الديناميات اللاحقة 

في مساهمة سابقة©» حاولتٌ أن أشرح كيف تشكل ,أحد أهم ملامح المثقف» 
وهو تبعيته للسياسي. هذه التبعيةٌ رسمت ملامحها صيغةٌ «المثقف الحزبي» الذي 
يرتبط بحزب ما ويعبر عن أيديولوجيا ذلك الحزب. ووّلدت هاتان المقولتان» 
المثقف والحزب» بصورة متزامنة في الثقافة العربية الحديثة» وبالتزامن - أيضًا - 
مع نشوء الدولة الحديثة المنقولة عن التجربة السياسية الغربية. . واقتبست الثقافةٌ 
العربية هاتين المقولتين عن مثاقفتها مع الغربء أي إنهما ليستا نتاجًا محضًا للثقافة 
العربية» على نحو ما قدمت. فالثقافة العربية لا تعرّف المثقف. بقدر ما تعر دف الفقيه 
والشاعر والكاتب والمفسّر والفيلسوف والمتصوفء وهي لا تعرّف الحزب. بقدر 
ما تعرف «الخلافة» و«السلطنة» و«العصبية». عرفت الثقافة العربية الحزب (أو: 


الأمير الحديث» بتعبير الفيلسوف الإ يطالي أنطونيو غرامشي) حين تبنت (أو فُرض 
عليها) نمط التنظيمات السياسية التي أنتجتها تجر بة الحداثة السياسية الغربية. 


قادت هذه الولادةٌ المتزامنة إلى نوع من العلاقة الخاصة» ربطت المثقفٌ 
بالأحزاب الأيديولوجية الكبرى في العالم العربي» وهي علاقة فرضت على جل 
المثقفين العرب انتماء أيديولوجيّاء من جهة» وعقدٌ تبعية» أي حكم علاقة المثقف 
بالسياسي» من جهة أخرى. 


في العراق الحديث الذي ستكون أمثلتي هنا منهء ظهرٌ المثقفٌ الحزبي غداةً 
ظهور التجربة الحزبية فيه» ولا سيما في نهاية أربعينيات القرن العشرين. وكان جل 
المثقفين العراقيين» منذ تلك المرحلةء مثقفين حزبيين» بل كان المثقفٌ مجرد أداة 
في الصراع الأيديولوجي. 


(3) حيدر سعيدء ما أصغرٌ الدولة ما أكبرَ الفكرة: خطوط عن علاقة الدولة بالمثقف في العراقة. 
في: شهادات من العراق ما بعد 2003.» إعداد آنيا فوللنبرغ وكلاس غلينيفينكيل (برلين: مؤسسة فريدريش 
إيبرت» 2007)» ص 94 وما بعدها. 

(4) المرجع نفسهء ص 95-94. 

)5( المرجع نفسه» ص 95. 


قاد نشوء أنموذج الدولة المتضخمة ©اما5 :00)» بتعبير نزيه الأيوبي» أو 
الدولة الريعية» إلى احتواء المثقف. » في سياق احتواء الدولة للمجتمع. وتحوّل 
المثقف. من صيغة «المثقف الأيديولوجي الحزبي» ل 
هذا الاحتواء (من الحزب إلى الدولة) كان عاملًا جوهريًا في تحديد صورة فهم 
المثقف وظيفته» وهو يفسر سبب بقاء المثقف العربي بعيدًا عن فكرة «المثقف 
النقدى». 


إن مَن يتابع القراءة العربية لفكرة المثقف العضوي التي نادى بها غرامشي؛ 
يكتشف أن التأويل العربي ذهب إلى حوادث نوع من المطابقة بين المثقف العضوي 
والمثقف الأيديولوجي» ولم يستطع أن يفتحها على فكرة المثقف النقدي» على 
غرار ما فعل إدوارد سعيد, في كتابه تمثيلات المثقف (1993). 

لاحظتٌ سابقاء أن بعد انقلاب عام 1968 وتسلّم حزب البعث السلطةٌ قام 
الحزبٌ بإلحاق المثقفين البعثيين بجهاز الدولة» كجزء من عملية تبعيث منظمة 
شهدتها الدولةٌ العراقية» وتحولت تبعيةٌ ة المثقف للسياسي إلى تبعية للدولة» 
وتحول المثقف من كونه أداة أيديولوجية للحزب إلى أداة أيديولوجية للدولة*. 
وبالتدريج» كانت تجري إعادةٌ ب بنيتة الثقافة ضمن المشهد الأيديولوجي والسياسي 
والاجتماعي العام في العراق» أو لأقل: ضمن مشهد الهيمنة» وفي سياق تحولين 
مهمين طبعا «عراق ما بعد 1968: مركزية الدولة» ورأسماليتها»©. ومن ثم 
ظهور دولة راعية للثقافةء أي الانتقال من صيغة الحزب الراعي للثقافة إلى الدولة 
الراعية. 


OÙ‏ انهيار الدولة وعتبة د تحول فكرة المثقف 


وفرت تسعينيات القرن العشرين (التي لم يتسنّ لنا بعد كتابةٌ تاريخهاء حيث 
اختلطت - وهي لم تُقفَل إلا في 9 نيسان/ أبريل 2003 - بسائر حقية البعث» 
من دون إدراك ما قد تتضمنه من خصوصيات) السياقٌ التاريخي لإعادة صوغ 


(6) المرجع نفسه. ص 95. 
(2) عصام الخفاجي» رأسمالية الدولة الوطنية (بيروت: دار ابن خلدون للطباعة والنشرء 1979). 


462 


العلاقة بين المثقف والدولة. ويرجع هذاء على نحو أساسيء إلى الضعف الذي 
عاشته الدولةٌ منذ بداية الثمانينيات» الأمر الذي أدى إلى تأكل حضانتها للمثقف. 
المستمدة من التقاليد التاريخية للمثقف العراقي. 


كانت الحربان اللتان عاشهما المجتمع العراقي (1988-1980) و(1990)» 
نقطة فاصلة في تاريخه الحديث. وعملت الحربٌ على صوغ طابع مغاير للثقافة 
العراقية» غير أنه لم يُكتّب إلى الآن تاريخ ثقافي لهذه الحرب» يعيد ترتيب الوقائع 
السياسية والتاريخية والاجتماعية في تصور منسجم. لأقل» بعبارة أكثر وضوحاء 
إنه لم تقم إلى الآن أي محاولة واسعة لكتابة التاريخ الثقافي والفكري والاجتماعي 
لعراق الحرب» وعراق ما بعد الحرب. 

هذه المهمة تبدو عسيرة جدًا. لذلك» لم تظهر إلا محاولات محدودة جدًا؛ 
دراسات محدودة» وشهادات كتبها سياسيون ومثقفون عن تجاربهم» ظلت 
محصورة في إطار سياسي» فضلا عن محدوديتها كما ونوعًا. فحين ضعفت 
الدولةٌ في تسعينيات القرن العشرين؛ بسبب الحرب والحصارء وما عاد بإمكانها 
الاستمرار في الحضانة السالفة للمثقف» حاولت أن تبني ترتيبًا جديدًا الإخضاعه: 
تمل في تحويل علاقة المثقف بالدولة إلى علاقة ارتزاق. ومع ذلك» فتح ضعف 
الدولة البابَ أمام المثقف لنقد قوانين الثقافة العراقية» ولا سيما تاريخها وجوهرها 
الأدبيين» وأوجد مسارًا وحيرًا لنفوذ العلوم الاجتماعية والإنسانية في داخلها. 
وعلى الرغم من أن هذه الصيغة من العلوم الاجتماعية والإنسانية ارتبطت بالبنيوية 
وما حدث في حقول اللسانيات والنقد الأدبي من «ثورة منهجية»؛ كانت الثقافة 
العربية آنذاك في فورة التعرف إليها؛ وعلى الرغم من أن جيلًا من النقاد العراقيين 
كان قد باشر الخطاب البنيوي» فإن جيل التسعينيات من المثقفين العراقيين أحدث 
a‏ تقاطع نادرة بين القوانين التاريخية للثقافة العراقية والعلوم الإنسانية. بمعنى 
أن هذا الجيل أدمج هذا النمط من المعرفة في بنيان ما يُسمى «الثقافة العراقية» التي 
اجتهدت لتبقى ثقافة أدبية»؛ صافية وناصعة» وكانت تعد ما خارج نتاجها الثقافي» ولا 
سيما التتاجات الأكاديمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية مجرد أعمال أكاديمية. 
وغالبًا ما كان تعبير «أكاديمي»» في مجال التداول الثقافي العراقي» يُستعمّل بشيء 


463 


Pas ouli ce‏ وفي الوقت نفسه؛ لم يكتفٍ هذا الجيل بأن يكون جيلًا أكاديميّاء 
بل حاول أن يؤسس تيارًا نقديًا في الثقافة العراقية كان مصدرّه النظري الأهم هو 
التيار النقدي في الثقافة الغربية (ميشيل فوكو وجاك دريدا ونوام ‏ تشومسكي إدوارد 
سعيد . .. وغيرهم). . وعد بعضهم هذا منسجمًا مع المناخ والخطاب السياسيين 
اللذين كانا سائدين في العراق في التسعينيات» من جهة أن جزءًا مهما من خطاب 
التيار النقدي الغربي اتجه إلى نقد الهيمنة الغربية» لكن ا 
التمثل الأساسي للتيار النقدي الغربي في العراق نحو نقد الثقافة والعقل العربيين 


أفضى صعودٌ العلوم الاجتماعية والإنسانية إلى عملين رئيسين: التشكيك 
في التأريخ الشعري للثقافة العراقية» أي هيمنة الشعر عليهاء وإعادة موضعة العلوم 
الإنسانية في الخريطة التاريخية للثقافة العراقية» بما سيسمح - أول مرة - بكتابة 
تاريخ للفكر في العراق”. 

هكذاء مثلت التسعينيات العتبة الأولى لتفكيك المفهوم التقليدي 
ل «المثقف». 


من جهة أخرى» على الدرجة نفسها من الأهميةء يرتبط هذا التحول بانكفاء 
الدولة الريعية؛ مع الإنهاك الطويل الذي تعرضت له؛ في إثر الحرب مع إيران في 
الثمانينيات» د ثم حرب الكويت في عام 0 : والحصار الدولي بدءًا من هذا 
التاريخ. . ولم تتحول هذه العتبةٌ إلى مشروع فعلي إلا بحلول عام 2003. 


مع أن المثقف العراقي» والعربي على نحو عام» بسبب القوانين التاريخية 
التي حكمته» افتقد أدوات للتعامل مع حدث مركب» كحدث 2003 (سقوط 
نظام استبداد وطني/ بيد قوة احتلال عسكرية أجنبية)» وافتقد القدرةً على التحليل 
والفهم والتفكيك للتركيب المعقد الذي انطوى عليه هذا الحدث؛ وكان - أيضًا- 
الفئة الأكثر سلبية والأقل تأثيرًا فى مجريات الأمور» أطلق هذا مخاضًا عميقًا 
لمعاودة اكتشاف المثقف هويته ووظيفته. 


(8) للمقارنة» كان للأكاديميين دور مفصلي في أكثر من ثقافة عربية» من قبيل مصر والمغرب العربي. 
)9( حيذر سعيد» «كنايات عن تاريخ ثقافي»» مجلة الطليعة ssl‏ العدد 1 (كانون الثاني/ 


يئاير - شباط/ فيراير 1999)؛ ص 32 وما بعدها۔ 


464 


هكذاء بدأ المثقف العراقي» دفعة واحدة يعرف نفسّه: خارج الأدب/ وخارج 
الأيديولوجيا/ وخارج الدولة والتبرير لها. 


رابعا: مثقف مابعد الدولة 


في المسافة بين انهيار الدولة في عام 2003 (أى حتى منذ عام 1991( 
واستعادتها التالية لشراستها الريعية» تشكل مخاض المثقف العراقي لإعادة 
تعريف هويته ووظيفته» في لحظة فراغ الدولة» وتحكمت به حزمة من العوامل: 


- من جهة؛ كان هذا المخاض ثأرًا من التقاليد التاريخية التي حكمت المثقف 
العراقي» أي من عقد التبعية السالف. لذلك قاد هذه الحركة الجيلٌ الجديد من 
المثقفين الان وهو الجيل الذي بدأ يتشكل في العقدين اللذين سبقا عام 
53, أي بعد أن قُضي على التجربة الحزبية في العراق» في أواخر السبعينيات» 
وانتهت الحقبة الأيديولوجية؛ لتتشكل الدولة التسلطية. 


إن انتهاء الحقبة الأيديولوجية التي لا تعني سيادة حزب البعث الذي جرى 
تعريفه بوصفه «الحزب القائد»» بعد الانقلاب الذي نفذه في عام 1968» بل إن 
النظام التسلطي أنهى - منذ أواخر السبعينيات في الأقل - حزب البعث نفسه. 
من حيث هو مؤسسة أيديولوجية» وألحقه بمنظومة الدولة التسلطية» واستعاض 
بأنماط من العصبيات القرابية على نحو أساسىء هى التى شكلت شبكة السلطة» 
بدلا من الحزب الأيديولوجي. ا( 


في الخلاصةء إن الجيل الذي قاد هذا المخاض هو جيل المثقفين غير 
الأيديولوجيين» والذي اندفع في رسم ملامح جديدة للمثقف (في حين لا يزال 
مثقفو الحقبة السابقة يدافعون عن فهم المثقف» حتى وإن كان غير أيديولوجي)» 
فإنه لا يدرك الوظيفة السياسية للمثقف. بل يظل يدور في إطار الوظيفة المعرفية 
التأملية. على سبيل المثال» يعرّف فوزي كريم» وهو أحد أبرز المثقفين العراقيين - 
بلا ريب - المثقف أنه «كيان أسهمت الطبيعة في انتخابه بالتأكيد. الثقافة التي 
اهتدى اليها مسعى لرفع الانسان إلى النموذج الأسمى. [. ..] إنه يتطلع الى الضوء 
أبدّاء حتى لو كان تطلعه صارحّحاء ندابّاء تراجيديًا. المثقف هو الذي يحسن معرفة 


465 


الكائن الإنساني كشبكة تعارضات. وأنه كيان رائع بسببها. لأن هذه التعارضات 
وحدها هي سر دینامیته وتطوره»". 


- إضافة إلى ذلك» حاول هذا الجيل من المثقفين أن يؤسس تاريحًا نقديًا بأثر 
رجعي» وأعني: : استعادة الدور الذي لم يكن ممكنًا في العقود السابقة بقةء لا السلطةٌ 
كانت تتيحه» ولا قوانين المثقف. وأعنى» بصفة أكثر تحديدًا: نقد الأسس التى بُنى 
عليها الاستبداد. 1 000 
- على الرغم من أن العراق لم يشهد حركة نقدية واسعة» كمدرسة 
فرانكفورت في ألمانيا مابعد النازية» لمراجعة سياق تشكل الاستبداد» وقعت 
هذه الحركة تحت هاجس [ إمكانية تكرار صيغة جديدة لنظام الاستبداد لما قبل 
عام 2003» ومنع تكرار هذا النظام. وكان هذا يخالف الحركة العامة في العراق» 
سياسيًا وثقافيّاء التي استسلمت لراحة شخصنة الشر في صدام حسين ونظام 
البعث» ومن ثم- ويسبب هذا المنطق - يعني مجردٌ سقوط نظام البعث إغلاقٌ 
صفحة الاستبداد في العراق. لذلك» كانت الإشارة الدائمة إلى مصادر الاستبداد 
أشبة بالنزعة الضميريةء أو الأنا الأعلى» التي تراقب مسار الأمور بعد عام 2003. 


مع أن هذه الحركة لم تنتج» cles‏ عملا واضحًا في فهم مصادر تشكل 
الاستبداد»ء وتشكل هذه الهواجس نثارًا لرؤية» لم تكتمل بعد. عن مصادر هذا 
الاستبداد. تتعلق - أحيانًا - بالاقتصاد السياسي للدولة الريعية» بوصفه أحد أهم 
مصادر الاستبداد والتهديد الأول للديمقراطية» وتتعلق - في أحيان أخرى - 
بمحاولة الدولة السيطرة على المجال العام والمجتمع المدني» ومرة ثالثة» بالثقافة 
السياسية السائدة التي تدور على فكرة «المستبد العادل»... وهكذ 


- عشية عام 2003 وبُعده» صدرت أعمال نقدية حاولت أن تراجع أدوارٌ 
المثقفين في ظل النظام الاستبدادي. ولعل أبرزها كتابا سلام عبود» ثقافة العنف 
في العراق (2002)ء وسلام خحضرء الخاكية: من أوراق الجريمة الثقافية فى العراق 


(10) اعتقال الطائي (محاور)ء «الشاعر العزيز فوزي كريم»» موقع فوزي كريم الإلكتروني (كانون 
الأو ل/ ss‏ 2006(« فى: http://fawzikarim.com/interviews/interviews_3.htm.‏ 


466 


(2005). ومع أن هذه الأعمال مهمة؛ بلا شكء فإنها اقتصرت على حقبة البعث» 
ولم تذهب أبعد من ذلك» ما جعلها تبدو كأنها مجرد هجاء هذه الحقبة» أكثر من 
كونها تحليلًا نقديًا لتشكل المثقف الدولتي والدور الذي اضطلع به بوصفه الأداة 
الفكرية لبناء سرديات الهيمنة. 

- على الرغم من أن نظام الاستبداد في العراق لم يسقط بثورة شعبية» أو 
حراك شعبى» بل بيد قوة احتلال عسكرية أجنبية» فإن العراق شهد مسارًا للتحول 
الديمقراطي. أنا لا أقصدء هناء مشروع الدمقرطة القسرية الذي تبنته إدارة جورج 
بوش وتيار المحافظين الجدد وصفة لتغيير ثقافي جذري في المنطقة» يجعلها 
أكثر مطواعية لقيم الحداثة الغربية» بل أقصد محاولة جزء مهم من النخب العراقية 
استغلال التدخل الأميركي بإسقاط نظام صدام حسين» لإطلاق مشروع تحول 
ديمقراطي. ويبدو أن تعثر المشروع يرتبط بالعوامل الداخليةء لا الخارجية. 

إن حزمة المبادئ المرتبطة بمسار الدمقرطة» من قبيل: المشاركة الشعبية» 
أو المساءلة والمراقبة» أو المجتمع المدني الفاعل» أو قوة المجتمع تجاه الدولة» 
أو حتى حكم الشعب» في التعريف الأولي للديمقراطية» أحدثت عند المثقفين 
العراقيين تيارًا بضرورة المساهمة في صناعة عراق ما بعد الاستبدادء أكان هذا 
انتقامًا من وظيفة «المثقف التابع» التي سيطرت على تاريخ المثقف العراقي» 
أم انطلاقًا من حسّ فئوي» حيث سمح حادث عام 2003 بإعادة ترتيب أدوار 
الفاعلين الاجتماعيين» فبرز دورٌ رجال الدين وزعماء العشائر» ومن إليهماء أم 
استثمارًا للفضاء المفتوح الذي أعقب سقوط الاستبدادء أم استلهامًا لفهم أن 
مجال عمل المثقف» في حقل القيم والرأي» يقع في قلب التحول الديمقراطي. 

لذلك» كان انخراط المثقف العراقي بعد عام 2003ء في ممارسة الشأن 
العام» بهذا الشكل» يعني انجرارّه إلى ممارسة لا تشبه ممارساته السابقة. 


وبطيئًاء كان هذا يزامن إعادة تفسير لوظيفته» من حيث هو مثقف. 


- إن الانخراط في حقل القيم» وفي سياق اشتداد التعبير عن الهويات الإثنية» 
ولأن المثقف العراقي ظل ملتزمًا حدود التعبير عن قيم الوطنية العراقية» على الرغم 


467 


من التباسات علاقته بالسياسة وفهمه وظيفته» بدا لجزء مهم من المثقفين العراقيين 
أن واحدة من أهم وظائف المثقف. الآن» ينبغي أن تكون توكيدٌ قيمة الوطنية 
العراقية» وجرى احتقارها والاستخفاف بهاء إلى أبعد الحدود» وأن المثقف قد 
يكون آخر أداة حاملة لوطنية عراقية تبددت إلى حزمة هويات ما قبل الدولة. 
خامسًا: المثقف داعية مدنيًا 

يتشكل المثقف اللادولتى» إِذَاء من ثلاثة مكونات: 

- بقايا النزعة الرسولية التي تضمنتها ولادةٌ فكرة «المثقف؛ في أوروباء التى 
كرست فيه النزعة إلى تغبير العالم» أو المساهمة فيه. 

- النزعة النقدية التي تمثّل واحدة من أهم تطويرات التعريف الأساسي 
ل «المثقف)». بوصفه ضميرًا. 

- النزعة الفكرية الناتجة من لحظة التقاطع بين فكرة «المثقف؛ ونهضة العلوم 
الاجتماعية والإنسانيةء التي لا تقصر المثقف على كونه ناقدًا منهمكا بالشأن العام 
وساعيًا إلى التغيير» بل هو صاحب رؤية وبرنامج أيضا. 

سيتحكم هذا المركبٌ الثلاثي لتعريف المثقف في تحديد نشاطه الذي 
أتصور أنه سيعمل على رسم صورة مغايرة» بشكل جذري» للصورة التقليدية التي 

بالأحرىء» وبالقدر الذي تجعل صفة الخبير من المثقف طرفًا في بناء رؤية 
للتحول الديمقراطي والانتقال إلى الحداثةء أكان مع مراكز الخبرة والتفكيرء أم 
قريئًا من مصادر صنع القرارء أم بالتعاون مع مراكز المراقبة والرصد» فإن صفتي 
الناقد والمغير ستعيدان هندسة موقع المثقف ضمن الحركة المدنيةء لا الحركة 
الثقافيةء كما جرى تقليديّاء في الأقل في العالم العربي» لتنتج نوعًا من التقاطع 
الجديد بين المثقف والداعية المدنى. 

في تصوري» إن المثقف هو القادر على تحويل الطابع المطلبي لجزء كبير 


468 


من الحراك المدني» إلى قيم سياسية» نتجه إلى أداء الدولة والمؤسسات السياسية 
وطبيعة النظام السياسي. وهناء يأتي الدورٌ التاريخي للمثقفين: فهم الأداةٌ التي 
يمكن أن تحول هذه المطلبية إلى مفهوم سياسي. 


إن هذا التقاطع الجديد سيعمل على إعادة تصميم مسار الدمقرطة؛ بعد أن 
وجه مشروعٌ الدمقرطة الأميركي مسار هذه العملية من un‏ باتجاه القاعدة» أي 
برسم شكل المؤسسات السياسية الديمقراطية التي ستعمل على تغبير المجتمع. 
غير أنه ثبت تعثر هذا المسار. لذلكء» يتمثل الرهان. الآن» في بناء الديمقراطية من 


قاعدة الهرم باتجاء قمته» أي بتقوية المجتمع ودفعه إلى تعزيز المسار الديمقراطي» 
وصولا إلى قمة الهرم» أي مؤسسة السلطة والمؤسسات السياسية العليا. 


ماذا تعنى الدمقرطة من القاعدة فى اتجاه القمة؟ 


في عام 2009» في الذكرى الثلاثين للثورة الإسلامية في إيران» أصدر 
السوسيولوجي الفرنسيء الإيراني الأصل» فرهاد خسروخافار كتابًا بعنوان أن 
تكون في عمر العشرين في بلاد آيات الله» درس فيه جيل الشباب الإيراني من 
المولودين والمولودات في عام 1989» أي بعد عشرة أعوام على الثورة. ووصل 
الكتاب الذي اعتمد على حوارات وتحقيقات سوسيولوجية قام بها خسروخافار 
على عينة واسعة من أبناء هذا الجيل في عاصمة إيران الدينية المقدسة» قم» إلى 
نتيجة مثيرة» هى أن هذا الجيل لا يناقش - بالضرورة - القضايا السياسية الكبرى» 
من قبيل نوع النظام السياسيء أو الثيوقراطية» أو طبيعة العلاقة بين مؤسسات 
السلطةء بل يتجه إلى ما يسميه «طرائق حياة علمانية خاصة داخل هذا النظام 
الثيوقراطي». هذه العلمنة تبدأ من التفصيلات الصغيرة المرتبطة بقيم الحداثة» 
من قبيل الموقف من الموسيقىء أو الاختلاط بين الجنسين» ويمكن أن تمتد إلى 
قضايا أوسع» من قبيل حرية التعبير» بل يمكن أن تنخرط في انتفاضة واسعة ضد 
تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية» على غرار ما حدث في حزيران/ يونيو 2009. 

يسمي حسروخافار «علمنة التفصيلات» هذه ب «العلمانية القطاعية»ء لأنها 
تنشط في قطاعات محددة» وهو يرى أنها «علمانية متناة قضة»» لأنها تحافظ على 
التوتر بين علمنة قطاعات معينة وقبول الثيوقراطية في قطاعات أخرى ى. 


469 


أفترض أن الدمقرطة من قاعدة الهرم إلى قمته تعني شيئًا قرييًا مما يسميه 
خسروخافار العلمانية القطاعية. غير أن العلمانية القطاعية لا تعني تكيفًا ضمن 
نظام ثيوقراطي؛ أي استحداث مناطق علمنة في داخل فضاء ثيوقراطي» بحسب 
أنموذج الشباب الإيراني الذي استتبطه خسروخافارء بل يمكن أن تعني - في 
السياق العربي - العمل على علمنة ودمقرطة القطاعات المتعينة» وصولا إلى 
مؤسسات السلطة العليا. 


يمكننا تلخيص ما تعنيه الدمقرطة من القاعدة في اتجاه القمة في ثلاثة أمور: 


- ألا يكون عمل المثقفين» والمجتمع المدني على نحو عام» متجهًا إلى 
القضايا الهيكلية للدولة» من قبيل نوع النظام السياسيء والعلاقة بين السلطات» 
وما إلى ذلك» بل يتجه إلى القضايا التفصيلية. بالتأكيد» أنا لا أفترض أن ينسى 
المجتمعٌ المدني الجزءَ الأول المهم والمفصليء لكن خبرتنا علمتنا أن هذه 
القضايا الكبرى ميدان خاسرء في حين أن قدرة المجتمع المدني على القطاعات 
والتفصيلات أكثر وضوحًا وحذة. 

- أن يكون ثمة» دائمّاء بناء مواز للبناء المؤسسي للدولة» ينهض به المجتمع 
المدني. إن وجود الدولة من حيث هي ناظم اجتماعي لمثل هذه المجتمعات أمرٌ 
مهم جدّاء لكن يجب أن تخضع هذه الدولةٌ إلى ندية وتوازن مقبول مع المجتمع. 
هذا التوازن هو الذي يوفر للدولة ما أصبح يُسمى في الأدبيات الليبرالية المعاصرة 
الحوكمة الرشيد؛ الذي من دونه تتحول الدولة إلى جهاز استبدادي. 


- أن يستعيد المجتمعٌ المدني هوية واضحة؛ تنبع من الداخل» من قلب 
المجتمع وتفصيلاته» لا من الرؤية الخارجية (النيوليبرالية الأميركية» في حالة 
العراق) التي دعمته وغذته لتفترض أنه سيكون كيانًا عامًا يوازي الدولة» من دون 
أن يعي حاجاته الفعلية على الأرض. ووجد المجتمعٌ المدني العراقي نفسّهء في 
لحظة تأسيسه في عام 2003« pli‏ قائمة من الاهتمامات والحقول التي فرضها 
المانح الدولي» من دون أن تكون - بالضرورة - مطابقة أو معبّرة عن الوضع 
المعقّد الذي يعيشه العراق. 


0400 


الأهم من ذلك كله ربما أن التفصيلات أو القطاعات هي مجال وطني عام... 
هي فضاء للا؟ a Co ir de‏ 
اام لذلك» 7 النقاش في شأن هذه sh‏ سسات بأخلاقها وطابعها 


dl «al‏ ساحة fn‏ السياسي ا والتفصيلات مجال 
الاشتراك العام. لذاء ينبغي للدمقرطة أن تبدأ من هنا؛ أي من التفصيلات» من نقطة 
اللاانقسام. 


سادسًا: الاحتجاج أداة لاستعادة الدمقرطة 
في هذا السياق» سياق الدمقرطة من القاعدة في اتجاه القمة» تمثّل 00 


الاحتجاج السلمي عنصرًا فاعلا ورئيسًاء بل قد تكون إحدى أكثر الأدوات فاعلية 
في إعادة اتجاه عملية الدمقرطة. 


TS 
تجاربٌ الاحتجاج السلمي وأدبياته العالمية. فالاحتجاج ذ فى العراق ليس أداة‎ 
للمطالبة بحقوق جماعية أو لتصحيح اختلالات تاريخية» على نحو ما فعل غاندي‎ 
ولوثر كينغ. إنه وسيلة للدمقرطة؛ الوسيلة القصوى للمشاركة الشعبية» بسبب‎ 
اختلال وسائل المشاركة» المقننة وغير المقئنة» من انتخابات وأحزاب ومنظمات‎ 
غير حكومية» وما إلى ذلك.‎ 

إن أحد الرهانات الأساسية أمام استعادة الدمقرطة التي تواجه - على نحو 
خاص - المجتمعٌ المدني العراقي» هو تفكيك الثقافة التي تحصر المشاركة 
الشعبية في المشاركة في الانتخابات وفي الوسائل التقليدية للمشاركة. واقترحتٌ» 
سابقاء أن يسعى المجتمع المدني إلى ابناء ثقافة جديدة تمرن العراقيين على أن 
المشاركة الشعبية سيرورة طويلة» ومستمرة. . سيرورة تمتد إلى Le‏ هو أبعد من 
الانتخابات»'. 


ibm jd (11)‏ «المجتمع المدني في العراق ومراقبة ما بعد الانتخابات؟» صحيفة العالم (بغداد)» 
2010/6/14. 


471 


غير أن الرهان الأهم الآنء في تصوريء هو إعادة تعريف «المشاركة الشعبية» 
وفتحها على وسائل آخرى» ولا سيما الاحتجاج السلميء» بعد أن سيطرت على 
العراقيين ثقافة تحصر المشاركة الشعبية بالمشاركة فى الانتخابات» ولا تتخطاها 
إلى ماهو أكثر من ذلك حدة وشكلا. 1 


المراجع 


1- العربية 
الجابري» محمد عابد. المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن 
رشد. ط 2. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 2000. 
الخفاجي» عصام. رأسمالية الدولة الوطنية. بيروت: دار ابن خلدون للطباعة 
والنشرء 1979. 
سعيد» حيدر. «كنايات عن تاريخ ثقافي». مجلة الطليعة الأدبية. العدد 1 
(كانون الثاني/ يناير- شباط/ فبراير 1999). 
. «ما أصغرٌ الدولة ما أكبرَ الفكرة: خطوط عن علاقة الدولة بالمثقف فى 
العراق». في: شهادات من العراق ما بعد 2003. إعداد آنيا فوللتبرغ وكلاس 
الإلكتروني (كانون الأول/ ديسمبر 2006)» في: 


http://fawzikarim.com/interviews/interviews_3.htm. 
م‎ € 
الاجنبية‎ -2 


Hourani, Albert. Arabic Thought in the Liberal Age, 1798-1939. Oxford: Institute of 
Royal International Affairs, 1970. 


472 


دور المثقف في الثورة السورية 
بين شهيد ومتفكر 
شمس الدين الكيلاني 


لا يزال السجال دائًا في شأن موقف المثقف ودوره في الثورة السوريةء 
والأفكار التي وطّفهاء وأشكال مساهمته ومشروعاته ومقدار المكانة التي حظي 
بهاء فضا عن صدقيته المعرفية والأخلاقية في النظر والممارسة. فبعد استقالة 
مديدة امتدت عقودًا قطعتها هزات شعبية» أو تحركات مثقفين انتعشت فيها الحياة 
السياسية والثقافية إلى حين» لتعاود الانطفاء مجددّاء شهد آذار/ مارس 2011 
عاصفة شعبية وثقافية عارمة» لم تتوقف أو تجد لها مستقرّاء واجهتها ضربات 
عنيفة مدمرة من السلطةء ما استطاعت إخضاعها وإعادتها إلى الركود والطاعة 
المعتادين. فكان لا بد من أن يستدعى ذلك التفكير مجددًا فى دور المثقفين في 
هذا التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي العاصف» في زمن التحولات التاريخية 
الكبرى التي شهدتها سورية في سياق الربيع العربي. 

جرى تداول كثير من الأطروحات» في هذه البرهة الثرية والمؤلمة» عن 
المثقف والثورة السورية» تنوعت ما بين نقد دور المثقف السوري السلبي» وتأخره 
عن الاستجابة لمتطلبات هذا التحول الكبير سياسيًا وفكريًا وأخلاقيّاء والإعلاء 
من شأن دوره الفاعل في تغذية الثورة فكريّاء وفي مساندتها وتوجيههاء فضلًا عن 
الإشكاليات المحيطة بدوره ومواقفه تجاه التحولات التي طرأت على الثورة من 


473 


طورها المدني السلمي الديمقراطي إلى طور يختلط فيه العسكري بالمدني» ثم 
إلى هيمنة العسكري, وأخيرًا إلى بروز ظواهر التطرف والعنف الطائفي في وجه 
كفاح السوريين نحو الحرية؛ ومن ثم الأطروحات التي قدمها المثقف السوري 
ليعلل موقفه (المؤيد أو المعادي أو المحايد) من الثورة. 

تعرّض مفهوم المثقف وممارساته في سورية لكثير من الالتباس والتبدل في 
ضوء بيئة سياسية مغرقة في التسلط» تحيط بالسوريين من كل جانب: في المدرسة 
والوظيفة والإدارة والمنافذ/ المنابر الثقافية التى لا غنى عنها لكل مثقفء التى 
تضعها الدولة والمجتمع تحت المراقبة والعقاب. وفي هذا الصددء تجدر 
الإشارة إلى أن لا صورة واحدة للمثقف السوريء بل ثمة أشكال وأدوار يتخذها 
المثقفون حيال الثورة» تراوح بين الاستشهاد والخنوع. ومن ثم» ضرورة محاولة 
رسم أطياف الصور المتعددة التي اتخذها المثقفون السوريون أمام هذا التحول 
التاريخي الكبير» وتفكيك هذه الإشكاليات للتعرف إلى ملامحه ودوره في الثورة. 

تهدف هذه الدراسة» إِذَاء إلى مواجهة تلك الإشكاليات التي تثيرها تلك 
الدعاوى والافتراضات المتضاربة في شأن المثقف» ومن ثم التعرف إلى تأثيره 
ودوره ومدى مساهمته في الثورة أو ممانعته لهاء ثم تفكيك الإشكالية التي يتضمنها 
تحميل المثقف مسؤولية تراجع الوجه المدني الديمقراطي للثورة» والنظر في مدى 
مسؤوليته عن تلك التبدلات. وتعتزم هذه الدراسة تفكيك تلك الإشكالية» وإظهار 
معانيهاء من خلال التحليل التاريخي لحوادثها ونصوصهاء لإعادة تركيب صورة 
المثقف السوري في مفهومه وأدواره» وسلوكه النظري والسياسي. فيتنوع التحليل 
بين المنهج التاريخي النقدي ومنهجيات الاجتماع السياسي التاريخي» في صلاته 
باجتماعيات الثقافة» ومنهج التأري يخ المقارن» من خلال تقصي فضاءات التشابه 
والاختلاف» ومنهج التاريخ الراهن ووسائله ومرجعياته في البحث. 

أمام هذه الإشكاليات المتداخلة» وضعت الدراسة فرضية مفتاحية» هي أن 
المثقفين السوريين لم يرتقوا إلى مصاف الرسل ولم ينحدروا إلى مستوى الرقيب 
أو الشاهد الحيادي» بل حافظواء ولو قلة منهم؛ على رباطة جأشهم؛ وعبّروا عن 
الضمير الأخلاقي للمجتمع. كما أنهم» وإن لم يصنعوا الثورة أو يقودوهاء فإنهم 


474 


صاحبوها وساهموا في بلورة أهدافها وشعاراتهاء وكان بعضهم مشاركا فيها؛ 
كما أن النشاط الديمقراطي للثورة نفسه صنع له مثقفين ناشطين سياسيين وجهوا 
التحرك الديمقراطي ونظموه» وابتکروا وظائف ومهمات ساعدت في استمرار 
الثورة. لهذا يبدو لنا مفهوم «المثقف العام السياسي» قريبًا من التعبير عن المثقف 
السوري. خصوصًا ذاك الذي برز في أثناء الثورة. 


أولا: ممهدات تاريخية مفهومية للاقتراب 
من المثقف السوري والثورة 


لعل صعوبة تحديد معنى مفهوم المثقف أو تعريفه هي أول ما يواجه الباحث 
في مقاربته دوره في الثورة السورية؛ فليس ثمة تعريف جامع مُتفق عليه في أوساط 
علم الاجتماع أو الدارسين للثورات التاريخية؛ ولا شك في أن مفهوم المثقف 
والثقافة مستحدثان في الآداب العربية'»» وخضعا للتأويل وتغيير الدلالات في ما 
أحدثه الفكر العربي الحديث من تجديد. 


1 - مقاربة مفهوم المثقف السوري 


طغت على مفهوم المثقف» بصورة عامة» معاني الرفعة لمكانته في التغيير 
وفي استشراف المستقبل» فعدّه إدوارد سعيد «صوت من لا صوت له00» ونُظر 
إليه بمنظار ما يجب أن يكون. لا تبعًا لدوره الفعلي. وهكذا بقي مفهوم المثقف 
يكتنفه الغموضء «ذلك لأن هذا المفهوم قد تُقل إلى العربية من الثقافة الأوروبية. 
ولم تجر تبيئتها*. فهو مفهوم مستحدث في اللغة العربية» ترجمة لمفهوم 


(1) وفق محمد عابد الجابري» #كلمة مثقف في اللغة العربية لا ترتبط في الثقافة العربية بمرجعية 
محددة (...) ومن ثم فهو لا يشكل مرجعية». انظر: محمد عابد الجابري؛ المثقفون في الحضارة العربية: 
محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشدء ط 2 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيةء 2000)» ص 9. 

(2) إدوارد سعيد: المثقف والسلطةء ترجمة محمد عناني (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع» 2006)» 
ص ٠11‏ وخيانة المشقفين: النصوص الأخيرة» ترجمة أسعد حسين (دمشق: دار نينوى» 2011)» ص 36. 

(3) الجابري» ص 14. 


475 


(إنتليجنسيا» الذي يعود إلى القرن التاسع عشر”. كما اصطدمت الرؤية التنويرية 
الرسولية للمثقف بتعالى النقد الكثيف لدوره المعاصر استنادًا إلى أطروحات 
مابعد الحداثة. 


في أي حال» تقادمت صورة المثقف القديم©» بدلالة الثورة السورية 
والعربية؛ لذلك اقترح السيد ياسين أن «الناشط السياسي يحرك المجتمع لإقامة 
نظم مؤسسة على الحرية السياسية»”©. وإن كان هذا لا يمنع من أن يكون 
«المفكر؟ مثقمًا عمومًاء أو ناشطا سياسيّاء فيبدو تعريف السيد ياسين أكثر قريًا 
من الوضعية التي ظهر فيها المثقف السوريء من قيادة التظاهرة وتنظيمهاء إلى 
الاشتراك في التحضير لها وتأمين شروط نجاحهاء إلى النشاط في المجال الإنساني 
الإغاثي والإعلامي. فإذا كان الفضاء العمومى» فى الغرب» قلص وظيفة المثقف 
ودوره إلى عوامل موضوعية أحدثتها الثورة التقانية الحديثة/ ثورة الاتصالات» 
ودور الصورة النافذ المهيمن» ففي بلادنا عمل الاستبداد السياسي على محاصرة 
المثقف وترويضه» وبقيت مجموعة «نذرت نفسها لنقد الظلم والفساد وغياب 
العدالة وقمع الحريات»". 


2- المثقف السوري من عالم الحرية إلى كابوس الاستبداد 
نعم المثقف السوري بحياة ديمقراطية مديدة امتدت بين عامي 1932 
و1963» تخذلها حكم عسكري فترة ة قصيرة» ازدهرت فيها الصحافة والحريات 


(4) علي أومليل وآخخرونء المثقف العربى: همومه وعطاؤه (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 
5 ) ص 144 . 

(5) على حرب. أوهام النخبة أو نقد المثقف (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 
6 ) ص 92 

)6( محمد عطار» «حوار موسع مع فواز طرابلسي عن الثورة السورية6؛ مؤسسة هايتريش بول 
ستيفتونغ - الشرق الأو سط (22/ 2/ 2013)ء في: http/bit.ly/1PdU2q9.‏ 

(7) السيدياسين» «نهاية «المثقف والجماهير» وصعود«الناشط السياسى ٩ء‏ النهارء 11/ 10/ 2012» 
في : http://bit.ly/ImcSpx2.‏ 

(8) فخري صالح» الثورات العربية: المثقفون والسلطة والشعوب العربية (القاهرة: دار العين للنشر» 
3) ص 25. 


الصحافيةء وانتعشت فيها الثقافة والفكر السياسي. ثم ما لبثت البلاد أن دخلت 
طور أزمة خانقة في نظام عسكري استبدادي برداء حزب البعث. حينئذ غدت 
الثقافة مُقادة من السياسة» حين أغلقت السلطة منافذ التعبير من صحافة ودور علم» 
وسلمتها إلى الأكثر طاعة وانقيادًا. 


فتح الأسد الباب لجميع القوى السياسية المشاركة في «الغنائم»» وترك 
القرار السياسي لرأس النظام وعصبته» وترجم هذا التصور بتقديم صيغة «الجبهة 
الوطنية التقدمية» لاستيعاب النخب (التقدمية) في إطارها. وانشقت بدلالة هذا 
الخيار الأحزاب (التقدمية)؛ إذ اختار قسمها الأول ل الالتحاق ب «الجبهة» للعمل 
تحت قيادة الأسد» وبقي الآخرون خارج «الجبهة»» لا بسبب دواعي الديمقراطية» 
فهذه كانت خارج اهتمام الأحزاب (التقدمية) والقوى اليسارية والقومية السورية 
حينئذ» حيث كان النقاش يدور في شأن المواقع والنفوذ. 

لم يقتصر تأثير النظام على تدمير الحياة السياسية والاجتماعية الثقافية» بل 
نشر أيديولوجيا الاستبداد لتصبح سائدة حتى في صفوف النخب المعارضة» 
باستثناء بقايا أصوات ليبرالية خافتة؛ وإذ أخلت السلطة المجال للأدب والتاريخ 
والتراث» فإن الحصيلة كانت نقاشات نظرية بائسة» هدفت إلى معرفة الحامل 
الطبقي. ولهذا صرخ ونوس: «إننا... نحن المثقفين» سلطة ظل شاغلها الأساسي 
أن تصبح سلطة فعلية... Li‏ قفا النظام... يا للخيبة! ويا للحزن!»"". إلى أن 
انقلبت الأحوال في نهاية سبعينيات القرن العشرين وبداية ثمانينياته مع وصول 
تجربة اشتراكية (الدولة التقدمية) إلى طريق مسدودة عالميًا ومحليّاء فاتجهت 
أنظار تلك النخب إلى التفكير في سبل الانتقال إلى الديمقراطية. وعلى الرغم 
من هذه الأوضاع الصعبة» فإن المثقفين السوريين لم يصمتواء «ففي صيف عام 
6» كتبت مذكرة احتجاج» وقدمها المؤلفون الكبار والسينمائيون و 
الآخرون بصدد الحرب في لبنان والمذبحة التي تعرض لها الفلسطينيون في مخيم 


(9) جمال باروت وشمس الدين الكيلاني» سورية بين عهدين: قضايا المرحلة الانتقالية (عمّان: دار 


54 2003(« ص 27. 
(10) سعدالله ونوس» «نحن المثقفون «قفا» النظام ولسنا ضده: رسالة من سعد الله ونوس إلى عبلة 
الرويني4؛ السفير, الملحق الثقافي» 18/ 4/ 2014» في: http://bit.ly/22eets4.‏ 


477 


تل الزعتر؛ وبإصرارهم على الديمقراطية وجد أولئك المطالبون المحترمون آذانًا 
صاغية تمامًا في المدارس والجامعات» وبين أوساط الطبقة الوسطى بصورة 
Calle‏ 


3 - ولادة المثقف الديمقراطى 


مع غلق الباب أمام الحلول الديمقراطية» اتجه بعض الإسلاميين إلى العنف 
(الطليعة المقاتلة للإخوان)؛ وانتشرت الاغتيالات ذات الطابع الطائفي. وفي 
موازاة عمليات «الطليعة المقاتلة» العسكرية الطائفية» برز تيار ديمقراطى طالب 
بدولة الحريات» تمثّل في أحزاب «التجمع الوطني الديمقراطي» والمثقفين 
وطلاب الجامعات والنقابات المهنية (المحامون والمهندسون والأطباء) التى 
شاركت هذه القوى المطالبة بالحريات. ومن ديار الغربة (باريس)ء صدر كتاب 
برهان غليون بيان من أجل الديمقراطية*'2 ليعلن عن مرحلة جديدة في تاريخ 
الفكر والسياسيات عنوانها الرئيس «الانتقال نحو الديمقراطية». ومن بيروت» 
سججل ياسين الحافظ مصالحته مع الليبرالية والتاريخانية» في الوقت الذي كان 
يولد فيه المثقف والناشط الديمقراطى من الداخل» وعلى مدرجات جامعة دمشق 
التي سمعت صوت المثقف الحر في مواجهة السلطة”©. 


بعد هذا الصعود القصير الأجلء لكنه الباهر» خرجت سلطة الأسد منتصرة 
على الإخوان المسلمين والقوى الديمقراطية» فحوّلت هذا «النصر» إلى انتصار 
على الشعب» فكان لها ما أرادت» حين ختمت معركتها بتدمير مدينة حماه وقتل 
الآلاف من سكانهاء و «خمد الصوت العام pus se Les a tal‏ صدر السلطة 
حتى لانتقادات طفيفة فى المجال الاقتصادي» حيث سارعت إلى طرد عارف دليلة 
من جامعة دمشق في عام 1990» عقابًا على مقالاته الاقتصادية النقدية. 


(11) «رقيب الشرق الأوسط هيومن رايتس ووتش»». ترجمة اللجئة السورية لحقوق الإنسان» 
يونيفرسيتي يل برس (1990): ص 23. 

(12) برهان غليون. بيان من أجل الديمقراطية (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربيةء 1986). 

(13) فايز سارة» «ديمقراطيو سوريا؟» الشرق الأوسط 8/ 6/ 2013. فى: .1171/5521 /يز!.ائط/لتمناط 

(14) محمد ديبو» «المثقف والمعارضة والشأن العام»» دلتاء العدد صفر (أيار/ مايو 2014( 
ص 79. 


478 


في ذلك العقدء أخلد المثقف السوري إلى مملكة الصمت؛ فصار ملائمًا له 
أن يتفحص التراث بدلا من الحاضر المرعب. وانقسم المثقفون السوريون بين 
التحزب لمحمد عابد الجابري أو لمحمد أركون» بدلا من السياسة التي انحسرت 
إلى مستوى صفري. أما من بقي من المعارضة (الصابرين)» فاقتصرت على عدد 
من الأفراد تحلقوا حول جمال الأتاسي» زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي العربي؛ 
وعكفوا على إصدار صحيفة سرية (الموقف الديمقراطي)» باسم «التجمع الوطني 
الديمقراطي:» كل بضعة شهور. ثم شهدت سورية في التسعينيات طفرة في أدب 
السجون الذي كان يُنشر خارج الوطن ويُسرّب سرًا إلى البلده بأقلام المعتقلين 
أنفسهم بعد أن خرجوا من معتقلاتهم؛ بينما كان نظام الأسد «يعتمد على خطاب 
تتفشى فيه الأكاذيب» يُظهر فيه الفرد في أسمى درجات التحرر» في وقت يكون فيه 
قابعًا في أدنى درجات الانحطاط... يُسمي فيه قمع الثقافة تنمية لها“”". ولم يكن 
نزار قباني يكتب شعره في دمشق» واضطر زكريا تامر إلى الهجرة إلى لندن!*'". 
ومات الروائي الكبير هاني الراهب كمدًا مغضوبًا عليه. ويشهد غليون أن «القسم 
الأكبر من المثقفين السوريين الحقيقيين كانوا مقاومين0”". 


4- مثقفو ربيع دمشقي المغدور: تلويحة إلى ثورة المستقبل 


أطلق الأسد الابن» في بداية عهده وعودًا بالإصلاح تطلبًا للشرعية» لعبور 
مشكلة «التوريث». فساهم ذلك في ولادة حراك سياسي اجتماعي ومدني» وإلى 
جدل ثقافي ثري» قام به مثقفون يساریون ولیبرالیون وقومیون» انتقلوا إلى إطلاق 
وثائق ستظل مهمة وحاضرة» وتدل على الانتقال إلى وعي يهجس بالديمقراطية؛ 
وهذا ما تجسّد فى «بيان 199 و«وثيقة الألف». وساهموا بتشكيل هيئات مدنية 
باسم «لجان إحياء المجتمع المدني»*". فعرّز ذلك من احتمال تكوين أحزاب 


)15( ميريام كوك سوريا الأخرى: صناعة الفن المعرض» ترجمة حازم نهار (بيروت/ الدوحة: 
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» [مخطوط])؛ ص 35-34. 
(16) المرجع نفسه. 


(17) «حوار مع برهان غليون»» الجمهورية (موقع إلكتروني)» 8 م في: 
http: Haljumhuriya.net/841.‏ 


je (18) 


479 


ليبرالية جديدة. إلا أن السلطة أغلقت الباب أمام هذا الاحتمال للتحول الديمقراطي 
باسترجاعها العنف والسجون. 


زاد إحباط النظام لموجة ربيع دمشق في تعميق الفجوة بينه وبين المثقف 
والشعبء وعتّر العظم عن وزن #ربيع دمشق» على النخب السورية: فكان افصلا 
خاطمًا لکن ترك أذ 45 على الأقل» على ذهنية المثقفين وتطلعاتهم»”'. وبقيت 
قلة من المثقفين السوريين مستمرة في الكتابة نقديًا في الشأن السياسي السوري» 
واستعاد النظام الأمني لياقته المعهودة. لكن أيديولوجية حكم الحزب الواحد 
والدولة الأمنية تهاوت» وشرع ثراء الحياة السياسية والثقافية يؤكد نفسه؛ وعمل 
على استئناف حواراته» إلى أن توصل إلى صيغة وثيقة «إعلان دمشق للتغيير 
الديمقراطي» التي صدرت في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 72005©. وأصبح مصير 
الكثير من هؤلاء المثقفين المعتقلات أو السجون أو التواري أو الاغتراب. وكانت 
هذه هي الحال التي أحاطت بالمثقف السوري» عندما فجر الشبان السوريون 
الثورة في آذار/ مارس 2011ء وهم الذين تفاعلوا مع ثورة تونس ومصر وليبياء 
ودفعوا تكلفة إظهار تضامنهم معها. 


ثانيًا: المثقف في إطلالة الثورة بوجهها السلمي الديمقراطي المدني 
بين المواكبة والخذلان 


كان من الطبيعي أن تكون المعارضة ذاهلة عن احتمال انفجار الثورة» شأنها 
في ذلك شأن السلطةء والتحق بالثورة قلة من المعارضين. وترددت الأحزاب في 
التعامل معها باستثناء من بقي من شخصيات «إعلان دمشق» ومثقفيه"*. غير أن 


أكثرية المثقفين غمرها الفرح» وإن بقيت خائفة من الفشل» ومن ثم انتقام النظام. 


(19) «محاضرة المفكر صادق جلال العظم حول «الحَلمانية والمسألة الدينيةه» قنطرة (موقع 
إلكتروني)؛ 21/ 5/ 3 في: http://bit.Iy/1OkToSH.‏ 

(20) حازم نهار» مسارات السلطة والمعارضة في سورية. . نقد الرؤى والممارسات (القاهرة: مركز 
القاهرة لدراسات حقوق الإنسان» 9» ص 105.» قارن مع: خضر زكرياء «المعارضة الحزبية التقليدية 
في سوريا: المواقف والاتجاهات»» في: مجموعة مؤلفين» خلفيات الثورة السورية ومساراتها وتطور 
ظواهرها (بيروت/ الدوحة: المركز العربى للأيحاث ودراسة السياسات» 2013)» ص 266-263. 

(21) عزمي بشارة» سورية: درب الآلام نحو الحرية: محاولة في التاريخ الراهن (بيروت/ الدوحة: 
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» 2013): ص 397-396. 


480 


لا شك في أن الشروع بالثورة أتى في معظمه من الشبان» ومن المثقفين 
الناشطين الذين يتصل بعضهم بربيع دمشق؛ إذ «كان أغلب مثقفي سوريا هم 
“خريجو معتقلات*220©» وكانت تظاهراتهم التضامنية مع الثورات العربية: تونس 
ومصر وليبيا بمنزلة «بروفا» لما هو مقبل. ومن تجمعاتهم هذه انطلقت الشعارات 
الأولى؛ فأمام السفارة الليبية» تجمهروا للتضامن مع ثورة 17 شباط/ فبراير 2011 
الليبية» فيهم ناشطون من ربيع دمشق (دعاة المجتمع المدني)» وشبان من منظمة 
شباب حزب الاتحاد الاشتراكي. آنذاك ارتفع شعار «خاين يللي بیقتل شعبه»*. 
وعاد كثير من ناشطي ربيع دمشق الذين شاركوا في المنتديات (فايز سارة» ياسين 
الحاج صالح» أنور وأكرم البني» علي العبد الله» نجاتي طيارة» بكر صدقي... 
وغيرهم)» ثم شاركوا في الاعتصامات أمام المحاكم تضامئًا مع معتقلي ربيع 
دمشقء ليشاركوا مجددًا في التظاهرات التي جرت في سوق الحميدية الدمشقي 
في 15 آذار/ مارس 11 20ء إلى جانب الجيل الجديد من الشبان الذين تداعوا إلى 
التجمع عن طريق الشبكة العنكبوتية. 

لعل تجربة الشاعر الشاب محمد ديبو تقدم أنموذجًا لنشاط المثقف الأول 
بالثورة*» حيث تزامنت تظاهرة الحميدية التي طالبت بالحرية والإفراج عن 
المعتقلين» مع تفاعلات اعتقال الاستخبارات 15 طفلا في درعا ردًا على كتابتهم 
شعار «جاييك الدور يا دكتور!». فكان أن تجمع ناشطو درعا أمام القصر البلدي 
في درعاك©. فكانت التجمعات الأولى مركبة من مثقفين وناشطين سياسيين» 
وشبان أيقظتهم الثورات العربية وانجذبوا إلى شبكة التواصل الاجتماعي؛ فقامت 
هذه المجموعات بدور شييه بما قامت به حركة «كفاية» في مصرء قبل أن تشترك 


(22) ديبوء #المثقف والمعارضة؛؛» ص 87. 

(23) حمزة مصطفى المصطفىء المجال العام الافتراضي في الثورة السورية: الخصائصء 
ge SAS ot‏ الرأي العام (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأيحاث ودراسة السياسات» 
2012(« 42. 

(24) فارس الرفاعيء «الصحفي والشاعر محمد ديبو ل «زمان الوصل:: الثورة السورية في عنق 


الزجاجة بين الاستبداد والتطرف»» زمان الوصل (موقع إلكتروني)» 7/ 8/ 2014ء في: 
http:/bit.ly/1Pnuy7K. :‏ 


(25) بشارة» ص 83. 


مستويات البناء الاجتماعي بما فيه الطبقة الوسطىء وينفجر القاع الشعبي» وقود 
الثورات في العالم الذي يؤسس قاعدة نجاحها وربما إخفاقهاء ووفرت صفحة 
«الثورة السورية ضد بشار الأسد 71 جسر التواصل الافتراضي©©. مع 
الاتساع الهائل لقاعدة الثورة الشعبية» بدأ يغلب على الثورة الطابع العفوي(7*؛ 
وما لبشت التظاهرات أن اتخذت لها قادة من بين صفوفهاء قاموا بدور محوري فى 
تصاعد هذه الاحتجاجات» لكنهم لم يرتقوا إلى مصاف الزعامة على المستوى 
sl‏ 9 واضطلع المسجد بدور محوري» خصوصًا في مراكز المدن الرئيسة. 
بوصفه نقطة انطلاق للتظاهرات «أكثر من 658 50 ol es «PP LEE‏ جنب 
اشترك القادة الجدد مع المثقفين السوريبن في الحراك السلميء واعتٌقل الناشط 
والمثقف المعارض جورج صبراء في مدينة قطنا في ريف دمشق» وكذلك كان شأن 
الكاتب نجاتي طيارة؛ كما اعتقل واستشهد المئات» بل الآلاف من المتظاهرين 
الناشطين. في المقابل» اصطفت قلة إلى جانب السلطةء تحت ذرائع متباينة: 
السيناريست حسن يوسف ونبيل فياض والإعلامي نبيل صالح والأديبة كوليت 
خوري والكاتب بسام القاضي. وبين الفريقين استقبل فريق ثالث الثورة بفتور 
أو التباس””. ولم يطل الوقت حتى بدأ الشعراء والكتّاب السوريون يلتحقون 
بالثورة» بعضهم علناء وبعضهم سرّاء من داخل سوريةء أو من خارجها. 

لم يقل ذلك من دور المثقف/ المفكرء ولا من احترام القوى الثورية له؛ 
وهذا ما عبّر عنه انتخاب برهان غليون في 29 آب/ أغسطس 2011 لرئاسة 
«المجلس الوطني السوري» بوصفها هيئة قيادية للثورة”'©. وأعطى ذلك احتمال 


(26) المصطفى» ص 40. 


(27) صادق جلال العظمء «للمثقفين دور في الثورة بعيدًا من الشارع... وأدونيس لا يعرف متى 
يدافع عن الديموقراطية؛؛ الحياة» 21/ 4/ 2013ء في: http://bit.Iy/1mDyWX0.‏ 


(0) رضوان 65545 السلطة والاستخبارات في سورية (بيروت: رياض الريس للكتب والنشره 
3))» ص 32-31. : 
(29) المرجع نفسه. ص 32. 
(30) «النخبة السورية والثورة.. إقدام وإحجام وأسئلة» الشرق الأوسط؛ 10/ 3/ 2013» في: 
htip:#bit.1y/ImDziNI.‏ 


(31) انظر: بشير البكرء «برهان غليون: بين الداخل والخارج»» الأخبارء 9| 9/ ا 9 : 
ttp://bit.ly: W.‏ 


482 


وصول المفكر إلى مصاف القيادة» حتى لو كان «المثقفون لا يصنعون الثورات 
أو يقودونهاء قد يمهدون لها ويحرضون عليها ويصوغون بياناتها وبرامجهاء 
وينشرون دعايتهاء ويكتبون أدبهاء وينشدون شعرهاء وينتجون تحليلاتهاء 
ويموتون في سبیلها». 


في ظل هذا الفراغ القيادي» كان لا بد من أن يبادر الناشطون على الأرض 
إلى ابتكار صيغ للتنظيم وللتنسيق بينهم» لتأمين استمرار التحرك الديمقراطي» 
ومنحه الفاعلية والانضباط؛ فصار ناشط التنسيقيات هو الأنموذج الجديد 
لمثقف الثورة» أي «المثقف العام السياسي». وعوضت التنسيقيات عن ضعف 
المعارضة» وبدت «كشكل تنظيمي مرن نجح نسبيًا في تحويل التظاهرات إلى 
ما يشبه ps‏ اليومي... وأيضًا في تسخير وسائل التواصل الاجتماعي لخلق 
لغة مشتركة للتفاعل وللتوافق على المهمات وتوحيد إيقاع النشاطات»*. 
nl‏ «لجان التنسيق المحلية» في 1 حزيران/ يونيو 2011: بيانًا شاملا 
حددت فيه الطبيعة المدنية الديمقراطية للمرحلة الانتقالية» تبدأ بتنحي الأسده 
وجاء في البيان: «... ترتيب تفاوض سلمي للتحول نحو نظام ديمقراطي تعددي 
قائم على الانتخابات الحرة» يطوي صفحة نظام الحزب الواحد» والرئيس الذي 
تتجدد ولايته إلى الأبده*©. وشعر المثقف بأن عليه أن يتابع ما بدأه الناشطون 
الشباب» «لأن من شرع بإطلاقها هم الناس البسطاء. ولم يكن مطلوبًا منه الخروج 
في التظاهرات لمواجهة الموت» فمن يفعل هذا هم الناس البسطاء أيضا. وبعد 
أن سلمه هؤلاء شعلة الحرية والمستقبل الأفضل والدور الأكرم» مطلوب من 
المثقف أن يمد يده ويرفعها عاليًا»*. 


)32( صادق جلال العظمء «الربيع العربي والانتفاضة الشعبية السورية»؛ مجلة دمشق (لندن)ء 
العدد 1 (آذار/ مارس 2013)» ص 144. 
(33) أكرم البني» «رياح التغيير والخصوصية السورية»» الشرق الأوسط 5/ 9/ 2011ء في: 
http://bit.ly/IPnwDRE.‏ 
(34) لجان التنسيق المحلية في سورياء «رؤية لجان التنسيق المحلية لمستقبل سوريا السياسي»» 
أخبار الشرق (موقع إلكتروني)» 16/15 7 في: http//bit.ly/LU8SG3T.‏ 
(35) سمر يزيك, (أفضال الانتفاضة على المثقف السوري». الحياة» 30/ 10/ 22011 
httpi//bit. Îy/IQZUIMI.‏ 


483 


ثالثا: تعدد صور المثقف وانقساماته 
فى المرحلة المدنية الديمقراطية السلمية 


حافظت الثورة في شهورها الأولى على سلميتها ووطنيتها وديمقراطيتهاء 
على الرغم من الطريقة الدموية للنظام» وزاوجت بين شعارّي الكرامة والحرية» 
بيئما حاولت السلطة «أن تحور منحى الصراع الدائر إلى صراع طائفي 0!*”)؛ وذلك 
من خلال استخدامها العنف» من قلعها أظافر أطفال درعاء إلى قتلها الطفل حمزة 
الخطيب في حزيران/ يونيو 2011 والتمثيل بجثته» وقتلها غياث مطر تحت 
التعذيب في دارياء وهو الذي قدّم الزهور فأردته قتيكا”» ومحاولتها تصفية 
الناشطين السياسيين» ودفعها الثورة نحو الشرذمة والتفككء تمهيدًا للقضاء عليهاء 
أو لدفعها إلى التطرف والطائفية» وزجها المفكرين والفنانين في المعتقلات أو 
قتلهم» أو دفعهم إلى خارج الحدود. 


1 - اختلاط الأدوار وتوزعها 


بعد أن قدم مثقفو قادة التنسيقيات للثورة برنامجهم الديمقراطي» تطلعواء 
مع مرور الزمن؛ إلى تشكيل هيئة جامعة للتيارات السياسية المعارضة لتشكل قطبًا 
تمثيليًا للشعب السوريء يتولى قيادة عملية الانتقال الديمقراطي. لهذا عندما تشكل 


«المجلس الوطني السوري» في اسطنبول بقيادة المفكر برهان غليون: أيدوه على 
الفور إذ جمع بين تيارات لها وزنها في الداخل («إعلان د مشق» الذي بات يجمع 


(36) جان عبد الله؛ «الانتفاضة فى سورية: تأملات فكرية وأخلاقية في اللحظة الراهنة», الأوان 
(موقع إلكتروني)» 14/ 10/ 2011ء 3+ http-/bit.ly/1SfCMBP.‏ 
(37) ياسين حاج صالح» «غياث مطر... من داريا»» الحياق 25/ 9/ 2011» في: 
http://bit.ly/IPnxnGS.‏ 
كان غياث محاطًا بناشطين معظمهم من تلاميذ الشيخ جودت سعيد (داعية النضال السلمي)» شجع 
على حمل ورود ليقدمها مع زملائه المتظاهرين إلى الجنود والاستخبارات. لكن هذا الإجراء #السلمي» 
اعتبره النظام عدوانًا يجب ردعه. ولم يكن الشاب المتزوج حديثًا معارضًا أو ناشطًا سياسيًا قبل الثورة» لكنه 
مثّل كثيرين ممن شاركوا في الثورة. وجد نفسه ثوريًا وأحد أبرز منظمي الاحتجاجات في دارّيا. وأعتقل في 
Se‏ في 6 أيلول/ سبتمبر 2011» واتصل ضابط من جهاز الأمن الجوي بأهل غياث ليعبر عن اغتباطه 
باعتقال ابنهم؛ وبعد 3 أيام لم غياث لأهله جثة هامدة. وكان هناك شق جراحي طولاني في بطنه؛ وآثار 
تعذيب. وكانت دارَيَاء البلدة الواقعة جنوب غرب دمشقء إحدى بؤر الاحتجاج الباكرة. 


484 


حزب الشعب (رياض الترك) والاشتراكيين العرب (فدوى حوراني) وجماعة 
الإخوان المسلمين وأحزاب كردية وشخصيات مستقلة ليبرالية» إضافة إلى قسم 
مهم من المعارضة الخارجية من المثقفين» خريجي المعتقلات أو الهاربين منها). 
في المقابل» أبدى عدد من اليساريين» وقادة الاتحاد الاشتراكي (هيئة التنسيق 
الوطني) بعد أن عقدوا مؤتمرهم في حلبون -5 مشق» استعدادهم لتسوية مع النظام 
فضي إلى التغيير الديمقراطيء» وانتخبوا حسن عبد العظيم منسقًا عامًا للهيئة. 
على الرغم من ضعف الوزن الذاتي والتمثيلي لهيئة التنسيق» فإنها عكست 
في أطروحاتها توجهات فئة من المثقفين والمجتمع تقف على الحافة بين النظام 
والثورة» بينما عكست أطروحات «المجلس الوطنى السوري» الاتجاهات العميقة 
للثورة التي بدأت تنظر إلى النظام بوصفه خليطًا من الاستبداد والاستعمار. وعبّر 
عن ذلك غليون» فكتب أن «معركة التحرر مزدوجة. من النظام الاستبدادي الذي 
تحول إلى استعمار واحتلال داخلي على أيدي بعض النخب الحاكمة للبلاد»**. 


إذا استثنينا صوت «مثقف النظام» الذي اعتاد أن يستثمر عدته الفكريةء 
وهي قليلةء لتبرير خيارات النظام وأفعاله مهما تكن» فإن الفثات الأخرى من 
المثقفين توزّعت مواقفها بين الصمت واجتناب الوضوح» إلى موقف ينزع إلى 
عدم القطيعة مع النظام والبحث عن تسوية معه؛ تُحسن سلوكه وأداءه» وتوسع 
دائرة «المسموحات» على حساب «المحظورات». أما الأغلبية العظمى من 
الشعب السوري ومثقفيه» فاتجهت إلى تغيير جذري يقتلع أساس نظام الاستبداد 
من جذوره. ليقيم نظامًا ديمقراطيًا على أسس المواطنة؛ وهذا ما عكسته وثائق 
«المجلس الوطني» ووثيقة «العهد الوطني» بين أطراف المعارضة في القاهرة”*. 
في مقابل ذلك قلة قليلة من المثقفين» من شتى الاتجاهات» من العَلماني إلى 
المشيخي» من المفتي الشيخ حسون إلى نبيل فياض» ناصبت الثورة العداء؛ فعند 
(38) برهان غليونء #ميلاد عالم عربي جديد؟ء مجلة الدراسات الفلسطينيةء السنة 22ء العدد 86 

.9 ص‎ »)2011 pus) 


(39) «المشروع الوطني (وثائق القاهرة)ء «العهد الوطني - وملامح المرحلة الانتقالية»» البوصلة 
(موقع إلكتروني)» 3/ 7/ 2012ء في: http://bit.ly/1udKg2.‏ 


485 


الشيخ حسون وفريقه: الثورة خروج وكفر؛ وعند فياض: هي مؤامرة الإسلاميين 
التكفيرين ضد عَلمانية النظام» ويصرح فياض بعدائه للثورة بلا مواربة قائلا إن 
«الثورة كما يتضح من ' أدبياتها ' أنها تجمع لأشخاص طائفيين سلفيين لا تنقصهم 

ئحة القاعدة السيئة»”*. كما اتخذ الشاعر نزيه أبو عفش موقف الخصومة 
للثورةء بعبارات لينة؛ فهو ضد الثورة لأنها ذات وجه إسلامي» إضافة إلى أن 
قادتها لا يريدون انتظار مبادرات الأسد: «فهم لن يمهلوا النظام السوري للقيام 
بالإصلاحات» فهذه لا تکون في يوم وليلة»“. وهو ما ردت عليه هاله محمد» 
«قل أيها الشاعر كلمة الحق في وجه النظام قل له لو أنه حاسب مرتكبي جرائم 
درعا ومنتهكي الكرامات هنا وهناك لما كنا وصلنا إلى ساحات ”التكبير“ الذي 
تخافه وتعتبر أن النظام هو الحامي منها“. بينما ربط نضال نعيسة بين شعارات 
الديمقراطية وضرب الأقليات والاجتياح الأميركي: «تهجير الأقليات والقضاء 
عليهاء واحدًا من السمات والنتائج المميزة والبارزة لعملية ”نشر الديمقراطية“ 
التي أخذتها الولايات المتحدة ل عاتقها... ومنذ بداية ما يسمى بالثورة 
السورية. باتت الاغتيالات وحوادث القتل... تتخذ منحى طائفيًا»*. وكان في 
رأس تلك القائمة لمؤيدي النظام دريد لحام ورغدة وسلاف فواخرجي ونجدت 
أنزور وغسان مسعود وأمل عرفة وزهير رمضان وزهير عبد الكريم.. .. وغيرهم. 
وإذا كانت الفنانة رغدة قد طالبت الأسد باستخدام الأسلحة الكيماوية» فإن بشار 
إسماعيل طالب بمصادرة أراضي الثوار والتركمان في اللاذقية وبانياس» وتوزيعها 
على أسر الشهداء والفقراء من العسكر *“. ۰ 


(40) نبيل فياضء «لماذا نحن ضد الثورة؟؛» صوت العقل (موقع إلكتروني)» 2/ 4/ 2013» في: 
hütp://bit.ly/INPW3Eo.‏ 


() إدريس علوشء «حوار مع الشاعر السوري نزيه أبو عفش». أخبار الساعة (موقع إلكتروني)» 
13// 2 في: hitp://bit.ly/1 PpaGml.‏ 
(42) هالا محمد «نزيه أبوعفش: أن نكون مسيحًا ولاترى سوى آلامك أنت. . ياغشاش:. الرابطة 


الأدبية (مجلة رابطة الكتاب ب السوريين)» العدد صفر (15 أيلول/ سبتمبر 2012)» ص 312» في: 
htp:/bit.Iy/ÎTI2H9r.‏ 


(43) نضال نعيسة» «سوريا: هل تتعرض الطائفة العلوية لخطر الإبادة؟٠.‏ الحوار المتمدن, 


22/ 19 2 في: mtp://bit.ly/1OeuXuf.‏ 
(44) عبد الم المنلاء «فنانو سوريا: : خنجر في ظهر «els,‏ أوريتت نت (موقع إلكتوني) )9 
أيلول/ سبتمبر 3 201)» في htp://bit.ly/1Oev2yf.‏ 


486 


2 - مفكرون وفنانون في المعترك 

كان إِذَاء جليًا انحياز المفكرين عمومًا إلى الثورة؛ إذ أصدر فى 14 
تموز/ يوليو 2011 كثير منهم من شتى الاتجاهات» بيانًا أعلنوا فيه تضامنهم 
مع التظاهرات الشعبية ومع مطالب الشعب ب «الوقف الفوري والنهائي للحل 
الأمني ولاستخدام العنف في الشارع بحق المتظاهرين السلميين» والسماح لهم 
بالتعبير عن آرائهم ومطالبهم بحرية كاملة» ومعاقبة ومحاسبة كل من أجرم بحق 
الشعب السوري بمحاكمات عادلة» ومعلنة» والإفراج الفوري عن كافة المعتقلين 
السياسيين»“. وكان من الموقعين عدد من كبار المثقفين السوريين في الوطن 
والمنفى» منهم طيب تيزيني وصادق جلال العظم وعلي فرزات وميشيل كيلو 
وعزيز العظمة وبرهان غليون وعبد الرزاق عيد ويوسف عبدلكي... وغيرهم. 
ووفقًا لفخري صالح» «تبدو مشاركة ثلاثمئة من أفضل العقول السورية في التوقيع 
على بيان يدين قمع السلطة ويدعو إلى حلول الدولة المدنية محل الدولة الأمنيةء 
توضيحًا للموقف الحقيقي للمثقفين والفنانين السوريين»“. كما أيد جورج 
طرابيشي الثورة» وأبدى تخوفه من صعوبات التحول؛ ذلك أن النظام ألحَقّ الدولة 
به بل تمقّلهاء إلى الدرجة التي صار من الصعب تحرير الدولة من النظام. «والحال 
أنه ما دام كل العاصفة التي تعصف بسوريا اليوم هي على المطلب الديموقراطي... 
وأن أزمة المجتمع السوري تعود حصرًا إلى ابتلاع النظام للدولة؛ واستتباع سلطتها 
لسلطته»» فهناك ضرورة إصلاح شامل؛ فالشعب السوري «لم يعد يقبل بأي خيار 
آخر: بلى لإصلاح النظام إذا كان مقدمة لإلغائه» ولا لإصلاح النظام إذا كانت 
الغاية منه تأبيده»”“. ويسأل الأديب السوري زكريا تامر بسخريته المرة المعهودة: 
«هل يعرف الرئيس السوري الحالي أن الأمهات السوريات لا يُنجبن الأبناء إلا من 
أجل أن يتابع أعوانه قتلهم» تأسيسًا لجمهورية القبور؟!»*“. 


(45) «بيان المثقفين والفنانين السوريين:»؛ منتديات الفكر القومى العربى (تموز/ يوليو 2011)) في: 
http:/fbitly/lmDClzx. ٣‏ 
(46) صالح» الثورات العربية» ص 156. 
)47( جورج طرابيشي» «النظام من الإصلاح إلى الإلغاء»» الأوان (موقع إلكتروني)» 
2 / 71 في: http//bit.ly/IOdpRP6.‏ 


)48( معن بياري» «زكريا تامر... الوسام ثم الهجاء؟» di‏ 6/ 5/ 2 فىي: 
http://bitly/1 YGh9dC.‏ 


487 


يقترب العظمة من الثورة بأقدام حذرة» حيث يرى فيها «الدولة البعثية» في 
تحولها من دولة إلى تآلف سلطوي مافيويي الطابع ... فتكت بالسياسة والثقافة 
والمجتمع» ثم معنت في العتو على نحو يفاقم من التخلخلات الاجتماعية 
والانحسار المعيشى والتنابذ الطائفى والإفقار الثقافى» وهى تواجه جملة حراكات 
ذات شجاعة منقطعة النظير قد تجذرت الآن فى أنحاء سوريا. أدى ذلك إلى خلق 
وضع تتحول فيه التمايزات الطائفية إلى متاريس؛ خصوصًا مع استخدام السلطة 
لميليشيا طائفية (الشبيحة)““. ويشكو فى المقابل من فرض بعض المثقفين 
السوريين البلبلة في الفكر والسياسةء ومن محاولة الإسلاميين حرف هذا التحركف 
«وبدلًا من رفع المثقف إلى مصاف القيادة يجري تقديس الشارع والعفوية»*. 
فينصح المثقفين أن يقفوا عن بعد ليراقبوا المشهد» ولينتقدوا وليو جهواء تحت 
حجة عدم الاستسلام للتحرك الشعبي العفوي الشعبوي. لكن هل يأبه أحد برجل 
يراقب الجمهور بتشكك؟ كتب فواز طرابلسي «الذين يريدون نتائج الثورات من 
دون أكلافها لا يفعلون غير التخلي عن أي حلم بتغيير »'“. 

كان جليًا مدى الارتباك الذي أحدثته الثورة عند بعض المفكرين» كحال 
الشاعر أدو نيس الذي وقف على الحافة» مع انحياز خجول إلى النظام» حيث 
أبدى تخوفه لأن «التظاهرات تخرج فيها من الجوامع"؛ علمًا أن الحال نفسها 
جرت في مصر وتونس؛ واختار توجيه رسالة إلى الأسد يخاطبه فيها ب «السيد 
الريس»» ما أثار الامتعاض: «ما لم يره أدونيس في الوضع السوري هو الدماء 
التي تسيل» والأجساد التي تُقطع ويجري التمثيل بهاء والمدن والبلدات التي 
تجتاحها الدبابات“”“. بينما وجد العظم الثورة أهم نقطة تحول في التاريخ 
السوري الحديث» وأعلن تأييده المبكر لهاء ورأى في موقف أدونيس استمرارًا 
لمواقفه السابقة المناصرة للثورة الخمينية التي امتدحها وكتب فيها قصيدة» مع 
أنها خرجت أيضًا من المساجد: «وتبنى خطابًا مدافعًا عن ولاية الفقيه وليس عن 


(49) عزيز العظمةء «الحراك الجماهيري وتأزم الحس السياسي»» الأوانء dorer‏ 
ttp://bit.ly .‏ 


(50) المرجع نفسه. 
at ei Le 5155 (57)‏ 5 ,06« السفير» 1/30/ 22013 في: http://bit.ly/1QMmRvF.‏ 
(52) صالح. ص 85-80- 


488 


الثورة» ودافع عنها بلغة قروسطية تمامًا وكأنه شيخ أو ais Pas‏ بعض 
الصحافيين إلى تشبيه موقف أدونيس بموقف الممثلة السورية رغدة» في ثقتهما 
الاثنين بقيادة الأسد الشرعية؛ لكنها تميزت منه بأن حملت رسالتها عنوانًا مريعًا 
وموضوعًا مريعًا: «أما آن للكيميائى أن يستشيط؟640©. 


أما الروائي وليد إخلاصي» فكان عضوًا في مجلس الشعب السوريء عيّنته 
السلطة عضوًا في لجنة تعديل الدستور التي أتاحت للرئيس بشار الأسد الترشح 
لهذا المنصب؛ واتهم المعارضين بأنهم «مَرضّى» عندما أحرج على شاشة 
التلفزيون السوري الرسمي» واسترجع ذكرى معركة ميسلون والعداء لفرنساء 
من دون مناسبة» ومن دون الإشارة إلى العداء المستجد بين الحكومتين السورية 
والفرنسية» ربما للتذكير بلطف أنه في صف النظام ضد السياسة الفرنسية. وعلى 
خلاف ذلك. عبّر الشاعر الجراح بوضوح أن «الانخراط في الثورة بالنسبة إلى 
الشاعر هو عمل أخلاقي قبل أن يكون ثوريّاء ويعد الجرائم المروعة والدم 
المهراق». 

من جهة أخرىء تمثّلت المشاركة الأولى للفنانين في إصدار بيان إنساني 
طالب بإيصال الغذاء والدواء والحليب إلى أطفال درعا المحاصرة؛ فسّمي 
البيان ب «بيان الحليب». ووقّعه عدد كبير من الفنانين من بينهم منى واصف ويارا 
صبري وريم فليحان. فشن الإعلام الرسمي حملة ضارية على أصحاب البيان؛ 
ووزعت البيان الكاتبة ريم فليحان. وحمل البيان أول إشارة إلى الحضور الكثيف 
للفنان في الثورة!7©. 


shall (53)‏ «للمثقفين دور». 
(54) حسان العوضء «رسالتا رغدة وأدونيس co pl ct An A‏ 7/ 9/ 62013 في: 
http:/bit.ly/1YCqxEL‏ 
(55) نوري الجراح» «الثورة السورية جعلت أبناءنا رفافًا لنا وقادتنا في المستقيل»» حوار (موقع 
إلكتروني)١‏ 1/ 7/ 2.2012 في: http://biLIy/IOr2fbD.‏ 


(56) «فنانون سوريون لم يقفوا على الحياد»» الجزيرة نت 26/ 8/ 2012» في: 
http:/bit.ly/1OPP3r6.‏ 


(57) بيان الفنانين السوريين» «نداء عاجل للحكومة السورية (من أجل أطفالا)»» 3/ 5/ 2011ء 
فی http://bit.ly/INGEWHa.‏ 


489 


لعل العلامة الأبرز لمشاركة الفنانين كانت التظاهرة التي أطلق عليها تظاهرة 
المثقفين» في الأسابيع الأولى للثورة» التي اختارت مكانًا لانطلاقها من أمام 
جامع الحسن» فوجد المتظاهرون رجال الأمن في انتظارهم» فاعتقلوا 29 فتاة 
و10 شبان» منهم الممثلة مي سكاف» ورئيس تحرير مجلة شبابلك إياد شربجي» 
والممثلان المسرحيان محمد وأحمد ملص» والكاتبتان ريم فليحان ويم شهدي» 
والموسيقي رامي العاشق ق» والمخرج نضال حسن» والمصورة ساشا أيوب» 
والناشطة الحقوقية مجدولين حسن» والممثلة دانا بقدونس» والكاتب فايز سارة» 
وعدد من الصحافيين والكتاب مثل يعرب العيسى وراشد عيسى ومحمد الأمين 
وعثمان جحا وإيمان الجابر وفارس الحلو... وغيرهم*0. 

منذ انطلاق الاحتجاجات» أعلنت أسماء فنية كبيرة تأييدها ودعمها هذا 
الحراك» كان من أبرزها المغني اليساري سميح شقير» صاحب الأغنية الأشهر 

في الثورة «يا حيف»» وكذلك الفنانة أصالة» والمغني وصفي المعصراني» 
والموسيقان الستوري الأميركي مالك جندلي» وهو الذي اعتدى مناصرو النظام 
على عائلته بالضرب”". وعبّر عن موقف الفنانين بيان «تجمع فناني ومبدعي 
سورية من أجل الحرية». جاء فيه: «. .. لقد حاول بعضنا أو كلّنا المقاومة بالفن 
وصونٌ حق الرأي... لقد حوصرت مُخيلة المبدعين السوريين لعقود طويلة في 
مؤسسات فاسدة ووزارات فاسدة ونقابات فاسدة©». 


مثلت تجربة الأخوين ملص» أحمد ومحمد فى أثناء الثورة» أنموذجًا لمثقف 
المسرح السوري؛ فهما أبدعا ما يسمى «مسرح الأوضة» أو «مسرح الغرفة» أو 
«المسرح المنزلي؟ء مشاركة منهما في صنع مسرح الثورة الحر؛ ومُنعا من عرض 
مسرحهما فاعتّقلاء ثم خرجا مجبّرين على فراق «الشام»؛ وصرّحا أنهما حاولا 
أن يعملا في المسرح ما أنجزه طلال ديركي وأسامة محمد ومحمد علي أتاسي 


)58( «اعتقال فنانين ومثقفين سوريين يثير ضجة إعلامية»» منتديات الفكر القومي العربي» 
1217 71 في: htip:/#bit.ly/ImDCizx.‏ 
(59) «استقالة ثلاثة أعضاء من المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب: المقدادء العلي» الجرادي»ء 
رابطة الكتاب السوريين» 19/ 6/ 3 في: http://bit.ly/1 PpcMkA.‏ 
(60) «تجمع فناني ومبدعي سوريا من أجل الحرية»» أمارجي (صفحة على موقع التواصل 
الاجتماعي فيسبوك) 27/ 12/ 7 في: http//bit.ly/1RIsVyn.‏ 


490 


في المسرح. وإلى جانب الأخوين ملصء أنجز نوار بلبل وأمل عمران وحلا 
عمران في المسرح تجارب احترافية. ولا تمت هذه التجارب الصادقة بصلة بما 
عمله «المحترف والموالى» نجدت أنزور الذي اقتصر على تصوير أطراف داريا 
à‏ 60 1 


امتد النشاط إلى الفن التشكيلي» باشتراك الفنان علي فرزات في رسم لوحاته 
بتعبيرية بليغة وبسخرية رصينة وبشعرية قل مثيلها. أما يوسف عبدلكي» فقال: «لو 
كنت أملك قوة خارقة لأعدتهم كلهم إلى الحياة ليساهموا في إعادة بناء بلدناء 
وليحبواء ويتزوجواء ويربوا الأطفال»*؟. 


3- المثقف الحزبى/ السياسى فى المعترك 

عندما قامت الثورة كانت الأحزاب السياسية في أضعف حال جراء القمع 
المستدام والحصار والسجون. وشملت أحزاب المعارضة» حينئذ» تلك التي 
انتظمت في ما يسمى «التجمع الوطني الديمقراطي» في نهاية عام 1979؛ وهي 
«حزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي» والحزب الشيوعي السوري (المكتب 
السياسي) الذي تحول إلى حزب الشعب الديمقراطي» وحزب البعث العربي 
الديمقراطي وحزب العمال الثوري وحركة الاشتراكيين العرب (أكرم حوراني). 
وهذه أحزاب تحولت في معظمها إلى عنوان يشير إلى الماضيء أكثر مما يدل 
على المستقبل؛ ويغلب عليها التوجه القومي اليساري. هناك أيضًا جماعة 
الإخوان المسلمين التي انضمت في عام 2005 إلى إعلان دمشق للتغيير الوطني 
الديمقراطي» الذي انضوى إليه «التجمع الوطني الديمقراطي» وشخصيات 
مستقلة؛ وقام هؤلاء بدور ثانوي في قيادة التظاهرات» أو حتى التحريض على 


es LI SN 
عبد السلام الشبلي (محاور)ء «الأخوان ملص ل أورينت نت: فنانو النظام مثل حرباء‎ )61( 
http://bit.ly/1QSRmije. (تشيخوف)!4. أورينت نته 2014/11/18 في:‎ 
أندلس الشيخ» #المثقف السوري في زمن الثورة زعزعة «مونوليتيك؛ الحياة الثقافية»: القدس‎ )62( 
http:#bit.1y/IMAcDi7. العربي» 30/ 3/ 2012» في:‎ 


(63) زيادة» ص 35-34. 


491 


— المثقف السياسي القومي واليساري 


لا توجد أصوات (قومية عربية) في سورية تقف مع النظام إلا قلة من 
الرجال والنساء في أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية تُعد بالعشرات. وتورّعت 
مواقف القوميين الناصريين بين توجهات «قيادة حزب الاتحاد الاشتراكى العربى 
الديمقراطي» التي شاركت في قيادة (هيئة التنسيق الوطنى)ء وأصوات أخرى 
عملت مع الوقت» بمن فيها قواعد الحزب» على معارضة توجه هذه القيادة 
المتردد. وتنطلق هذه القوى كلها من معارضة النظام وتطالب بالتغيير الديمقراطي 
الجذري» وانتهت بالحديث عن تغيير النظام» أو تغيير طابعه الأمني. وعملت «هيئة 
التنسيق» في وقت ما على توقيع وثيقة القاهرة التي طالبت بدعم الجيش الحر» غير 
أنها تمسكت بأمل تحوّل داخلي للنظام باتجاه الديمقراطية بطريقة متدرجة. 


غير أن سلوك القادة الناصريين في (هيئة التنسيق»» لم يُرض الجمهور 
الناصري؛ فأصدرت اللجنة المركزية للحزب بيانًا في عقب اجتماعها في نيسان/ 
أبريل 2012» تطالب ممثليها بالانسحاب من «هيئة التنسيق». كما اتجه بعض 
المثقفين الناصريين» وفي مقدمهم خالد الناصرء إلى تشكيل تنظيم ناصري بديل» 
سمي «التيار الشعبي الحرةء اشترك ممثله خالد الناصر في «المجلس الوطني 
السوري»» ثم في الائتلاف الوطني لقوى الثورة. وأكد الناصر أن «التيار ملتزم 
بإرادة الحراك الشعبى»*“. 

ب- المثقف الإسلامى: دعاة وحركات 

منذ وقت مبكر» انضم تيار الشيخ جودت سعيد السلمي إلى صفوف الثورة 
في طورها المدني السلمي» وشارك تلامذته في نشاطها الديمقراطي؛ ويبدو أن 
غياث مطر كان من هذا التيار» ويمكن القول إن «سنة كاملة من عمر الثورة السلمية 
بدت ربيعًا لجماعة اللاعنف التي تتمثل بأفكار المفكر الإسلامي المعروف 
جودت سعيد؛ لكن في نهاية سنة من القتل الممنهج» تراجع الاتجاه السلمي إلى 


(64) خالد الناصرء «اقتباس»» متتديات الفكر القومي العربي» 30/ 4/ 2012ء في: 
butp:/bit.ly/1Z1VIAH.‏ 


492 


الخلف6”». كما أن جماعة الإخوان المسلمين على الرغم من ضعف وجودها 
في الداخل السوريء كان ثمة بيئات اجتماعية تحبذها؛ وأعلنت الجماعةء بعد 
تردد» انضمامها إلى الثورة» وشاركت في النهاية في «المجلس الوطني السوري»»› 
ومن بعده «الاثتلاف الوطني»» ولم تكن بمنأى عن العمل العسكري بعد ولادة 
«الجيش الحر»؛ وكان أقرب القوى العسكرية لها «لواء التوحيد» في حلب» ثم 
حاليًا «الجبهة الإإأسلامية). 


أما الفكر السلفى الجهاديء فكان انتشاره في سورية محدودًا جدًا في 
الأساس» وكان مقصورًا على جماعات صغيرة جدًا متفاوتة العدد» ومتأثرة بأفكار 
تنظيمات دولية متشددة أو «جهادية؛؛ إلا أنه لا يوجد رابط تنظيمي بها في الأغلب. 
9 بدأت تيارات سلفية (بالمعنى الكلاسيكي) بالظهور أول مرة في تنظيمات 
سياسية مثل «حركة المؤمنين» التي يتزعمها لؤي الزعبي؛ وأطل عصام العطار 
القيادي التاريخي الإخواني من جديد؛ وبرز في وقت مبكر نسبيًا (الشيخ كريم 
راجح» والشيخان سارية وأسامة الرفاعي/ جماعة زيد» والشيخ إبراهيم سلقيني» 
والشيخ أحمد الصياصنة). ومن المعروف أن النظام أطلق عناصر تنظيم القاعدة 
الذين كانوا معتقلين في سجونه. خصوصًا الأجانب؛ وأخرج أبو مصعب السوري 
(مصطفى ست مريم مزيك) أحد منظري القاعدة البارزين من سجنه“. وبرزت 
جبهة «النصرة» وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»» فأربكا المشهدين 
السياسي والعسكري للثورة» وأدخلا بُعدًا جديدًا خطرًا على المشهد. استغله 
النظام والقوى الحليفة له. فصارت المهمة الرئيسة لقوى الديمقراطية المدنية 
الحفاظ على استقلاليتها الفكرية والعسكرية والسياسية وخطها الديمقراطي 
(الثالث) في مواجهة النظام والقوى المتطرفة. ١‏ 


ج- المثقف الحزبي اليساري 
١‏ تحفظ كثير من المثقفين اليساريين على الثورة. لأنها لم تطابق نظرياتهم؛ 
وهللوا لثورتي توئس ومصر» لموالاة أنظمتهما LS el‏ واستحضروا «فكرة 


Le (65)‏ الرحمن bd‏ «الإسلام السياسي والثورة في سورية»» الجريرة تت٠‏ 21/ 65 
في: http:/bit.ly/1 VigPKT,‏ 
(66) المرجع نفسه. 


493 


الفوضى» في صدد المشهد السوري”». وتوزّعت مواقفهم. على ضآلة عددهم 
ودورهم؟ فبعضهم تبنى فكرة الدفاع عن المجتمع المدني والديمقراطية ومفاهيم 
حقوق الإنسان؛ «(هذه الكتلة من اليسار كانت» على العموم» متعاطفة مع الثورة في 
سورية. أما قسمها الآخر فارتد كثير من صفوفه إلى ولاءاته الأولى الأولية والأكثر 
بدائية» وبقيت كتلة صغيرة من اليسار على موقفها المتشددة من أميركا على طريقة 
القاعدة»؛ وهذه القوى الأخيرة» هى «الأكثر عدائية للثورة السورية والأقرب إلى 
دعم النظام»*“. وانضم قليل من هؤلاء اليساريين» أكان ما يسم تيم أم بقايا 
حزب العمل الشيوعيء إلى «هيئة التنسيق6؛ كما أن كان في الجانب الآخر كثير 
من مثقفي اليسار الديمقراطي» منهم صادق جلال العظم وبرهان غليون وميشيل 
كيلو وسلامة كيلة وحزب الشعب الديمقراطي والحزب الجمهوري» ممن وقف 
مع الثورة. 

د- أثمان باهظة 

دفع المثقفون المعارضون في أدوارهم المختلفة ثمنًا غاليًا: القتل والخطف 
والاعتقال. وطاول العقاب» في معظم الأحيانء الأهل. وكان خير مثال على 
الأثمان التي دفعها المثقفون» اعتقال الفنانات والفنانين من مسرحيين وسينمائيين 
وتشكيليين وصحافيين» 0 
أصابع رسام الكاريكاتير علي فرزات» وانتزاع حنجرة المغني إبرا هيم قاشوش» 
زاك عد لمشو نات مس ا ا 
بقذيفة دبابة» وتامر عوام» وتهجير المئات من الفنانين والفنانات. 

لاحقت» إذاء أجهزة السلطة أقلام الإعلاميين السوريين وعدسات 
كاميراتهم؛ والمثال على ذلك استهدافهم طاقم قناة أورينت الإعلامية بصواريخ 
حرارية» في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2014 في أثناء قيامهم بواجبهم المهني 
والأخلاقي» وهم: رامي عادل العاسمي ويوسف محمود ال وسالم 


)67( أكرم sl‏ «سورية واليسار إذ يخذل شعبه!:. الحياة؛ 31/ 8/ 3 في: 
hüup:/bit.ly/ImjKcaq.‏ 


(68) العظمء «الربيع العربي؟» ص 138. 


494 


عبد الرحمن Li‏ فبلغ بذلك «عدد ضحايا الإعلام منذ بدء الثورة السورية 
ال 260 إعلاميّاء فقد غالبيتهم PEN GAL Le‏ ووصل الأمر إلى درجة 
التصفية الجسدية» كما حدث للروائي إبراهيم خريط والكاتب نمر المدني. ودفع 
هذا المناخ الترهيبي بكثير من المثقفين والفنانين السوريين إلى التواري في داخل 
سورية أو خارجها”©. ولعل أبرز المختطفين من ريف دمشق (دوما) رزان زيتونة 
ووائل حمادة وسميرة خليل وناظم الحمادي» في التاسع من كانون الأول/ يناير 
022013 


ه- ازدهار عالم الثقافة والمثقف و المجتمع المدنى 


آلاف مؤلفة من الناشطين اعتُّقلت إِذَاء ومعهم مئات من المثقفين» صُفي 
عقي فى داخل المجرف واخووة أسقطرا : في الشوارع. وبقيت دائمًا أقلام 
جديدة وكاميرات» وما فتئت الدائرة الشبكية لتواصلهم الاجتماعي تتسع لتضم 
أفواجًا جديدة من الناشطين؛ وما زلنا ن نسمع أو نرى صدور صحف ومجلات 
جديدة وكتب ومحطات تلفزيونية أو ا كأن سورية عادت إلى خمسينيات 
القرن الماضي حين كان فيها عشرات الصحفه قبل أن تتقلص بعد عام 1963 


(69) «الاتتلاف: لن تُفلح بندقية الأسد في مواجهة القلم»» المستقبل» 10/ 12/ 2014» في: 
htip://biLIy/2231sX.‏ 


(70) «مقتل ثلاثة صحافيبن من قناة «أورينت» في قصف للنظام السوري». الحياة 2014/12/9« 


في : http://bit.ly/INQowdaq.‏ 
(71) طارق عبد الواحد» «المشقفون السوريون وامتحان الثورةا» الجزيرة نت» 22/ 11/ 2012» 
في: http://bit.ly/1QOdrjf.‏ 
(22) «أكثر من 50 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج الفوري عن رزان زيتونة ورفاقهاة» المستقبل» 
1/10/ 4 في: http://bit.ly/1Vke42E.‏ 


تجدر الإشارة إلى أن رزان زيتونة هي من أبرز الناشطين والمحامين عن المعتقلين السياسيين. 
وحصلت في عام 2011 على جائزة ساخاروف لحقوق الإنسان التي يمنحها البرلمان الأوروبي. وعمل 
وائل حمادة وهو زوج زيتونة» مع مركز توثيق الاننهاكات في سوريا ولجان التنسيق المحلية» وهي عبارة 
عن شبكة من الناشطين الذين يقومون بتوثيق عدد ضحايا النزاع السوري ووقائعه. أما سميرة الخليل» فهي 
ناشطة سياسية منذ فترة طويلةء كانت تعمل على مساعدة نساء محليات من مدينة دوما في إعالة أنفسهن. 
والمحامي ناظم حمادي من مؤسسي لجان التنسيق المحلية» وكان يعمل على توزيع المساعدات الإنسانية 
للغوطة الشرقية التي تحاصرها قوات النظام. 


495 


إلى صحيفتي البعث والثورة» ثم أضيفت إليهما تشرين في عقب حرب عام 
3. وليوم على الرغم من الدمار والأخطار» شرعت السياسة والثقافة 
بالانطلاق من جديد: عنب بلدي (داريا)» أو كسجين (الزبداني)» بانوراما الثورة 
(طرطوس)» اليساري (دمشق)ء أميسا (حمص)» تمرد (حلب)» الفجر الأحمر 
(اللاذقية)» البديل» وطلعنا عالحرية (دمشق)؛ ومجلات À‏ ى: أوراق (رابطة 
الكتاب السوريين)» ضوضاء (السويداء)» سيدة سوريا؛ وأعلن إنشاء عدد من 
المراكز البحثية في الداخل والخارج» وسطعت أسماء مثقفين من الجيل القديم 
تجددوا بدفاعهم عن الثورة والتغيير؛ وأطلت وجوه قديمة وجديدة ! إلى الحقل 
الثقافي السوري: جلال الطويل وسمير ذكرى وهيثم حقي ومحمد ملص ومحمد 
آل رشي ومي سكاف وأسامة محمد وأمل حويجة وعزة بحرة ويارا صبري وكندة 
علوش وعدنان الزراعي الذي أبدع شخصية «البخاخ»؛ ومن قضى تحت التعذيب: 
التشكيلي وائل قسطون والمغني إبراهيم قاشوش والروائي إبراهيم خريط والكاتب 
محد نمر المدني والروائي محمد رشيد روبلي.. .. وغيرهم من شهداء الميدان» 
كالسينمائي باسل شحادة والمخرج تامر عوام؛ إلى جانب عشرات الصحافيين» 
مثل براء البوشي ورامي السيدء ممن قضوا اغتيالًا في عرض الطريق. وبزغ عدد 

من الهيئات والتجمعات الثقافية بوصفها نواة المجتمع المدني الجديد الحر: 
رابطة الكتاب السوريين» ورابطة الصحافيين و#تجمع الفن والحرية - أماجي» 
الذي ضم مئات المبدعين» وصفحة «الشعب 0 عارف طريقه»؛» ومركز 
الجمهورية للدراسات؛ إلى جانب العشرات من المراكز والمواقع الإعلامية: 
شبكة شام وأغاريت ومركز الإعلام السوري... وغيره من المراكز”©. وصدر قبل 
عام 2012 عدد من الصحف. منها: زمان الوصلء أخبار المندس» عنب بلديء 
سوريتناء حريات أسبوعيةء ومجلات الثائر السوري»› تمرد. غرافيتي*7. وظهرت 
صحف ومجلات شبابية معارضة أخرى» بدأت إرهاصاتها في شبكة التواصل 
الاجتماعي مع الثورة ثم بدأت بالانتشار» مثل مجلة أوكسجين» وصحيفة طلعنا 
عالحرية» ومجلة سوريابداحرية» وصحيفة أحرار سورياء وصحيفة أحرار قاسيون. 


(73) نوري الجراحء «منبر ثقافي حرة» مجلة دمشق (لندن)»؛ العدد 1 (2013)» ص 9. 
(74) انظر: مجلة بدا.. حرية سوريةء العدد 50» 28/ 2/ 2013» في: http:/bit.ly/11vTkDw.‏ 


496 


وانبغقت «رابطة الكتاب السوريين» بديلا من اتحاد الكتاب السلطوي الذي كان 
إطارًا يضبط حركة الكتاب السوريين ويراقبهاء لتصبح في الختام تحت سيطرة 
الأجهزة» وهي التي اختارت علي عقة عرسان الذي يفتقد أي موهبة إلا ولاءه 
للنظام» ومن بعده حسين جمعة الذي أتى به أحد أجهزة PP Lau‏ ففصل 
كثيرين من أمثال سعد الله ونوس وأدونيس وهاني الراهب؛ فكان من الطبيعي 
أن يصطف وراء النظام في قمعه المتظاهرين والكتاب؛ وهذا ما اضطر «عددًا من 
خيرة كتاب سورياء فى الداخل والمنافي» إلى تأسيس رابطة الكتاب السوريين» 
والتي تمثل الجسم الفعلي للمثقفين والكتاب السوريين» ضمت في عضويتها 
التأسيسية كبار الكتاب والمثقفين والمبدعين السوريين». فقامت الرابطة 
في عام 2012» وانضم إليها 0 كاتب فلسطيني بصفة عضو شرف؛ وانتّخب 
رئيسًا للرابطة صادق جلال العظم. واتجه المثقفون إلى تأسيس كيانات سياسية 
جديد؛ على سبيل المثال» تأسس الحزب الجمهوري في عام 2014» وأبرز قادته 
المؤسسين محمد صبرا؛ كما أسّست رابطة الصحافيين السوريين» «وهي تجمع 
مهني ديمقراطي مستقل ملتزم بمضامين ثورة السوريين من أجل الحرية والكرامة؛ 
جرى الإعلان عن تأسيسها بتاريخ 20 شباط/ فبراير 22012”)؛ إضافة إلى 
عشرات التنظيمات المجتمعية في المناطق المحررة» وهيئات سرية في المناطق 


رابعًا: المثقف فى مرحلة العسكرة وبروز ظاهرة التطرف 
تحولات في المواقف والأطروحات 
راهن كثير من المثقفين على استمرار الطابع السلمي المدنيء معتقدًا أنه 
لا يزال ثمة فسحة للاختيار بين السلمي والعسكري. وفي المقابل كان هناك من 
توصل إلى قناعة؛ مع تزايد القمع والتدمير» أن لا يمكن أن يواجه المنظاهرون 
المدافع والدبابات» وجيشًا متماسكا لتركيبته ولتعبئته الطائفية. فاتجه كثير من 


)75( صالح» ص 186. 
(76) المرجع نفسه» ص 187. 
(77) انظر: رابطة الصحافيين السوريين (موقع إلكتروني)ء في: htp:/#/bit.ly/1 QMIliOz.‏ 


497 


المثقفين «السلميين؟ إلى تجنب الانغماس أو التشجيع على العمل العسكري من 
دون أن يناصبوا الثورة العداءء وحمّلوا النظام مسؤولية هذا التحول. وينطبق هذا 
على جاد الكريم الجباعي وحسين عويدات وآخرين كثر؛ فكتب الجباعي: «الثورة 
السلمية نزوع معرفي وثقافي وأخلاقي لشباب مستئير بوجه عام» نزوع إلى حياة 
إنسانية لائقة... لم يخل هذا النزوع من ردود فعل نزقة وغاضبة على الأوضاع 
اللاإنسانية والاستبداد الكلى... لكن ردود الفعل» وهي حقيقة بشرية على كل 
حالء لا يمكنها أن تخفي ذلك النزوع إلى الحرية»”*©. وحافظ جمهور الثورة من 
المثقفين على تعلقه بقيّم الثورة وأهدافها الكبرى في الحرية والديمقراطية التي 
تجشدت في قوى سياسية وعسكرية دفعت أثمانًا باهظة لنضالهاء على الرغم 
من بروز قوى متطرفة» حيث شكل هذا الجمهور تيارًا ثالمًا بين النظام والقوى 
المتطرفة» مستندًا إلى التوجهات الديمقراطية لأكثرية السورييه9©. 


1 - التحوللات 


راهن ميشيل كيلو مع عدد من المثقفين المعارضين الذين كان بعضهم 
في «هيئة التنسيق!ء وتيار «بناء الدولة٠»‏ على «حل سياسي» مع الرئيس الأسد: 
«كان يقول إن الأزمة السورية لا تحل إلا بالخيار السياسي» ويقصد بذلك الحل 
مع الأسد. وقد دافع أيضًا عن مهمة أنانء وقال في إحدى مداخلاته إن المهمة 
أت بقرار دولي» وهي ستتكفل بإجبار النظام على التغييرء وهذا لم يحدث. ونشر 
مقالا هاجم من يسميهم ب ”ثوار آخر زمان“» وقام بانتقاد ”التنسيقيات“ وشباب 
الثورة» وفعل ذلك بكثير من الأبوية ومنطق الوصاية“*. وفي النهاية» انحاز كيلو 
إلى الثورة وتمسك بوجهها الديمقراطي المدني» وصار يبحث في شروط النصر: 


(28) جاد الكريم الجباعي» «في الثورة والحرب: مراجعة نقدية»» الحقيقة» 11/18/ 2013» فى: 
http://bit.ly/1 UaicRC. j‏ 


(79) وفقًا ل المؤشر العربي لعام 2014ء أفاد 78 في المثة من المهجرين أن الانتخابات الرئاسية 
المزمع إجراؤها ليست شرعية؛ وأن نصف المستجوبين يفضلون أن تكون الدولة في سورية دولة مدنية» في 
حين قال 30 في المئة منهم إنهم يفضلون دولة دينية. انظر: «استطلاع «المركز العربي:: النازحون السوريون 
ازدادوا تأييدًا للثورة!» العربي الجديد 2/ 8/ 2014ء في: http://bit.ly/1mbjxND.‏ 

(80) العظم» «الربيع العربي»» ص 158. 


498 


«سيكون من الصعب أن تتتصر ثورة يذهب ساستها في اتجاه وعسكرها في آخر» 
ولن تنجح نضالات يستخدم الساسة العسكر فيها لمقاصد شخصية؛ لا علاقة لها 
بمبدأ وطني أو ثوري. وفي المقابل» لن تنجح ثورة يعزف عسكرها عن تصحيح 
مسارهاء مع أنهم حاملها الذي يرتبط استمرارهاء ونجاحها بوحدته ويقدرته على 
الفعل»“. 

أعطت هيفا بيطار أنموذجًا عن تحول المثقف من ملامة «القدر» أو 
«المعارضة» إلى ملامة النظام. ففي يوم ماء ربما لأن الكيل طفح لديهاء وضعت 
نفسها فى صف الحرية وفى صف المضحين من أجلها. واستعادت البيطار إلى 
الذاكرة ما أشاعه النظام عن مؤامرة بندر بن سلطان المزعومة» وحبوب هلوسة 
وزعتها «الجزيرةة على الشعب السوري. ووزّع رجال السلطة الخطة مكتوبة على 
الموظفين «في المشفى الوطني باللاذقية»» كما حرقوا كومة #حبوب الهلوسة"(!) 
أمام موظفي المستشفى: تلك الحوادث أعتقد أنها بالغة الأهميةء لتعطي صورة 
كيف يُعامل الشعب السوري» وبأي ضلال واحتقار يتعامل معه المسؤولون 
والعالم بأسره. إنها ثورة كرامة حقًاء وثورة حرية بلا أدنى شك»”*. كما قدّم منذر 
خدام عضو «هيئة التنسيق الوطني»» أنموذجًا لانتقال المثقف اليساري من الحافة 
الرمادية بين النظام والثورة إلى الانحناءة» إلى التصالح مع النظام بأبسط الشروط 
الممكنة؛ فنصح المعارضة في عام 2014 بالتخلي عن صيغة جنيف1 (هيئة كاملة 
الصلاحية من دون الأسد)» وللاستسلام إلى واقعة بقاء الرئيس الأسد. قائلا: «إن 
الحل السياسي للأزمة السورية يبحث اليوم عن مرجعية جديدة غير مرجعية بيان 
جنيف1» يأخذ فى الحسبان المتغيرات الجديدة» والتى فى مقدمها مسألة بقاء 
July Vi‏ نفسه نصادفه مع الروائي نبيل سليمان الذي يقص علينا كيف 
تبدل فرحه بالثورة وتأيبده إياها إلى إحجام وقنوط: «كانت السلمية بالنسبة إلي 


(81) ميشيل كيلوء «السياسي والعسكري في الثورة السورية»؛ العربي الجديد. 2014/11/15» 
في : http://bit.ly/IJAT6pv.‏ 


(2 8) هيفاء البيطار» «مؤامرة بندر بن سلطان»». العربي الجديد. 23/ 12/ 2014» في: 
http://bit.Ay/IKKMP Yq.‏ 


plis ji (83)‏ «الرغبوية» في سياسة المعارضة» الحياق 4-42 في: 
http:/bit.ly/1UajNH?7.‏ 


499 


ولكثيرين غيري هي عنوان الخروج السوري الأكبر. لكن الدماء أغرقت سوريا 

كما ترى اليوم» والدمار يكاد sb‏ عليهاء وليت العالم يتفرج فحسب... فهل 
كادت سير تي أن US LES‏ كما أنه في تدخله في المساجلة التي جرت بين 
العظم وأدونيس «حاول أن يمسك العصا من الوسط)65©. 


- الترددات 

اعتقد محمد كامل الخطيب أن النظام السوري منذ عام 1963ء إنما هو 
نظام قائم «على التحالف بين الفلاحين الفقراء والجيش وفقراء الأحياء الشعبية» 
يدعمهم المثقفون اليساريون... أن البعث وعسكره ونخبته السياسية والمالية 
الجديدة قد تخلوا عن تحالفاتهم... فكان طبيعيًا أن تتخلى عنهم هذه القاعدة 
الشعبية»”**». وتطابق تحليله (الطبقي) مع دأب اليساريين والمثقف القريب من 
النظام على ترديده. فيبدو تطلب الحرية» في هذا التحليل» نافلة لا لزوم لهاء 
الناس يسيرهم الفقر والغنى! غير أن الخطيب أعلن صراحة: «موقفي واضح: 
مع المواطنين السوريين ضد كل أشكال القهر والحرمان والاستبداد السياسي 

و والاجتماعي والإنساني» ومهما كان اسمها ولونها»”67. 


صمت بعضهم في أثناء الثورة» أو تشكك في نيات الناشطين» وعندما صار 
الاتجاه حاسمًا إلى العمل العسكري. أتى ليذكر مناصري الثورة بأنه تنبأ بذلك 
«الخراب» وحذر منه من قبل! ولامت رشا عمران هؤلاء المثقفين» فمن «غير 
الطبيعي وغير الأخحلاقي وغير الإنساني أن يُسمع» الآنء صوت المثقفين الصامتين 
واللامبالين والحياديين...900. 


(84) «مصرًا على الذهاب es‏ في النفير: نبيل سليمان: سوريا تتطوح بين جحيمين»» الاتحاد 


hitp:#/bit.1y/i VKIAdY. في:‎ 4 15/15 

(85) مفيد نجمء «ردًا على الروائي نبيل سليمان: أدونيس استغفل 20 مليون سوري وتنكر لثورتهم 

في عز سلمیتها»ء العربی» 6/ 7/ ۰2013 فی: hup://bit.ly/22t4Gyt.‏ 

1 (86) #مراجعة كتاب: محمد كامل الخطيب» مئة عام من العذابء المأساة السورية»» الجماعة 

العربية الديمقراطيةء 24/ 6/ 2014 فى: http://bit.ly/1Vkm188.‏ 
(87) المرجع نفسه. 1 


(0)رشاعمران. «في ميوعة اللاموقف.. سوريّاة» العربي الجديد. 71 مل ٠‏ في: 
http//bit.Ay/1PdYXHA.‏ 


500 


3- الانتصار للمبدأ الأخلاقي 


عملت تُخطط النظام وتفوقه الناري» مع ضعف الإمداد والتنظيم والقيادة 
الموحدة فى مجمعات الجيش الحرء على اختراق الميدان العسكري من 
OÙ‏ قوى متطرفة وطائفية» فأضيفت إلى مذابحه مذابح داعش. وأثارت هذه 
الظواهر بمجملها تنوعًا في مواقف المثقف» حيث ظل بعضهم متمسكا بحلمهء 
«سأظل أنحني عرفانًا وحبّاء أمام كل جندي سوري» منعه ضميره الحي من قتل 
السوريين... سأبقى على حلمي بالحرية» وعلى يقيني أن الثورة السورية» هي 
الحقيقة العادلة الوحيدة» التي عشناها منذ أربعة عقود»“. ورأى آخر أن الشعب 
السوري تمرد على واقعه وانتفض متظاهرًا في شوارع سورية ومدنهاء ولهذا «إن 
المثقف عليه واجب أخلاقى ومسؤولية أخلاقية تجاه الشعب4©*. كما أن برهان 
غليون وأمثاله من المفكرين الذين عرفوا أن معركة السوريين الراهنة هي حرب 
المصير والبقاءءإما أن يحافظوا على هويتهم السورية المعروفة» وإما أن يتحوّلوا 
إلى تابعية إيرانية استيطانية» فيؤكد: «نحن ماضون إلى هدفناء لأنه من غير الممكن 
العودة إلى الوراء... لكننا سنخرج شعبًا جديدًا صاحب رأي ومبادرة» وسنبني 
مجتمعًا ر 


في الختام 


يتضح من خلال المعطيات التي عرضتها الدراسة أن المثقف السوري لم 
يضع نفسه على الهامش» أكان في العقود الماضية أم فصول الثورة الراهنة» بل 
استمع إلى صوت عقله؛ وإلى يقظة ضميره في الأيام الصعبة أيضًا. وعندما قامت 
ثورة آذار/ مارس 2011ء في غفلة منه» تحايل على أثقال العمرء ووطأة المعتقل» 


(89) تهامة الجندي» «لن أترحم على مجرم أدمى قلوب السوريين» المستقيل» 14/ 9/ 2014ء 
فى: http /bit.ly/1ZgcQrl.‏ 
(90) السيد حسين» «تحدثت إلى «السياسة؛ عن حالة بلادها وعن دور المثقف في الثورة الروائية 
السورية» سوسن حسن: المثقفون رافعة الثورات وهم من يوجهون الوعي المجتمعي»› السياسة الكويتية» 
2 4014/8 في: http:/bit.}y/INBUB8A.‏ 


(91) برهان غليون» «حوار موسع مع برهان غليون»: الجمهورية. 8 وه فى: 
http://bit.ly/10czKYT.‏ 


501 


والرعب الذي يحيط به» فواكب حركة الثورة؛ فرح بها وحلم بمستقبلهاء لكن لم 
يخطر في باله أن يُقدم النظام على تدمير بلده» وأن يشرد ملايين السوريين خارج 
الوطن وداخله من أجل دوامه في الحكم. فبدأت» ولم تنته» تغريبة السوريين في 
الجوار» وعلى تخوم البحار. ولم ينس المثقف دماء أصدقائه؛ وانهدام ألفي مئذنة 
وعشرات الأسواق الأثرية والتراثية ومسح حارات وقرى من على سوية الأرض. 
ولم ينس تضحيات ملايين السوريين وآلامهم في العراء أو الثلج» وتحت البراميل 
المتفجرة. قلة من المثقفين أضناهم التعب» ورأوا أن الثمن الذي دفعه السوريين 
في الثورة كان باهظا للغاية» لا يحتمله بشرء وأنه أكبر من الحصيلة التي تمخضت 
عنها الثورة؛ فتمنوا لو بقوا خرسان في مملكة الصمت» ولم يحدث لبلادهم ما 
حدث! أما الأكثرية الساحقة منهم فبقوا على قولهم: لنقل الحق ونمضي! وفات 
أوان التراجع؛ بعد أن فع الثمن الغالي؛ المهم الوصول إلى المحطة الأخرى. 

كان شيخ المثقفين أنطون مقدسي قد حذَّر في رسالته إلى بشار الأسد في 
بداية حكمه من التسويف بالإصلاح» وطالبته بيانات المثقفين (بيان 99 وبيان 
الألف) بالإصلاح» وحمل المثقف فكرة التغيير السياسي التدريجي» تجنبًا للهزات 
والاضطراب الكبير؛ لكن» تكسرت محاولاته بغلق السلطة الأبواب. صحيح أن 
المثقف السوري لم يقد الثورة» أو يصنعهاء غير أنه صاحبها. وانزوى القلة القليلة 
منهم في الظل والصمت؛ إذ فضلوا تجنب المخاطرة لمعرفتهم أن الثمن غال. 
وفضلت قلة قليلة أن تستمر في مهنتها التي اعتادتها في خدمة السلطان. وسقط في 
الميدان مضرجًا كثير من المثقفين» أو اختفوا في ظلمة السجون. أو اضطروا إلى 
رحلة التهجير على طريق التغريبة السورية الكبرى» أو الاختباء داخل مدن كسرتها 
قذائف القاذفات؛ أو واظبوا على الإبداع متمسكين بحلم الحرية! وظلت أكثريتهم 
متمسكة بأهداف الثورة بدولة مدنية ديمقراطية» وأن تصبح سورية عضدًا للعرب 
لا مصدرًا للتهديد والفتنة بينهم. ولم يحجبهم عن حلمهم هذا صعود قوى متطرفة 
ذات نزعة طائفية استبدادية حاولت» بقوة السلاح» حرف الثورة عن مبادئهاء بل 
زادهم هذا تمسكا بأهدافهم: الديمقراطية والكرامة**. 


(92) انظر: عبد الله تركماني؛ «أي آفاق للثورة الروسية؟:. الحوار المتمدن. 23/ 2/ 2013» فى: 


2 


http://bit.ly/IPbpGSP. 


المراجع 


أومليل» علي وآخرون. المثقف العربي: همومه وعطاؤه. بیروت: مركز دراسات 
الوحدة العربية» 1995. 


الانتقالية. عمّان: دار سندبادء 2003. 


بشارة» عزمي. سورية: درب الآلام نحو الحرية: محاولة في التاريخ الراهن. 
بيروت/ الدوحة: المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات» 2013. 


الجابري» محمد عايد. المثقفون فى الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن 
رشد. ط 2. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 2000. 


الجراح» نوري. «منبر ثقافي حر». مجلة دمشق (لندن). العدد 1 (2013). 

حرب» على . أوهام النخبة أو نقد المثقف. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافى 

ديبو» محمد. «المثقف والمعارضة والشأن العام». دلتا. العدد صفر (أيار/ مايو 
2014(. 

«رقيب الشرق الأوسط هيومن رايتس ووتش». ترجمة اللجنة السورية لحقوق 
الإنسان. يونيفرسيتى يل برس: 1990. 

زكرياء خضر. «المعارضة الحزبية التقليدية فى سوريا: المواقف والاتجاهات». 
في: مجموعة مؤلفين. خلفيات الثورة السورية ومساراتها وتطور ظواهرها. 
بيروت/ الدوحة: المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات» 2013. 


زيادة» رضوان. السلطة والاستخبارات فى سورية. بيروت: رياض الريس للكتب 
والنشر» 2013. 


سعيد. إدوارد. خيانة المثقفين: النتصوص الأخيرة ترجمة أسعد حسين (دمشق: 
دار نینوی»› 2011)» ص 36. 


. المثقف والسلطة. ترجمة محمد عناني. القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع» 


2006. 
«ile‏ فخري. الثورات العربية: المثقفون والسلطة والشعوب العربية. القاهرة: 
دار العين للنشر» 2013. 


(لندن). العدد 1 (آذار/ مارس 2013). 


غليون» برهان. بيان من أجل الديمقراطية. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية» 
1986. 
. مياد عالم عربي جديد». مجلة الدراسات الفلسطينية. السنة 22. العدد 
86 (ربيع 2011(. 
كوك؛ ميريام. سوريا الأخرى: صناعة الفن المعرض. ترجمة حازم نهار. بيروت/ 
الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» [مخطوط]. 


محمد هالا. «دنزيه أبوعفش: أن تكون مسيحًا ولا ترى سوى آلامك أنت.. 
و 
ياغشاش». الرابطة الأدبية (مجلة رابطة الكتاب السوريين). العدد صفر (15 


أيلو ل/ سبتمبر 2012)) في: http://bit.Iy/1TI2H9r.‏ 
«المشروع الوطني (وثائق القاهرة)» «العهد الوطني - وملامح المرحلة الانتقالية». 
البوصلة (موقع إلكتروني): 3/ 17 2 في: http://bit.ly/1ludKg2.‏ 


المصطفى» حمزة مصطفى. المحال العام الافتراضى فى الثورة السورية: 
الخصائصء الاتجاهات, آليات صنع الرأي العام. الدوحة/ بيروت: المركز 
العربى للأبحاث ودراسة السياسات» 2012. 

نهار» حازم. مسارات السلطة والمعارضة في سورية.. نقد الرؤى والممارسات. 
القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. 2009. 


504 


الفصل السابع عشر 


المثقف العربي من تجربة الجور 
إلى ثقافة حقوق الإتسان 


€ 


ما الذي يجوز لنا أن تأمل؟ 
المنجي السرباجي 


أحيت التغيرات والثورات السياسية الأخيرة في العالم العربي» في الأقل في 
بداياتهاء أملا في الانبتات عن الاستبداد وتأسيس ثقافة حقوق الإنسان. ومهما قلنا 
صوابًا عن تأخر المثقفين في قيادة هذه التغيرات التي قد تبدو انعكاسًا لإحساس 
بالجور أكثر منها حركات عقلانية ذات غايات محددة سلما وقادرة على اصطفاء 
الوسائل الملائمة» فإننا لا نستطيع؛ من دون أن نبخس المثقفين حقهم» إنكار 
مساهمتهم فيها. فأعمال المثقفين كما تتجلى في الالتزام وفي الفكر السياسي. 
أو في أدب السجون أو في المحاولات النقدية المتفاوتة في جرأتها تجاه مراكز 
السلطة المختلفة» ساهمت في تراكم الوعي بفظاعة الجور السياسي الذي كان 
سائدًا» وفي الحاجة إلى تأسيس دولة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسانء 
كأفق وحيد للكرامة والتحرر الفردي والجماعي. 


بالفعل» لم تستمد الرجّة التي هزت أركان المنظومات السياسية السائدة في 
العالم العربي قوتها من أي ادعاء أيديولوجي أو ديني» وإنما كانت ضد الحيف 
الاجتماعي والظلم السياسيء ومن أجل الحق في الحرية والكرامة والمواطنة. 
لكنّ ثمة ملاحظتين سمح مرور بعض الأعوام بالانتباه إليهما؛ الأولىء أن هذه 


505 


التغيرات باتت مشروعات غير مكتملة بنسب متفاوتة» إلى حد أن منظومة 
الاستبداد القديم نجحت في العودة هناء وفي التكيف مع الواقع الجديد والتأثير 
فيه هناك. والملاحظة الثانية هي أن هذه التغيرات ظلت في مستوياتها السطحية» 
ولم تمس بنية الاستبداد نفسهاء أي مجالات التسلط الميتا سياسي: ضمن بنية 
العلاقات الاجتماعية» من المدرسة إلى العائلة» ومن السوق إلى الطائفة» وفي 
الجامعة وفي غيرها. فهذه المؤسسات لا يزال اللاوعي الجمعي الذي يحكمها 
لم #يعتد الحرية»» بحسب العبارة التي يستعملها كانط للإشارة | ا ار اي 
يجعل الشعب يتكون كشعب حر. فالرجة الحاصلة إلى حد الآن لا تزال بعيدة عن 
أن تثمر ثورة عميقة وحقيقية قادرة على تفكيك بنية الاستبداد. 

يدرك المثقف العربي اليوم» أو لعله يجب عليه أن يدرك أن مهمة تأسيس 
مشروعية جديدة مستندة إلى حقوق الإنسان» ومن ثم تأصيلها ثقافيّاء هي أكثر 
عسرًا من تجربة مقاومة الجور السياسي التي ميزت العقود السابقة؛ فهي تعمل في 
شكل سلطة خفية. وإن المواجهة مع البنى العميقة للاستبداد لا تخلو من مفارقة 
بالنسبة اا فالثورة لم يتزعمها المثقفون المنظرون في 
الأقلء لكن تعقل المخاطر المحدقة بالثورة» خصوصًا المجالات التي يترسب 
فيها الاستبداد وآلية اشتغاله وشروط مقاومته» هي في صميم مهمات المثقف؛ 
وهنا مكمن مسؤوليته. فهو ربماء لم يقم بالثورة» لكنها لن تنجح في غيابه. 

في هذا السياق تحديدّاء تتنزل فرضية هذا البحث. فمساهمات المثقفين 
العرب في تأصيل قيم حقوق الإنسان ما انفكت تتراكم كا وكيقاء وإن كان مسار 
تثبيتها فكريًا وعمليًا لا يخلو من كثير من التعثر بسبب الاستعادة المستمرة لسؤال 
الهوية» كأفق لطرح مطالب الديمقراطية وحقوق الإنسان. وعلى المثقف أن يدرك 
أن مواجهة الاستبداد لا تجري في الجبهة السياسية فحسب» بل أيضًا في مستوى 
ثقافي واجتماعي؛ وفي مستوى العلاقات الدولية» حيث يتعين عليه حل التوتر 
القائم بين المطلوب معياريًا (تأسيس دولة القانون وحقوق الإنسان) والمتاح 
عمليًا (واقع الثقافة السائدة وواقع العلاقات الدولية السائدة). 

سنحاول في المبحث الأخير من البحث رصد هذه المستويات من أجل 
تحديد الأدوات المتاحة أمام المثقف العربي في طموحه لتأسيس ثقافة حقوق 


506 


الإنسان والتنبيه إلى صعوباتها النظرية والواقعية من أجل تقويم موضوعي 
لممكنات التغيير العميق في العالم العربي. لذلك سنهتم أولا بمنزلة حقوق 
الإنسان في خطاب المثقف العربى ومساهمتها في إحداث التغيير السياسي» ثم 
نتوقف. ثانيّاء عند شروط التحول من وضعية مقاومة الاستبداد وتفكيك مشر وعيته 
إلى منهج تأسيس مشروعية سياسية جديدة وبراديغم قانوني جديد محوره حقوق 
الإنسان. وسنستعمل في هذا كله مفهوم المثقف في دلالة مَرنة تشمل المفكرين 
والأكاديميين والخبراء القادرين على الاشتغال خارج دائرة تخصصاتهم بالانفتاح 
على الشأن العام وتداوله. 


فإلى أي مدى نجح المثقف العربي في ترجمة تجارب الجور المعيشة 
إلى وعي بضرورة التغيير الاجتماعي والسياسي» وبضرورة الانخراط فيه 
تأسيسًا وتأصيلًا لثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ وما هي الشروط الفكرية 
والموضوعية لهذا التأسيس فى المجتمعات العربية» خصوصًا تلك التى تعرف 
تغيرات سياسية ثورية أو إصلاحية؟ وما خيارات المثقف العربي اليوم في ضوء 
التوتر بين المطلوب معياريًا وإكراهات الواقع المحلي والدولي؟ وما الصورة التي 
يجب على المثقف العربى أن يحملها عن نفسه. التى تمنحه قدرة التحرك محليًا 
من أجل التغيير وكونيًا بالتطلع إلى قيم حقوق الإنسان الكونية؟ ألا تدعونا متانة 
القوى الممانعة للتغيير العميق إلى التواضع تجاه ما ننتظره من المثقف؟ 

أولا: حقوق الإنسان في خطاب المثقف العربي 

مثّل عام 1948 تاريخًا كثيف الدلالة في ما يتعلق بخطاب المثقفين العرب 
في شأن حقوق الإنسان. أولاء لأن هذا العام شهد حدثين غاية في التنافر: صدور 
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من جهةء والنكبة التي أعقبت قرار تقسيم 
فلسطين من جهة ثانية. وساهم أحد المثقفين العرب» وهو شارل مالك» مساهمة 
فاعلة في صوغ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ويّعَد إدراج هذا الميثاق ضمن 
منظومة القانون الدولي شأنًا بالغ الأهمية بالنسبة إلى المثقف العربي» أكان في 
مقاومته الاستعمار أم في مقاومته الاستبداد الداخلي. فهو يعطي مشروعية أخلاقية 
وقانونية لحركات التحرر الوطني على غرار قوى المعارضة في الدول ذات 


507 


الأنظمة الكليانية . وفي الفترة نفسهاء وقع تقنين وضع استعماري والاعتراف به من 
خلال قرار التقسيم. وبدلا من تفكيك مشروعية الأنظمة الاستعمارية والاستيطانية 
والحركات العنصرية» يجد المثقف العربى أن مجتمعه تحول إلى ضحية للقانون 
الدولي» قانون الأقوياء الذي لم تكن فيه منظومة حقوق الإنسان إلا غطاء أخلاقيا 
لعملية تثبيت مصالح القوى الكبرى. وكان الاقتران التراجيدي لهذين الحدثين 
كفيلًا باهتزاز الثقة في خطابات حقوق الإنسان. 

ثانيّاء متّلت مرحلة آخر الأربعينيات والعشرية التى تلتها تاريًا فاصلا بين 
الماضي الاستعماري ومستقبل الدولة القطرية المستقلة» الأمر الذي أدى إلى 
زت une‏ لأولويات العناسيين :وأولويات المتفين أشنا وكات هذا لريب 
واقعًا تحت تأثيرات مختلفة: أمل في التقدم تعانده ذاكرة مثخنة بويلات الاستعمار» 
وبانتهاك الكرامة الوطنية نية والفردية» وبالتفقير المنهجي للإنسان وللدولة» وأمل 
في الوحدة يعانده احتلال إسرائيلي مدعوم شرقًا وغربّاء وبحث عن الاستقلال 
الفعلي للقرار الوطني تربكه منظومة علاقات دولية ضاغطة لا يُشبع استحكامها إلا 
مزيدًا من الاستحكام. وفي هذا السياق» لا يبدو أن مطلب حقوق الإنسان يمكن 
أن يكون - سياسيًا أو فكريًا - مطلبًا ذا أولوية. بل من الطبيعي أن تكون النظرة 
إلى هذه المنظومة من القيم التي وضعتهاء بنوع من التوافق الهجين والمريب» 
القوى الكبرى في العالم نظرة احتراز. وأكثر من ذلكء إن القيم «التنويرية» التي 
استعادها إعلان حقوق الإنسان تعد في نظر بعضهم امتدادًا لفكرة حمل الرجل 
الأبيضء التي مثّلت منذ بدايات القرن التاسع عشر المسوغ الأيديولوجي والثقافي 
للاستعمار الحديث. 


يبدو أن إعلان حقوق الإنسان كان في ذاته» وفي الوضعية التاريخية 
والسياسية لإصداره عاملًا كافيّاء في نظر قسم من النخب العربية كما هو الشأن في 
نظر عموم الناس» للتظنن في شأن خطابات حقوق الإنسان كلها. لكن هذا التظنن 
تجاه منظومة حقوق الإنسان برمتها يحتاج إلى تنسيب إذا واجهناه بتوجه مؤثر في 
خطاب قسم آخر من المشقفين العرب قبيل الحرب العالمية الأولى وبعدها . ولعل 
من الضروري إخضاعه للمساءلة» حيث لا يكون إلا حيلة للتهرب من استحقاقات 
مطالب الحرية والديمقراطية. 


508 


لن نعود في هذا المجال إلى حضور مطلب حقوق الإنسان في الفكر العربي 
منذ القرن التاسع عشرء حيث تصدى لذلك عدد من البحوث. وحسبنا أن نشير إلى 
معطيين؛ الأول هو الإشكاليات التي يطرحها تقاطع الطابع الإنسانوي والفرداني 
لمنظومة حقوق الإنسان الحديئة مع خصوصية الوضع السياسي والاجتماعي 
للمجتمعات العربية المختلفة» منذ نهايات القرن التاسع عشر. والثاني هو مدى 
نجاح المثقف في تحويل تجارب الجور والمراوحة بين الاستبداد المحلي 
والاستعمار الخارجي إلى عنصر مساهم في اعتماد حقوق الإنسان من حيث هي 
مبادئ أخلاقية وقانونية أساسية لحماية الحريات الفردية والكرامة الإنسانية. 


1 - تقاطع الطابع الكوني لمنظومة حقوق الإنسان 
والخصوصيات المجتمعية 


صحيح أن حقوق الإنسان منظورًا إليها كمنظومة قيمية ذات محتوى أخلاقي 
ليست من إنتاج مجتمع دون آخر أو ثقافة دون أخرى. لكن إدماج حقوق الإنسان 
ضمن منظومة القوانين الوضعية» وكجزء من دساتير الأمم لم يتحقق إلا ضمن 
إطار براديغم قانوني غربي إنساني التوجه فردي النزعة. وعملية استعادة هذه 
المنظومة في صيغتها الحقوقية على أيدي مفكرين» مثل عبد الرحمن الكواكبي أو 
خير الدين التونسي» هي دعوة إلى توطينها ضمن السياق العربي كجزء من حركة 
إصلاح اجتماعي وديني شاملة؛ إذ دافع خير الدين التونسي بوضوح عن الحاجة 
إلى ضمانات مؤسسية للحقوق» خصوصا في ما يتعلق بالحرية والعدالة» من 
خلال تأكيده أهمية «التنظيمات»» ما يعني إعادة تشكيل نمط الحكم في مجتمعات 
الحكم الفردي» وترسيخ مبدأ #تساوي الرعايا في سائر الحقوق السياسية التي منها 
الخطط السامية» كشرط لتأسيس الحرية”". ويعكس حرص خير الدين باشا على 
تقديم منظومة حقوق الإنسان في الدستور الفرنسي» ومنظومة الحريات العامة 
والخاصة في إنكلترا” أيضاء تطلعًا لاستيعاب هذه المنظومات في السياق العربي 


(1) خير الدين التونسي» أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» سلسلة في الفكر النهضوي 
الإسلامي (بيروت/ القاهرة: دار الكتاب الليناني/ دار الكتاب المصري» 2012)» ص 5-54 5. 

(2) المرجع نفسه» ص 217. 1 

(3) المرجع نفسه» ص 310 وما بعدها. 


والإسلامي؟ ما يستدعي» من دون شك» حركة إصلاح اجتماعىء نادى بها فرح 
أنطون وحركة إصلاح ديني وسياسي أكدها الكواكبي. 


يبدو في نظر الكواكبي أن إصلاح الدين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق إلى 
الوصلاح السياسي. لكنه مع ذلك لم يبحث عن دعم هذا الموقف بالرجوع إلى 
التراث الإسلامي التوحيديء إنما بالرجوع إلى التراث اليوناني» إمعانًا في تأكيد 
الطابع الوضعي والعمومي للشأن السياسي”. بل إن كتاب طبائع الاستبداد يبدو 
في بعض لحظاته بيانًا من أجل حقوق الإنسان الكونية» أكان حين وصفه شروط 
الترقي في الاستقلال الشخصي (ومنها أمن سلامة الجسم والحرية والملكية 
والكرامة)» أم حين طرحه أهم المباحث التي تتعلق بها الحياة السياسية (منها 
المواطنة وماهية الحقوق العمومية والشخصية والتساوي في الحق). 

لكن تظل القيمة الحقيقية لكتابات خير الدين» والكواكبي» هي الوعي بقيمة 
دور المثقف في مقاومة الاستبداد والجور وقيادة حركة الإصلاح العميق الذي 
يمس البنى الاجتماعية وبنية العقل العمومي. فعملية التحرر لا تبدأ بالنتصوص» 
بل بحركة اجتماعية قادرة على إنشاء مجتمع مستعد للحرية. وهذا في الواقع عين 
المشكلة؛ فالوضع الاجتماعي والسياسي للمجتمعات العربية في تلك الفترة 
لا يكشف موضوعيًا عن هذا الاستعداد. بل إنه أكثر من ذلك. لا يبدو مهيأ لتوطين 
براديغم قانوني مبني على أساس النزعة الإنسانية والفردية. فمن جهة أولى» إن 
هذا البراديغم هو في نهاية الأمر من إنتاج غرب ارتبطت صورته في المخيال 
الجمعي بالحملات الصليبية وبحملة نابليون وباستعمار الجزائر. فلا يمكن إنكار 
الطابع الهيمني لهذا الغرب الاستعماريء كما لا يمكن إنكار انتمائه المسيحي 
Lai‏ . ومن جهة ثانية» يبدو مسار «الترقي» عند الأمم الأوروبية مغريًا بالنسبة 
إلى مثقف عاين من كثب الهوة بين واقع عربي في أوج تفككه السياسي وتراجعه 


(4) عبد الرحمن الكواكبي» طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد (القاهرة: كلمات عربية للترجمة 
والنشرء 2011)» ص 24. 

(5) المرجع نفسه. ص 104. 

(6) المرجع نفسه. ص 112-111. 


المعرفي» وغرب في أوج ثورته الصناعية والمعرفية. فالتطلع إلى التحديث يحبطه 
بقاء أنماط الإنتاج ومؤسسات المعرفة والعلاقات الاقتصادية» فضلًا عن أن بنية 
النظام السياسي تقليدية» بمعنى أنها لم تبلغ مستوى من العقلنة قادرًا على الإيمان 
بالإنسان كمرجع نهائي للتشريع؛ وكغاية قصوى له في الوقت نفسه. 


لم تأخذ التغيرات السياسية في العالم العربي حتى مطلع القرن العشرين 
منحى توسيع دائرة الحريات أو تكريس فكرة المواطنة؛ فسياسيًاء لم تكن قد نشأت 
الدولة - الأمة كشرط لتحقيق المواطنة. أما اجتماعيّاء فلم تنشأطبقة برجوازية قادرة 
على تجاوز التصورات الجمعية (الأمة/ القبيلة) نحو تصور للاندماج الاجتماعي 
قائم على الاستقلالية الفردية وعقلنة العلاقات الاجتماعية. أما معرفيّاء فلم تتبلور 
فكرة معرفة إنسانية وضعية قادرة على ضمان شروط التقدم من أجل الإنسان. 
وعلى الرغم من أن هذه المسائل شكلت رهانات مشتركة بين التوجهات التقليدية 
ذات المنزع السلفي والتوجهات الليبرالية ذات المنزع التحديثي» فإنها كانت 
تتحول إلى مسائل خلافية عميقة ما إن يجري تنزيلها في سياق السؤال في شأن 
الهوية» خصوصًا بين النظرة الإسلامية المحافظة والنظرة المستغربة والعَلمانية 
بوجهّيها المسيحي والإسلامي ونمًا لتصنيف شرابي©. فهل كان في مستطاع 
المثقف والنخبة الفكرية والسياسية عمومّاء في مثل هذه الأوضاع تحويل واقع 
الجور بأبعاده الكثيرة إلى دافع لاعتماد حقوق الإنسان تشريعيًا وثقافيًا؟ 
2- المثقف والمساهمة في اعتماد حقوق الإنسان 

لاريب في أن تجربة الجور والانحطاط مثّلت دافعًا أساسيًا عند قطاع واسع 
من المثقفين العرب من أجل استلهام مبادئ حقوق الإنسان التي يقع تقديمهاء في 
معظم الأحيان» كحقوق كونية متوافقة مع الشريعة» بل العمل على تحويلهاء أيضًاء 
إلى ثقافة من خلال مأسستها وإدراجها ضمن عملية إصلاح اجتماعي وديني 
شاملة. ولا يمثل هذا الأمر في الحقيقة استثناءً عربيًا أو إسلاميًا. فمنذ العصر 


(7) هشام شرابي» المثقفون العرب والغرب: عصر النهضةء 1914-1875 ط 2 (بيروت: دار 
النهار للنشرء 1981)» ص 24. 


511 


الحديث. وريما قبل ذلك» أصبحت حماية حقوق الإنسان المطلبَ الأوكد الذي 
يعقب الأزمات السياسية الدموية: الثورة الفرنسية وحروب الاستقلال والحرب 
العالمية الثانية وتجارب التحول الديمقراطي ...إلخ. لكن» في وقت نجحت فيه 
تجارب كثير من الأمم الأخرى» أخفقت المجتمعات العربية في تحقيق تغيير 
في هذا الاتجاه. وحتى المد الذي شهدته التجارب الدستورية» خصوصًا في 
عشرينيات القرن الماضي» لم تحمل تغيرًا جوهريًا. 

يعود انتكاس هذه التجربة إلى عوامل عدة يمكن أن نؤكد اثنين منها يضافان 
إلى ما بيّناه من عدم توافر بيئة اجتماعية ملائمة لاحتضان براديغم قانوني قائم على 
الحريات والحقوقء بديلا من الواجبات والمكرمات. أما الأول» فهو ذاتي يتمثّل 
في أن الونتاج الفكري والفلسفي للمثقفين العرب في علاقتهم ds‏ حقوق 
الإنسان ودولة القانون كان محدوداء ولم يشكل تراكمًا كميّا ونوعيًا قادرًا على 
تحويل تجارب الجور إلى وعي جمعي بضرورة التغيير FA‏ والاجتماعي 
العميق. بل سيطرت المناقشات ذات الطابع الهووي أحيانا على مجال اشتغال 
العقل العمومي للمثقفين العرب. 


أما الثاني» فهو موضوعي يتمثّل في أن انهيار الخلافة في الربع الأول من 
القرن العشرين لم يقترن بتأسيس الدولة الوطنية الحديثة في معظم الأقطار العربية» 
بل بتكريس الحضور الاستعماري الذي اقتضى نظام أولويات معين لدى النخب 
المثقفة والنخب السياسية. ووجد المثقف العربي نفسه أمام حتمية التفاعل 
مع عنصر ثقافي خارجي اخترق واقعه في مجال النشاط الاقتصادي والتنظيم 
الإداري والسياسي» وأدى إلى إعادة تشكيل البنى الاجتماعية على نحو مُشوّه أو 
المحافظة عليها بحسب مصالحه الخاصة. فالسياسات الكولونيالية» كما أشار إلى 
ذلك وجيه كوثراني» لم تشجع على إنجاح العمل الدستوري أبدًا. فكانت الأولوية 
المطلقة هي مقاومة الاحتلال» ما استدعى استجماع عناصر التوحيد الاجتماعي 
كلها في مواجهة المحتلء » أكانت عناصر دينية أم قومية. وأدى هذا الأمر أيضًا إلى 
الإغراق في الجدال في شأن مسائل الهوية على حساب مسائل الحق» بمعنى 
حقوق الأفرادء ولم يُسمح للمثقف العربي ل د 
إلى دور المؤسس للحق والعدالة والحرية. 


512 


توجد تقاطعات عدة بين الاستبداد والاستعمارء بوصفهما تجربتي جور لا 
يمكن تجاوزهما إلا بالدفاع عن الكرامة والحريات الأساسية للأفراد وللشعوب. 
لذلك شكلت العودة إلى المعجم الذي يعيّر عن المضمون المعياري لحقوق 
الإنسان» وإن لم يتبلور ضمن نسق قانوني وضعي واضح المعالم» واقعًا عايرًا 
للأيديولوجيات والمرجعيات الفكرية والسياسية للمثقفين ولسائر النخب. بل إن 
قيم حقوق الإنسان كانت تعطي على الدوام مشروعية لحركات التحرر الوطني. 
وهذا لم يمنع من اصطباغ خطاب حقوق الإنسان» ولا سيما منذ العشرينيات»› 
بخلفيات أيديولوجية وسياسية. وتربط كتابات مثقف ليبرالي مثل أحمد لطفي 
السيد مثلاء في نزعة روسوية غير خافية؛ بين الحرية العامة (السياسية) والحرية 
الشخصية». وهو يفترض بذلك إمكان الممائلة بين الاستقلال الذاتي للشخص 
واستقلال الأمة. فكلاهما في رأيه حق ب «الفطرة»*. وفي المقابل» في إطار 
مقاربة ماركسية لينينية» حاول رئيف خوري التنبيه إلى مخاطر الفاشية وإلى 
ضرورة مقاومتها على صعيد كوني©. وربما CIE‏ مساهمته التأليف الأول الذي 
يجعل حقوق الإنسان غرضه المباشر والمعلن عند المثقفين العرب. 


تزامن صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقرار الأممي تقسيم 
فلسطين» ومع نكبة الجيوش العربية. ومثّل هذا التزامن لحظة حاسمة في نمط 
حضور مسألة حقوق الإنسان في خطاب المثقفين والناشطين العرب. لذا شار 
شارل مالك إلى تساوي القوة القانونية لقرار التقسيم ولإعلان حقوق الإنسان 
الذي لم يغفل حق الشعوب في التحرر وحق الأفراد في الكرامة. وبناء على ذلك 
فإن كل انتقائية في التعامل مع إعلان حقوق الإنسان ليست إلا من قبيل التوظيف 
الأداتى لهذه المنظومة القانونية التى أصبحت تشكل جزءًا لا يتجزأ من القانون 
الدولي. وبالفعل» لم تكن الكيفية التي تشكلت بها العلاقات الدولية منذ أواسط 


(8) أحمد لطفي السيدء مبادئ في السياسة والأدب والاجتماع (القاهرة: دار الهلال» 1963( UP‏ 
126. 

(9) المرجع نفسه» ص 124. 

(10) انظر: هيشم مناع» «حقوق الإنسان في العالم العربي: مقدمة تاريخية٠»‏ احترام (المجلة السودانية 
لثقافة حقوق الإنسان وقضايا التعدد الثقافي)» العدد 6 (تشرين الثاني/ نوفمبر - كانون الأول/ ديسمبر 
7 ص 2- 2.3 في: htip:/bit.1y/1PAJeUS.‏ 


513 


القرن الماضي تُظهر كثيرًا من المبالاة لمطالب حقوق الإنسانء إلا كأداة اشتباك 
سياسي؛ إذ تواترت الوقائع الدالة على غياب حرص خاص موكول إلى حقوق 
الإنسان» كتواصل الهيمنة الاستعمارية إلى حدود الستينيات من دول يُفترض أنها 
ديمقراطية» وتثبيت الكيان الإسرائيلي» وكذلك الحرب الباردة وما أنتجته من 
مناطق توتر في العالم» أو النزاعات المرتبطة بالطاقة وبالممرات البحرية. 


اكتشف المثقفون العرب سريعًا أن حصول دولهم على استقلالها لا يعني 
نهاية الاستعمار» بل الدخول في مرحلة «نيوكولونيالية. ولم يكونوا في الوقت 
نفسه في حاجة إلى براعة حجاجية خاصة ليظهروا توظيف حقوق الإنسان كأداة 
أيديولوجية لتبرير الهيمنة الغربية على العالم» ولا زيف خطاب الدول الديمقراطية 
الداعمة لكيان استيطاني عنصري. فلم يكن التمييز سهلا بين حقوق الإنسان 
بوصفها مبادئ إنسانية كونية ذات صلاحية معيارية (ما يجب أن يكون) من جهة» 


يستفد من هذا الالتباس في دور حقوق الإنسان» للأسفء النظام النيوكولونيالي 
فحسبء إنما الأنظمة العربية على مختلف تنويعاتها أيضًا. وتشكلت تبعًا لذلك 
مواقف متباينة عند المثقفين العرب تجاه هذه المسألة» وسط ريبية تكاد تكون عامة 
معممة تجاه وظيفة حقوق الإنسان. إنها ريبية تكاد تكون معممة» لكنها ليست 
كذلك» حيث برز بعض التيارات الفكرية النقدية الذي لم يكتف بإثارة قضايا 
حقوق الإنسان» إنما حررها من خطاب الهوية»على نحو خاصء وأصَلها ضمن 
خطاب مقاومة الجور والاستبداد. 


على الرغم من أن النصف الثاني من القرن العشرين عرف نوعًا من التواطؤ 
المضمر بين التوجه الرافض لحقوق الإنسان لأسباب فكرية عقائدية وذلك 
الذي يعارضها من منطلقات سياسية» فإن كتايات وحركات عدة وجدت في 
هذه المنظومة القانونية الكونية مرتكرًا لشرعنة نفسها وشرعنة مقاومتها التسلط 
في أبعاده المختلفة» خصوصا مع الوعي بخطورة تعويم مطالب التحرر والعدالة 
والحق بخطاب هووي في شأن الأمة (الإسلامية/ العربية) والقومية ومقاومة 
الإمبريالية والوحدة الوطنية. وتبعًا لذلك؛ يمكن التمييز بين أربعة توجهات كبرى 
عند المثقفين العرب تجاه مطالب حقوق الإنسان: 


514 


- توجه معارض بشكل مبدئي لحقوق الإنسان» وفقًا لمبررات في معظمها 
هووية؛ أكانت دينية أم قومية. فالأصولية الدينية لم تكن مستعدة لقبول منظومة 
قانونية وضعية مركزة في شأن الحقوق في بعدها الفردي» خصوصًا أن مثل هذا 
التشريع الوضعي ليس إلا انخراطا في نظام الجاهلية”©. . كما كان جزءًا من منظري 
الفكر القومي يرى أن حقوق الإنسان هي» في الأساس» شعار «اللوبي» العَلمانيء 
وأنها «عنوان أو شعار أو مبدأ مجرد»» وعلى مستواها هذا تُعَد أنموذجًا مثاليًا 
لإغواء العقول واغتصابها*"'. 

- موقف يعترف بحقوق الإنسان, لكنه اعتراف زائف» فاستحضارها ليس إلا 
تبريرًا دعائيًا وأداتيًا للتعمية على التسلط. وهذا شأن مثقفي السلطة الذين يدافعون 
عما يزعمون أنه إنجازات حكوماتهم في مجال حقوق الإنسان وعن مقارباتها 
المتميزة. 


- موقف توفيقي يحاول أن يجمع حقوق الإنسان إلى تصور جوهراني 
للهوية. فهو يؤكدء في الآن نفسهء الخصوصية الإسلامية وأسبقية سبقية الإسلام في 
الدفاع عن حقوق الإنسان. لذلك أخذت عملية التوقيق بين الإسلام وحقوق 
الإنسان عند معظم المثقفين الإسلاميين شكل تبرير ثقافي لقيم يُفترض أن تكون» 
من جهة المبادئ العامة في الأقلء كونية. فبدلا من النظر إلى حقوق الإنسان 
بوصفها إجراء ضد الجور والظلم والاستبدادء أصبح الرهان الطاغي على كتابات 
هؤلاء المثقفين هو «أسلمة حقوق الإنسان»؛ وكان هذا شأن مفكرين مثل عمارة 
والغزالي والغنوشي. 

- موقف يُؤمن بقيمة حقوق الإنسان وبطابعها الكوني. وينخرط بعضهم 
من ممثلي هذا الموقف ضمن توجه ذي خلفية عَلمانية» أي خلفية تبرر حقوق 
الإنسان من جهة أنها منظومة قانونية وأخلاقية وضعية. وهذا لا يعني أن هؤلاء 
المثقفين لم يصطدمواء بمستويات مختلفة؛ مع مشكلة العلاقة بين حقوق الإنسان 


(11) سيد قطبء معالم في الطريق (بيروت/ القاهرة: دار الشروق» 1979( 90 97 
(12) عصمت سيف الدولةء QE?‏ العروية والإسلاما» صوت العرب (تموز/ يوليو 2010(« 
ص 118. 


515 


والشريعة» لكن بدلا من محاولة أسلمة حقوق الإنسان» راهن هؤلاء المثقفون 

من أمثال عياض بن عاشور وعبد الله النعيم ونصر حامد أبو زيدء على اختلاف 
مشاربهم وخلفياتهم الفكرية» على تحديث فهم النص الديني؛ فحقوق الإنسان في 
نظرهم لن تكون منطلقًا لتغيير تشريعي من أجل نظام سياسي ديمقراطي فحسب» 
إنما من أجل نزع المشروعية أيضًا عن أشكال الجور اجتماعيًا وجندريًا وسياسيّاء 
واستعادة الإنسان السؤال في شأن أسباب العجز عن ضمان حقوقه بدلا من الضياع 
في مناقشات في شأن الأصل الثقافي لحقوق الإنسان*'. 


يحيلنا ما تقدم كله على النتائج AN‏ 


- موضوع حقوق الإنسان كان من ضمن دائرة اهتمام المثقف العربي منذ 
عصر النهضةء على الرغم من أنه لم يراكم معرفة نسقية بهذا الشأن» بيد أن التحول 
من فكر الآداب السلطانية إلى فكر المواطنة والحق ليس سهلا. 

- بتأثير من الصدمات السياسية المتعاقبة» ومن تركيبة الأنظمة السياسية» ومن 
طبيعة العلاقات الدولية» وقع إغراق مطلب حقوق الإنسان في كثير من المراحل 
في بحر من الشعارات الأيديولوجية في شأن مسألة الهوية والصراع مع الغرب. 
ووجد المثقف العربي نفسه في قلب التوتر بين الحاجة إلى تبرير قيم تشكلت 
كمنظومة متكاملة في الغرب» وتأكيد انتمائه إلى مجتمع لا تحمل ذاكرته الجمعية 
صورة مثالية عن هذا الغرب. 

- ساهمت الإعلانات الدولية في شأن حقوق الإنسان في طرحها أساسًا 
لمقاومة الجور وللتحرر من الاستعمار ومن الاستبداد» وشهدت العقود الأخيرة 
ميلاد حركات حقوق الإنسان في العالم العربي على أيدي مثقفين وناشطين 
بالتزامن مع تطوير خطاب فكري في شأنهاء على الرغم من أن المواقف منها كانت 
متباينة. 

(13) انظر تعقيب ل: نصر حامد أبو زيدء «حقوق الإنسان بين العالمية والنسبية الثقافية: البحث عن 
حقوق الإنسان في الإسلام»»؛ في: غانم جواد وآخرون» الحق قديم؛ سلسلة مناظرات حقوق الإنسان 8 


(القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. 2014)» فى: لا 


516 


ثانيًا: في شروط التحول من خطاب مقاومة الجور 
إلى خطاب تأسيس الحق 

1 - في خطاب المقاومة 

بعد الحرب العالمية الثانية ومواقف بعض المثقفين الغربيين التي تصل إلى 
درجة الفضيحة» أكان في علاقة بالنازية أم بالاستعمار» طرحت على نحو حاد مسألة 
وظيفة المثقف وعلاقته بالسلطة. وكان للحركات الثورية اليسارية التي كان يقودها 
مثقفون» ولظهور التحاليل البنيوية في شأن السلطة (فوكو)ء والتحاليل النقدية في 
شأن التقنية والصناعة الثقافية (أدورنو وهوركهايمر)» والفكر الديكولونيالي» 
تأثير كبير فى تعريف دور المثقف؛ إذ استدعى المثقف العربي المثقل بذاكرة 
الهزائم ومشروعات التحديث غير المكتملة ويهم المواجهة مع أنظمة الاحتلال 
والنظام النيوكولونيالي هذه النقاشات» ونقلها كليًا أو جزئيًا إلى سياقه السياسي 
والاجتماعي؛ وحاول أن يتعرف إلى نفسّه من خلالها. وفي هذا السياق الفكري 
والسياسي ارتسمت علاقة المثقفين بالسلطة» وإن كانت هذه السلطة د تختزل في 
الأغلب في السلطة السياسية. 


بدا وضع المثقف العربي طوال العشرينيات الماضية تراجيديًا. فهو من 
جهة على قناعة راسخة أن دوره فى مسارات التغيير السياسي والاجتماعي هو 
دور طلائعي» أو هكذا يجب أن يكون؛ وهذا تحديدًا ما يعطيه إحساسًا بمشروعية 
وجوده. لكن سرعان ما تتزعزع هذه القناعة وهو يرى تغيرات المجتمع الفعلية 
تتجاوزه وتخيّب نبوءاته» بل أخذت مسارًا غير ذاك الذي عمل من أجله. إنه يبدو 
كمن يحاول عبئًا أن يسيطر على واقع يفلت باستمرار من بين يديه. وربما يرى 
بعضهم في هذا الوضع خللا بنيويًا في تمثل هذا المثقف لنفسه ولدوره ولكيفية 
تعامله مع واقعه. وهو ربما مايفسر العدد الكبير من الأدبيات الناقدة حيئًاء والمرتابة 
في أكثر الأحيان تجاه عمل المثقفين العرب وتجاه قيمة مساهماتهم*". وربما 


(14) لعل أكثر الكتابات النقدية جذرية؛ لكن أكثرها تعميمًا أيضًاء de: il‏ أوهام النخبة أو 
نقد المثقف. ط 3 (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 2004(. 


517 


يرى آخرون في ذلك أمرًا طبيعيًا بالنظر إلى الثقل الجيوسياسي والجيوستراتيجي 
للمنطقة العربيةء وهو الذي جعلها منذ أكثر من قرن ونصف مجالا لحسابات 
ومخططات دولية كان الفاعل السياسي والاقتصادي الخارجي فيها هو الأبرز. 
فالتغيرات الحاصلة تراوح بين المؤامرة واقتسام المصالح» على نحو يعجز أي 
موقف فكري عن مقاومتها أو معاندتها مهما يكن فطنًا أو مؤثرًا. واستمر هذا 
الجدل مع التغيرات الأخيرة في العالم العربي منذ عام 2011. 


كان المثقف الذي قاوم برامج التطويع السياسي» بوصفه عنصرًا ينتمي إلى 
الفضاء العربي» ضحية وضعية جور مركّبة» ربما لايكون الاستبداد إلا أهون درجاتها. 
ولم تكن إثارة حقوق الإنسان ممكنة إلا في ظل الوعي بهذه الأزمة: أزمة القمع 
الكثير الأوجه. وبالفعل» إذا كان إخفاق التجارب الدستورية الأولى يعود فى جزء 
منه إلى عدم مراكمة تجربة فكرية عميقة بالنسبة إلى الشأن السياسي» فإن مثل هذه 
المراكمة بدأت تتكون بالتدريج منذ استقلال الدول الوطنية القطرية» ثم خصوصًا 
في عقب هزيمة عام 1967 وتراجع أولوية مطلب الوحدة» لتصبح بينة المعالم بُعيد 
سقوط الأيديولوجيات الكبرى في ثمانينيات القرن الماضي. فجهاز الدولة أصبح 
واضحًاء وكذلك الشأن بالنسبة إلى مجمل ارتباطاته. وأصبحت القناعة راسخة بعدم 
إمكان الفصل بين التوجه الديكولونيالي وتأسيس ديمقراطيات وطنية. 

تشكلت هذه المراكمة في مسارات مختلفة على أيدي كثير من المفكرين 
المتنوعي التوجهات, مع الجابري وأبو زيد والنعيم ورضوان السيد وغيرهم؛ 
لكنها تشكلت كذلك من خلال الرواية الأدبية السياسية» مع عبد الرحمن منيف 
وصنع الله إبراهيم ومجيد الربيعي» ومن خلال حركة حقوق الإنسان. فهي» ٳذاء 
لم تكن مراكمة مواقف نظرية فحسب» إنما تجارب مقاومة فعلية أيضًا. وربما 
يكون لدينا الكثير لنقوله في شأن حدود دور المثقف العربي وخيباته المتتالية» 
لكن الحكم التعميمي أنه لم يشارك في صنع الرأي العام «وصوغ الوعي الجماعي 
أو في التأثير في الدينامية الاجتماعية والسيرورة التاريخية»*' فيه تعسف مفرط 
وإجحاف. فالتحول في طريقة تمثل تجربة الجور والاستجابة لها باتجاه تكثيف 


(15) المرجع نفسه. ص 42. 


الاهتمام؛ واقعيّاء بمطالب الحق والمواطنة والديمقراطيةء بدلا من الانصراف 
بطموح لا يخلو من مثالية نحو البحث عن الوحدة القومية أو الإسلاميةء مثل نقلة 
نوعية ساهم المثقفون في ترسيخها؛ ذلك أن التحرر الجماعي الحقيقي هو تحرر 
الفرد نفسه من سجنه الخاص: سجن الخوف» أن يدرك مشروعية مقاومة الجور. 
فإن المطلوب قبل الاعتراف بالوحدة» كما جاء على لسان أحد أبطال رواية 
«الآن... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى» لعبد الرحمن منيف» هو «الاعتراف 
بالإنسان»". فالمثقف يدرك أنه لا يعود إليه» وهو الذي لا يملك إلا سلاح 
الكلمةء أن يغيّر العالم. ولكن يكفي تكوين «الوعي في تعميق الحساسية بالظلم 
والاضطهاد من أجل حشد كل القوىء من أجل المقاومة والتغيير»”'2 ليكون هو 
شكلًا من أشكال المساهمة في تعميق الوعي بأهمية منظومة حقوق الإنسان» من 
جهة أنها تفي بالحماية القانونية للفرد. ومن جهة أنها هي الشكل القانوني الأصلي 
للاعتراف بالإنسان» كما أشار إلى ذلك فيلسوف الاعتراف أكسل هونث*". 
وبدلا من الإعراض عن هذه المنظومة الحقوقية قية بتعلات النسبية الثقافية أو وظيفتها 
الاستعمارية» بات قطاع واسع من المثقفين مقتنا أنها مرتكز للتحرر» لأنها تفكك 
مشروعيات الخطاب الكلياني والأنظمة التعسفية كلها. 


لا يمكن أن نفصلء إِذَّاء خطاب المقاومة ضد القهر والجور عن تشكل 
الوعي بقيمة حقوق الإنسان الذي انبثقت نبثقت منه التحولات الكبرى الأخيرة في العالم 
العربي. لكن قسمًا من المثقفين العرب لم يتعامل مع مقاومة الجور على مستوى 
الخطاب فحسب» بل انخرط في ممارستها فعلا. فموجة تأسيس حركات حقوق 
الإنسان مئل الستينيات تحقّة تحقّقت في الحقيقة على أيدي نخبة مثقفة من الحقوقيين 
والمفكرين والأطباء . فكان هذا شأن تأسيس جمعية حقوق الإنسان في العراق في 
عام 1960» والرابطة السورية للدفاع عن حقوق الإنسان في عام 21962 ومن ثم 
هيئات مماثلة في السودان والمغرب وتونس ومصر... وغيرها. 


(16) عبد الرحمن منيفء الآن... هنا أو شرق المتوسط مرة آخرى» ط 6 (بيروت/ الدار البيضاء: 
المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ المركز الثقافي العربي» 727) ص 286 

(17) عبد الرحمن متيف الكاتب والمنفى» ط 4 (بيروت/ الدار البيضاء: المؤسسة العربية للدراسات 
والنشر/ المركز الثقافي العربي» 7 )» ص 204. 

Axel Honneth, La Lutte pour la reconnaissance (Paris: Cerf, 2000), p. 135. (18) 


519 


ما ميز عمل هذه الهيئات هو أساسًا خاصيتان اثنتان؛ الأولى هي أنها شكلت 
في كثير من الوضعيات خط المواجهة الأول بين المثقف العضوي الذي يعمل 
él LMI «LS a‏ وإت كانت الخقرق المذائنة والساسية تطغ عل 
اهتماماتها. أما الثانية» فهى أنها مثلت حلقةً ربط بين النقاشات من خلال القُطرية 
والثقافية في شأن حقوق الإنسان من جهةء والسياقات المحلية من جهة أخرى؛ 
فارتباط هذه الهيثات بشبكة مجتمع مدني عالمي كان على الدوام مصدرٌ ضغط 
وإحراج للأنظمة الاستبدادية القائمة. 


2 - شروط التحول من خطاب مقاومة الجور 

إلى خطاب تأصيل حقوق الإنسان 

أ- الشروط الموضوعية 

إن حركات الاحتجاج المدني الاجتماعية والحقوقية هي الترجمة العملية 
للموقف الفكري المناهض للجور كما يظهر في الأدب» وفي أشكال التعبير 
الفكرية والفنية الأخرى. لذلك فإن الحراكين العملي والنظري للمثقف مشروعان 
يفترض كل منهما الآخر. وتكمن قيمة الأشكال الاحتجاجية في قدرتها على 
تفكيك مشروعية الأنظمة القائمة. فبوصفها تتحقق من خلال «حركة جماعية؛ 
بالمعنى الذي تستعمله أرندت. أي حركة سياسية بامتياز» فإنها تفضي إلى تأكّل 
المشروعيات القائمة وتساهم في إنتاج رأي عام قادر» إلى مدى معين» على أن 
يشكل سلطة مضادة. ويعد دور المثقف ضروريًا وأساسيًا لإعادة ة تشكيل الرأي 
العام من خلال الكلمة؛ فما نعنيه بنزع المشروعية هو إِذَا نوع من تضبيق قدرة 
السلطة القائمة على تبرير نفسهاء وعلى إنتاج المعنى. وإذا كان شكل الاحتجاج 
العملي يستهدف هذه السلطة من خلال استهداف مؤسساتهاء فإن الاحتجاج 
الفكري والأدبي والفني يستهدف. في الأساسء النفاذ إلى حقول إنتاج المعنى من 
خلال افتكاك الكلمة في المجال العمومى» ومناهضة المنظومة الرمزية والمعرفية 
للنظام الساكذة إن و جه فة ا ا الور ى تج مقار الور 
تحصل من خلال تحويل الشأن السياسي بالتدريج إلى شأن عام خارج خيارات 
السلطة القائمة. وأتاحت عولمة وسائل الاتصال» وتشكل فضاءات عمومية 


520 


كونية غير خاضعة لمراقبة النظم الاستبدادية» للمثقف هامشًا أوسع للسيطرة على 
المنظومات وصوغ الرموز» وعلى توجيه خطابه إلى الرأي العام. 

أدت وسائل الاتصال الحديثةء بدءًا بالقنوات الفضائية ووصولا إلى الشبكات 
الاجتماعية» دورًا مهما جدًا في فك العزلة عن الاحتجاجات المحلية في الدول 
العربية حتى تصبح احتجاجات وطنية» ثم إقليمية. فهي حوّلت الإحساس بالظلم 
من تجربة ذاتية إلى شأن عام» وتمكنت من السيطرة على الكلمة ومسارات تدفق 
الخطاب في عالم» كما يؤكد ذلك مانويل کاستلز» ما عاد فيه الفضاء العمومي 
فضاءً مكانيّاء إنما أصبح تدفعًا9". 


لم يكن دور المثقفين طلائعيًا في ما يبدوء لكن هذا لا يعني أنه لم يكن Legs‏ 
فأهم مساهمة للمثقفين هي العمل على مراكمة فكر تحرري على مدى أكثر من 
قرن» على الرغم من عثراته. فلا يوجد رايط سببي مباشر بين جهد المثقف نظريّاء 
وحتى عمليّاء وحوادث التغيير السياسي كما أشارت إلى ذلك إليزابيث سوزان 
كساب. ففي نظرهاء وهي على حق في هذا الأمر» وقع صوغ تصورات المطالب 
المعلنة في الثورات العربية الأخيرة بوساطة المفكرين العرب على مدى أعوام*» 
ولم تنشأ من فراغ. وهي في هذا لم تخرج عن حُكم عام لإدوارد سعيد الذي يقر 
أنه «لم يحدث أن قامت ثورة كبرى في التاريخ الحديث من دون مثقفين»*. 

إضافة إلى ذلك» كانت تجارب الانتقال الديمقراطى والعدالة الانتقالية في 
العالم» في الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية» موجهة بمقتضى مطالب حقوق 
الإنسان. وشهدت دول عدة؛ حاملة ثقافات متنوعة» تجارب من هذا القبيل؛ من 
إندونيسيا المسلمة في آسيا إلى دول أوروبا الشرقيةء فأميركا اللاتينية وبعض 
الدول الأفريقية» وصولاء أخيرًاء إلى المنطقة العربية. وفي هذا دلالة واضحة على 


Manuel Castells, The Information Age: Economy, Society and Culture, The Rise of the (19) 
Nenvork Society (New Jersey: Wiley-Blackwell, 1996), p. 378. 


Elizabeth Suzanne Kassab, «The Arab Quest for Freedom and Dignity: Have Arab Thinkers (20) 
Been Part of it ?,» Focus, no. 1 (2013), p. 34. 


(21) إدوارد سعیده المثقف والسلطة. ترجمة محمد عتانى (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع» 2006(« 
ص 42. 


521 


الطابع عبر الثقافي لهذه الحقوق. فنواتها الأخلاقية المعيارية تعطيها امتيازًا مقارنة 
بأي منظومة قانونية محلية. وبالفعل؛ فإن «حقوق الإنسان قد غدت نقطة مرجعية 
لعدد كبير من النضالات"** أفضى الكثير منهاء بما في ذلك في العالم العربي» إلى 
تجارب انتقال ديمقراطي وإن أجهض معظمها. 

إن تجارب الانتقال الديمقراطي والعدالة الانتقالية هي تجارب مفصلية 
تسمح بالتحول من وضعية التعامل مع حقوق الإنسان كمرجع لتحديد معنى 
الجورء ومن ثم مقاومته إلى وضعية تأسيس حقوق الإنسان كشرط قانوني لنظام 
سياسي ديمقراطي. والسؤال هو: ما دور المثقف. تحديدًا فى السياق العربى» 
ضمن هذا المسار الانتقالي؟ | | 


يبدو هذا الدور ملتبسًا التباس المواقع التي تحصن بها المثقفون أنفسهم. 
فمن جهة» تبدو إدانة أنظمة الاستبداد غير منفكة من إدانة مثقفي الاستبداد الذين 
احتكروا مدة طويلة حق إنتاج المعنى. فالفعل الدعائي للجور ليس أقل إثمّا من 
الفعل الجنائى» والمثقف المدافع عن الاستبداد ورجل القانون الذي يصوغ 
نصوصه بما يؤبد الدكتاتورية ليسا أقل عرضة للإدانة من السججان والجلاد. فمثل 
هذا الرهط من المثقفين ينبغي أن يكون مشمولا بتجربة الانتقال الديمقراطي» لأنه 
كان جزءًا من آلية القمع» أي جزءًا من ذاكرة كريهة. ومن جهة ثانية» يشكل عمل 
المثقف رافدًا لمنظومة الانتقال الديمقراطي على أكثر من مستوى: 

- أولهاء مستوى العمل على حفظ ذاكرة تجارب الجور تأصيلا لفكرة 
المسؤولية الفكرية والجماعية على حفظ الحريات» وشروعًا في تأسيس دولة 
القانون الديمقراطية وحقوق الإنسان» كضمان لعدم تكرار فظاعات الاستبداد. 
وتمثل سيرة السجن الذاتية التى أنتجهاء وفقًا لمقاربات مختلفة لكثير من المثقغير: 
الذين عانوا تجربة الجور مثل جيلبير نقاش في تونس أو أحمد المرزوقي في 
المغرب» شهادة حاسمة على واقع يكون الوعي بفظاعته أحد شروط عدم 
تكررها. وإنها شهادة حاسمة لا كونها عملية نقل تجربة معيشة فحسب. بل لأنها 


Anthony Tirado Chase, Human Righis, Revolution, and Reform in the Muslim World (Boulder, (22) 
CO: Lynne Rienner, 2012), p. 8. 


522 


تصدر عن مثقف» أي عن عقل» كما يرى نقاش» له القدرة على النفاذ إلى الذاكرة 
الإنسانية الكونية أيضاء ومن ثم على صوغ الفردي والخاص في ضوء المشترك 
محليًا وإنسانيًا. وبالفعل» ركزت تجارب عدة للعدالة الانتقالية في العالم» بما في 
ذلك في العالم العربيء لجانًا للحقيقة والعدالة والمصالحة. وتّبين تجربتًا المغرب 
وتونس أهمية حفظ الذاكرة؛ إذ كان المؤرخون ممثلين فى هيئة الحقيقة والكرامة 
التونسية» على الرغم من أن دور المثقف لم يكنء من الناحية المؤسسية خخصوصًا. 
فهذه الهيئات مكونة في معظمها من حقوقبين» بحكم تخصصاتهم؛ أو من بعض 
رموز النضال ضد الاستبداد. 

- ثانيهاء مستوى مساهمة المثقفين كمتخصصين قادرين على توظيف 
تكوينهم الأكاديمي في قضايا تقع في صلب الشأن السياسي. فالفيلسوف والمؤرخ 
ورجل القانون وعالم النفس والمتخصص بالعلوم السياسية والاجتماعية» وحتى 
عالم الدين» وغيرهم كثر» قادرون على توظيف معارفهم على نحو تطبيقي» أكان 
ضمن المجال المؤسسي» مثل الهيئات الحكومية وغير الحكومية المعنية بالانتقال 
الديمقراطي» أم في مجال النقاشات العامة. وإن قدرة المثقف على التموقع في 
ا و 
ما يعطي أحكامه أكثر موضوعية من الشخص الغارق في تعبات اليومى 
ويمكن أن تشكل هذه النظرة الموضوعية عامل استقرار في مسار ميزئه الكبرى 
هي الاضطراب. ولعل سياسة التخويف والتثبيط من الوضع الجديد التي تجد لها 
حجة في أزمات اليومي يمكن أن تكون مدخلا ملائمًا لعودة الاستبداد» في حين 
أن النظرة الاستشرافية توجهها الرهانات الكبرى. وما غياب المثقف عن عملية 
التحول الديمقراطى إلا تغييب للرهانات الكبرى لفائدة المشكلات العرضية. 
ولعل هذا ما وسم مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة في التغيرات السياسية الأخيرة 
في العالم العربي. 

ب- الشروط الذاتية 


دعا معظم الدراسات النقدية لدور المثقف العربى إلى ضرورة مراجعة 
التصور الذي يحمله هذا المثقف عن نفسه وعن وظيفته. فدور المثقف» بقطع 
النظر عن انتمائه» هو دور متحرك يجب أن يستجيب لطبيعة الديناميات التي تحكم 


523 


الواقع. ومثلت الثورة الاتصالية المعاصرة تحولًا تقئيًا جذريًا ليست له امتدادات 
في مستوى بنية الفضاء العمومي فحسب» بل في مستوى بنية المجتمع ومسارات 
المعرفة ومصادرها والاقتصاد والعلاقة بين الثقافات أيضًا. 

مع التغيرات الحاصلة في العالم العربي» ومع سقوط الأنظمة الحاكمة؛ بات 
yo Ji Of CE y‏ راو ا فت او ر 
استراتيجيات المقاومة» وليس بدلا منها. ويستلزم هذا الأمر حصول تحولات في 
مستوى البنية الذهنية للمثقف نفسه» وتصوره دوره وشبكة علاقاته» ولا سيما مع 
السياسي. ففي مرحلة مابعد كولونيالية» وفي الآن نفسه عولمية» تبرز فيها علامات 
تمرد على تابوات قديمة (بما فيها مفاهيم القومية والأمة)» يجب على المثقف 
العربي أن يطرح الأسئلة الآنية: ما معنى «امثقف» في عصر المعرفة المفتوحة؟ وما 
معنى عربي في عصر ماعد الهوية؟ وكيف لي أذ أجمع بين محليةالرهان وكونة 
القيم التي أدعو إليها؟ ألا تقئة تقتضي عملية تأسيس ثقافة ديمقراطية وحقوقية جديدة 
اليوم الانخراط في الشأن السياسي فعلّاء مواطنيًا وفكريًا في الوقت نفسه؟ وما هي 
}15 علاقتي الجديدة بوصفي مثقمًا بالسياسي؟ 


في خضم واقع معولم» يبدو أننا ما عدنا نعلم من يمتلك تحديدًا أدوات 
التغيير الاجتماعي. إنها شبكات ومؤسسات خفية الا سمء يعمل انطلاقًا منها 
رة بار جاورا قر میرک کیم ما مار ما ر مرن ر قا اا 
للمراقبة. وفي هذاء يصبح الدور النقدي للمثقف أكثر أهمية بوصفه قوة يجب أن 
تعمل من خلال هذه الشبكات كمتن اتصالي لا غنى عنه» وضدها في الوقت نفسه 
بالنظر إلى أنها آلية ناجعة لتميبع السّياسي وللتلاعب بالعقول. 

انتهى الامتياز الممنوح للمثقف بوصفه» وفق تعريف حليم بركات» منشغل 
بالنشر والتعبير وصوغ الرموز لغايات قصوى تشمل الفهم والمعرفة©. فكل هذا 
أصبح متاححا لقطاع واسع من الناس لا يعرّفون أنفسهم بالضرورة أنهم مثقفون. 
وفي عصر اختراق الفضاءات العمومية المحلية» يجب أن ينظر المثقف إلى دوره 
في مستوى إجرائي. فأولاء كيف يمكن لي بوصفي مثقمًا أن أساهم في تركيز 


(23) حليم بركات» «من هو المثقف؟»: ورقة مَُدّمة في ندوة: «المثقفون العرب: هوية ودور»» مركز 
الحوار العربي (واشتطن) (8 آذار/ مارس 2008). في: htip:/bit.ly/IRWZSgi.‏ 


524 


أن المثقف طرف في وضعيات نقاش لا حصر لها؛ فنص قصير يكتب عبر الشبكة 
هو اليوم أوسع تأثيرًا عند الجمهور من كتاب اعبقري». 


أدخل التطور التقاني جميع المجتمعات في عصر ما بعد التصور الجوهراني 
للهوية» وهو عصر أصبح من الضروري أن يقترن فيه الفعل المحلي الهادف 
للتغيير بالتفكير القادر على استلهام القيم الكونية وتجارب الآخرين. فلا عجب 
اليوم أن نعرض شيئًا من ملامح هذا العصر في ما يمكن أن نسميه انبثاق القوانين 
(0158656515ا1)» حيث يكون للتفاعل مع الأنظمة القانونية الدولية أو مع النقاشات 
التشريعية في سياقات دولية تأثير في المشرع المحلي؛ أي إن التشريعات المحلية 
لا تنبشق من إرادة E‏ كانت هذه الإرادة أو هذه التقاليد 
معزولة عما يحدث في مجتمعات وفي ثقافات أخرى. وهذا في الحقيقة شأن 
حقوق الإنسان اليوم. 


في هذا الإطار» ليس من الضروري أن يكون دور المثقف هو دور الوصي 
على المجتمع» أو دور «طبيب الحضارة» بالمعنى التهكمي الذي يستعمله نيتشه. 
إن دور المثقف اليوم هو ترسيخ قيم الفضاء التداولي الذي يسمح بتعامل الشأن 
السياسي وطرح القضايا الكبرى للأمة (بالمعنيين القُطري والقومي). إنه ليس 
شرطا آخر غير الشرط الإجرائ ئي للحرية حتى تصبح ثقافة» وفمًا لما ارتآه الكواكبي. 
فحينئذ فحسب» يمكن أن يُستعاد طرح مسألة حقوق الإنسان بما يتوافق مع توجه 
الفاعلين في هذا الفضاءء وليس بصيغة الإملاءات الخارجية. كما يجب على البنية 
الذهنية للمثقف المعاصر أن تتوافق مع أهمية هذا الدور ذي الطبيعة الإجرائية 
للمثقف. ما يحتم عليه» ضرورة: كثيرًا من التواضع في نظرته إلى نفسه» ويفرض 
علينا تواضعًا أكثر في ما يمكن أن ننتظره منه. 


ثالثا: ما الذى يجوز لنا أن نأمل فى شأن معوقات التغيير؟ 
مقارنة بثورات القرن الثامن عشر وما قبلها وما بعدها في أوروباء يبدو 


MG MET 


525 


اجتماعية جديدة ومعرفة جديدة ونمط إنتاج جديد. فالثورات التي قامت من أجل 
حقوق الإنسان والجمهورية (مرادف ذلك ما نسميه اليوم الديمقراطية)» وجدت 
لنفسها حاضنة اجتماعية ملائمة» وكان المثقفون المدافعون عن الثورة وعن قيمها 
يدافعون في الوقت نفسه عن نمط جديد من العلاقات» وهو في صدد التأسيس 

في ما وراء السياسيء أي في الاجتماعي والمعرفي والاقتصادي . ..إلخ. . صحيح 
أنه كانت هناك قوى محافظة عبّر عنها موقف بُورك من الثورة الفرنسية fee‏ لكن 
التغيير كان أعمق من قدرة هذه القوى على المواجهة. 


في العالم العربي» يبدو أن الفعل السياسي سبق تشكل هذه الحاضنة» لذلك 
فإن دور المثقف سيكون مختلمًا. فلحظة دخوله إلى الثورة هي لحظة دخوله إلى 
المواجهة مع أنماط التسلط السائدة ومع البنى الفكرية التي كرّسها هذا التسلطء 
والتي يقع المثقف نفسه تحت تأثيرها. إنه مطالب أن يفكر فيها من خارجهاء فينحو 
نحو ما هو كونيء لكن تحديده كمثقف عربي ينزله على نحو مسبق ضمن إطار 
هووي قد يمثل عبئًا له وليس ذلك بمعنى أن الهوية العربية عبء. لكن بمعنى أن 
الانخراط في ثقافة حقوق الإنسان الكونية المناهضة للاستبداد والتسلط من دون 
خلفية اجتماعية ومعرفية واقتصادية داعمة سيضعه على خط المواجهة الهووية 
التي يمكن أن تضيع استفادته من قوة التحرر والعدالة الكامنة في فكرة حقوق 
الإنسان؛ إذ ربما يجد نفسه مكرها على الاختيار بين هوية الانتماء وكونية الحق. 
لذلك فإن تعيينه هويته العربية ينبغي ألا يغيب عنه أن كانط أو روسو أو هبرماس» 
أو غيرهم» يمكن أن يكونوا في لحظة ما عربًا أيضًا كما كان أرسطو طوال قرون 
عربيًا. ففضيلة المثقف الحق هي أن يفكر كونيًا في وقت يتحرك فيه محليًا. 


تنا سابقًا كيف أن التجربة الدستورية في عشرينيات القرن الماضي لم تبلغ 
منتهى سعيها بسبب عوامل عدة» منها غياب بيئة اجتماعية حاضنة قادرة على 
تقبل براديغم قانوني جديد إنساني التوجه» أو تأثير ات عالم المصالح الدولية 
الاستعمارية. وفي الحقيقة» فإن هذه العوامل ليس بعضها بمعزل عن بعض. 

إن وجود طبقة سياسية فاسدة. من الناحية الاقتصادية» تعمل خارج إطار 
الشفافية» وتقايض سياسيًا مواردها الطبيعيةء وضعية ملائمة للدول المهيمنة 
اقتصاديًا وسياسيًا. وفي الوقت نفسه» يستفيد الاستبداد السياسي من البُنى 


526 


الاجتماعية التسلطية بالنظر إلى قدرته على الدخول فى تحالفات على أساس الولاء 
مع التشكيلات الطائفية أو القبلية والعشائرية أو المناطقية أو غيرهاء وفي الوقت 
نفسه» يعمل الذي يعوق مسارات ممكنة لاندماج اجتماعي على أساس المواطنة 
والحق» على تثبيت بنية بطري ركية» للمجتمع. ويستفيد الاستبداد في إدامة هذا كله 
من نسب تمدرس وتمدن متدنية» ومن السيطرة ة على المجتمع المدني الاقتصادي. 
élu 9‏ على ذلك. فإن المثقف الساعى إلى الاستفادة من حراك المجتمعات العربية 
على تفاوت مآلاته الممكنة من قطر إلى آخرء ليس مطاليًا بمواجهة أنظمة تسلطية 
فحسبء بل هو مطالب أيضًا بمواجهة بُنى اجتماعية ومعرفية واقتصادية تسلطية. 


لا يعني انبئاق تجارب الانتقال السياسي» منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانيةء 
مرورًا بالانتخابات الفلسطيئية» فالمغرب» ووصولا إلى تونسء بداية الديمقراطية 
کر وعبات و إا داه فار جب حبسي جره . وهذا يعطي للمثقف 
هامشًا واسعًا من الحرية قولا وفعلاء وينمّي فيه الحذر من أن كل انتكاسة قد تعني 
هلاك المسار بكامله. لذلك يجب تحديد المعوقات التى يتعين على المثقف من 
الآن وصاعدًا تفكيكهاء بالتزامن مع التقدم في تأسيس دولة القانون والديمقراطية. 
ويمكن رصد ثلاثة معوقات كبرى يجب أن يستهدفها هذا الجهد. 


1 - التفقير الثقافي 

نعنى به محدودية قدرات الفرد على النفاذ إلى مصادر المعرفة والمعلومة أو 
التصرف فيها أو الاستفادة منهاء أكان بفعل التحصيل العلمي المحدود أم الفقر 
المادي أم غياب الحريات الأكاديمية والمعرفية. ويؤدي هذاء من بين نتائج أخرى» 
إلى نوع من الأفق الضيق في التعامل مع المخزون الرمزي والفكري للتراث» وعدم 
القدرة على إثرائه أو الاستفادة منه أو تحويله إلى آلية تنمية. 

تنتج وضعية الفقر الثقافي معوقات تحول دون قدرة الفرد على التواصل 
مع الآخرين» ومن ثم لا تحرمه إمكانات ضرورية لتنمية شخصيته والمشاركة 
في الشأن العام فحسبء بل تحرمه أيضًا حتى القدرة على التعبير عن وضعية 
الجور التي يعيشها. وتثير ميراندا فريكر في سياق بحوثها النسوية مسألة «الجور 


527 


الهرمينوطيقي“* الذي يعني قصور ضحايا تجارب الجور عن استحضار المعجم 
الضروري القادر على وصف تجاربها يسبب محدودية مواردها المعرفية. إنه فعلا 
شبيه بوضع شرائح واسعة من المواطنين في المجتمعات العربية من الذين لا 
يستطيعون وصف بؤسهم» فضلا عن القدرة على التطلع إلى واقع مغاير ومفهمته 
بتأثير من هذا التفقير الثقافي. 

يصبح هؤلاء عرضة لتأثير عميق من مثقفي السلطة وعلمائها بفتاواهم 
السياسية والدينية. ولن يكون بإمكانهم التعامل po LA‏ الخطابات السائدة 
والرسمية» أو حتى مع ترائهم الفكري والفقهي. بل لنا أن نزعم أن ما يسميه برهان 
غليون «التوظيف التبريري للتراث لدى الليبراليين ولدى الماركسيين» يتنزل في 
هذا الفراغ النقدي الذي تركه الفقر الثقافي» مع ما يعنيه ذلك من خطورة تحويل 
الثقافة إلى أيديولوجيا**. وتعد هذه الشروط مقدمات لإزاحة النقاش في شأن 
حقوق الإنسان من السؤال الإجرائي «ما هي المنظومة القانونية القادرة على حماية 
الفرد من الجور؟» إلى سؤال في شأن الهوية اهل يمكن تبرير حقوق الإنسان من 
داخل ثقافتنا؟»» مع ما يعنيه ذلك من تبرير للنسبية الثقافية ينتهي حتمًا إلى إفراغ 
هذه الحقوق من قيمتها. ففي تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس وفي مصر 
وغيرهماء ch‏ فجأة السؤال في شأن الهويةء ما أدى إلى استبعاد القضايا الأساسية 
التي أفضت إلى قيام الثورات. ثم ما فتئ المجتمع السياسي بعد ذلك أن انقسم 
وفمًا لهذا السؤال نفسه بطريقة يقة جعلت مسار التحول نحو الإخفاق أو مهددًا به. وقد 
يكون السؤال مفتعلاء لكن من المؤكد أنه ما زال يجد الشروط الملائمة لطرحه. 


ae SL 


من دون العمل على وضع + Li‏ للعدالة الاجتماعية u‏ ا 
تُعطى فيه الأولوية للعمل كمنتج للثروة» وتجري فيه مراجعة قيمة الفرد بوصفه ذانًا 


Miranda Fricker, Epistemic Injustice: Power and the Ethics of Knowing (New York: Oxford (24) 
University Press, 2007), p. 147. 


(25) برهان غليون» مجتمع النخبة (بيروت: معهد الإنماء العربي» 1986( 0 156-155. 


528 


مستقلة. وقد هيمنت البنية البطريركية على المجتمعات العربية بتأثير من التقاليد 
الذكورية» ومن استمرار نفوذ التشكيلات الاجتماعية الوسيطة» كالقبيلة والعشيرة 
والطائفة» على الرغم من التغيرات الديموغرافية والاقتصادية التي عرفها العالم 
العربي. فالمرحلة الاستعمارية» ثم مرحلة تكوين الدولة الحديثة في دول عربية 
عدة» ثم عولمة المبادلات التجارية» لم تؤدّ إلى اهتزاز أسس هذه البنية كما اهتزت 
في أوروبا مع تقدم النظام الرأسمالي والنزعة الفردانية» إنما تمكنت هذه البنية من 
التكيف مع «الحداثة» لتأخذ شكل بطريركية حديثة يسميها هشام شرابي أيضًا 
لانيوبطريركية». 


لم فض عملية التحديث في المجتمعات العربية منذ عصر النهضة إلا إلى 
حداثة مشوهة. صحيح أن شرابي يُرجع ديمومة البنى البطريركية بصيغة جديدة إلى 
ظهور نظام رأسمالي مشوه وهامشي أفرز طبقة هجينة من البرجوازية الجديدة؛ 
سرعان ما سيطرت على المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية» وأدت دور 
السلطة البطريركية”©». لكن» حتى مع الاعتراض على هذا التحليل الواقع بين 
الماركسية والفيبرية» فإنه لا يمكن أن ننفيّ إخفاق مشروعات التحديث في العالم 
العربي؛ مع هيمنة الاقتصادات الريعية وبقاء القطاعات الاقتصادية والاجتماعية 
والسياسية خارج إطار العقلنة. 


يتوقف برهان غليون عند هذه المعضلة نفسهاء ويحاول أن يربطها بتموقع 
المثقفين اجتماعيًا وسياسيًا. فالمحافظة الذهنية مثّلت في نظره سببًا لإخفاق 
التحرر العقلي ثم السياسيء لأن عملية التحديث المزعومة «لم تمس حياة الفرد 
والجماعة»*» ولم تكن العقلنة أكثر من تبرير لوضع الاستلاب الثقافي. وإن ما 
يواجهه مثقف عربى مسكون بهاجس الانتصار لثقافة حقوق الإنسان ليس واقعًا 
سياسيًا جائرًا فحسبء إنما أيضًا شبكة من العلاقات ضمن العالم المعيش هي 
خارجة على نحو مثير للقلق عن سياق الإيمان بالعقل وبالشخص بوصفه فردا. 


Hisham Sharabi, Neopatriarchy: À Theory of Distorted Change in Arab Society (New York: (26) 
Oxford University Press, 1988), p. 4. 


Ibid, p. 6. ` (27) 
.9 غليون» ص‎ )28( 


إن كل براديغم قانوني هو جزء من براديغم اجتماعي شامل. ومهما كان 
التفاعل مع الثقافات الأخرى مُنتجاء فإن غياب بيئة قادرة على التعامل مع حقوق 
الإنسان» ليس فحسب كمطلب موقت لمواجهة الجورء إنما كخيار ثقافي يتغذى 
من الإيمان بقيمة الشخص» ستفرض ضغوطا على عمل المثقف في هذا المجال. 
وستظل الثورات العربية في نجاحاتهاء وفي عثراتها أيضًاء ثورات غير مكتملة إن لم 
تمتد وتتحول إلى تفكيك لبنية اجتماعية متسلطة. وليس هذا الأمر من قبيل الدعوة 
إلى اليأس؛ إذ واصلت المجتمعات الغربية نسق تحولاتها العميقة عقودًا عدة بعد 
ثوراتها وتحولاتها الديمقراطية. ففي فرنسا مثلاء لم تُفتتح الجامعات أمام المرأة 
إلا بعد قرن تقريبًا من الثورة» ولم تنل المرأة حقها المواطني في الانتخاب إلا في 
منتصف القرن الماضي. وهذا الواقع يجعل المثقف تجاه مسؤوليات جديدة» ليس 
أقلها أن يتحرر هو نفسه من ضغط البيئة التي أنتجته» وهذا أمر غير متاح أو سهل. 


3- منظومة العلاقات الدولية القائمة 


منذ نشوء الدول الأمم في إثر معاهدة وستفالياء أصبح ثمة مفهوم سائد يحكم 
العلاقة بينهاء هو مفهوم المصلحة القومية. وفي عصرنا الراهن» حيث أصبحت 
سيادة الدول مخترقة بنفوذ الشركات الكبرى والدول التي تنتمي إليهاء أصبحت 
المصلحة القومية ذات دلالة اقتصادية أساسًا. لكن» ضمن عالم مهيكل وفقًا 
لعلاقات قوة اقتصادية وعسكرية ومعرفية غير متكافئة» هل يمكن أن تمثل مطالب 
حقوق الإنسان مسألة ذات أولوية؟ 

أكدنا سابقًا الأداتية السياسية في التعامل مع مسألة حقوق الإنسان» خصوصًا 
عندما يتعلق الأمر بممارسات الكيان الإسرائيلى. فحقوق الإنسان تبدو أداة ضغط 
سياسي أكثر مما تعكس طموحًا نحو العدالة والحرية. وثبت هذا الأمر مجددًا 
من خلال الفتور الذي ميّز تقبل الدول الغربية للثورات العربية. فتجربة الانتقال 
الديمقراطي بما تضمنته من تلكؤ في تعامل بعض الدول مع مسألة الأموال المهرّبة 
والفساد المالي» ومن اعتراض عن التخلي عن الديون القديمة» بل وإغراق السلطة 
الجديدة بديون متزايدة» يكشف عن أولويات الدول في تعاملها مع حركة التحرر 
في العالم العربي. وكانت الأنظمة الاستبدادية في العالم؛ دائمّاء جزءًا من نظام 


530 


دولي جائر. فالمشروعية التي تستمدها من الاعتراف الخارجي بها كانت كافية 
بالنسبة إليها لاستغلال مواردها الطبيعية ومصادر ثروتهاء والتفويت فيها من دون 
إخضاع ذلك كله لرقابة ديمقراطية» وكذلك كانت قوانين العمل والتشغيل المتدني 
الأجر وغياب النقابات من شروط الاستثمار في هذه الدول. لذلك» فإن تأبيد هذه 
الأنظمة هو ضرورة بالنسبة إلى اقتصاد معولم يريد الاستفادة من الموارد الطبيعية 
والبشرية بأقل الأثمان. 

إضافة إلى العدو الداخلي المتمثل في الجهل وبضروب التسلط الاجتماعي 
والاقتصادي» ثمة عدو خارجي على المثقف مواجهته» وهو الكل المركب من 
سلطة رأس المال العالمي والنفوذ الإمبراطوري الجديد. على أن العلاقة بين هذه 
القوى الداخلية والخارجية لا تبدو خافية. وتبدو جبهات الطغيان عنيدة بقدر ما 
هي متنوعة ومتشابكة في ما بينها. فهل يستطيع المثقف. وهو المتأثر حتمًا بهذه 
القوى» أن يقود عملية تغيير حقيقية؟ 

يبدو أننا ينبغي أن نتصف» في نظرتنا إلى المثقف وفي نظرة المثقف إلى 
نفسه» بشيء من التواضع. فإذا كنا تتحدث عن صورة المثقف الفرد المستقل» 
فالجواب هو حتمًا بالنفي؛ ذلك أن العمل الوحيد الذي يمكن أن يكون فاعلًا وأن 
يترك شيئًا من أثر فى مسار التغير الاجتماعي هو عمل المؤسسات: المؤسسات 
البحثية والأكاديمية» والمؤسسات السياسية... وغيرها؛ الأمر الذي يعني إعطاء 
قيمة للعلوم الإنسانية في مستوى البحث العلمي الجامعيء لا بوصفها معارف 
نظرية فحسب» بل بوصفها معارف مطبقة على أنوع عدة من النشاط الإنساني أيضا. 
وعلى الرغم من ذلك» تظل للتغيير الاجتماعي شروطه التي لا ترسمها بالضرورة 
مراكز البحث» أو حتى المؤسسات السياسية. فقيمة هذه المؤسسات البحثية التي 
هي الموطن الأساسي للمثقف اليوم هيء أساسّاء في القدرة على تشخيص أزمات 
الواقع وصوغ موضوعات النقاش وتحديد المسائل ذات الأولوية» وغاية ما يجوز 
لنا أن نأمل إِذًا هو ليس نجاح المثقفين في قيادة مرحلة ما بعد الثورة نحو الأنموذج 
السياسي والاجتماعي الأفضل وتقديم حلول بطريقة فوقية» إنما التزامهم بوضع 
أسس فضاء عمومي تداولي مفتوح والمساهمة فيه. 


531 


خاتمة 


لم تكن حقوق الإنسان» بوصفها لائحة قانونية أو منظومة حقوقية مرجعية» 
حاضرة على نحو نسقي في خلال عصر النهضة وإلى حدود منتصف القرن 
العشرين» لكن هذا لا يعني أن الفكر السياسى العربى ألغاها تمامًا من مجال 
اهتمامه. على العكس من ذلك» كانت مبادئ الحرية والعدالة التي تمثل النواة 
المعيارية لمنظومة حقوق الإنسان في مركز اهتمام معظم المثقفين العرب المعنيين 
بالفكر السياسي على اختلاف توجهاتهم. 

إن إخفاق المثقفين في تغيبر واقع الجور نحو نظام سياسي يحترم حقوق 
الإنسان يعود إلى عوامل عدة» بعضها ذاتي مرتبط بوظيفة المثقف وبحدود 
مستطاعه. فالمثقف يُشخص أزمة الواقع» ويسعى إلى نقل تجربة الجور حتى 
تمثل ضمن وعي جمعي كذاكرة يجب القطع تجاهها. أما عملية التغيير» فهي 
وظيفة الأشخاص أنفسهم الذين تراكم عتدهم هذا الوعي بضرورة التخير؛ على 
أن المثققين العرب» في مجال حقو ق الإنسان» لم يراكموا معارف نظرية وحركات 
عملية على نحو ملحوظ إلا في النصف الثاني من القرن العشرين» وكانت الثورات 
العربية إحدى ثمرات هذه المراكمة. 0 

أحدثت الثورات العربية واقعًا سياسيًا جديدًاء لكنها لم تفكك بعد بنية التسلط 
النافذة في ما وراء السياسي. لذلكء؛ فإن المثقف العربي المطالب بالتحوّل من 
«مرحلة المراكمة إلى مرحلة الإنتاج“*» مدعو إلى التعامل فكريًا وعمليًا مع هذه 
البنى التسلطية بتحليل ينبغي أن تفي به العلوم الاجتماعية» ولا سيماعلم الاجتماع 
وعلم النفس الاجتماعي والعلوم السياسية... وغيرها. أما مسألة التغيير» فتبقى 
رهينة الصراع بين قوى مختلفة» وما المثقف إلا أحد أطرافها. 


els‏ على ذلك «als‏ يجب على المثقفين العرب» في نقدهم الذاتي وفي 
تر انيع دوقم أن ا ا أولاء | إن جهدهم لم يكن إخفاقًا 
TT‏ 


(29) المرجع نفسه» ص 143. 


AS‏ إن المثقفين ليسوا العنصر الأكثر تأثيرًا في سيرورات الواقع» في الأقل في 
ما يتعلق بالتأثير المباشر» ما يعني ضرورة التواضع في تحديد مستطاعهم؛ كما 
هو الشأن في تحديد مسؤولياتهم. ولعل أهم مسؤولية اليوم بالنسبة إلى المثقف 
العربي في ضوء تطور وسائل الاتصالء الالتزام بتثبيت بنية فضاء عمومي تداولي 
مفتوح» يكون فيه المثقف أحد فاعليه بعيدًا عن كل وصاية نخبوية. 


المراجع 


1- العربية 
أبو زيدء نصر حامد. «حقوق الإنسان بين العالمية والنسبية الثقافية: البحث 
عن حقوق الإنسان في الإسلام». في: غانم جوادء وآخرون. الحق قديم. 
سلسلة مناظرات حقوق الإنسان 8. القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق 
الإنسان» 4 في: http://bit.ly/1QRjHon.‏ 
بركات» حليم. «من هو المثقف؟». ورقة مُقَدّمة في ندوة: «المثقفون العرب: هوية 
ودورا. مركز الحوار العربي (واشنطن) (8 آذار/ مارس 2008(« في: 
http:/bit.ly/1RWZSgi.‏ 
التونسي» خير الدين. أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك. سلسلة في الفكر 
النهضوي الإسلامي. بيروت: دار الكتاب اللبناني» والقاهرة: دار الكتاب 


المصري»› 2012. 
حربء علي. أوهام النخبة أو نقد المثقف. ط 3. بيروت/ الدار البيضاء: المركز 
الثقافي العربى» 2004. 


سعيد» إدوارد. المثقف والسلطة. ترجمة محمد عنانى. القاهرة: رؤية للنشر 
والتوزيع» 2006. 

السيدء أحمد لطفى. مبادئ فى السياسة والأدب والاجتماع. القاهرة: دار الهلال» 
1963. 


سيف الدولة عصمت. عن العروبة والإسلام». صوت العرب. (تموز/ يوليو 
2010(. 

شرابي» هشام. المثقفون العرب والغرب: عصر النهضةء 1914-1875. ط 2. 
بيروت: دار النهار للنشر» 1981. 

غليون» برهان. مجتمع النخبة. بيروت: معهد الإنماء العربي؛ 1986. 

قطب» سيد. معالم في الطريق. بيروت/ القاهرة: دار الشروق» 1979. 

الكواكبي. عبد الرحمن. طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. القاهرة: كلمات 
عربية للترجمة والنشرء 2011. 

مناع» هيثم. احقوق الإنسان في العالم العربي: مقدمة تاريخية». احترام (المجلة 
السودانية لثقافة حقوق الإنسان وقضايا التعدد الثقافى). العدد 6 (تشرين 
الثاني/ نوفمبر - كانون الأول/ ديسمبر 2007)» في: .كناءلهط/نرا6ط//نصتط 


منيف» عبد الرحمن. الآن... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى. ط 6. بيروت/ 
الدار البيضاء: المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ المركز الثقافى العربى» 
2007. 


5 الكاتب والمنفى. ط 4. بيروت/ الدار البيضاء: المؤسسة العربية 
للدراسات والنشر/ والمركز الثقافى co‏ 2007. 
2- الأجنبية 
Castells, Manuel. The Information Age: Economy, Society and Culture, The Rise of‏ 


the Network Society. New Jersey: Wiley-Blackwell, 1996. 


Chase, Anthony Tirado. Human Rights, Revolution, and Reform in the Muslim World. 
Boulder, CO: Lynne Rienner, 2012. 


Fricker, Miranda. Epistemic Injustice: Power and the Ethics of Knowing. New York: 
Oxford University Press, 2007. 


Honneth, Axel. La Lutte pour la reconnaissance. Paris: Cerf, 2000. 


Kassab, Elizabeth Suzanne. «The Arab Quest for Freedom and Dignity: Have Arab 
Thinkers Been Part of it?.» Focus. no. 1 (2013). 


Sharabi, Hisham. Neopatriarchy: À Theory of Distorted Change in Arab Society. New 
York: Oxford University Press, 1988. 


534 


أدوار المثقف العربي في العصر الرقمي والشبكي 


عن دور المثقف الشبكي في عصر المعلومات 
ملاحظات وآفاق 


نديم منصوري 


لا جدال فى أن التحولات الكبرى فى المجتمعات تخلخل الآراء والمواقف 
والأحكام والتصورات. وكان العالم قد شهد ثورة اتصالية منذ أواخر ثمانينيات 
القرن الماضيء ما فتئت تداعياتها تبلغ مختلف أوجه الحياة الإنسانية» السياسية 
والاقتصادية والثقافية والفكرية والدينية منهاء وفي المجتمع ككل. واستطاعت أن 
تفعل فعلها في البشر وتغيّر الكثير من مجريات حياتهم» وتخلّف وراءها الكثير 
من الدهشة» وصوغ أسئلة أساسية وملحة. وبقدر ما فتحت هذه الثورة الاتصالية 
آفاقًا رحبة أمام كل راغب في الاستفادة والإفادة منهاء أفرزت أيضًا مظاهر جديدة 
والكثير من الاستخدامات السلبية المضرة بالمجتمع وقيمه. 


لكن لضمان التوازن الضروري في المجتمع؛ ولتأكيد الاستخدامات 
الإيجابية للتقانة وتطبيقاتهاء كان من اللازم على المثقفين والمفكرين وضع 
أطر تنظيمية جديدة تحمى المستخدمين والمتهافتين على هذه التقانة» ورصد 
المتغيرات المستجدة والناتجة منها لتفسيرهاء و«أقلمة» المفاهيم القديمة منهاء 
قصد الاستجابة لمقتضيات الواقع الجديد الذي أفرزته الثورة الاتصالية؛ إضافة 
إلى وضع السياسات والاستراتيجيات من خلال المؤتمرات والندوات والورش» 
للوصول إلى أعلى درجات الفهم والتفسير من جهة» وصوغ الحلول المجدية 
والعملية للمشكلات الناتجة من الاستخدام التقاني. 


537 


في خضم هذه المعمعة» بدأت الأنظار تتوجه إلى أدوار المفكرين والمثقفين 
وقدرتهم في تفسير ما يجري» وفي رصد المتغيرات المتسارعة التي لم يشهد 
مثلها الإنسان من قبل؛ وبدأت الأسئلة تُطرح في شأن قدرة المثقفين والمفكرين 
والدارسين في فهم التغير الهائل الحاصل في فترات وجيزة. وتكمن المشكلة 
الأساسية وراء تفسير الواة قع التقاني الحديث من لذن بعض المثقفين» في أنه تفسير 
يتجاهل اتغير المهم الذي طرأعلى مفهوتي الزمان والمكان؛ فجرى الأنتقال من 
مفهوم الوجود الفعلي المتداول إلى مفهوم الوجود الافتراضي الأكثر تعقيدًا 
والأصعب حصرًا وإثبانًا. 


إن الشبكة العنكبوتية إطار عمومى» بل عالمى» تتشابك فيه علاقات خاصة. 
من رسائل ومبادلات تجارية ومواقف سياسية واحتجاجات ثورية وتلاقح أفكار 
وقيم حضارية DR Mere te‏ 
يأبى التحديد؛ فهل من يفسره؟ , بتعبير آخر» دأب الإنسان للسيطرة على أمور الحياة 
وإخضاعها لسلطانه؛ فهل يتسنى له الإحاطة بهذه الظاهرة وتنظيمها؟ أم إنها تبقى 
عصية على التقنين» ضنينة على التقييد؟ 

إن المجالات التقانية هي مجالات متحركة متحولة» بوصفها لصيقة بنسق 
حياة البشر التي غزتها الثورة الاتصالية. . وتفرض هذه الكتولات في مجالات 
الحياة مواكبة تفسيرية متواصلة بهدف التنظيم والتقنين؛ فمجتمع المعلومات» 
أو «المجتمع الافتراضي»“ (Communauté virtuelle)‏ الذي يفرض حضوره بنسق 
تصاعدي في عالم اليوم» هو «مجتمع شبكي! فادادة» acts (Société‏ شبكة 
العنكبوت» يتشابك في ما بينه» ويرتبط عبر شبكة الإنترنت» ويتواصل عن بعد 
عبر نظم تواصل جماعية» يستوطن «فضاءً سيبرانيًا J'3>5 (Cyberespace)‏ تحوّل مع مرور 
الأيام إلى مسكن للجماعات الافتراضية. إن هذا المجتمع الافتراضي الذي يقوم 
وينهض في الإنترنت وفي الفضائيات التلفزيونية الرقمية والهواتف الجوالة من 
الجيل الثالث» يحتاج إلى من يؤطره ويفسره. فهو وليد التقانة الرقمية» حيث يمثل 
أكبر شبكة مجتمعية عبر تاريخ البشرية» تتنوع تركيبته من الأفراد إلى المؤسسات 


Howard Rheingold, 7ıe Virtual : Bi . A xl) 55 38 | أوّل من استخدم هذا‎ )1( 
Community: Finding Connection in a Computerised World (Boston: MA: Addision-Wesley Longman 
Publishing, 1994), at: http://bit.ly/1 VFyluf. 


538 


والمنظمات؛ يتغير ويتبدل» وهو دائمًا في نمو وتوسع مستمرينء ما يتطلب تطورًا 
متزامنًا من لذن المثقفين في أفكارهم» وفي مواكبتهم المتغيرات. 

إن السمة الأساسية التي تطبع المجتمع الحديث هي قدرته على أن يصل 
شبكات مجتمعية أخرى ضمن حركة الأقمار الاصطناعية التي تتزاحم في الفضاء 
لتصل الأفراد في ما بينهم على أرض المعمورة في لمح البصرء بل في سرعة البرق. 
والمجتمع الافتراضي» في بعد آخر من أبعاده» مجتمع متعدد الوسائط يتسم بوفرة 

يجعلنا هذا الوجود للمجتمع الافتراضي نوافق على التحليل القائل بولادة 
«المدينة الافتراضية of Past‏ «الدولة الافتراضية» كما عرضناها في كتابنا 
سوسيولوجيا الإنترنت3) التي (المدينة أو الدولة) تتنو تتنوع بتنوع اللقاء الافتراضي 
المعتمد في عملية الاتصال والتواصل الافتراضي الخارق للواقع» القائم على 
«اللامادة» و«اللازمان» و(اللامكان»» والمستمد من التفاعلية (6الاناعممام1)» 
بوصفها تمنح امتياز التفاعل والاختيار الحر. 

بدأت الأجيال الشابة تتفاعل مع الإنترنت» ومن ثم مع المجتمعات الافتراضية 
والعناصر المكوّنة لهذه المجتمعات والتجمعات التي تتضمن : الاتصال والتقنيات 
والعلاقات والمصالح المتبادلة والرموز والاتفاقات المشتركة والإجراءات 
والقواعد والنظم المتعددة والعلاقات المتداخلة les‏ وهذه العناصر موجودة 
أيضًا في المجتمعات الإنسانية الطبيعية بهذا التداخل نفسه تقر Là‏ . ومن ثم أوجد 
ااا ائات هان ا ا ا 2 
جديدًا من = «الفردي - الجماعي» أو «الفرد -الإنترنتي»» بوصفه كينونة حياة 
رقمية في مجتمع الإنترنت. وانتقلت بذلك الظاهرة الاجتماعية (التي هي موضوع 
علم الاجتماع)» de‏ ثقافية أم اقتصادية أم سلوكية» من تمثلاتها في المجتمع 
الطبيعي إلى تمثلاتها رقميًا أو آليًا أوصناعيًا. ومن ثم» تحول الفرد إلى إنسان جديد 


Dan Schiller, «Internet happé par les spéculateurs,» Le Monde diplomatique (Février 2000), p. (2) 
51. 


(3) نديم منصوريء سوسيولوجيا الإنترنت (بيروت: متتدى المعارف. 2014). 
(4) جوهر الجموسيء الثقافة الافتراضية (تونس: الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسمء 
6 )ص 260-59 


يحمل خصائص التقانة الرقمية في عقله وجسمه وسلوكه؛ كما تغيرت مكوّنات 
هويته وطبيعة انتماءاته. وهو ما يحدد - بحسب رأي عدد من علماء علم الاجتماع 
السيبراني - تطوره الحضاري مستقبلاء بعد أن أصبحت الحياة الاجتماعية -أو 
جزء منها في الأقل - حياة رقمية على الإنترنت في الفضاء السيبراني. 


تحول هذا الفضاء إلى مجال جاذب تتنافس فيه أطراف عدة» لتأسيس أحكام 
وتصورات وذهنيات جديدة» وكسب عقول الشباب» وتسويق رؤى ذات أهداف 
ثقافية واقتصادية وسياسية محددة. ومن ثمء تتمحور مشكلتنا البحثية في الإجابة 

عن السؤال الرئيس الآتي: ما الدور الذي ينبغي أن يقوم به المثقف الشبكي 
لمواجهة تحديات عصر المعلومات؟ وتتفرع عن هذا السؤال أسئلة فرعية عدة: 
من هو المثقف الشبكى؟ وما أنواعه؟ وما هى التحديات التى تواجه المثقف 
الشبكي عصر المعلومات؟ وما دور المثقف الشبكي في مواجهة تحديات عصر 
المعلومات» وفي رسم سياسات عملية للحفاظ على الهوية المحلية وعدم الذوبان 
في الهوية العالمية؟ 


يهدف هذا البحث إِذا إلى وضع تصور في شأن تأثير الشبكة العنكبوتية في 
حياة أفراد المجتمع» وتوضيح دور المثقف الشبكي في مواجهة تحديات عصر 
المعلومات؛ فدور المثقف الشبكي ما عاد دورًا ثانويًا وهامشيّاء بل بات وجوده 
ضرورة للتفسير والتحليل والتنظيم ورسم الآفاق وإيجاد الحلول ووضع الآليات 
التي تجعل الوجود الافتراضي للفرد الإنترنتي وجودًا منظمًا متناسقًا متكافًا مع 
أي مجتمع من المجتمعات الأخرى من جهة» ويجعل الفرد الإنساني فردًا محصنًا 
من التأثيرات السلبية لاستخدامات التقانة» مثل الهيمنة والتجسس والانحراف 
والجريمة الإلكترونية» من جهة أخرى. 


أولًّا: المثقف الشبكى وأنواعه 


1 - المثقف الشبكي والمثقف اللاشبكو 


مستخدم الشبكة البسيط؛ وهو ليس مستهلكا خدماتها فحسبء يجوب الفضاء 


السيبراني من دون أي إضافة علمية أو أي إنتاج معرفي جديد. بل المثقف الشبكي 


540 


هو المستخدم المنتج في الشبكة» المؤثر في أفرادهاء والمُغني في محتواها. 
وهو يضطلع بذلك بأدوار متنوعة؛ إذ لا يستطيع هذا المثقف الشبكي أن يبلغ 
بجهده المنصات الإلكترونية كلهاء بل هو متنوع التخصصات والنشاط» ومتعدد 
المجالات والوظائف. ما يجعله منظرًا ومنظمًا ومسيطرّاء ولا سيما مع تفاعل 
المستهلكين معه في الشبكة. 

كما أن المثقف الشبكى هو المثقف الذي يدرك التغيير الكبير الذي شهدته 
مجتمعات مابعد الحداثة المبنية على الانتقال الفائق السرعة الذي يسميه جورج 
غيرفيتش «تكثيف الزمنية» (©)(6انالدمصه ھا de‏ Laconcentration)؟‏ وهو المثقف 
الذي يفهم الإدراك الثقافي الجديد للزمن» والذي يقاس بالجزء من الثانية؛ وهو 
الذي يدرك أن عصر المعلومات ساهم في تخ تغيّر الزمن من خلال الاعتماد على 
السرعة في الاتصالية المعرفية» وفي تخزين المعلومات» وفي تكديس الصور 
المرئية والمعلومات المعرفية والإحصاءات والإنجازات العلمية بكم هائل؛ 
وهو المثقف الذي يدرك أيضًا اختزال المكان. وجعل البعيد في متناول أيديناء 
نشاهده ونتواصل came‏ حيث أصبحت «يُعدًا) مرتبطا يكثير من نشاط المثقف 
الشبكي وأدواره» مثل عقد المؤتمرات عن بُعد» والتداول عن بُعد» والتعامل مع 
المصارف عن بُعد» والتعلم عن بُعدء وتشخيص الأمراض عن بُعد» والتسوق عن 

بيد أن دور المثقف الشيكي لا ينحصر في تفسير ال اعن يُعد» وانعكاساته في 
المجتمع الواقعي فحسب» بل في تفسير «مابعد» بوصفه مجتمع مابعد الحداثة 

في À‏ مجتمع المعلومات والاتصالء وأّر تقانة الإنترنت ووسائطها. تمامًا كما 
فعل هربرت ماركوزه في كتابه الإنسان ذو البُعد الواحد» الذي حاول فيه تعرية 
الحقيقة الكامنة وراء وسائط التواصل الجماهيري والتقانة الجديدة للاتصال في 
توحيد مواقف وعادات مفروضةء وردات فعل فكرية وانفعالية» نكيف بدورها 


الناس وتصنع وعيهم الزائف. 


Georges Gurvitch, La Vocation de la Sociologie (Paris: Presses Universitaires de France, 1962), (5) 
p. 25. 


Herbert Marcuse, L'Homme Unidimensionnel: Essai sur l'idéologie de la société industrielle (6) 
avancée (Paris: Editions de Minuit, 1968), p. 22. 


541 


يتشابك دور المثقف الشبكي ويتعقد؛ إذ إن لكل فرد ينتمي إلى مجتمع 
المعلومات الحق في حرية الرأي والتعبين تمامًا كما ورد فى المادة التاسعة عشرة 
من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان”» التى تتبنى الآراء من دون أي تدخل من 
أي كان» وحرية استقاء المعلومات والأفكار وإذاعتها بأي وسيلة كانت من دون 
التقيد بالحدود الجغرافية؛ الأمر الذي يبرز فاعلين جددًا في الثقافة والمجتمعء 
يصل بعضهم إلى حدود المثقف الشبكي» وييقى كثير منهم متطفاًا ومستهلكاء أو 

في أفضل الأحوال متفاعلا مع ما يُنقل على الشبكة؛ أو ما نستطيع تسميتهم 
«المستخد مين الشبكيين». 

فى مقابل هذا المثقف الشبكىء نجد مثقمًا آخر هو «المثقف اللاشبكي؛». أو 
المثقف الكلاسيكى الذي يمتلك مخزونًا كبيرًا من المعرفة؛ بيد أنها معرفة مثقلة 
بالتاريخ والحركة البطيئة . فالثقافة والمثقف» كلاهما منتوج تاريخي» يصنعه الزمن 
والمكان» أي الفضاء الإنساني. غير أن «السرعة» الفائقة التي شهدها العالم في 
الفترة الزمنية القصيرة الأخيرة» ومن فرط تأثير وتيرة التحولات الناتجة من هذا 
الحراك المتسارع بشكل غير مسبوق» أصبح المثقف «الكلاسيكي» لا يتماشى مع 
سرعة العصر؛ لا لأنه يرفض أن يسابق الزمن وأن يتماشى مع الواقع» لكن لأنه لم 
يستطع دائمًا أن يكون على وتيرة سرعة هذا التحول وهذا التطور. ويعود سبب 
ذلك إلى طبيعة التركيبة البنيوية لذهنية المثقف نفسه؛ فالمثقف ليس أنموذجًا 
نمطيًا واحدًا. وعلى هذا الأساسء نلاحظ أن المثقفين ليسوا مبرمجين دائمًا على 
معدل سرعة التطور والتغير والمواكبة. وربما ينتج من ذلك فجوة بين المثقفين» 
شبكيين وغير شبكيين» وعقبة أساسية تتمثل بين الجيل والزمن؛ الجيل الأول 
والثاني والثالث» والزمن السريع والأسرع والفائق السرعة. 

من هناء فإن الجيل الأول الذي يمتلك معارف وعلومًا وخبرات في مدة زمنية 
محددة» ما عاد هو نفسه الجيل الثاني الذي بات مع سرعة الزمن يمتلك معارفٌ 
وعلومًا وخبرات جديدة ومختلفة عن الجيل الذي سبقه. فالكيانات الأساسية التي 


«Declaration of Principles: Building the Information Society: A Global Challenge in the New (7) 
Millennium,» World Summit on the Information Society (Geneva 2003 - Tunis 2005), Document WSIS-03/ 
GENEVA/DOC/4-E (12 December 2003), at: htip:/bit.ly/1Q2ZZYh. 


542 


يتشكل منها الجيل الأول (العائلة والقبيلة والدولة ...إلخ)ء تبدلت إلى كيانات 
مختلفة مع الجيل الثاني يغلب عليها طابع «الافتراضية!. 


أنتج عصر المعلومات والتقانة جيلا مختلقًا في السلوك الثقافي» بلغ جميع 
الأفراد والجماعات» بمن فيهم المثقفين» وبلغ طبيعة تفكيرهم وآليته. فجيل 
الستينيات ملا لا يمت بصلة إلى جيل الألفية الثانية» لا بالفكر ولا بالذهنية ولا 
بالممارسة. وهذا الجيل لم يفقد الصلة البيولوجية طبعًاء فهو ما زال حيّا يرزق 
ويفكر وينتج» بيد أنه فقد الصلة الزمنية» أي إنه مات بوصفه جيلا زمنيًا يختلف 
الاختلاف كله مع الجيل التالي. 


إذ نراقب سرعة الزمنء فإننا لا نقوّم ثقافة الأجيال» ولا نقارن ما بين المثقتف 
الک ر لق ع تف ان Le Net ERA‏ ميهد 
التفاوت والاختلاف بين المثقفين والجيلين. فالمثقف الشبكي هو مثقف جديد لا 
ينظر إلى الأشياء بحسب طبيعتها كأسلافه» بل بحسب طبيعته هوء أي من خلال 
قيمه الخاصة الجديدة. فهو نشأ داخل الثقافة العالمية» وشرب من المعارف 
الافتراضية» وتشبع من شبكتها العنكبوتية. والمثقف الشبكي مثقف عابر الحدود 
يتواصل في نطاق واسعء ولا تمارس عليه سلطة أيديولوجية كالجيل السابق» بل 
سلطة «ميديولوجية» (Médiologie)‏ تكرسها الوسائط الإلكترونية على أشكالها 
كلها. وفي هذا السياق» لم يتمظهر المثقف الشبكي في قالب واحد» بل تنوعت 
أشكاله وفقًا لاهتماماته» ووفمًا للدور الذي شاء أن يقوم به في داخل الشبكة. 


2- أنواع المثقف الشبكي 

أ- المثقف التكنو - شبكم 

يبرز أول أشكال المثقف الشبكي بهؤلاء المتخصصين بهندسة البرمجيات . 
«(Software Engineering)‏ أو بتطو ير البرمجيات على الشبكة؛ أي إن مجتمع 
المعلومات أنتج مثقمًا متخصصًا في تصميم البرمجيات وتطويرها نسميه «المثقف 
التكنو - شبكي 4. ويتعاظم دور هذا «المثقف» بشكل كبير» لدرجة أصبح بإمكانه 
التحكم بكثير من مفاصل حياتناء أو بإدارة المجتمع الافتراضي بالشكل الذي 
يريده» أو بحسب الجهات التي تطلب منه. 


543 


يرى جارون لانير* في كتابه من يملك المستقبل” أن مصممي الشبكة صنعوا 
نظامًا يساهم في تركيز القوة والربح. فالشركات» من أمثال «غوغل» وافيسبوكا» 
تجنى مليارات الدولارات باستضافتها تعاملات المستخدمين» فى حين أن الأفراد 
الذين صنعوا ما يجري تبادله من كلمات وأفكار وأعمال فنية» لا يحصلون غالبًا 
على شيء؛ وما يسمعه هؤلاء المساهمون هو أن متعة المشاركة يجب أن تكون 
كافية بالنسبة إليهم. ويرى لانير أن في حين تمضي الشبكات الرقمية في تحكمها 
بمزيد من الاقتصاد, هناك دينامية فاسدة تترسخ خ؛ فالثروة تتركز في شأن أولئك الذين 
يتحكمون بتقديم خدمة الإنترنت وقواعد البيانات. وتكمن الطريقة الوحيدة لتغيير 
هذه الديئامية» بحسب رأي لانير» في إعادة تصميم الشبكات الحاسوبية» لتكون 
أقل فاعلية» وأكثر مساواة بعض الشىء» من خلال شبكة «تناظرية)» يجري فيها ربط 
كل معلومة بِمّن أنشأهاء حيث يؤدي نسخ تلك المعلومة إلى إرسال «قيمة مالية 
مصغرة؛ إلى صاحبها. ويتسعير المعلومات مع كل عملية تحديث على الفيسبوك أو 
المدونة... كما يدعو إلى إعطاء كل فرد 2هوية عالمية إلكترونية». 


بيد أن الشبكات الرقمية د تمعن في سيطرتها على أفرادها؛ فمثلاء تشير التقارير 
إلى أن الإنفاق الإعلاني على شبكة الإنترنت سيفوق الإعلانات التلفزيونية في 
الفترة القصيرة الآنية. ووفمًا لشركة بحوث السوق «فوريستر»» يتوقع أن يبلغ ما 
ينفق على التسويق عبر الإنترنت 103 مليارات دولار بحلول عام 2019» وبزيادة 
سنوية قدرها 13 في المئة» مقارنة ب 86 مليار دولار ستنفق على التسويق عبر 
التلفزيون"". وهذا ما يشير إلى نجاح التقنيين والمبرمجين في جذب الجماهير 
والسيطرة عليهم؛ لكن يبقى الأمل في إيجاد المثقف التكنو - شبكي الذي يستطيع 
أن يواجه هذه البرمجيات ببرمجيات مضادة تؤمن المساواة والعدالة في العالم 
الشبكيء على غرار ما قدمه جارون لانير وغيره. 


(8) عالم في مجال الحاسوبء كثيرًا ما يوصف بأنه «رائد الواقع الافتراضي»؛ ومن أهم ميادين 
اهتماماته» إضافة إلى ذلك البرمجة المرئية والمحاكاة والتطبيقات الشبكية العالية الأداء. وهو باحث رئيس 
في منظمة الشبكة والخدمات المتقدمة (منظمة غير ربحية في آرمونك بولاية نيويورك»» المقر والممول 
للمكتب الهندسي للإنترنت. 

Jaron Lanier, Who Owns the Future (New York: Simon & Schuster, 2014). (9) 


Shar VanBoskirk, «US Digital Marketing Forecast 2014 to 2019,» Forrester (4 November (10) 
2014), at: http:/bit.ly/1 ESZWTY. 


544 


ب- المثقف «الويكي - شبكي؟ 


ساهمت مواقع «الويكي» والمنتديات والمدونات والفيسبوك في بروز 
ناشطين فاعلين عرفوا ب «الصحافي المواطن» أو ب 000 التطوع»» وأطلق 
آخر ون عليهم اسم «صسحافة الهو أة» Î «(Amateur Journalism)‏ و «إعلام النحن» (We‏ 
«Media)‏ أو «الصحافة القائمة على النقاش») «(Conversation Journalism)‏ أو «صحافة 
المصدر المفتوح «(Open Source Journalism)‏ أو «الصحافة (Participatory (&S LAN‏ 
OV! ll. Journalism)‏ هذه التسميات كلها لا تغفل أنها أنتتجت نوعًا جديدًا من 
المثقفين الشبكيين الذين استطاعواء بشكل خلاق tes‏ نقل الأفكار وتبادل 
المعلومات وتشكيل رأي عام محلي وإقليمي وعالمي مؤيدًا مطالبهم وتحوّلهم 
إلى مصدر أساسي للمعلومات» يستفيد منهم الباحثون والطلاب ووسائل الإعلام 
والمحطات التلفزيونية المحلية والفضائية. 


يطلق كثير من الباحثين مصطلح «الفاعلون الجدد» على القوى الشبابية 
الصاعدة في أثناء الانتفاضات العربيةء وعلى الدور الذي قاموا به في تحريك 
الشارع» وذلك من خلال استخدام وسائط تقائية حديثة كان لها فاعلية كبيرة في 
إطاحة الأنظمة القائمة. وهذا «الفاعل الجديد» هو «مثقف جديد؛» قد لا يكون 
على المستوى الذي يعرف به المثقفون أنفسهم؛ بيد أنه مثقف مقبول ومسموع 
ومؤثر في أبناء جيله؛ ولذا فهو «مثقف ثوري - شبكي» استطاع أن ب يحقق قدرًا كبيرًا 
من التأثير من خلال الشبكة. 

إلا أن فاعلية هذا «التأثير» جرت من خلال الوسائط الاتصالية الحديثة التي 
تتميز بقدرتها التعبوية» والتي عرف جيل الشباب الرقمي العربي استغلالها للغايات 
الثورية. واستفاد من الفضاء السيبراني بانفتاحه اللامتناهي وخصائصه اللامحددة 
الكيفيات والاتجاهات» ومن جغرافية إلكترونية رقمية غير محدودة» ألغت 
الزمان والمكان والجغرافيا التقليدية للإنسان؛ كما استفاد من الأفراد الافتراضيين 
المتفاعلين في وسط جماعتهم الافتراضية. كما عمد الشبان إلى عرض الصفحات 
والمقالات الإلكترونية التي تساهم في زيادة الوعي عند الجماهير» وتحديد 
مناصريهم ومؤيديهم» ومعرفة العدو من الصديق. كما استفادوا من ميزة الوسائط 
الاتصالية التي تسمح بنقل الأخبار والآراء بسرعة فائقة وآنية» حيث تنقل الحوادث 


545 


في لحظتها عبر التخاطب والتحاور بالنص المكتوب والصوت والصورة والرموزء 
كما تسمح بعرض أفكار مجتمع الإنترنت وتعليقاتهم وتفاعلاتهم واقتراحاتهم في 
وقت سريع جذا. هنا تتحقق إمكانية التعاون عن بعد في تحقيق أهداف الثورة 
عبر آلاف الكيلومترات؛ بين أناس ربما لم (ولن) يلتقوا في الحقيقة؛ وتحدث 
المحاورات المكتوبة في لحظات مشتركة بين المستخدمين على الرغم من اختلاف 
الأوقات أو الأزمنة المحسوبة بين الأمكنة المتباعدة؛ ولا سيما أن هذه الخدمات 
متوافرة توافرًا شبه مجانيء لا يتعدى نفقات اشتراكات الإنترنت» ما جعلها مساحة 
واسعة للتواصل والتعبير بين شبان الثورة الذين لا يملكون الإمكانات المادية لنشر 
أفكار هم و أحلامهم؛ فجاءت هذه الخدمات ملبية متطلباتهم. 

إضافة إلى ذلك» استطاع هؤلاء الشبان ممن يديرون الحملات الثورية توجيه 
رسائلهم من بيوتهم أو جامعاتهم؛ الأمر الذي ساعد في تحقيق الأهداف وتحريك 
الجماهير من المنزل. وكان يسقط في مثل هذه الحملات كثير من الشهداء ويعتقل 
آخرون في الأزمنة التي سبقت التقانة» عند توزيع المناشير الورقية لتحريض 
الشارع؛ أما اليوم؛ فأصبح ممكنًا توزيع المناشير الإلكترونية والتواصل مع الثوار 
بوسائل سهلة وآمنة (نسبيًا). بيد أن هذا التطور الإلكتروني لم يمنع سلطات 
الأنظمة من اعتقال الناشطين الإلكترونين والتحقيق معهم؛ وزجهم في السجون؛ 
أو التشابك معهم في حرب إلكترونية من خلال ملاحقة مدونات المعارضين 
ومواقعهم ورسائلهم الإلكترونية وقرصتتهاء ما دفع بأنصار الثورة إلى ضرب 
المواقع الرسمية التابعة للحكومة؛ كما حدث في تونس وغيرها. 

ساهمت مركزية التحرك المنطلق من الصفحات الإلكترونية في سهولة 
إيصال الرسائل والتواصل مع الجماهير الداخلية والخارجية. لكن على الرغم من 
ذلك» بقيت هذه الوسائط الإلكترونية مساحة حرة: يُعبّر من خلالها أي فرد يرغب 
في الانتقاد والتعليق وإبداء الرأي؛ بغض النظر عما إذا كان هذا الرأي صحيحًا أو 
خاطتاء إيجابا أو سلبا؛ إذ لا قيود في الفضاء الرقمي. وهذا ما أتاح مساحة واسعة 
عبر بوساطتها شبان الثورة عن أفكارهم وهواجسهم» وأعلنوا مواقفهم بكل حرية 
وديمقراطية. 


546 


ج- المثقف/ الفيلسوف - الشبكي 

إن من أهم ما تقدمه الفلسفة السيبرانية هو الخيال السيبراني؛ والخيال هو 
قوة العقل في تصور كل شيء. بيد أن كثيرًا من الباحثين والمشتغلين في دهاليز 
الفكر لم يدركوا أن ثمة خيالا سيبرانيًا متولدًا من ضمن الخيالات البشرية» وأن 
القوة العقلية الإنسانية تخيلت نمطا جديدًا من الخيال أنتجه عصر المعلومات 
والاتصالات. فالإنسان يستطيع بخياله المعرفي أن يستحدث مايشاء» من حوادث 
وأفعال ومنتوجات. وربما يتأخر إنتاج بعضها بسبب عدم تبلور مسببات إنتاجهاء 
أو يسبب عدم توافر المحركات الذهنية لتصنيع صورهاء أو بسبب عطل خيائلي ما. 
وعندما يبدأ الخيال في تصنيع خيالاته» يكون قد تولد لديه محفزات أو تفاعلات 
من عقول أخرى» تولد خيالات جديدة. وقد تكون مكتوبة أو مصورة أو مرمزة» 
أو واقعية أو حقيقية أو كاذبة» وقد تكون متتّجة بالعقل أو بالروح بشكل معقول أو 
غير معقول» وبحالات محسوبة أو لا محسوبة. 

غزت التقانة الرقمية العقول البشرية» بنسب متفاوتة بحسب المجتمعات التي 
تنتمي إليها؛ ومن ثم برز مصطلح «الفجوة الرقمية٠»‏ وهي من منظورنا «الفجوة 
الخيائلية» أي التباين في قدرة تصنيع الخيال» وفي القدرة على تبني القوة الخيائلية 
لعقول الآخرين. وإلى أثر «السيبرنطيقا“"" فيهاء التي تعني التحكم بالسلوك 
الاجتماعي للإنسان وتوجيهه وقيادته ومراقبته. وفي هذه المعادلة - يصبح القوي 
في خياله مسيطرًا على عقله - ثمة سيطرة ق 
وهذه فرصته لتحقيق سلطته» في ظل ذوبان الحدود الجغرافية» وسباحة الأفكار 
في فضاء موحد هو الفضاء السيبراني 

هذا ما دفع جان فرنسوا ليوتار» إلى أن يتخيل مصطلح «مجتمع مابعد 
الحداثة» في محاولته كشف أنساق النمو الاجتماعي» وفي بحثه في تغير طبيعة 


(11) علم التحكم الآلي - السيبّرنيّات (10ه6»0© 186) هو علم عمليات التواصل والتحكم الآلي 
بالحيوانات والآلات؛ إذ يقوم بدراسة نظم التحكمء مثل الجهاز العصبي» بالكائنات الحية» ووضع نظم 
مماثلة لها في الأجهزة الإلكترونية والميكانيكية. ابتدع هذا المصطلح عالم الرياضيات نوربرت فينر في كتابه 
عن التحكم والاتصالات في الحيوانات والآلات. 


547 


المعرفةء وأساليب إنتاجها وتواصلها في المجتمع”". فعلى الفيلسوف الشبكي 
أن يبحث عن «مجتمع مابعد الخيال»» بعد أن بات للخيال مجتمع خاصء يعرف 
ب «المجتمع الخيائلي»» أو ب «المجتمع الافتراضي»» الأمر الذي يستدعي قراءته 
ضمن عمقه الفلسفي» أو من زواياه السوسيو - فلسفية. 

إن المجتمع الافتراضي الذي يقود أفراده بأبعاده الثلاثة» الكلمة والصوت 
والصورة» يحوّلهم إلى شبكة واحدة متماسكة» تشبه شبكة العنكبوت» تتشابك 
في ما بينهاء وتتواصل عن بعد من خلال نُظم تواصل جماعية» وتستوطن الفضاء 
السيبراني الواحد الذي يجمعهم ضمن مساكن افتراضية واحدة. ويعمل هذا 
المجتمع المتولد من التقانة الرقمية من خلال الإنترنت وفضائيات التلفزيونات 
الرقمية والهواتف الجوالة» القائمة على مبدأ التفاعلية والمؤدية بدورها إلى 
تغيرات وتبدلات على مستويات مختلفة في حياة الشعوب. 


تقودنا KI‏ هذه التفاعلية السيبرانية إلى المجتمع «عن بعد الذي يتطور فيه 
pot sl‏ ويأخذ أشكالًا متنوعة (تواصل نصي وصوري وشعوري ...إلخ)؛ الأمر 
الذي سيقودنا إلى مجتمع «مابعد». أي «مابعد التواصل» و«مابعد التفاعل»؛ وهو 
ما بات يحتاج إلى قراءة مؤشراته فلسفيًا. 


ثانيًا: تحديات المثقف الشبكى فى عصر المعلومات 
يتحدد رصد تاريخ أي مجتمع وتصور مستقبله من خلال فهم التحديات 
المتعلقة بالتقنية التي تربط المجتمع في حقبة زمنية محددة» كما يتحدد بأسلوب 
تعامل أفراده مع مستحدثاته وطفراته العلمية ودرجة استيعابهم لهاء وما يستتبع هذا 
الأمر من إنتاج لثقافة جديدة ترسم مصيره ضمن الخريطة المستقبلية للحضارة 
الجديدة. 


تجدر الإشارة إلى أن اهتمامات الباحثين فى مجال الفضاء السيبرانى 


Jean-Francois Lyotard, La Condition posimoderne: Rapport de savoir (Paris: Editions de (12) 
Minuit, 1979). 


548 


ماعادت ترتكز على أساس العنصر والقومية أو الدين للمستخدمين» بل أصبحوا 
ينظرون على أساس وضعهم من الزمن؛ ذلك أن عصر المعلومات والتقانة ووتيرته 
المتسارعة قدم إلينا فهمًا جديدًا للزمن» وصورة جديدة لما يحدث من حولنا. 
واستطاعت شبكة المعلومات العالمية Wide Web)‏ 4ا۲٥‏ ۷) أن تنشئ «الاجتماعية 
الإنترنتية؛» وأن تؤثر في التفاعل الإنساني» وتكون جيلًا رقميًا يتمتع بمميزات 
خاصة تختلف عن الأجيال التى سبقته. كما أنها وضعت هذا الجيل تحت هيمنة 
فرضها النظام العالمي الجديد للمعلومات والإعلام» الذي يهدف إلى القضاء 
على الخصوصيات الثقافية للمجتمعات» وإلى توحيد الأنماط والأذواق بما 
يلغي التنوع والاختلاف. وإلى فرض قيم إنتاجية واستهلاكية على المجتمعات» 
Lau y Le‏ تحت نمط واحد عرف بعولمة المجتمعات. وهذا النمط الواحد هو 
أحادي الجانب وذو اتجاه واحدء وهذا ما يضفي عليه صفة التسلط والهيمنةء 
بدلا من أن يكون نمطا تفاعليّء يكرّس مفهوم التفاعل الثقافي الذي يشترط التأثر 
والتأثير من الجانبين» أو من جوانب عدة. 


من ثمء تعد الإنترنت إحدى أبرز الوسائل التي يستخدمها النظام العالمي 
الجديد في إرساء ثقافة العولمة والسيطرة» من خلال قولبة المفاهيم» وتأطير 
العالم بإطار موحد من التصورات والأحكام؛ ولاسيما أن الإعلام العالمي تسيطر 
عليه الشركات المالية الكبرى والإدارات السياسية الحاكمة التي تعمل وفقًا 
لاستراتيجيات محكمة»ء وبرامج طويلة الأمدء تتصف بالنفس الطويل حتى تحقق 
أهدافها. ومع تطور تقنيات الإنترنت ووسائطها المتنوعة» طرأ التوحيد العالمي 
للأنظار وللأفكار» وأصبح يُفرض على المستخدم أمر المشاهدة وطريقة التفكير 
وإصدار الأحكام. 


في مقابل هذا «الاستعمار الإلكتروني» المتكوّن حديئاء ظهر الاستثثار 
بالشبكة لمصلحة مجموعات متطرفة تبث أفكارهاء وتعمل على حرف الجيل 
الرقمي العربي والغربي نحو أفكار تخدم مصالحها المتطرفة. وهذا ما جعل 
الشبكة العالمية شبكة صيد تستهدف الشبان وعقولهم» لتشكل تحديًا جديدًا فرضه 
مستخدمو التقانة ووسائطها. 


549 


من هنا يقف المثقف الشبكي أمام كثير من التحديات التى أفرزها عصر 
المعلومات» لكننا سنركز في دراستنا على تحديين أساسيين يواجهان المجتمعات 
العربية: «الاستعمار الإلكترونية وهيمنته؛ و«الاستئثار الإلكتروني» ومخاطره. 


1 - التحدي الأول: «الاستعمار الإلكترونى؟ وهيمنته 


انتهجت الدول الغربية تاريخيًا أنواعًا عدة من الاستعمار» يوحد فى ما 
بينها المصالح وتحقيق الخطط التوسعية. ويمكننا إيجازها في ثلاثة أنواع من 
الاستعمار: الاستعمار العسكري والاستعمار الديني والاستعمار الاقتصادي. 
أما الاستعمار الرابع» فهو الاستعمار الإلكتروني الذي ظهر بعد انتقال العلاقات 

- الناحية الاقتصادية: من خلال دور الشركات المتعددة الجنسيات في 
توسيع دائرة العلاقات الدولية» باعتمادها على اليد العاملة الرخيصة في عدد من 
الدول لتصنع لمصلحتها بعض السلع ليصار إلى تجميعها في ما بعدء مثل صناعة 
السيارات أو بعض الأجهزة الإلكترونية. 

- الناحية السياسية: حل المشكلات الدولية الكبرى من خلال التعاون 
العالمي لمعالجتهاء وعدم بقائها ضمن الإطار الوطني أو الإقليمي» مثل مكافحة 
الإرهاب» ونشر الديمقراطية al...‏ 

- الناحية التقانية: فرض الثورة العلمية والتقانية نفسها على العالم» من خلال 
السلع والأجهزة والمعدات» وجعل المعلومة نفسها سلعة تُستورد وتُصِدَّرء ما أدى 
إلى سيطرة فكرية للدول المصدرة للتقانة على معظم الشعوب في العالم. 

- الناحية الإعلامية: السرعة في نقل المعلومات بشكل غير معهود مقارنة 
بالأنظمة السابقة» ما أدى إلى تقليص الزمان والمسافات» وجعل الخبر في متناول 
الجميع في مختلف أنحاء العالم وفي لحظة وقوعه. ما عكس جرّاء هذه المتابعة 
الإعلامية الكثير من التأثيرات على المستويات المختلفة. 

- الناحية الاجتماعية: انتشار مبدأ «التدخل الدولي لأغراض إنسانية»». 


550 


ما ساهم في إضعاف السيادة الوطنية لمصلحة السيادة العالمية التي تعمل وفقًا 
لرؤيتها الخاصة فى مساعدة الدولء مثل المساندة الدولية فى الصومال لمعالجة 
المجاعة» أو الاتفاقات الدولية التى تعقد لمعالجة قضايا الفقر والتلوث البيئي 
وانتشار الأمراض ...إلخ. 1 

يمكننا تفسير نماذج الاستعمار الإلكتروني من خلال عرض ثلاثة نماذج من 
السيطرة الإلكترونية والإعلامية وكيفية تداولها عالميًا: 


- «القوة الناعمة»: وهى من أبر ز المفاهيم التي اعتمدت عليها السياسة 
الخارجية الأميركية. ويعتمد هذا المفهوم الذي أورده جوزف ناي في عام 
20» على أهمية الثقافة والقيم الإنسانية والأفكار الخلاقة في التأثير في 
الآخرين» في مقارنة واضحة مع «القوة الصلبة» التي تعتمد أساسًا على منطق 
الإجبار والضغط على مختلف المستويات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية. 


- الحرب الافتراضية: إذ باتت شبكة الإنترنت» في عصر المعلومات» مسرححا 
لحرب من نوع جديد» هي الحرب الافتراضية التي تشن من خلالها الحروب 
هجومًا ودفاعًا؛ وأصبحت تعد جزءًا من استراتيجية الأمن القومي للدولة. وصرح 
بذلك الرئيس الأميركى باراك أوباما فى إحدى خطباته في أيار/ مايو 2009» حين 
قال: «إن الرخاء الاقتصادي للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين بات 
مرتبطًا بالأمن الإلكتروني للبلاد». وبذلك كان أوباما أول رئيس أميركي يكرس 
خطبة كاملة للأمن الإلكتروني» أشار فيها أيضًا إلى أهمية الشبكة الإلكترونية التي 
ss El AS aol ns Lol EN Lu‏ 
الكهربائي والماءء إلى تنظيم الرحلات الجوية؛ مرورًا بوسائل النقل العام» ما 
يتطلب بذل جهد كبير لحمايتهاء تمكّل مثا في القيادة العسكرية للأمن الإلكتروني 


)13( شغل جوزف ناي مناصب رسمية عدّة في الإدارة الأميركية» منها مساعد وزير الدفاع لشؤون 
الأمن القومي في إدارة الرئيس بيل كلينتون» ورئيس مجلس الاستخبارات الوطني بين عامي 1993 
و1994. وعد في عام 2005 واحدًا من عشرة علماء الأكثر تأثيرًا في العلاقات الدولية في الولايات 
المتحدة الأمير Joseph S. Nye, Bound to Lead: The Changing Nature of American Power (New : A «àS‏ 


York: Basic Books, 1990), and Joseph S. Nye, «How Soft is Smart: Interview,» Guernica (October 2008), 
at: http://bit.ly/1JWNiqu. 


551 


و 
التي أنشئت حديثًا برئاسة الجنرال ألكسندر كيث؛ رئيس هيئة الأمن القومي؛ وهي 
أقوى وأكبر فرع للاستخبارات الأميركية» وتقوم بمراقبة الاتصالات الإلكترونية 
وحل شفرتها وتحليلها*". 


- التجسس الإلكتروني: استغلت وكالة الاستخبارات المركزية تقنيات 
التكنولوجيا والمعلومات خدمة لسياستها القومية والدولية» وسعيًا إلى السيطرة 
على المجتمعات الأخرى من خلال تكثيف عمليات التجسس التي بلغت الدول 
الصديقة وغير الصديقة من دول العالم. والمثال على ذلك» ما حصل في فرنساء في 
إثر صدور معلومات تفيد أن وكالة الأمن القومى الأميركية قامت بعمليات تنصت 
de ds‏ اتصالات الفرسيين :فى Lil al meute sta‏ 
الصادرة في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2013» أن وكالة الأمن القومي الأميركية 
اعترضت على نطاق واسع الاتصالات الهاتفية للمواطنين الفرنسيين» استنادًا إلى 
وثائق للمستشار السابق في الوكالة الاستخبارية الأميركية إدوارد سنودن. 


2- التحدي الثاني: «الاستئثار الإلكتروني» ومخاطره 


أنت الإنترنت وسيلة مفيدة في نظر حركات الإسلام السياسيء لأنها سمحت 
لهم بالتواصل مع المسلمين أينما وجدوا بطريقة سهلة وسريعة ومجانية» ومكنتهم 
من عرض أفكارهم وعقائدهم واستراتيجياتهم المستقبلية. ومن هناء لا نجد 
تنظيمًا من تنظيمات الإسلام السياسي اليوم» إلا وسخر الإنترنت ووسائطها 
لمصالحه السياسية؛ ولنشر دعوته وأفكاره. فقد برز استخدام هذه الحركات 
الإسلامية للإنترنت مبكرًا نسبيًا مع جماعة الإخوان المسلمين؛ فكانت أولى 
محاولاتها في 20 حزيران/ يونيو 1998 بموقع باسم «الدعوة»؛ وجرى تسجيله 
باسم شركة داتاكوم (00100:0) في شيكاغو في الولايات المتحدة الأميركية”". 
ومن ثم توالى كثير من الجهد من خلال مواقع إلكترونية عدة تحت مظلة مواقع 

(14) سلوى محمد أحمد عزازيء «التسلح الإلكتروني: استراتيجية حروب قادمة»» موقع BUS‏ 


أونلاین (17 تشرین الثانی/ نوفمیر 2010)» فى: hutp:/bit.ly/1SyT7BJ.‏ 


(15) «مجلة الدعوة: صوت الحق والقوة والحرية٠‏ الإخوان المسلمون (موقع إلكتروني)ء 
http:/bitLly/1Z7JaQK.‏ 


552 


للدراسات السياسية والاستراتيجية أو مواقع لمراقبة انتخابات مجلس الشعب 
و غيرهاء إلى أن وجدت الجماعة أنها لم تستطع تحقيق الأهداف الأساسية التي 
أنشئت من أجلهاء ولم تحقق كثيرًا من الانتشار والتعبئةء وذلك ربما لاعتمادها 
على الهواة والمتطوعين غير المتفرغين للعمل الإلكتروني. ومن هنا قزرت 
الجماعة أن تأخذ عملية الانتشار الإلكتروني على محمل الجد. وعقدت عددًا من 
ورش عمل لصوغ مضمون ومحتوى موقع الجماعة ليكون الموقع الإلكتروني 
الرسمي الذي تطل منه إلى جمهورها في أنحاء العالم. بدأ التشغيل التجريبي 
لهذا الموقع في نيسان/ أبريل 2003 ليكون موقع «إخوان ون لاين»*"» الموقع 
الرسمي الأول للجماعة؛ وأشرف عليه متخصصون محترفون» وجرى تأسيس 
الشركة المصرية لخدمات المعلومات برئاسة جمال نصارء أول رئيس تحرير لهذا 
الموقع. وكان محمد مرسي رئيس الجمهورية المصرية السابق» مشرفا على هذا 
الموقع قبل توليه منصبه الرئاسي. وفي 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2005» أسّس 
موقع «إخوان ويب»”" ليكون أول موقع رسمي للجماعة باللغة الإنكليزية. وكان 
الهدف الأساس منه نقل فكر الإخوان إلى المجتمع الغربي وجمهوره وباحثيه من 
وجهة نظر إخوانية تظهر فيه رؤيتها ومنهجها وفكرها. 

بعد ذلك اهتمت جماعة الإخوان بالانتشار إلكترونيًا في بلدان العالم العربي 
كلهاء أكان تحت لافتة «الإخوان المسلمون» كما فى السودان"“ وسورية*'“ 
والأردن9©) أم تحت مسميات أخرى كما في SES‏ وليبيا!22» وفلسطيه7:) 


http//bit1y/1 gaku4j. (16)‏ 
Ikhwan Web, http:/bit.ly/1LScYEa. (17)‏ 
http://bit.ly/IOZCOCN. (18)‏ 
(19) «بيان مجلس الشورى لجماعة الإخوان المسلمين في سورية» الإخوان المسلمون - سورية 
(مو قع إلكترو ني)» لالتطمم؟ 1 /لإأمتط/لتصتاط 
(20) جماعة الإخوان المسلمين - الأردن (موقع إلكتروني)ء http://bit.ly/1UVSR4V.‏ 
http//bit.ly/1Rhfepf. (21)‏ 
http://bit.ly/IUVSQOS. (22)‏ 
(23) المركز الفلسطيني للإعلام (موقع إلكتروني)» http//bit.|y/1S3zkeo.‏ 


553 


والجزائ ٩٩‏ وال 680 «ji‏ 51 )6( و والبيحري. 29)؛ إضافة إلى مواقع 
أخرى مثل موقع إخوان ويكي*» وهو موسوعة حرة على الإنترنت أطلقت في 
كانون الأول/ ديسمبر 2008» وموقع إخوان تيوب””» وهو موقع لتقديم أفلام 
الفيديو للقضايا المرتبطة بالإخوان أو عرض عمليات التصفح الآمن» وموقع 
إخوان فيسبوك*» وهو موقع للتواصل الاجتماعي شبيه بموقع الفيسبوك؛ إضافة 
إلى المواقع الطالبية عند الإخوان في الجامعات التي تسمح بتعميق أفكارها عند 
الفئة الشبابية» وكذلك بعض المواقع المتخصصة مثل موقع خاص بنشاط الإخوان 
في البرلمان62. وموقع لتراث GIE NI‏ وموقع للملف الحقوقي!*2, وموقع 
«أولادنا؛ الخاص بالأطفال69©. 


إضافة إلى ذلك» برز استخدام الإنترنت بشكل كبير مع تنظيم القاعدة الذي 
استوطن في المجتمع الافتراضي الرحب الذي لا تحده حدود. بوصفه وطنًا بديلا 
من أي مساحة جغرافية محدودة» أراد السيطرة عليها. ولاحظ غبريال وايمان من 
خلال نشاط القاعدة الإلكترونى» أنها «شبكات منظمة بطريقة فضفاضة تعتمد 
على التشبيك الأفقي» أكثر من اعتمادها على الهياكل التراتبية. وتشترك القاعدة فى 
نمط الشبكات ذات النسيج الفضفاض: اللامركزية والنزعة الانقسامية وتفويض 


GEL SI 
http://bit.1y/1MSoaRy. حركة مجتمع السلم (حمس نت)»‎ (24) 
http://bit.ly/1PJXneT. (25) 
http//bit.ly/104LsY y. (26) 
http://bit.ly/LJtxPDu. (27) 
http://bit.|y/10zCZOV. (28) 
http:/bit.ly/10zCZy7. ويكيبيديا الإخوان المسلمون»‎ )90( 
http:f/bit.Iy/LRroqxe. إخوان تيوب: التيوب الرسمي للإخوان المسلمين»‎ (30) 
htip:f/bit.ly/ImBpnis. إخحوان فيسبوك»›‎ )31( 
«Men's Watches,» Tech Gentleman, htp://bit.ly/1Z501rw. (32) 
http://bit.Iy/1n3OhjP. تراث الإخوان المسلمون (موقع إلكتروني)»‎ )3 3) 
http:/bit.ly/Ln3OhAg. (34) 
http://bit.ly/1ONf4qw. (35) 


Gabriel Weimann, Terror on the Internet: The New Arena, the New Challenges (Washington, (36) 
DC: US$. Institute of Peace Press, 2006), pp. 115-116. 


554 


لتعزيز الأمن الإلكتروني لهذه العلاقات» أطلقت مجلة المجاهد التقنية 
الإلكترونية في أواخر عام 2006« التي تصدر عن مركز الفجر للوعلام» نصائح 
لإرشاد قرائها في شأن تأمين المعلومات الإلكترونية» وبعض المسائل الأخرى 
المتعلقة بالتقانة العالية. ومن الأمثلة التي تعرضها المجلة في أحد أعدادها”©: 
كيف تخفي معلوماتك داخل صورك» وترجمة الأفلام عن طريق العناوين 
الجهادية» وكيف تنشئع موقعًا جهاديًا من الألف إلى الياء» وبرنامجا لأسرار 
المجاهدين رؤية من الداخل؛ أو الأسلحة الذكية صواريخ أرض جو ...إلخ. 


شهد العالم الافتراضي ظهور موجات عدة من القادة الافتراضيين» بدأت في 
عام 2002 مع «أبو بكر الناجي» و«أبو عبيدة القرشي» و«لويس عطية» على سبيل 
المثال؛ وفي عام 2004 مع «أحمد أبو سمرا» الذي أتى من الولايات المتحدة 
الأميركية التي عاش فيهاء لينضم إلى الجناح الإعلامي لتنظيم القاعدة في العراق» 
وليصبح الآن المسؤول الإعلامي الأول في تنظيم داعش؛ هذا التنظيم الذي 
استطاع أن يجنّد كثيرًا من الشبان من المجتمعات العربية والغربية للانضمام إلى 
الحرب فى سورية والعراق» إضافة إلى تجنيد الفتيات ضمن ما عرف ب اجهاد 
النكاح». | 


ثالثا: دور المثقف الشبكى فى مواجهة تحديات عصر المعلومات 
انطلاقًا مما أوردناه أعلاهء تطرح أسئلة: كيف يواجه المثقف الشبكي بأنواعه 


التي ذكرناها (التكنو - شبكي والويكي - شبكي والثوري - شبكي والفيلسوف - 
الشبكي) التحديات التي عرضناها؟ وما أدوراه ومهماته؟ 


1-دورا لمثقف التكنو - شبكى 


يقوم المثقف التكنو - شبكي بدور أساسي في مواجهة معظم التحديات 
التي أوردناها في الدراسة» كونه يمتلك القدرة المهنية والتقنية في إعداد الشبكات 
والمواقع والنظم التي تؤمن السلامة المعلوماتية وحماية المعطيات الشخصية 


http:#bit.ly/1RaoQcQ. 2 bite She للاطلاع على‎ (37) 


555 


والرسمية. وتتلخص أبرز المهمات التي يمكن أن يحققها المثقف التكنو - شبكي 
في الخطوات الإجرائية الآنية: 


أ- العمل على تكريس الأمن السيبراني 

يمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء شبكات محلية آمنة لحماية المعلومات 
والتخفيف من الهجمات الإلكترونية وعمليات التجسس لحفظ خصوصية البيانات 
وعدم التلاعب بمضمونهاء والتثبت من صحة هوية كل من المرسل والمتلقي؛ 
وإنشاء القيادة العسكرية العربية للأمن السيبراني» كون الإنترنت باتت تهدد الأمن 
القومي للدول» ووضع الاتفاقات بين الدول العربية للتنسيق في هذا الشأن» والحد 
من تأثير المواقع التي تشوّه الفكر وتستغل عقول الشباب!؛ وتعميم استعمال وسائل 
التشفير الإلكتروني (©8هامن0) وخدماته» من خلال برامج ومشروعات متكاملة 
عدة في سياق السلامة المعلوماتية. ويقتضي استخدام وسائل التشفير حماية 
المستخدم وضمان سرية المعلومات التي يستخدمهاء وتشفير الوثائق الإلكترونية 
المتبادلة عبر شبكات الاتصالات. أو إمضائها إلكترونيًا؛ وكذلك من خلال العمل 
على تأمين سلامة المعلومات بين المتعاملين عن بعد أي سلامة المعلومات فى 
بعدها الشامل للأنظمة المعلوماتية أو المعلومات المرقمئة ؤسلامة المعطيات 
الشخصية. وبات هذا الأمر محط اهتمام معظم الدول العربية في وضع التشريعات 
الإلكترونية الحديثةء للحد من المخاطر الناتجة من الاستخدام المتنامي لتقانة 
المعلومات والاتصال فى مظاهر الحياة اليومية للأفراد والجماعات والمؤسسات. 
إلا أن التطبيق العملاني للقوانين واكتشاف الجرائم الإلكترونية وغيرها مرتبط 
بالمثقف التكنو - شبكي وقدراته المهنية والفنية في تنفيذ ما يجري الاتفاق عليه 
من مقررات وتشريعات؛ وأخيرًا من خلال تشكيل فريق عربي متخصص لمكافحة 
جرائم الفضاء السيبراني بأشكاله المتنوعة التي تحددت في معاهدة جرائم 
الفضاء السيبراني الصادرة عن مجلس الاتحاد الأوروبي رقم 185 (بودابست» 
3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2001)» والبروتوكول الإضافي لمعاهدة مجلس 


)38( نماذج تشريعات الفضاء السيبراني في الدول الأعضاء بالإسكوا (بيروت: الأمم المتحدة/ 
اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)؛ 2007( eo‏ 33. 


556 


الاتحاد الأوروبي رقم 189 (ستراسبورغ» 28 5,25 F7(2003 ei 5 / AM‏ 
المتعلقة بتجريم أعمال التمييز العنصري وكره الأجانب» المرتكبة بواسطة أنظمة 
الحاسرت: 


ب- الاهتمام بالهوية العربية عبر الإنترنت 

يمكن تحقيق ذلك من خلال مطالبة الحكومات العربية والقطاع الخاص 
بتفعيل استخدام النطاقات العربية وتشجيعهما عليه» بعد أن فتحت «آيكان»“ 
المجال لذلك؛ وتشكيل بنية أساسية متطورة تتمثل في أجهزة ومعدات ذات كفاءة 
عاليةء إضافة إلى جهاز بشري من الخبراء والمهندسين والموظفين» يكون بإمكانه 
إدارة الإنترنت بالصيغة المطلوبة عر LS‏ وإنشاء أنظمة (identity Systems) & sg)l‏ 
والبرمجيات لكشف الفيروسات وإزالتها؛ وبذل الجهد في التتبع والمساءلة 
لمنتجي البرمجيات الخبيثة (Malware)‏ التي تُقرصن فی الكثير من الحالات 
بعض المواقع التابعة لشخصيات أو دوائر رسمية حكوميةء تبثها بهدف المراقبة 
والتجسس أو التخريب. 


2- دور المثقف الويكي - شبكي 


يتركز جهد المثقف الويكي - شبكي في تكريس مفهوم «الذكاء الجمعي 
أو الجماهيري»» لفتح المجال أمام المشتركين في نشر المعلومات والتدقيق في 
صحتها عبر صفحات الإنترنت» حيث قام جيمي ويلز بتأسيس موسوعة ويكيبيديا 
فی 15 کانون الثانی/ ینایر 2001 بوصفها مشروعًا متممًا لما كان قد بدأه في 
عام 2000 باسم «نيوبيديا الذي كان يكتبه محررون خبراء حصرًا. لكن سرعان 
ما أخذت إطلاقة ويكيبيديا نموًا واسعًاء وأصبحت أكبر موسوعة حرة مفتوحة 
ومجانية في العالم. 

(39) المرجع نفسه.ء ص 34. 

(40) هي الهيئة التي تتولى إدارة أسماء النطاقات والعناوين على الإنترنت» المعروفة اختصارًا باسم 


(Internet Corporation for Assigned Names and Numbers, ICANN) «1S fr‏ انظر: 
http:/bit.ly/1Rappni.‏ 


557 


بيد أن هذه الموسوعة خرجت عن سمة الدقة والموضوعية» لأنها مفتوحة 
وقابلة للتعديل من لدّن الجميع؛ ما أدى بالنتيجة إلى أن نحو 60 في المئة من 
الموضوعات المعروضة تتعارض مع حقائق أساسية؛ إما نتيجة جهل المساهمء 
وإما بسبب تشويه متعمد للحقائق تكون أبعاده فى الكثير من الأحيان أيديولوجية 
١ OL‏ 


هنا يبرز دور المثقف الويکي - شبکي» لآ في عرض المعلومات وتوعية 
جمهور المجتمعات الافتراضية فحسب» بل في إعادة التصويب والتعديل لكثير 
من المفاهيم التي يأخذها الشبان من دون أي تعديل» بل عدها أحكامًا مطلقة 
يعتمدون عليها في بحوثهم ويتبنونها. ومن هناء يبرز دور المثقف الويكي - شبكي 
الذي يمكن أن نحدده بالخطوات الآنية: 


أ- زيادة المحتوى الرقمي العربي 


التنوع الكبير للسكان من جهة اللغة والقدرات والحاجات الخاصةء للتخلص 
من هيمنة اللغة الإنكليزية على شبكة الإنترنتء التي تشكل أحد أشكال الخضوع 
للاستعمار الإلكتروني» والاستفادة من هذه الصناعة على مستوى الاستثمار؛ 
التي لا تحتوي بالضرورة على المحتوى الحقيقي الذي يتلاءم مع الفكر العربي 
وثقافته؛ وإعداد برامج الأعمال لوضع خطط التسويق والشراكات لصناعة 
المحتوى الرقمي؛ والعمل على بناء مجتمع المعرفة وإتاحة الفرص للاستثمار في 
قطاع تقانة المعلومات والاتصالات» والتعاون مع اللجنة الاقتصادية والاجتماعية 
لغربي آسيا (الإسكوا) التي تبذل الجهد منذ عام 2003ء وأطلقت «مبادرة 
المحتوى العربي»*؛ وحث المنظمات والجمعيات العاملة في الحقل التقاني 


(0 )عبد الحاج» «جيمي ويلز مؤسس ويكيبيديا ومنقذ 5 بالمئة من طلاب العالم؟» مجلة العرب»ء 
العدد 9541 (27 تيسان/ أبري يل 2014)» ص 9» في: http:/bit.ly/1Z81sBz.‏ 
(42) أصدرت الإسكوا حديئًا دراستين» الأولى بشأن وضع صناعة المحتوى الرقمي العربي في 
المنطقة العربية» والثانية بشأن نماذج الأعمال الحديثة للمحتوى الرقمي العربي» في: 
«ESCWA participates in the organization of the Third Annual Forum on Digital Arabic Content: Arab‏ = 


558 


على وضع استراتيجية شاملة؛ تلحظ النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 
والإعلامية لتعزيز الهوية العربية عبر الونترنت. 


ب- مراقبة المحتوى الرقمي العربي 

يتحقق ذلك من خلال إنشاء فريق عربي إلكتروني لمسح المحتوى الرقمي 
العربي» وضبط المصطلحات والمفاهيم كلها التي تعرض على محركات البحث 
لتتوافق مع الفهم العربي الحقيقي لهذه المصطلحات» لا الفهم المعلب المراد 
إيصاله لشعوبنا؛ والعمل على حجب المواقع الإلكترونية التي تعمل على إثارة 
الغرائز واللعب في العقول» لمصلحة مجموعات تضر بأمن الدولة وتشجع على 
الإرهاب؛ ومراقبة أشكال التمييز العنصري والتهديد والتحقير والتحريض» من 
لذن أفراد أو مجموعات أو تنظيمات» وملاحقتهم قضاثيا؛ كون هذا الأمر يمثل 
اعتداءً على النظام العام. 


ج- دور المثقف الثوري - شبكي 

بات معلومًا أن مفهوم الإعلام» من خلال تأثره بعصر المعلومات» أضحى 
مفهومًا متشعبًا بحسب مصادر إنتاجه المختلفة» وتنوع تفاعلات المستخدمين 
المتأثرين والمؤثرين في مضمونه. وبات الإعلام الجديد قائمًا على إمكان الحوار 
والتبادل والمشاركة» وأعطى وسائل الإعلام معناها الحقيقي بوصفها وجها من 
وجوه الحرية الاجتماعية» وحمًا من حقوق الأفراد والجماعات في المشاركة في 
العمليات الاتصاليةء أخذًا وعطاء. 1 1 


من هناء ساهمت الثورة التقانية في إنتاج المثقف الثوري - شبكي» المؤسس 
للإطار السياسي الجديد الخارج عن إطار البنى السياسية التقليدية» وموجه 
السلوك الجمعي باتجاه التغيير والمجتمع الجديد؛ وقام كثير من الشباب العرب 
في أثناء الانتفاضات العربية في مطلع عام 2011» بدور المثقف الثوري - شبكي. 
ونعرض في ما يلي الدور والخطوات التي يمكن أن يستمر في قيامهم بها لمواجهة 
التحديات التي عرضناها. 


content in the era of major digital transformations, Dubai, 19-20 October 2015,» ESCWA, http://bit. = 
ly/1S3BKte. 


559 


(1) توجيه الرأي العام الافتراضي والواقعي 

يتحقق ذلك من خلال نشر الوعي لدى المستخدمين العرب بأهمية الإنترنت 
في تحسين صورتهم في العالم» بعكس ما تحاول الكثير من الصفحات الموجهة 
تشويه الثقافة العربية؛ ومن خلال العمل على الاستفادة من جميع الطاقات البشرية 
لتفعيل دور الاستخدام الويجابي للإنترنت» ولا سيما رفع نسب المستخدمين 
الإناث» حيث لا يزال الاستخدام الذكوري أعلى» والاستفادة أيضًا من كبار السن 
والمتقاعدين أصحاب التخصصات المختلفة فى نشر الوعىء الذين باتوا يمثلون 
أعدادًا كبيرة من السكان» إضافة إلى ال ذوي الحاجات الخاصة 
للاستفادة من قدراتهم ووضع الحوافز لهم؛ ومن خلال محو أمية الإنترنت 
لدى المستخدمين العرب من خلال بعض الخطوات. منها إتاحة تقنية تقنية الإنترنت 
لأغلبية الأفراد بنوعية جيدة وأسعار مقبولة وتدريبهم عليهاء والتدريب على 
القدرة على الوصول إلى المعلومات وتحليلها وتقويمها وإنتاجهاء ثم نشرها 
في أشكال متنوعة ومن خلال وسائل ie‏ والتعاون مع وزارات التربية 
والتعليم العربية لنشر الإنترنت وسهولة التعامل معها تقنية مفيدة في المجتمع؛ 
ا اا 
زيادة المستخدمين وترشيدهم نحو الاستخدام الإيجابي في النفاذ إلى المعلومةء 
والنفاذ إلى مصادر المعلومات التي تتماشى مع الحقائق الواقعية للمجتمعات 
العربية على جميع الصعد. 

(2) ترسيخ ثقافة التقانة الحديثة من أجل التغيير 

يمكن تحقيق ذلك من خلال العمل على إنشاء مواقع خاصة تتضمن أساليب 
التعبئة والحوار مع الجمهور بالطرائق الحديثة» عن طريق دورات تدريبية مكثفة 
على الخط» تسمح بتشكيل أكبر عدد ممكن من المجموعات الشبابية العربية 
المحترفة» لمواجهة الإعلام الغربي والتكفيري الذي يغزو عقول شباننا من خلال 
الثورات الافتراضية - الميدانية على سبيل المثال» وغيرها من الطرائق؛ ومن 


http://bit.ly/1Z8WcgY. (43) 


560 


خلال عقد المؤتمرات المتخصصة التي يمكن أن تبدأ على الخطء لتنتقل بعدها 
على أرض المواقع في مختلف الدول العربية؛ ومن خلال إطلاق برنامج عربي 
تحت عنوان «البرنامج العربي لنشر ثقافة الثورة الافتراضية»» تنظمه وتشارك فيه 
مجموعة من المؤسسات والجمعيات الناشطة في المجتمع المدني في العالم 
العربي» هدفه تبادل الخبرات ووضع الخطط والاستراتيجيات للتصدي للغزو 
الثقافي الذي تتعرض له مجتمعاتنا من مختلف المصادر. 


3 - دور المثقف الفيلسوف - الشبكى 


لعل المثقف الفيلسوف يتحمل الدور الكبير في توجيه المجتمع الافتراضي 
وتصويبه» کون مسؤوليته تتجلى في نشر الوعي الاجتماعي الكلي بقضايا هذا 
يقوم به من خلال وعيه ونظرته إلى كل ما يجري من حوله من حوادث» ویقوده 
هذا الوعي الاجتماعي إلى القيام بدوره الاجتماعي؛ وهذا الدور عليه ألا يكون 
هامشيّاء بل يكون إيجابيًا وفاعلا ومؤثرًا؛ إذ يغلب على معظم المثقفين الذين 
يبرزون على الشبكة صفة ما نسميه «المثقف المحمول». فيقتصر دور معظمهم 
على تحميل المقالات الفكرية والنقدية من مواقع علمية رصيئة» وعرضها على 
صفحاتهم للإفادة منها. وإن كان هذا الأمر يساعد في نشر المعرفة وتوجيه متابعيه 
إلى قراءات مهمة» فهو ليس الدور الذي ننتظره من المثقف الفيلسوف - الشبكي 
الذي عليه أن يكون أعظم شأنًا من «التحميل؟ ليصل إلى حد «التنظير». 


إن المثقف الثوري - شبكي» على سبيل المثال» يحتاج إلى توجيهات 
المثقف الفيلسوف - الشبكيء ويعتمد عليه في تعبئة المستخدمين وتوجيههم. 
كما أن المثقف الويكي - شبكي يتنظر تفسير المفاهيم والمصطلحات من لدّن 
المثقف الفيلسوف - الشبكي لنقل مضمونها إلى مواقعه وصفحاته. وثمة ترابط 
بين المثقفين الشبكيين يجعل التفاعل في ما بينهم قيمة أساسية للنهوض بالمجتمع 
الافتراضي في الاتجاه الصحيح. 


561 


لكن كيف يمكن أن يترجم المثقف الفيلسوف - الشبكي دوره عمليًا؟ 
يمكن ذلك من خلال بعض الخطوات؛ منها تأطير ثقافة الجيل الرقمي» من خلال 
العمل على وضع إطار فكري مفاهيمي للجيل الرقمي الجديد من خلال تحديد 
المصطلحات والمفاهيم الكثيرة المرتبطة بتقانة الاتصال والمعلومات بأسلوب 
سهل ومبسط؛ وكذلك من خلال تعريف الجيل الرقمي بخطورة الاستعمار 
الإلكتروني» والتحذير من أساليبه المتبعة بالطرائق الناعمة التي تغزو عادات 
المجتمع وتقاليده» وتفرض عليه نمطًا جديدًا من التفكير والحياةء والتحذير من 
خطورة الاستئثار الإلكتروني من لدّن الحركات الأصولية التي 0 
طريقًا للعبور إلى عقول الشبان وتحريف النصوص والأقاويل بما يخدم مصالحها 
السياسية؛ ومن خلال وضع فلسفة جديدة لآليات التعليم والتعلم للحفاظ على 
جودة التعليم لأبناء الجيل الرقمي» نظرًا إلى ما تمثّله أدوات التدريس الحديثئة من 
أهمية متزايدة لهذا الجيل» مع الحفاظ على الهوية العربية وثقافتها. 


إضافة إلى ذلك» يمكن أن يترجم المثقف الفيلسوف - الشبكي دوره عمايًا 
من خلال تحديد الإطار الفكري للمجتمع الافتراضي» بوضع أسس ومبادئ نظرية 
تفسر من خلالها النظم والنشاط السيبراني» مايؤدي إلى توجيه سلوك الأفراد داخل 
المجتمع الافتراضي» وحمايتهم من الانقياد إلى الأفكار المخربة من أي مصدر 
أتت؟ ومن خلال تنمية القدرة على التفكير الناقد لأبناء المجتمع الافتراضيء الأمر 
الذي يسمح لهم بالتمييز بين ما يتطابق مع ثقافة مجتمعهم المحلي وما يتعارض 
معه؛ ومن خلال تمثل الفيلسوف الشبكي بتجارب الفلاسفة السابقين الذي قاموا 
بأدوار كبيرة في تغيير مجتمعاتهم» من أمثال الغزالي الذي استطاع أن يتصدى 
للانحرافات التي بدأت تنتشر في عصره ونشر الدعوة إلى غرس الإيمان بين 
ار کی ع اعت داد از رارت ا 
ساهم بأفكاره الاقتصادية في قيام الثورة الصناعية في إنكلترا. 


خلاصة 


حاولنا في عرضنا تقديم صورة عن المثقف الشبكي في بعض أنواعه» والدور 
الواجب اتباعه عبر الشبكة لمواجهة أبرز التحديات التي يتعرض لها الجيل الرقمي 


562 


العربي» ألا وهو الاستعمار الإلكتروني بأشكاله كلهاء والاستثثار الإلكتروني 
الذي بات يجتاح عقول الشباب بشكل كبير. واعتمدنا في تحديد أنواع المثقف 
الشبكي على تسميات مبتكرة في محاولة الإمساك بتعريفات دلالية توضح تنوع 
المثقف الشبكي في عصر المعلومات» وعدم انتهاجه نهجًا واحدّاء أو حصرية 
محددة لتخصص معين. كما عرضنا الدور الذي يفترض أن يقوم به كل نوع من 
أنواع المثقف الشبكي» لمواجهة أبرز التحديات التي تعانيها المجتمعات العربية 
خصوصًاء وهو الهيمنة والسيطرة من الدول المؤسسة للشبكة من جهة» واستغلال 
بعض التنظيمات المنصات الشبكية» خدمة لمصالحها السياسية ولنشر أفكارها 
المتطرفة. 

بيد أن من الضروري الإشارة إلى أن التحديات التي تواجه المثقف الشبكي 
لا تقتصر على الذي عرضناه؛ فثمة الكثير من التحديات التي يمكن أن تكون ذاتية» 
مرتبطة بالمثقف وخلفيته الأيديولوجية ومصالحه الخاصة. ومنها ما يمكن أن 
يكون شبكيّاء مرتبطًا بالشبكة نفسها التي شكلت مجتمدًا معرفيًا جديدّاء لامس 
مجمل الحياة الإنسانية» وهي ظواهر لا يتعدى ظهورها الأربعة عقود» ولا يتجاوز 
زمن تداولها الثلاثة عقود فقط؛ ويعني هذا آنها ظواهر في طور التشكل والتبلورء ما 
يزيد من صعوبة دراستهاء وانتفاء التوافق في شأنها بين أهل التخصص والمهتمين. 


يضع إِذَّا هذا الأمر المثقف الشبكي في مواجهة المفاهيم لتفسيرها وتحليلهاء 
وقراءة تنوعها وتغيرها وتبدلهاء في مجتمع افتراضي عالمي متنوع ومتغير باستمرار 
أيضًا. وهذه مهمة صعبة وغاية في التعقيد» حيث استطاعت الوسائط الإلكترونية 
الحديثة أن توصلنا إلى عالم تحكمه الشبكة» وبمعنى أدق» إلى عالم تحكمه 
النيوميديا المتمثلة في ما يطلق عليه «مدياقراطية»*“ JS ge 5] (Mediacratie)‏ 
فرد صانعًا لإعلامه ومتأثرًا به في آنرء ويعيش تحت سلطته وحكمه أيضًا. 


Anne-Marie Gingras, La Communication politique: Etat des savoirs, enjeux et perspectives (44) 
(Sainte-Foy: Presses de l’Université du Québec, 2003); Armand Mattelart, La Mondialisation de 
da communication (Paris: Presses Universitaires de France, 2002), and Patrice Albertus, Libertés et 
concentrations, essai sur les répercussions des modèles industriels dans les médias de presse français 
(Trois-Rivières: Université du Québec à Trois-Rivières, 2006). 


563 


أثبت الإعلام الجديد dus a5f (New media)‏ حرة لإبراز المواهب» وحافز 
للإبداع؛ ولعل ذلك ما نحن أحوج إليه في العالم العربي اليوم. لذا فإن فرصة 
الاهتمام بالشؤون العربية باتت ممكنة» وتسخير التقانة لخدمة القضية بات 
بيد المثقف الشبكي الصاعد. فالفرد هو من يغذي اليوم المحتوى الإعلاميء 
وهو الموجه. وباستطاعته تحقيق التنافس التكاملى فى المجالات المختلفة. 
والمطلوب هو الالتفاف حول القضايا العربية» وتفعيل الدور الإعلامي في توعية 
الأجيال الشبابية» وتوحيد الجهد للتوحد افتراضيًا للوصول إلى التوحد العربي 
الواقعي؛ وهذا الأمربات ممكنًا إذا أردنا ذلك. | 


1- العربية 
الجموسي» جوهر. الثقافة الافتراضية. تونس: الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون 
الحاج» عبد. «جيمي ويلز مؤسس ويكيبيديا ومنقذ 5 بالمئة من طلاب العالم». 


“o 


مجلة العرب. العدد 9541 (27 نيسان/ أبريل 2014). 
منصوري» نديم. سوسيولوجيا الإنترنت. بیروت: منتدى المعارف» 2014. 
نماذج تشريعات الفضاء السيبراني في الدول الأعضاء بالإسكوا. بيروت: الأمم 
المتحدة - اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)ء 2007. 


2- الأجنبية 


Albertus, Patrice. Libertés et concentrations: Essai sur les répercussions des modèles 
industriels dans les médias de presse français. Trois-Rivières: Université du 
Québec à Trois-Rivières, 2006. 


Benkler, Yochai. The Wealth of Network: How Social Production Transforms Markets 
and Freedom. London: Yale University Press, 2006. 


«Declaration of Principles: Building the Information Society: À Global Challenge in 
the New Millennium.» World Summit on the Information Society (Geneva 2003 
- Tunis 2005), Document WSIS-03/GENEVA/DOC/4-E (12 December 2003), at: 
http:/bit.ly/1Q2ZZYh. 


Gingras, Anne-Marie. La Communication politique: Etat des savoirs, enjeux et 
perspectives. Sainte-Foy: Presses de l’Université du Québec, 2003. 


Gurvitch, Georges. La Vocation de la Sociologie. Paris: Presses Universitaires de 
France, 1962. 


Lanier, Jaron. Who Owns the Future. New York: Simon & Schuster, 2014. 


Lyotard, Jean-Francois. La Condition postmoderne: Rapport de savoir. Paris: Editions 
de Minuit, 1979. 


Marcuse, Herbert. L’Homme Unidimensionnel: Essai sur I’idéologie de la société 
industrielle avancée. Paris: Editions de Minuit, 1968. 


Mattelart, Armand. La Mondialisation de la communication. Paris: Presses 
Universitaires de France, 2002. 


Nye, Joseph S. «How Soft is Smart: Interview.» Guernica (October 2008). 


Nye, Joseph S. Bound to Lead: The Changing Nature of American Power. New York: 
Basic Books, 1990. 


Rheingold, Howard. The Virtual Community: Finding Connection in a Coputerised 
Worid. Boston: MA. Addision-Wesley Longman Publishing, 1994. 


Schiller, Dan. «internet happé par les spéculateurs.» Le Monde diplomatique (février 
2000). 


VanBoskirk, Shar. «US Digital Marketing Forecast 2014 to 2019.» Forrester (4 
November 2014). 


Weïimann, Gabriel. «www.terror.net: How Modern Terrorism Uses the Internet.» 
United States Institute of Peace: Special Report 116 (March 2004). 


. Terror on the Internet: The New Arena, the New Challenges. Washington: 
DC: US. Institute of Peace Press, 2006. 


565 


الفصل التاسع عشر 
المثقف النمطي والمثقف الناشئ 
في العالم السيبراني 


جوهر الجموسي 


يجد علم الاجتماع المعاصر نفسه أمام مفارقات نابتة مع كل إشراقة شمس 
تحول جديد؛ ومن أبرز المفارقات التي استيقظنا عليهاء في أيامناء تلك المتعلقة 
بانزياحات هائلة في تمثلاتنا لصورة المثقف. فبين المثقف الذي عهدنا والمثقف 
الناشى» انكسار حاد فى إطار الصورة وموضوعها. وما عاد التجاسر بين النمطين 
ممكناء إذ إن المثقف الأيديولوجى يكاد يترك مكانه نهائيًا ل «المثقف النابتة» أو 
الجديد أو «الميتا - مثقف»”©؛ فالمثقفون» بوصفهم نخبة اجتماعية» يمثلون عن 
طريق وظائفهم وأدوارهم أهم وسيلة اتصال وتوطيد بين مستويات البنية الفوقية 
وباقي المجتمع. وفي هذا الصددء يميز غرامشي بين المثقف العضوي الحامل 
للتغييرء لارتباط وجوده بتكون طبقة متقدمة ودفاعه عن مصالح الكتلة التاريخية 
الجديدةء والمثقف التقليدي الذي يرتبط وجوده بطبقات زالت» أو هي في طريقها 
إلى الزوالء حيث يدافع عن مصالح الكتلة التاريخية القديمة*. ٠‏ 


(1) إن عبارة «الميتا» متضاعفة الدلالة بتضاعف سياقات التوظيف؛ فقي حين يستخدمها بعضهم 
للإشارة إلى التفكير النظري الخالص» كما في عبارة «ميتا-فيزيقا؛» يستخدمها بعضهم الآخر في دلالتها 
السيكولوجية للإشارة إلى بناء العقل لمعرفته ذاتيًا. 

Antonio Gramsci, Cahiers de prison, Monique Aymard et Paolo Fulchignoni (trad.), (2) 

Bibliothèque de Philosophie (Paris: Gallimard, 1983), p. 45. 


567 


كان المثقف رهانًا مجتمعيًا كبيرٌاء بما يحمله من رؤى جديدة للعالم» ويما 
يمثله فكره ومعرفته من لحظة متقدمة في فهم المجتمع وتطويره. أما اليوم» فيبدو 
أن هذا الدور تراجع تراجعًا خطرّاء حيث تغيرت الأدوار وتداخلت» وأصبح 
المثقف «طوباويًا عصريّاء ليست مهمته تصور حل لتوزيع الثروات داخل المدينة 
فحسب» بل إعادة النظر والتفكير فى أنماط الحياة وفى العلاقات الاجتماعية على 
مستوی شمولي کوني». 

بيد أن المثقف فقد مساحة من السلطة التى تخلى عنها قسرًا لفائدة وسيط 
والتطبيقات المعلوماتية وخبير الإنترنت ومهندس «الملتيميديا» والمدون 
والصحافي - المواطن والفرد الافتراضي وفنان الشبكات والقائد السياسي 
التعليمية المنبت التقليدي للمثقف. فى مقابل اتساع نفوذ المؤسسات الاتصالية» 
وأبرزها التلفزيون والحاسوب والإنترنت. 

كانت الفكرة رهانًا اجتماعيًا كبيرًا؛ أما الآن» فيبدو أنها فقدت بعض سحرها. 
والأيديولوجياء مثلاء هي منظومة فكرية» كانت تسيل من أجلها الدماء. أما اليوم» 
فتفكك سحرها وتراجع حضورها. أما الثقافة التي نستهلكها اليوم» فهي ثقافة 
فقدت أصولها الاجتماعية؛ ثقافة العابر» ثقافة #غير الواقع» (ا6ده:ة8)» ثقافة الناس 
جميعًا؛ أي ثقافة لا أحد. إنها ثقافة «خفية (Anonyme) AVI‏ لأن منتجها غاب» 
وحل في محله وسيط عابر» هو الوسيط الإعلامي. فهل ثقافة وسائل الاتصال 
الآن - كمايرى بعضهم - هي ثقافة بلا مثقفين: ثقافة لامكانية ولا زمانية» وأنها - 
أكثر فأكثر - ثقافة بلا ذاكرة؟ 

إن ثقافة العابرء كما يحددها الطاهر لبيب» تحتاج إلى مثقفين عابرين» 
ينحصر وجودهم في لحظة عبورهم”. لكنهم» في حدود العابر» يضعون الأسئلة 


Pierre Ansart, /déologies, conflits et pouvoir (Paris: Presses Universitaires de France, 1977), (3) 
p- 26. 


(4) الطاهر لييب «في علاقة الثقافة بالمجتمع: تفكك العلاقة و تعليق الدلالة؛» مجلة الفكر المعاصر 
العددان 119-118 (2001). 


568 


والأجوبة» مع تفضيل أن يكون للسؤال جواب واحد. ويعلمونك الغناء والطبخ 
والرقص؛ وينتقلون بك من أرسطو إلى ترويض الكلاب؛ ويقدمون إليك مادة 
ثقافية شديدة التنوع والاختلافء لا يجمع بينها رابطة. 

يعطي بردويستال مفهوم الاتصال توسعًا يرادف ما تحمله الثقافة في معناها 
الأنثروبولوجي من مضامين ودلالات. وهذا يعني أن الحديث عن الثقافة» وما 
يتبعها من ممارسات» شديد الارتياط بالاتصال ووسائله. فالاتصال» بحسب 
بردويستال» هو الثقافة بصدد الحركة» أي الممارسة الثقافية بمعنى من المعاني. 
وتقتضي وجهة النظر هذه» رؤية الاتصال حاضرًا ومجسمًا في كل شيء. أصبح 
الاتصال بمنزلة الرئة التي تتنفس بهاء ومن خلالهاء الثقافة والمثقفون. 

يتجاوز és!‏ غوفمان الحدود اللغوية للاتصال» للاستفادة من الحركة» 
ومن التعبيرات العاطفية» والتصرف في صمت؛ إذ أصبحت الممارسة الثقافية» 
وفمًا لهذا الرأي» تمارّس في الصمت. وهو ما يحدث معنا يوميّاء حينما نجلس 
ساعات طوالًا نستوعب ثقافة وسائل الإعلام والاتصال ونستهلكهاء وأساسها 
التلفزيون والإنترنت. فالمبدع ينتج عمله الفني في صمت. والجمهور يستهلك 


ظهرت المطبعة في القرن الخامس عشرء تحديدًا مع غوتنبرغ» فسهّلت 
جريان الأفكار وجولانها. أما اليوم» مع الحاسوب الشخصيء وتطبيقاته 
المتطورة باستمرار» فنحن أمام تقانة أكثر تطورًا وأشد دقة» تحمل مضمون الكتاب 
لا الكتاب نفسهء وتحمل موسيقى الأغنية» لا الأغنية نفسهاء وتحمل تصورات 
تشكيلية» لا العمل التشكيلى نفسه. وتحمل أبعادًا ثلاثية للعمل السينمائي» لا 
الفيلم السينمائي نفسه. فالمشكلة التي تحدث الآنء هي أن تقانة المعلومات 
والاتصال قلصت دور المبدع والمثقف» وهمشت دور الثقافة» وحولتها إلى 
وظيفة «ديكورية»» ومكمل سلعى لمنتوجات عصر الصناعة. وجعلت تقانة الثقافة 
هذه من الثقاقة صناعة قائمة بذاتهاء لها سلعها ومنتوجاتها وخدماتهاء وأضافت 
إلى قاموس الثقافة مفاهيم جديدة» من قبيل صناعة الأخلاق وأمية الحاسوب 
ومثقف الحاسوب ...إلخ. 


تبدو الإنترنت إذا منتيبجًا أساسيّء ومفصلًا محورياء في ثقافة الاتصال 
والممارسات الافتراضية. فهي المصدر الأول للمعلومة» وتحولت السلطة إلى 
الإنترنت» وقبلها حطت رحالها عند التلفزيون؛ ومن ثم تحول المثقف والنخبة 
إلى التحرك في فضاء الإنترنت والمعلوماتية» حيث يُنجز العمل التشكيلي جماعيًا 
وافتراضيًاء وتتدخل فيه أيضًا تقنيات الحاسوب والبرمجيات المتطورة؛ كما ينتج 
العمل الموسيقي باعتماد الحاسوب وما تفتحه برمجياته من أفق للإبداع. 


يرى أنتوني غيدنز «أننا نشهد مرحلة تاريخية من مراحل تطور الاتصال 
الإلكتروني» مرحلة لها ثقافتها الخاصة بهاء والمختلفة إلى حد بعيد عما سبقها من 
الأشكال الثقافية التى خبرتها المجتمعات فى مسيرتها الثقافية الطويلة. إنها ثقافة 
تتسم بصبغة سريعة ومتسارعة» متنامية ومتطورة: لا تكاد تعرف حدًا تقف عنده؛ 
ثقافة تنتجها قبائل من شركات عملاقة» وعشائر من مؤسسات ضخمة» وتحتوي 
على معايبر وقيم ذات طبيعة مادية استهلاكية في جوهرها. وتجري عملية إنتاج 
هذه الشركات والمؤسسات لهذه الثقافة» بسرعة فائقة لا يكاد يستوعبها الأفراد. 
ولا تترك عندهم وقثّا كافيًا للتكيف معهاء حيث تبقيهم في عملية استهلاك دائ 
ما إن يبدأوا التكيف مع النمط السائد حتى يجدوا أنفسهم يواججهون من جديد 
بأشكال جديدة تتطلب منهم التكيف معها من جديد. وهكذاء تقذف مؤسسات 
تصنيع الثقافة الجديدة بالأفراد إلى قلب مطحنة الاستهلاك. فليست الثقافة بهذه 
الطريقة سوى سلعة كباقي السلع» تتحدد قيمتها بالمردود المادي الذي تعود 
به. ولا غرو أن يصفها جون فرانسوا ليوتار ب ”الثقافة الزائفة» التي نجد فيها كل 
شيء مقبول وجائز00©. انتقل المثقف. بهذا الشكلء من الفرد المبدع إلى «قبائل» 
من الشركات العملاقة و«عشائر؛ من المؤسسات الضخمة التى قد يتقلص les‏ 
الإبداع الإنساني الفطري» ليحل محله - بنسق أقوى - التصنيع الثقافي الآلي 
والنزعة الربحية. 


هل يمكن أن نتساءل اليوم» حيال هذه التغيرات الكبرى» عن جدلية المثقف 


(5) مخلوف حميدة» مجتمع الصورة: بين ثقافة الفراغ وفراغ الثقافة (تونس: الشركة التونسية للنشر 
وتنمية قنون الرسمء 9) ص 165-164. 


570 


النمطي والمثقف الناشئ (الميتا - مثقف) في العالم السيبراني الذي صرنا نعيشه - 
فعا - بالرغبة ومن دونها؟ وأي معنى» وأي رمزيات للمثقف والنخبة» في تمثلاتنا 
الاجتماعية بعد اقتحام الإنترنت» وشبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية» 
وتعددية الوسائط - الملتيميديا؛ للحياة اليومية لعامة الناس؟ وهل صار المثقف 


اك ب كن 
أولا: تحولات المثقف ما بعد الثورات العربية 

تتعدد الأسئلة فى شأن المثقف والنخبة» ودورهما قديمًا وحاضرًا ومستقبلا. 
وقد لا نتوفق في الإجابة عنها ضرورة؛ بل نود أن ننطلق فحسب في تناول موضوع 
جدلية المثقف النمطي والمثقف الناشئ في العالم السيبراني» من حالة انتقال 
جذري عاشها المجتمع التونسي بعد عام 2010» فكشفت حقيقة المثقف والنخبة 
وأزمتهاء في بلدناء وربما في كثير من المجتمعات» لا في المجتمع التونسي 
فحسب؛ حالة الانتقال التى جسمتها ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 - 
4 كانون الثاني/ يناير 2011. ومن خلال حالة الانتقال هذه» سنحاول أن نفهم 
وضع المثقف والنخبة اليوم؛ وربما مآله ومآلها أيضا في ضوء الحراك المجتمعي 
المتواصل. بتعبير آخرء نحاول أن نفهم إن كنا نعيش أزمة مثقف ونخبة» أم أننا 
نعايش مثقف أزمة ونخبة أزمة؟ 

بعد أن كان المثقف. مثلما كانت النخبة أو النخب» يقبع في المؤسسات 
الجامعية الأكاديمية ممثلة في الجامعيين» وفي المؤسسات الإعلامية ممثلة في 
الصحافيين والمنشطين الإذاعيين والتلفزيونيين نجوم الميكروفون والشاشة» وفي 
المؤسسات الثقافية ممثلة في المبدعين والفنانين» وفي الأحزاب السياسية ممثلة 
في القيادة الرمزية ...إلخ» وبعد أن كان مجسمًا في كل هؤلاء؛ جاءت «الثورة» في 
تونس» وفي بلدان عربية أخرى» لترسم ثورة في مفهوم المثقف والنخبة والقائد» 
وثورة في دور المثقف والنخبة والقائدء قبل أن ترسم ثورة في المجتمع والسياسة؛ 
ما أحدث تحولات فارقة في تمثلاتنا التقليدية لمفهوم المثقف والنخبة والقائد. 


571 


لعل المباغتة التي أدتها آليات الإعلام - المواطن» إبان انطلاق الحركات 
الاحتجاجية من ولايتي «سيدي بوزيد» و«القصرين» التونسيةء بدايةء جاءت 
للجميع» من انتقال مدونات ومواقع إعلاميةء قديمة العهد نسبيّاء ومهتمة بالرياضة 
والتسلية والفن». إلى مواقع تكشف الفساد السياسي والاقتصادي القائم» وتروج 
للثورة وإسقاط النظام السياسي الحاكم؛ الأمر الذي جعل السلطة المحلية غير 
قادرة» إن لم نقل عاجزة تمامًاء عن وضع استراتيجية تصدّ إعلامي جديد لهذا 
الوافد المباغت. وكان من المفروضء طبعَاء أن يضع المثقف هذه الاستراتيجياء 
وتضعها النخبة. بيد أن المثقف والنخبة لم يكونا في مستوى الحدث» ولم 
يستشرفا المستقبل» ولم يستبقا التحولات المجتمعية والاتصالية قبل أعوام؛ وهناء 
قد يتحمل المسؤولية علماء الاجتماع والحقوقيون تحديدًا؛ إذ إن معظم «النخب 
المثقفة لم تكن لها قوة الاستباق» بقدر ما اكتفت باللحاق المتأخر يركب حراك 
التغيير؛ وهذا ما يجسد في العمق أزمة النخب السياسية والإعلامية والثقافية. فقد 
ارتكز الفعل الاحتجاجي على تحركات شعبية عفوية وسلمية غير مؤطرة داخل 
أي إطار سياسي أو ثقافي أو أيديولوجي محدد. وقد قامت وسائط الاتصال 
الجديدة» خصوصًا الإنترنت والمنتديات الاجتماعية (الفيسبوك» وتويتر..)» بدور 
مهم في هذا الحراك؛ وتحول الفضاء الرقمي الرحب إلى أداة فعالة للاحتجاج 
والتنسيق والتعبئة من أجل إرساء ثقافة جديدة للتغيير» قوامها إنهاء ثقافة الزعامة 
والاستبداد والتطلع نحو ثقافة الحرية والمواطنة. وهذا سيكون إيذانًا ببزوغ ثقافة 
سياسية جديدة» سيّعاد فيها طرح العديد من الأسئلة بخصوص إشكاليات النخب 
السياسية والثقافية...»”. 


ربما يكون تخلف المثقف والنخبة عن استيعاب متغيرات المرحلة» قد دفع 
الأوساط العالمية إلى توظيف الافتراضي بما يخدم مصالحهاء ولا سيما ما يتردد 


(6) انظر: معًا لتكتشف الحقائق الخفية (صفحة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك)؛ في: 
htp://on.fb.me/In4G3li; Babnet Tunisie (Website), http:/bit.ly/1P4KaNA, and Kooora Tunisie‏ 
(Page on Facebook), http://on.fb.me/l S4BLNN.‏ 


(7) محمد سعديء «الحراك العربي: أزمة الوسائط وبزوغ ثقافة جديدة للتغيير»» في: مجموعة 
مؤلفين» وسائل الاتصال وثقافة التغيير: بحوث علمية محكمة (عمّان: منشورات جامعة فيلادلفيا - الأردن» 
http:/bit.ly/1SApOIX. : $ «(2014‏ 


572 


في بعض الكتابات من أن القوى المسيطرة في العالم هي التي أعدت المدونين 
العرب لهذه المهمة الثورية"“ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقياء توًا 
إلى شرق أوسط جديد لا يهدد مصالح إسرائيلء وتأسيسًا لممارسة سياسية جديدة 
يكون الجميع فاعلين فيها؛ الأمر الذي أفرز جيلًا جديدًا من المثقفين والنخبة» هم 
المدونون. وإن هذا الجيل الافتراضي الناشى» الواسع الانتشار عبر الإنترنت 
وعبر الجماعات الافتراضيةء واللوبيات الافتراضية العالمية التي أصبحت تشكل 
تحالفًا كونيّاء هو جيل شاب» صغير السن. وهو متحول أساسي تاريخي في عمر 
المثقف والنخب» حيث ظلا تاريخيًا يتكونان من المتقدمين في السن» مع تراكم 
التجربة والخبرة والحكمة. 


ألهم هؤلاء المدونون ثورة تونس» مثلما ألهموا ثورة مصر وغيرهاء من 
دون أن ينتبه إليهم المجتمع في البداية» ومن دون أن يتحقق من كونهم يمثلون 
المثقف الجديد والنخبة الجديدةء وقادة التحول السياسى والمجتمعى؛ إذ أججوا 
الثورة» من دون أن تكون لهم استراتيجية واضحة؛ يرسمها عادة المثقف والنخب» 
ويستبقها بثورة ثقافية» ما قاد فى نهاية المطاف إلى ولادة نمط جديد من الفاعلين 
الاجتماعيين» أدى بدوره إلى تغيرات عميقة في تمثلاتنا لظاهرة المثقف والنخب. 


يؤكد عزمي بشارة هذا الموقف بشكل أو بآخرء من خلال ما ورد في كتابه 
المجتمع المدني» حين يقول: «واللافت لطر ا القن لم بوا دوا اا 
كفئة في عملية الاحتتجاج الكبرى التي عمت العالم العربي وانتشر ت مثل النار 
في الهشيم. وإذا ما استثنينا مثقفي الأنظمة» وهم كثر» فقد انقسم الباقون إلى من 


Mezri Haddad, La Face cachée de la révolution tunisienne: Islamisme et occident, une alliance (8) 
à haut risque (Paris: Apopsix, 2011). 


(9) نذكر من بين أبرز المدوّنين الفاعلين في مرحلة الثورة في تونس ومصرء المصري وائل 
غنيم. انظر: وائل غنيم» الثورة 2.0: إذا الشعب يومًا أراد الحياة (القاهرة: دار الشروق؛ 2012)؛ ومدونة 
«شايفتكم» المصرية التي ظهرت في عام 2007. ثم في عام 2008 في الانتخابات المحلية» وتحولت في ما 
بعد إلى حركة «شايفنكم؟» والتونسيين لينا بن مهني صاحبة مدونة «بنية تونسية؟» وسفيان شورايي صاحب 
مدونة «تونس أخرى»» وياسين العياري صاحب مدونة «مالحيط»» وسليم عمامو وعزيز عمامي وزياد الهاني 
صاحب مدونة «صحافي تونسي» التي تعرضت للحجب 110 مرات بين 16 نيسان/ أبريل 2008 و13 
كانون الثاني/ يناير 2011» وهو تاريخ هروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. 


573 


غلب على موقفهم العجز والإحباط والتشكيك؛ فمنهم من شكك في وجود دور 
للأيدي الخارجية محولا الثورة إلى مؤامرة» ومنهم من خاف وخوف من التيار 
الإسلامي. ولكن الحراك الثوري العربى الحالى كان له مثقفون. خلافًا للادعاء 
السائد الذي يروج في الغرب» وكأنه لم تكن ae‏ الثقافية. وهو ادعاء 
عنصري» يرغب في التعامل مع الثورات العربية كمادة خام» وكظاهرة عفوية 
تحتاج إلى تشكيل. ولا بد من إعادة الاعتبار وبقوة لمثقفي الثورة العربية الذين 
نظروا لها ورافقوهاء ولا حاجة إلى الخجل في هذا الموضوع»'. 


لا يمكن القراءات المتعددة والمتباينة لطبيعة الحراك الثوري التونسي» في 
أي شكل من الأشكالء أن تنفي عن الثورة التونسية صبغتها الثورية الحقيقية على 
مظاهر الظلم والقهر والإقصاء المتعمد ضد مناطق جغرافية بعينها وفئات عمرية 
معيئة» على الرغم من تمسك قراءات محددة بأن الثورة التونسية كانت عفوية وغير 
مؤطرة» قادها شباب عاطل من العمل» وشباب متحكم بآليات التأثير الاتصالي 
الجماهيري الحديث بفضل الإنترنت» وجد نفسه خارج سياق المستفيدين من 
الثورة بعد شهور قليلة من سقوط نظام بن علي. 

في هذا الصدد. توصل صالح المازقي إلى استنتاج أن السبب وراء إضاعة 
الثورة التونسية فرصة تولي مقاليد البلاد يكمن. بنيويّاء في «انفصال اللاوعي عن 
الوعي الثوريين» بسبب انعدام العامل الأيديولوجي المؤسس للاوعي الثوري الذي 
انعكس Le Le‏ الوظيفة التاريخية للثورة0!''. ويقصد الباحث في علم الاجتماع 
أن العفوية» بوصفها الميزة الأساسية للثورة» أدت إلى غياب الاستراتيجيات القبلية 
التي يتقن تخطيطها أصحاب الأيديولوجيات. ما قاد في نهاية الأمر إلى ضبابية 
النتائج. وما دام مسار الثورة حكمته العفوية» فمعنى ذلك أن ما قاده هو اللاوعي 
الثوري لا الوعي الثوريء أي ليس الأيديولوجيا السياسية الواضحة. فهذا يعني أن 


(10) عزمي بشارة» المجتمع المدني: دراسة نقدية (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للبحوث 
ودراسة السياسات» 2012)» ص 14-13. 

(11) صالح المازقي» الثورة والدولةء دعوة إلى فهم ثورة الكرامة 2 (تونس: الدار المتوسطية للنشر» 
1/)» ص 28. 


المثقف. بالمعنى الكلاسيكيء كان غائبًا عن إنتاج الثورة. فكان مثقمًا افتراضيّاء 
خار جا عن أدوات التحليل السوسيولوجية التقليدية» بمعنى أنه كان مثققًا واهيًا 
وغير واقعي وغير موجود فعليًا وغير فاعل وغير مؤثر ...إلخ. وفي المقابل» ظهر 
مثقف آخر» وظهرت نخب أخرى» افتراضية هذه المرة» لكنها صانعة الواقع» 
وقادرة على إعادة إنتاج الواقع من خلال الفضاء السيبراني» تحديدًا المدونات 
وصحافة المواطنة. 


نشهد اليوم ميلاد نخب جديدة تكتسح الفضاءات العامة» وتؤسس فضاءات 
عامة جديدة بمدوناتها ومواقعها الشخصية التي يتجاوز أحيانًا عدد أصدقائها 
الافتراضيين عدد قراء جريدة أو مستمعى إذاعة ما أو مشاهدي قناة تلفزيونية. 
فما الآليات العميقة والدقيقة لاشتغال هذه النخب «السيبرانية»» ولاشتغال هذا 
المثقف السيبراني الناشئ» أو «الميتا - مثقف» (ما وراء المثقف) الذي يفتك 
مساحات واسعة على حساب المثقف النمطي؟ 


إن المدونين الذين أفرزهم التطور الرقمي في الحراك الثوري العربي» هم 
جزء من المجتمع المدني النابت» وأفرزوا بدورهم أشكالا جديدة من التنظيم» 
من خلال تسجيلهم بالكلمة والصورة ما كان يحدث في أثناء التحركات العمالية 
والاجتماعية والمواعيد السياسية. الأمر الذي سمح لهمء من ثم» وأساسّاء بقيادة 
أيضاء ب «الفضاء العام» أو «المجال العام» الذي تحدث عنه الفيلسوف الألماني 
يورغن هبرماس» حين أكد أن «وسائل الإعلام الإلكترونية تحدث حالة من الجدل 
بين الجمهورء وتتيح تأثيرًا كبيرًا في القضايا العامة» وتؤثر في النخبة والنخبة 
الحاكمة والجمهور»"'. 

إن هذا المجال العام المكثف قد افتكه المجتمع المدني العربي» اليوم» من 
قبضة السلطة العربية التقليدية الحاكمة» ومن سلطة النخب التقليدية» لينتج عبر 
جغرافيا الحرية Giles‏ جديدة للسلطة والقوة والنفوذ» والتأثير في العامة وصنع 


Jurgen Habermas, L'Espace public (Paris: Payot, 1978). (12) 


575 


الرأي العام وقيادة الجماهيرء قبل التأثير في النخب الكلاسيكية وبعده؛ إنه زمن 
تفتيت القوة وإعادة نشرها وتوزيعها. وتعتمد هذه القوة الصاعدة آليات افتراضية 
متعددة ومؤثرة» وفي متناول الجميع؛ إذ «نلاحظ اليوم أن هناك تأكيدًا قويًا على أن 
المثقف لا يتحدد بمكانته الاجتماعية أو بوظيفته فحسبء ولكن أيضًا بتدخله في 
حقل السياسة (بمعنى الشؤون المدنية). وهنا يتمايز الشخصي والجماعي» بحيث 
يصبح للمثقف مكانة اجتماعية مرتبطة بوضعية فكرية تفوق الإرادة الشخصية» 
وتتجه نحو الاستعمال الجماعي»”'؛ وجسّم هذا التحول النوعي المدون 
والصحافي المواطن والفرد الافتراضي عمومًا. 

ما كانت هذه المكانة الاجتماعية للمثقف الناشئ أو «الميتا - مثقف». 
التى تتجاوز الإرادة الشخصية» أن تتحقق لولا الاستخدامات الجماعية المكثفة 
للوسائط الرقمية المتطورة؛ إذ بلغ عدد المواقع على الشبكة العالمية في عام 
2, أكثر من 555 مليون موقع إلكتروني بمختلف لغات العالم» مع تصدر 
اللغة الإنكليزية هذه اللغات من حيث عدد المستعملين لها على الشبكة بنسبة 29 
في المئة» تليها اللغة الصينية بنسبة 21 في المئة» ثم اللغة العربية في المرتبة السابعة 
بنسبة 3 في المئة. وانفجرت ظاهرة المدونات الخاصة أو المواقع الإلكترونية 
الشخصية للتعبير (Blogs)‏ ذات التوجه السياسي في معظمها؛ إذ كانت قرابة 
4 ملايين موقع شخصي أو مدونة خاصة في كانون الأول/ ديسمير 22004 
وأصبحت 63.1 مليون مدونة في كانون الثاني/ يناير 2007» أي بزيادة إحدى 
عشرة ضعمًا في عامين فقط. ويجري يوميًا إحداث 100 ألف موقع شخصي 
جديد» يقع تحيينها مرة كل ثلاثة شهور في أقل تقدير*". ويتكثف هذا الحضور 
الإلكتروني مع تنامي استخدام شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية. وينتظر 
ما هو أقوى كثيرًا في الأعوام القليلة المقبلة» مع انطلاق استخدام البروتوكول 
السادس للإنترنتء أو الجيل المقبل للإنترنت» أو «إنترنت الأشياء». 


(13) حميدةء ص 184-183. 


«Les Chiffres clés de l'Internet,» Le Journal du Net (JDN) (janvier 2011), dans: bit. (14) 
ly/1IMOqnlid. 


576 


بقطع النظر عن قيمة استخدام الإنترنت» وعن هذه الثورة الرقمية الحاضرة 
والمقبلة التي تمنح مكانة اجتماعية خاصة ل «الميتا - مثقف» تتجاوز الإرادة 
الشخصية» وبقطع النظر عن القراءات المختلفة لثورة تونس» والمتباينة Lei‏ 
«وإذا كان لا بد من عنوان أو اسم لكل ثورة» فإن الثورة التونسية» على الأقل في 
ملامحها الأولى» تبدو ثورة اجتماعية» 7 تقودها حالة طبقية لم يتبلور Lu‏ شكلها 
النهائي في طبقة معلومة) ‏ لأن نمط الإنتاج فيها ليس واضحًاء وغير مكتمل» 
ويستوعب تشكلات وأنماطًا مختلفة. والعودة إلى مفهوم الحالة الطبقية» يبررها 
الوعي الواضح بالقهر والاستغلال الفاجر من قبل عصابة تجعل من السلطة غطاءً 
لفسادهاء مما أفضى إلى تكون علاقة عدائية يعلمها السياسي» ويعيشها أهل هذه 
المناطق بصمت»'؛ مع تقصير واضح للنخب التقليدية في القيام بدورها 
التاريخي» وتحويل الصمت المجتمعي إلى حراك مجتمعي ثوري وإيجابي؛ ولعل 
ذلك يعني تراخي النخبة واستقالتها تجاه المجتمع الذي أفرزهاء وتجاه مسؤولياتها 
التاريخية. 


ثانيًا: ساحة المثقف الناشح 


لاشك في أن التوظيف «الثوري؟ للإعلام الاجتماعي «أدخل مجتمعاتنا في 
مرحلة حضارية جديدة على الصعيد الإعلامي المنفتح والمشارك والمتفاعل. 
مما يمثل إلى حد ما ضمانة لعدم وقوعها من جديد في التضليل السياسي. أصبح 
المواطنون هم الحاضرون» وهم صانعو الحوادث» متحررون بذلك من مختلف 
حالات الارتهان. وهو تحول ثقافي لا عودة عنه» ولا مجال لضبطه أو منعه؛ 
إنه التحرر من أسر التجهيل والإتباع» Vans‏ إلى الإخضاع»*'". فهل تخلص 
المجتمع التونسي مابعد الثورة» فعلاء من التضليل السياسي» في خضم انتقاله إلى 
مرحلة ثقافية جديدة» قوامها تحول إعلامي تحرري في ظاهره؛ ربما يكون باطنه 


)15( محسن البوعزيزي» فرضيات في الثورة التونسية (صقافس: دار محمد علي الحامي للنشرء 


2011(« 10. 
(16) مصطقى حجازي» «ثورة الشباب وتحولاتها الثقافية»: مجلة الآخر» العدد 2 (8 كانون الثاني/ 
يناير 2013)ء ص 22» في: bit.Iy/1Z79rt1.‏ 


577 


مسكونًا بأثر مجموعات الضغط السياسية والمالية (اللوبيات) في تشكيل الرأي 
العام والتلاعب بالعقول؛ على غرار ما توصل إليه الباحث هربرت شيللر في كتابه 
المتلاعبون بالعقول» كيف يجذب محركو الدمى الكبار في السياسة والإعلان 
ووسائل الاتصال الجماهيري خيوط الرأي العام؟”'“ هل يكون هذا التحول في 
صدد إفراز جيل جديد من النخب التي تقود المجتمع عادة؟ 

يبدو أن هذا الجيل الجديد يتكوّن أساسًا من الشباب» وهم الكتلة السكانية 
SN‏ في المجتمعات العربية. ولأنهم الأكثر شعورًا بالحرمان النسبي والأكثر قدرة 
على التواصل والحركة؛ فلم يكن مستغربًا أن يكونوا في طليعة المحتجين*". كما 
أن الشبان الذين «امتلكوا قدرًا عاليًا من الوعي والمسؤولية استطاعوا أن يملأوا 
الفراغ الناتج عن تغييب الأنظمة للمثقفين» فقاموا بحمل مشعل الحرية والتغييرء 
وتمكنوا من استغلال المجال الرحب الذي وفرته وسائل الاتصال الحديثة» لتمرير 
أقكارهم وخطبهم بعيدًا عن أعين الرقابة والتحكم“”". ومن ثم «أضافت التقنية 
الرقمية شريحة جديدة إلى المثقفين» وأعني إلى مفهوم مصطلح المثقف الذي لم 
يعد هو الكاتب أو الأديب أو المفكر أو الأكاديمي أو الفنان فحسب... بل باتت 
هناك شريحة عريضة ومهمة جديدة» هي تلك التي تضم التقني لفنون الكمبيوتر 
ومعطيات الثورة الرقمية» وكذلك المستخدم المتفاعل بوعي للشبكة أيّا كان عمره 


أو د د LOU‏ 


من جانب آخرء كان لزامًا على الشبان في بحثهم عن مساحات جديدة واسعة 
فاعلة ومؤثرة» في ضوء «استحكام الأنظمة الحاكمة في العالم العربي لقبضتها 


(17) هربرت شيللرء المتلاعبون بالعقول: كيف يجذب محركو الدمى الكبار في السياسة والإعلان 
ووسائل الاتصال الجماهيري خيوط الرأي العام؟» ترجمة عبد السلام رضوانء سلسلة عالم المعرفة 243 
(الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» 1999). 

(18) انظر: سعد الدين إبراهيم» «عوامل قيام الثورات العربية»؛ المستقبل العربي؛ العدد 399 (أيار/ 
ge‏ 2012)» ص 136-126. 


(19) سعدي» ص 17. 
)20( السيد نجم» «دور الثورة الرقمية في الثورات العربية؛» ديوان أصدقاء المغرب )24 شباط/ 
فبرایر 2071(« في: bit.y/ISBtBLZ.‏ 


الأمنية التي فرضتها على وسائل الإعلام والتعبير التقليدية» أن يبحثوا عن بدائل 
يستطيعون من خلالها تمرير خطاباتهم وفتح باب النقاش في الأمور التي ظلت 
لعقود متتالية من الطابوهات والمحرمات» ليجدوا ضالتهم في شبكات التواصل 
الاجتماعي والمدونات الإلكترونية ومواقع الفيديو التشاركي» والتي برزت 
كعامل فاعل ومحفز للحركات الاحتجاجية العربية؛ إذ تمكن الشباب بفضلها 
من الالتفاف على الرقابة والتعتيم الإعلامي» وسمحت للكثيرين بنقل كم هائل 
من المعلومات والصور والفيديوهات إلى العالم داخليًا وخارجيّاء مما ساعد في 
إقناع المجتمعات العربية بالتحرك والخروج من الواقع «الافتراضي» إلى الشارع» 
والانضمام إلى الشباب في ثورتهم»"*. 


جعل هذا الواقع الجديد للنخب الناشئة ماقبل الثورات العربية وفي أثنائها 
وما بعدهاء في ضوء ضغط الرقابة على الإنترنت ومحاولاات تهرب المدونين 
والجماعات الافتراضية من التبعات القانونية لكل فعل ونشر إلكتروني» المنخرط 
ضمن التفاعلات الافتراضية لا يستطيع أن يعرف أحياتا من يتحدث إلى منء 
ومن يقود من» ما داموا قد صيّروا القيادة افتراضية» تحكمها الأيقونة والشبكات 
الخفية الاسم (Anonyme)‏ وهکذا ساعد العالم الافتراضى فى ابتداع شخصيات 
فكرية وسياسية مجهولة الهوية» بعيدة كل البعد عن الواقع المعيوش» لكنها مشعة 
وفاعلة ومؤثرة”*. وربما تكون الغاية من ذلك توسيع دائرة التعارف وتكثيف عدد 
المحيطين بهاء دون الاهتمام بعملية التفاعل الحقيقية بين الأفراد والمجموعات. 
وربما تكون الغاية التأثير في الرأي العام أيضًاء وإعادة تشكيل المشهد السياسي 
المحلي بما يشهده من توتر واضطراب وضبابية بعد الثورة» وفقًا لما حددته 
استراتيجيات «لوبيات» القوى النافذة ماليًا وافتراضيًا وسياسيًا في زمن اتساع رقعة 
استخدام الإنترنت» حيث تجاوز عدد مستخدميها 3 مليارات مستخدم في مطلع 
عام 2015. وتضم شبكة الإنترنت» اليوم» 1.6 مليون موقع إنترنت ومدونة تحوي 

(21) سعدي. ص 18-17. 

(22) من الأمئلة عن الشخصيات السياسية والفكرية المشعة والمؤثرة التي ربما تكون خفية الاسم أو 


پأسماء مستعارة: «الزلم الأكبر»» و«وزير ضغط الدم والسكر»» و«وزير أمراض القلب والشرايين»» و«سلامة 
(sie‏ 


579 


مضامين سياسية» ونحو 3.4 ملايين موقع تتيح فضاءات افتراضية للنقاشات 
وتبادل الآراء والمواقف السياسية. ومن بين هذه المواقع والمدونات» 569 
ألف موقع يتضمن فضاءات حوار خفية الاسمء بما يعنيه هذا الإخفاء من رغبة 
في زعزعة الآخرء ربما يوظفها الأشخاص أو المؤسسات الجمعياتية والاقتصادية 
والسياسية وغير ذلك. كما يوجد ضمن هذه المواقع 267 ألف منتدى حوار حر 
باللغة الفرنسية» و137 ألف منتدى حوار حر باللغة العربية*. ويمثل هؤلاء 
الفاعلون في هذه المواقع النخب الناشئة والنابتة في المجتمع» «السيبر - مثقفين». 


بات المثقف مطوقًا بضراوة الصورة التي نزعت منه سلطة كان يتمتع بها فيما 
مضى» على وقع تقهقر متواصل لدور الكلمة المكتوبة التي يعول عليها في صنع 
رؤية للعالم وتغييره. فقد حرجت السيطرة من مجالها الثقافي التقليدي» وانتقلت 
إلى مراكز جديدة» تضطلع بدور صنع الرؤى والتأثير فيهاء ممثلة في أبطال الصورة 
الذين يتربعون على عرش الثقافة الجماهيرية من نجوم الغناء» وأبطال الأفلام 
وكرة القدم» ومصممي الأزياء...6”**». وأشار غراي كروغء في فصله المعنون 
«التكنو لوجيا بوصفها ثقافة20”0 «(Technology as Culture)‏ إلى أن ابتكار الو اقع 
الافتراضي وعوالمه الإلكترونية أدى إلى تفكيك العلاقات الفيزيائية بين الأفراد. 
ويقصد بذلك أن تفاعلات الواقع الافتراضي التي تجري في إطار الإنترنت» أثرت 
بدورها في تفكيك العلاقة بين التفاعلات التي تقوم على أساس العلاقة وجهًا لوجه 
«(Face-to-face)‏ أي تفكيك العلاقة المباشرة بلا حواجز ولا وسائط. فتشكل الفضاء 
الرمزيء بهذا الإيقاع» أدى إلى تفكك في العلاقات الفيزيقية بين الأفراد» وتشكل 
نوع جديد من أنو اع العلاقات الاجتماعية والسياسية على المستوى الافتراضي؛ 
ومن ثم تشكل علاقات وروابط جديدة بين عموم الناس والنخب» إن جدت أو 
إن تحقق الالتقاء الفيزيائي المباشر معها. 


ما هو مستقبل هذه الظاهرة بالنظر إلى نسق تطورها الحالي؟ تشير الدلائل 


Forum de discussion libre et politique, (janvier 2011), dans: bit.iy/1FHzvO. (23) 
.118 حميدةء ص‎ )24( 


Gary Krug, Communication. Technology and culture change (London/ Thousand Oaks/ New (25) 
Delhi: SAGE Publications. 2001), p. 2. 


580 


الواقعية إلى أن هناك مزيدًا من الاتجاه نحو التفاعلات الافتراضية» ولا سيما 
في ظل التحديات الطارئة على الواقع المعيش. وتجسّم هذا الأمر بوضوح» من 
خلال الثورات العربية التي كشفت لنا ملامح تفكك الأحزاب السياسية العريقة» 
وانهيار رمزية القادة السياسيين والنخبء في مقابل نشأة رمزيات جديدة يطغى 
عليها البُعد الرمزي أكثر من البعد الحقيقي الواقعي» مثل الأيقونة والصورة وخفي 
الاسم. لكن هذا التفكك جعل هذا البعد الرمزي أيضاء واقعًا مجسّمًا في الفعل 
الافتراضي السياسي» وله أثر مباشر وقوي في تشكل المشهد السياسي الجديد من 
خلال سقوط ما كان رمزيًا شبه مقدس فى السياسة وعند النخبة» ليحل فى محله ما 
أفرزته الرقميات بإبهاراتها التقنية المربكة» وإغراءاتها الاتصالية المفاجئة. 


إنناء اليوم» حيال نخب جديدة» تقودها منظمات المجتمع المدني والجماعات 
الافتراضيةء والجماعات الخفية الاسم. وهي تمثل لوبيات» أو مجموعات ضغط› 
محلية وعالمية ناشئة. وتبين أن النخب الحقيقية التقليدية صارت افتراضية أو 
خيالية» لا مكانة لها في واقعنا اليومي» ولا أثر لها في مجتمع اليوم. كما تبين أن 
المجتمع الافتراضي صار هو النخبة الحقيقية في المجتمع. وهذه هي حال نخب 
المجتمع في عالم السياسة التي صارت خبزنا اليومي والهواء الذي نتنفسه عقب 
الثورات العربية. وكذلك» هي حال نخب المجتمع في المعرفة والثقافة والفنون؛ إذ 
صرنا في زمن يستمد في خلاله القائد السياسي والمثقف السياسي وقائد الجماهير 
ونخبة المجتمع والسياسة» شرعية إضافية من نجوم خلقتهم الإنترنت فصاروا نخبة 
في المجتمع و«مثقفين» مؤثرين في الرأي العام» على الرغم من الاحترازات التي 
تحوم حولهم. إنها مسؤولية شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية والإنترنت 
في جعل المثقف النمطي تحت رحمة المثقف الناشئ في العالم السيبراني. 

مع تطور التقانة وتقنيات الوسائط والاتصال وولادة الرقمي والبرمجيات 
الحديثة والإنترنتء أثّر هذا التحول» وترك بصمة خاصة على قاعات العرض» 
ليصبح العالم الافتراضي مكانًا وموقعًا مستهدفا للفنانين المعاصرين لعرض 
أعمالهم وبيعها عن بعد أيضًاء وأصبحت الإنترنت ملجأ تشكيليًا للفنانين. ويؤدي 
تغير المفاهيم التشكيلية والجمالية إلى تغير وقطع مع كل ما هو متعارف عليه في 


581 


الفنون التشكيلية القديمة؛ فقاعات العرض صارت افتراضية؛ وأصبحنا نتصفح 
قاعات العرض على صفحات الإنترنت؟ وأدى بنا فضاء العرض الافتراضي إلى 
خرق الحدود الجغرافية وتجاوزها؛ وأصبح العمل الإبداعي يشاهد في بلدان العالم 
باختلاف مواقعها الجغرافية ولغاتهاء حيث تحوّلت قاعات العرض الافتراضية 
إلى ملتقى ومكان للجميع: فنانون» وفنانون مبتدئون» وتجار فن ol...‏ حيث 
الكل يعرض ويبيع. وحين انتقلت قاعات العرض للأعمال التشكيلية إلى داخل 
البيوت عبر شاشات الحاسوب الشخصى والهواتف الذكية المرتبطة بالإنترنت» 
لم يعد الفن التشكيلي حكرًا على طبقة أو فئة اجتماعية معينة أو مجموعة من 
الفنانين أو أهل التتخصصء بل أصبح بإمكان عموم الناس أن يشاهدوا الأعمال 
الإبداعية عبر الإنترنت. ومن ثم» تقوم الإنترنت بدور الحاضنة لأعمال الفنانين ' 
التشكيليين المعاصرين» ودور وسيلة إقحام الفن التشكيلي وإدماجه في المجتمع 
ولدى العامة. 


النًا: موت المثقف الأيديولوجى وانتصار «الميتا - مثقف» 


سُئل ألدوس هوكسلي» صاحب كتاب أفضل العوالم الذي تنبأ فيه بمجتمع 
يصنع فيه الإنسان أطفاله في المخابر» عن موقفه من الأدب ودوره في تهذيب 
الذوق» فأجاب بأننا «في غنى عن الكتابات القديمة» حتى لو كانت ذات قيمة 
فنية راقية» وعلل ذلك بأننا لا نريد الجميل لأن هذا الأخير يجذبنا إليه ويلهينا عن 
المستقبل»؛ كما صرح بأن اشكسبير وغيره من الأدباء لا مكان لهم PQ,‏ 

إِذاء تدفع الأسئلة المتوالدة» وتدفع الوقائع التي تعيشها مجتمعاتنا المعاصرة» 
إلى الافتراض أن ثقافة مجتمع الحداثة هي ثقافة اتصالية» وأن مثقف اليوم مثقف 
اتصالي وإنترنتي» مثقف شبكي محوسب. «فالاتصال عملية اجتماعية أساسية» 
وحاجة إنسانية أساسية» وهو أساس كل تنظيم اجتماعي» وهو محور مجتمع 
المعلومات»””. وهذا يعني أن الأدو ار تغيرت؛ ومعها تغيرت وسائل التبليغ 


.76 حميدة» ص‎ )26( 
= «Declaration of Principles: Building the Information Society: A Global Challenge in the New (27) 


582 


أيضَاء أو هي مدعوة إلى التغير. ويمكن عد الوسائط الاتصالية» ولا سيما المرئية 
والمسموعة والإلكترونية والرقمية؛ الأدوات الرئيسة لنشر الثقافة الوطنية وتعميمها 
ومساعدتها على إنجاز الأدوار الموكولة إليها بكل كفاءة وتميز. 


تساعد وسائل التبليغ» في هذا السياق» على انتشار المنتوجات الإبداعية» 
ومظاهر الفعل الثقافي» بشكل محكم. وهي بذلك» تساهم في مقاومة الغزو الثقافي 
وعمليات الاختراق التي تستهدف التأثير في الأفراد والجماعات تأثيرًا سلبيّاء وبث 
البلبلة والتشكيك في مكونات هوياتها الثقافية. لذلك» فإن وسائل التبليغ مدعوة 
إلى أن تعبر في محتواها وشكلها عن روح الخصوصية الثقافية المحلية لكل 
مجتمع» أي أن تنبع من واقع هذا المجتمع وبنيانه الثقافي والحضاري» وتستخدم 
رموزه الدينية والتاريخية. 

فى سياق التقاطعات الممكنة بين الثقافة والاتصال» يمكن تأكيد أن الاتصال» 
وفمًا لبردويستال» هو ثقافة فى صدد الحركةء أي الممارسة الثقافية بمعنى من 
المعاني©. وأصبحت الممارسة الثقافية تمارس» اليوم» في الصمت. وهذا ما 
يحدث معنا يوميّاء حينما نجلس الساعات الطوال نستهلك ثقافة وسائل الإعلام 
والاتصال ونستوعبهاء وأساسها التلفزيون والإنترنت والحاسوب ببرمجيات 
الإبداع في المجالات كلها وبرمجيات الألعاب للفئات العمرية المختلفة. ألا 
يمكن أن نقولء إِذَاء إن ثقافة جديدة هى الآن فى صدد الظهور في المجتمعات 
الحديثة» والانتقالية أساسًا (منها المجتمعات العربية)» بوصفها مجتمعات 
مستهلكة أو مستوعبة لا تتعدى إلى مرحلة الإنتاج إلا نادرًا؟ 

ساهمت التحولات التقانية والتنظيمية والتجارية الناشئة في بروز أنماط 
ثقافية جديدة» وتوسيع الفضاء الثقافي إلى فضاءات غير محدودة في الزمان 
والمكان. وأصبحت الإنسانية» من هذا المنطلق» تسبح في طوفان الأنساق 


Millennium,» World Summit on the Information Society, Geneva 2003 - Tunis 2005, Document WSIS-03/ = 
GENEVA/DOC/4-E (12 December 2003), at: http://bit.ly/1Q2ZZYh. 


Ray Birdwhistell, «La Communication Non Verbale,» dans: Paul Alexandre (dir.), L'Aventure (28) 
Humaine: Encyclopédie des sciences de l'homme (Paris: Editions de la Grange-Batelière, 1967), vol. 5, 
pp. 157 et 166. 


583 


المتداخلة والمتشابكة في أنسجة البناء العنكبوتي للفضاء الاتصالي المعولم. 
ويطرح تنامي استخدامات شبكات الاتصال تحديًا جديداء يتعين على الجميع 
أخذه في الحسبان؛ بمعنى المحافظة على الخصوصيات الحضارية والثقافية» 
وعدم الانسياق في تيارات ثقافات الآخرين وتبني القوالب الجاهزة. 


تستدعي الثقافة الافتراضية الجديدة» فى هذا السياق» العناية بالجوانب 
المتصلة بنشر الأعمال الثقافية على نطاق واسع» وتعزيز حضور الإبداع في الفضاء 
الاتصالي المعولم» والعمل على ملاءمة الخطاب الثقافي والإعلامي المحلي 
الوطني مع مقتضيات التبليغ الحديثة وأشكاله. كما تستدعي إتاحة المادة الثقافية 
لفائدة الجميع» فتكون بذلك le‏ أساسيًا لتنمية الحس الجمالي والقدرات 
الإبداعية والمعرفية للعموه”. 

بدأت خاصية الافتراضي تخترق الممارسة الثقافية في المجتمعات الحديثة» 
وإن بشكل محدود؛ وليس هذا إقرارًا بواقع» بل معايئة لنزعة هي في صدد الانتشار 
والرواج. فالممارسة الثقافية الافتراضية تهاجم القلاع القديمة للثقافةء لتحدث 
EE‏ ف می ر اا و ا ا د 
وعبور المؤسسي؛ فهي تتقابل مع ما هو مؤسسي رسمي في الثقافة. لكن ما عاد 
المؤسسي وسيطا لازمًا إلا بقدر ما كان منفتحًا وموظفًا للتقني التكنولوجي. كما 
فقدت المؤسسة بالكامل احتكارها الثقافة» وما عاد المثقف كاهن ALAN‏ كما كان» 
حيث زال نفوذه إلى حد ماء وفقدت «تعويذاته! سحرهاء لأن الفكرة التي كان يبنيها 
تراجع بريقهاء وزال سحرها نسبيًا. . فمثلاء كانت العروض الفنية (الرسم والمسرح 
السينما) تستقطب الجمهور إلى حدود الثمانينيات» وربما بدايات التسعينيات 
أيضا؛ٍ أما في مطلع القرن الحادي والعشرين» فقدت هذه العروض سحرها 
ul 3 (Désenchantement)‏ جاذبيتهاء لأن التقانة الجديدة قادرة على أن تؤمنها 
داخل الفضاءات الحميمية الخاصة. من قبيل البيت» مع تكثيف فرص i‏ 
فما الحاجة. él‏ إلى الفضاءات الرسمية؟ 


)29( جوهر الجموسيء الثقاقة الافتراضية (تونس: الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسمء 
2006( °, 90-85. 


584 


إن تحسس ما تفرزه الممارسة الثقافية الافتراضية من ملامح جديدة شرع 
السؤال العلمي عن حالة الممارسة الفنية ومصيرها في أشكالها السائدة؛ فهل يمكن 
أن تساهم تقانة المعلومات والاتصال في دفع المسألة الفنية وتطويرها في تجلياتها 
وعناصرها الإبداعية المختلفة؟ أم أنها على العكس من ذلك تؤدي إلى ضمور 
الفعل الإبداعي الفني» وتشويه إنسانيته العفوية وأبعاده الجمالية» وتغييب المثقف 
المبدع؟ إن هذا السؤال دل إلى الصراع بين أنسنة الفن وتأليته أو «مكننته»» 
بمعنى ترجيح دور الآلة في العملية الإبداعية الفنية» وفي متابعة الجمهور هذه 
الإبداعات. ومهما يكن الموقف من هذا السؤال» باستبعاد الآلة أو توظيفها في 
الممارسة الفنية» فالواضح أن الافتراضي مس فعلا بنية الممار سة الفنية السائدة» 
وأعاد تشكيل الفنان والمبدع والمثقف؛ فما المقصود» lé]‏ بالثقافة الافتراضية؟ 


يطغى على الممارسة الثقافية الافتراضية المجازي الرمزي والاستعاري قبل 
الواقعي الفعلي. . ولعل هذا ما يجعل الفن أكثر الأشكال الثقافية الإبداعية توافمًا مع 
الثقافة الافتراضية. فالفن الافتراضي لا يكتفي بنقل الواقع كفن الرسم أو الصور 
الفوتوغرافية» بل يطلع على العالم الافتراضي» ويقترح منه صورة جديدة ليس لها 
ارتباط بالواقع. طبعًاء هذه الفكرة ليست سائدة بالضرورة في الواقع» بل نفترضها 
في مستوى الممكن» » لأن المتنج الفني ليس منتبّجًا ماديا في الأساس؛ فهو نشاط 
رمزي استعاري في وجه من وجوهه. وهوء من هذا الجانب» يمكن أن يتوافق 
بشكل رائع مع الممارسة الثقافية الافتراضية؛ وهذا يفترض وجود علاقة بين تقانة 
المعلومات والفنون» وهى علاقة ما زالت في بداياتهاء ويبقى تطورها رهين ما 
سيّنجز في مجالاات الذكاء الاصطناعي من جانب» ورهين مدى التقدم في فهم 
عمليات الإدراك البصري والسمعي وخفايا جهازنا العصبي من جانب آخر. 

في ضوء هذا الواقع الفني والثقافي الجديد الذي ينحته «المثقف» 
و«المبدع»؛ هل نحتاج اليوم إلى تعريف آخر للمثقف والثقافة» بوصفها رافدًا 
من روافد التنمية؟ وهل فقدت الثقافة دورها في التنمية الاجتماعية؟ وهل تراجع 
دورها نتيجة للتطورات المتلاحقة في مجال ثورة الاتصالات؟ وهل أصبحت 
الثقافة في هامش المتن المعرفي» في ظل هذه التطورات كلها للإنسان المعاصر؟ 


585 


ألا يزال الكلام عن الثقافة» وعن دور المثقف» » يلقى الصدى نفسه في الخطاب 
الثقافي المعاصر؟ تأتي جملة هذه التساؤلات في سياق الإعلان عن موت المثقف 
الأيديولوجي وانتهاء السرديات الكبرى» بحسب جان فرانسوا ليوتار©©. من هناء 
يكتسب الكلام عن الثقافة ودور المثقف أهمية خاصة» أكان الكلام عن دور 
المثقف العضوي» بحسب غرامشي» أم المثقف الملتزم بحسب جان بول سارتر. 


بالطبع؛ إن الكلام عن الثقافة» ولا سيما في ظل العولمة. لا يمكن أن يتجاهل 
التطورات والتحولات الثقافية والاجتماعية والعلمية فى خطاب الثقافة؛ لذاء 
من هذه المفارقة» أصبح ممجوجًا الحديث عن الثقافة ودور المثقف. وعدّ هذا 
الأخير داعيةء ومبشرًا أيديولوجيّاء بينما دعا بعضهم إلى استلهام بنية جديدة» تنشئ 
علاقات مختلفة عن الثقافة ومفهومها وعن المثقف ودوره. والحدود التي يجب أن 
يعتمدها ويتحرك في مجالها. فمن ريجيس دوبريه إلى إدوارد سعيد إلى سمير أمين 
وهشام جعيط» هناك حالة من التوجس لمستقبل الثقافة» وغياب المثقف. وتخليه 
عن دوره المستقل» بعيدًا عن العلاقات المشبوهة التي يقيمها في إطار وظيفة لا 


تخلو من التوظيف الأيديولوجي. وتظهر هذه التوظيفية في تحول المثقف إلى أداة 
تحركها إرادة السلطة الأيديولوجية والسياسيةء وما تفرضه عليه من شبكة مصالح» 


وتكبّله عن أداء مهماته بوصفه مشتغلا على خطاب المعرفة الإنسانية ما يجعله 
يستقيل من وظيفة الثقافة بوصفها علامة على موته الثقافي الحقيقي. 

هذا ما عناه بعض الكتابات عن «الإنتليجنسيا» الغربية» والمستوى الذي 
وصلت إليه. فكتاب ماركوزه» الإنسان ذو البعد الواحد واللوحة المخيفة التي 
رسمها عن إنسان العصر ودور البنية الإمبريالية تظهر فيها بوضوح «الإنتليجنسيا» 
الغربية بوصفها فاعلا رئيا في المساهمة في الحديث عن أنموذج الإنسان ذي 
البعد الواحد» وثنيه عن قضاياه الحقيقية» وتجاهلها سياق الفكر التعددي في 
الثقافات الاجتماعية العالمية» وإطلاق العنان لبنية من التفكير تسود وتتغلغل فى 
مجمل الكتابات والإصدارات التى تكشف مدى إدراك فئة «الإنتليجنسياء الحاد 
الثقافات الأخرى» ووظيفة المثقف ودوره في تقليص الفجوة التي تزداد هوتها 


Jean François Leotard, La Condition posimoderne (Tunis: Edition Ceres production, 1996). (30) 


586 


بين الثقافات والشعوب المختلفة في العالم» لتصب في الأخير ضمن مصلحة قوة 
الغطرسة والهيمنة. 

ربما يكون هذاء بفعل ما يبديه المثقف من تحالف وتعاون مع الإمبريالية» 
للتأثير في مسار الثقافة» مثلما لاحظ ذلك ریجیس دوبریه» وعکستها آراؤه التي 
شهدها عقد التسعينيات» ولا سيما في نقد العقل السياسيء والميديولوجيا علم 
الإعلام وكي لا نستسلم”*'. كما بيّن وجهة نظره بوضوح في دور «الأنتليجنسيا» 
المتزايد فى مد البنية الإمبريالية» لتشمل المناطق كلهاء متعدية حدودها الجغرافية 
والاجتماعية؛ لتتربع على كرسي الثقافة العالمي» وتقول وجهة نظرها الحادة. 

من هناء في ظل عولمة الفكر والعلم» تحتاج الثقافة إلى إعادة تركيبها بوصفها 
بنية مفاهيميةء تتخطى المحلي والمناطقي» لتستعيد اعتبارها الإنساني» وتحافظ 
على سيادتها وسلطتهاء بعيدًا عن إرادة الاختراق والدوافع السياسية التي تستهدف 
تجنيدها شرطيًا أيديولوجيّاء وحارسًا لمصالح | الدول والقوى النافذة في العالم. 
وشهد العقد الأخير من القرن العشرين سجالًا واسعًا في شأن خخطاب الثقافة 
ووظيفة المثقف. وهذا يعكس حساسية الدور الذي يضطلع به المثقف. أكان 
حارسًا للأيديولوجيات أم مدافعًا عن الحريات والديمقراطيات وحقوق الإنسان. 
فهذه المراجعة الفكرية اتشحت ت في كثير من أبعادها بالسجال» للبحث عن بديل 
أفضل مما هو موجود. أو لاستبدال الخطاب الثقافي الحالي بآخر نهضوي» تجلت 
في Pie © bo]‏ جاءت فى إطار نقد بنية الثقافة ودور المثقف. وكشفت هذه 
الإصدارات أهمية الثقافة ودور المثقف» وحاولت في الوقت نفسه إعادة فحص 


Régis Debray: Cours de médiologie générale (Paris: Gallimard 1991), et Critique de la raison (31) 
politique (Paris: Gallimard, 1981). 


(32) انظر: علي حرب» أوهام النخبة أو نقد المثقف (يبروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي؛ 
6 علي أومليلء السلطة الثقافية والسلطة السياسية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية؛ 1996)؛ 
محمد عابد الجابري» المثقفون فى الحضارة العربية: محنة ابن حنيل ونكبة اين رشد (بيروت: مركز دراسات 
الوحدة العربيةء 5 إدوارد سعيد» صور المثقف» ترجمة غسان غصن (ييروت: دار النهار. 1996): 
وفهمي جدعان» الطريق إلى المستقبل: أفكارٌ - قوىٌ للأزمنة العربية المنظورة (بيروت: المؤسسة العربية 
للدراسات والتشرء 1996). 


وظيفة المثقف في ضوء المعطيات والتطورات العالمية» والتحول الذي طرأ على 
خطاب الثقافة المحلي والعالمي» ليواكب المثقف حركة الحاضرء بما تحمله من 
تحديات وتطلعات. 


ظل المثقف النمطي أو التقليدي العربي» عقودًا طويلة» يخضع لآثار استتثار 
الطبقة الحاكمة بالسلطة» ويتفاعل - بشكل أو بآخر - مع ما كان سائدًا في معظم 
البلدان العربية من استبداد وقمع وغياب حرية التعبير واحتكار وسائل الإعلام 
ومصادرة الحريات العامة» وانتهاك حقوق الإنسان. وسعت الأنظمة العربية» 
بكل ما أوتيت من قوةء إلى احتواء المثقف العربي وتهميشه. «بل» أكثر من ذلك 
عمدت إلى محاولة تغييبه» من خلال تسخير الأجهزة الأمنية لمضايقة كل من 
حاول الخروج عن هيمنتها تارة» وتارة أخرى بتوظيف أسلوب الإغراء قصد 
إنتاج طبقة مثقفة موالية ومسايرة لأهدافها المتمثلة في حماية وجودها وضمان 
استمراریتها». 


استنادًا إلى هذا الواقع الدقيق» يرى محمد سعدي أنه يمكن تقسيم المثقفين 
النمطيين العرب أربع فثات؛ أولاء مثقفون موالون للسلطةء وهم الذين - في مقابل 
إغراء الوظائف والامتيازات - يوظفون إمكاناتهم وطاقاتهم في دعم الأنظمة 
الحاكمة: والتنظير لهاء وتبرير سياساتها. فأصبحواء بذلك» بُوقًا لهاء أكان على 
الصعيد الفكري أم حتى السياسي”. وثانيًاء مثقفون أغلقوا الباب على أتفسهم» 
وتقوقعوا حول ذواتهم» خوفا من القمع من جهةء ورغبة منهم في عدم الاستجابة 
لسياسة الاحتواء من جهة أخرى. واكتفوا بالمقاومة السلبية نظرًا إلى عدم قدرتهم 
على تغيير الواقع القائم. وثالثّاء مثقفون اختاروا الهروب من الواقع العربي المؤلم 
بالهجرة إلى أوروبا وأميركا. فمنهم من واصل ممارسة دوره في نقد الواقع 
العربي وأنظمته القمعية مستثمرًا هامش الحرية المتوافر لهم. وهناك من قطع 
صلته بواقعه السابق» وانغمس في بريق الحياة الجديدة بالمهجر. ورابعًاء مثقفون 

.10-9 ص‎ game (33) 


(34) فيصل دراج» السياسة والثقافة: حوار في العلاقات» ط 2 (الدار البيضاء: تانسيفت بريس» 
3 ) ص 159. 


واصلوا رسالتهم في ظل الواقع العربي المتسلط» واعتمدوا منهج المواجهة داخل 
الوطن؛ إذ قاوموا وسائل الإغراء فتعرضوا للاعتقال والتضييق والحصار للنيل 
من عزيمتهم وإجبارهم على الخضوع والاستكانة»”. وأثر هذا الواقع سلبيًا في 
واقع المفكر العربي؛ «فهو اليوم» في غالب الأحيانء ليس نتاجًا لواقعناء وليس 
0 . فهو إما نتاج غربي» أو نتاج تاريخي. وفي كلتا الحالتين أصبح ليس 
مناء فرحل عناء وهو برحيله هذا يكون ترك الميدان20©. 


تراجع المثقف النمطي المصاب بالإحباطء عن القيام برسالته النبيلة» وترك 
المجال فسيحًا أمام «أشباه المثقفين الذين أغلقوا الأبواب أمام الإنتاج المثمر 
والمتميزء وروجوا لكل الأعمال الهابطة التي لا تخدم أي قيمة» قد أدى إلى 
غياب الإبداع الذي يشتر ترط تملك الخيارات وتوافر الحريات0”. وأصبح المثقف. 
في الوقت نفسه» الفاعل في القنوات الفضائية التلفزيونية وفي مواقع الإنترنت 
والمدونات» يشتغل بشكل مكثف على مفاهيم الانفتاح والإبهار والإثارة والإغراء 
والجاذبية والمظهر واللذة؛ الإثارة فى مختلف أبعادهاء ولا سيما من خلال بعد 
اللذة الموجه توجيهًا دوريًا مكثمًا إلى فتتّي الأطفال والشباب. وبات مفهوم اللذة» 
بمنطق الحلم» موظفًا توظيمًا متقنًا عبر الإنترنت وفي البرامج المتنوعة والمتعددة 
للقنوات الفضائية التلفزيونية؛ من البرامج الإخبارية إلى التحقيقات والملفات 
والمنوعات التنشيطية. وتحوّلت اللذة» على هذا الأساسء إلى مفهوم مركزي 
يحرّك العالم. ou‏ الحواس؛ وكذلك الصورة المتدفقة من خلال 
القنوات التلفزيونية والإنترنت» تخاطب الحواس» أكثر مما تخاطب العقل. 


لعل هذا الأمر جعل مخلوف حميدةء الباحث في علوم الاتصال والصورة 
ينظر إلى الواقع الثقافي الذي أفرزه المثقف الجديد بنظرة متشائمة؛ فيقر في كتابه 
مجتمع الصورة بين ثقافة الفراغ وفراغ الثقافة «إن هذا المجتمع الكثيب الغارق 
في مستنقع الاستهلاك والفرجة ساهم أي مساهمة في إنتاج وتكريس ثقافة 
(35) سعدي» ص 10-9. 


(36) خالد عبيدات» «دراسة في الفكر العربي»» الرأي (عان)ء (29/ 4/ 2007)» ص 2. 
(37) سعدي» ص 10. 


الفراغ كقيمة مميزة للثقافة المعاصرة. وهذا ما حدا ببعض المفكرين ودفعهم إلى 
الحديث عن الانحطاط الثقافي في عصر العولمة»!*©. فالمثقف الجديد يراوغ 
جمهوره ويخادعه؛ باعتماد «نظرية الغرس» التي «يؤكد أصحابها أن وسائل 
الإعلام تقوم بغرس عالم وهمي في ذهن المتلقي» والذي يقوم بدوره بتقبل هذه 
الصور على أنها تعبير حقيقي للواقع؛ لكونه غير واع بعملية صنع هذا الواقع؛ بل 
إن وعيه لا يتعدى الشعور بالتسلية» وذلك بقضاء الساعات الطويلة أمام شاشات 
التلفزة». 

إن اتكماش المثقف النمطي التقليدي» وتراجع وظائفه وأدواره وآثاره 
وإشعاعه في مجتمعاتنا المعاصرة التى تحكمها الوسائط» أفرز «الميتا - مثقف»؛ 
وهو اصطلاح نبتدعه في السياق التأويلي والتحليلي الذي نبادره؛ وندرك تبعات 
هذا الابتداع جيدًا. ونقصد به ما كان غيرنا لمح إليه» مثل الطاهر لبيب؛ ونعني 
به المثقف الذي يجمع الشتات» لكنه لا يقدر على التوحيد. ف «الميتا - مثقف» 
هو المثقف الذي ينخرط في عالم الشبكة وعالم الإنترنت» ويطالع مقالة من هناء 
وخبرًا من هناك؛ ونبذة عن كتاب هناء ونبذة عن كتاب آخر هناك... دون أن يقرأ 
الكل أو حتى في إمكانه أن يفهم عناصر الظاهرة كلها... فهو خبير؛ لكنه ليس 
عالمّاء أو هو المتخصص من دون إشهاد أكاديمى. نقصد إِذًا ب «الميتا - مثقف» 
المثقف الذي يمتلك الكلء لكته لا يستطيع أن يفهم عناصر الترابط كلها في 
الموضوع الواحد» لأنه ببساطة لا يمتلك الوقت والصبر لاستيفاء عناصر لعبة 
«أحجية الصور المقطوعة» (221د5) كلها. ونقصد به أيضًاء المثقف الذي يعرف 
بعض ما قاله أفلاطون في الجمهورية» وبعض ما ذكره هوبز وسبينوزا عن فصل 
السياسة عن الأخلاق» وسمع عن استحالة التحرر من السلطة كما بلورها ميشيل 
فوكو. لكنه غير قادر على نظم تلك الأفكار في بناء نظري خاص 4 يستطيع 
بموجبه تحليل الواقع وتفكيكه بوضوح؛ ونقصد به تقريبّاء تشبيه الفارابي نفسه 
حينما قال «حاطب ليل». 


(38) حميدة» ص 73. 
(39) المرجع نفسه» ص 72. 


590 


إن «الميتا - مثقف» هو المثقف الذي يرقع ثقافته كما يرقع الثوب من أجزاء 
خارجية مختلفة ومتنوعة. فكل جزء من مكان» وكل جزء بلون» وكل جزء من 
مصدر مختلف؛ لكنه. في النهاية» جامع أجزاء. إنه كعامل النفايات في عصرناء 
أو كأولئك الذين يفتشون في القمامة» يجمعون الكل واللاشيء في كيس واحد. 
وإذا صح الوصف» فما نقصده ب «الميتا - مغقف» هو ذاك الشخص المسؤول عن 
ثقافته الشخصية السيكولوجي كالذي قصده جان بياجيه في 
شأن اليناء الذاتي للمعرفة أو أو العر فانية («هتمعمعماءم 8.آ))؛ على أساس أن التحول 
إلى المكتبة أو الجامعة صار بالنسبة إليه نافلة. فلا ضرورة لكليهماء بينما يصل إليه 
كل شيء من خلال الشبكة والقنوات الرقمية. 

إن «الميتا - مثقف»» مثقف «فرنكشتايني»» ملفق التكوين؛ وهو المثقف الذي 
نراه على الشاشات الكبرى. فهو يفهم في بعض من الاقتصاد» وبعض من السياسةء 
وبعض من الرياضةء وبعض من الفن أيضًا؛ بيد أنه لا يملك فيها جميعًا مشروعًا؛ 
المشروع بالمعنى النظري المتناسق: مقدمات ومعطيات في شأن الواقع» وتحليل 
منطقى شامل» وبناء بدائل» ونقد. إنه مثقف النشرات الرئيسة» محلل الحوادث» 
على القنوات التلفزيونية العالمية وعبر الإنترنت**. 


رابعًا: ثقافة التضاد والمثقف الناشئ 


إن الثقافة الجديدة التي أصبحت تسري فيناء بدأت تُغيّر المفاهيم والقيم 
والتصورات» وتخترق حتى المخيال الاجتماعى. فلو قارنا بين تصوراتنا للمكان 
في السابق والراهنء لأصابتنا الدهشة من عمق الفارق. وتعبر اللغة العربية عن هذا 
الاختزال للمكان بعبارة «يطوي الأرض طيًا؟. وتنسجم هذه العبارة - اليوم تماما - 
مع ما تفعله تقانة الاتصال؛ في المعلومات» من طي للمكان: الإعلامية والإنترنت 
والبريد الإلكتروني وقواعد البيانات والكابلات الأرضية والبحرية والألياف 
الضوئية ودوائر الأقمار الاصطناعية؛ إذ تحول المجاز في التعبير إلى حقيقة مادية» 


(40) لا ننسب فضل اكتشاف هذه المعاني وبتائها إلى أنفسناء وإنما أوعزت بها لنا تحليلات الطاهر 


591 


ممكنة وملموسة. فعبارة يطوي الأرض طيّاء كانت تستعمل فى البلاغة إشارة 
إلى سرعة الجوادء وقدرته على اختصار المسافات. أما الآن» فأصبحت البلاغة 
تبليعًا حقيقيًا وتجسيمًا فعليًا لمَا كان يعد سابقًا من باب الخوارق والمعجزات» 
لو وصل الأمر إلى حد توقع بعضهم معه حدوث أزمة مرور للأقمار الاصطناعية 
التي تزاحمت في ارتفاعها الثابت بالنسبة إلى الأرض» بصورة يخشى معها تداخل 
موجات إرسالها. 

أصبح البعيد» شاسع البعدء في متناول أيديناء نشاهده ونحاوره. وهكذاء 
لحقت صفة «عن بعد بكثير من ضروب النشاط والأعمال؛ من قبيل الاستشعار 
عن بعد» وعقد المؤتمرات عن بعد والتداول عن بعد» والتعامل مع المصارف عن 
بعد والتعلم عن بعد والعمل عن بعد» وتشخيص الأمراض عن بعد والتسوق 
عن بعد و«التسامر عن بعد» (خدمات المقهى الإلكتروني» تج تجمع البشر من مواقع 

شتی لیتسامروا وجها لوجه). 


أصبحت سمة مجتمع اليوم» والغد القريب» مرتبطة بعبارة «عن بعدا» 
ك«الثقافة عن بعدا و«المثقف عن بعداء ومرتبطة كذلك بعبارة «مابعداء 
ك «مجتمع مابعد الحداثة»» وذلك في إثر انتشار الحاسوب وتُظم المعلومات؛ 
فانتقلنا من ثقافة المجتمع الصناعي إلى ثقافة مجتمع المعلومة. وتبدو مقاربات 
مفكري امدرسة فرانكفورت» مهمة في فهم ما تمارسه ثقافة مجتمع الاتصال في 
تكييف البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمصلحتها وتفسيره. 

إن الفاعل الحقيقي في المجتمعات حاليّاك هو مثقف الوسائط. وهو من ثم 
ثقافة وسائل الاتصال المعاصرة» بما تفرضه من نظم الأيديولوجيات» وبما تسربه 
من رموز وعلامات» تكرس هيمنة الينية الفوقية قية للمجتمع lin 9 .(Superstructure)‏ 
يعني» Bo‏ لمدرسة فراتكفورت (ماركوزه وأدورنو وهوركهايمر ...إلخ)» أن 
التاريخ انحاز عن مساره الصحيح» لأن أيديولوجيا الطبقة المسيطرة نجحت في 
تكييف البنية الاقتصادية التحتية لمصلحتها؛ كما نجحت فى كسب ولاء الطبقة 
العاملة واحتوائها. وتحقق هذا النجاح بوساطة الثقافة الجماهيرية التجارية 
الشائعة؛ فالرأي العام يغزو البيت. وتفتح حجرة النوم» (Tabou) Ce 40 A Les‏ 
لوسائل الاتصال الجماهيري؛ وتتعدل النزاعات القديمة في قلب المجتمع. 


592 


إن وسائل النقل والاتصال الجماهيري» والتقانة الجديدة للاتصال» تؤمن 
السكن والعمل واللباس والسفر» وصناعة أوقات الفراغ. وتترتب عن هذا مواقف 
وعادات مفروضة» وردات فعل فكرية وانفعالية معينة» تربط المستهلكين بالمنتتجين 
ربطًا مستحبًاء بهذا القدر أو ذاك. فالمنتوجات تكيّف الناس» وتصطنع وعيًا زائقًا 
عديم الإحساس» وبما فيه من زيف. وتساهم قيم الدعاية والإشهار في تدعيم هذه 
الحالةء باستحداث طراز من الحياة. وهكذا كانت وظيفة «مدرسة فرانكفورت» 
sS‏ 


ال O E A SS‏ الرفاه الذي يحجم 
آلام الأفراد ومعاناتهم. ويمارس مجتمع الضمير السعيد ات ب بسعادة» لأنها لا 
تستهدف إلا «الإرهاب» و«التخلف»؛ حرب امن أجل عدالة بلا حدودة» من أجل 
«عدالة مطلقة»؛ ويتمثل السؤال المحير في شأن أي دور قام به المثقف ويقوم به 
في منح مثل هذه الحروب التي تدمّر بلدانا وڈ شعوبًا المشروعية والعدالة؟ فوكلاء 
الإعلان والإشهار يصنعون عالم الاتصال الذي يُترجم فيه السلوك الأحادي البعد. 
ولغة هذا العالم هي لغة توحد وتوحيد. وبدا العالم كله» في المدة الأخيرة» als‏ 
ضد «الإرهاب» و«التخلف:؛ فكأنما الحرب هي السلم. أصبح التعريف بالضدء 
بغرض التخفي» بلاغة سائدة في المجتمعات الراهنة؛ بلاغة تبلغ مضامينها تقانة 
المعلومات والاتصالء من قبيل الإقناع أن هذه القنبلة لها طاقة تدميرية مربحة؛ أو 
الحديث عن «القنبلة النظيفة». 
يوجد في مضمون رسائل وسائل الاتصال الحديثة عالم من الإنشاء 
اللغري؛ يحول الجملة إلى صيغة من صيغ التنويم المغناطيسي» تفرض نفسها 
من كثرة تكرارها؛ إذ ثمة طابع استبدادي لهذه اللغة؛ تعابير تضخم أو تقلص 
بناء الجملة الذي يمنع تطور المعنى» باستحدائه صورًا ثابتة تفرض نفسها فرضا 
مجسمًا متحجرًا ثقيلا. وهكذا تُنسب إلى وسائل الاتصال الحديثة والصور 
الإشهارية والدعائية لحرب الإبادة نزاهة أخلاقية» فيترجم السلبي إلى إيجابي؛ 


Hebert Marcuse, L'Homme unidimensionnel: Essai sur l'idéologie de la socièté industrielle (41) 
avancée, Monique Uritting (trad.) (Paris: Edition Minuit, 1968), p. 22. 


593 


ويقوم المثقف بأدوار غاية في الدقة والخطورة؛ يتداخل فيها دهاؤه ومكره وإبداعه 
النظري مع قوة الوسائط الرقمية واتساع دائرة نفوذها. 

إن المجتمعات الحالية هى مجتمعات اتصالية؛ وهذا يعنى أن المعانى 
الجديدة للثقافة تستمدها من الاتصال وتقانته الحديثة؛ فلا معنى للاتواصل. 
وما دام الإنسان موجودّاء فهو يتواصل في مستوى الواقع» أو في مستوى الممكن» 
مع العالم كله. فنحن نعيش في مجتمع الاتصال» ولا يمكننا ألا نتواصل!ء وهذه 
عبارة مركزية عند مدرسة «بالو آلتو»"“. فالاتصال بحسب هذه المقاربةء هو مسار 
متعدد ودائم» ويتفق كل من غوفمان وهال في شأن هذه المقولة. فعند بردويستال» 
يكون الاتصال نظامًا أو مساراء يلتحم فيه المتخاطبون: «الفرد لا يتواصل» بل 
يشارك في الاتصال» ويصبح عنصرًا من عناصره. يمكنه أن يتحرك» وأن يحدث 
ضجيجاء لكنه لا يتواصل. بمعنى آخر» ليس الإنسان هو صانع الاتصالء بل 
يشارك فيه43(6)؛ لذلك. ينبغي تناول الاتصال في مستوى التبادل. 

أما إدوارد هال فيرى في مؤلفه اللغة الصامتة أن الثقافة قابلة للتفكيك» شريطة 
أن تكشف - شيئًا فشيئًا - عن لغتها المخفية الصامتة**). ويركز على كشف هذا 
البعد الخفي للثقافة» مقارنًا الثقافة بالموسيقى؛ إذ لا يمكن أن نصف الموسيقى 
لمن لا يستمع إليها أبدا. فالإنسان لا يمكنه استغلال ما هو كامن في الموسيقى 
إلا إذا حوّلها إلى علامات؛ وهذا ينطبق على الثقافة أيضًا. وفي هذا الاتجاهء 
أف هال في عام 1966 كتابًا بعنوان البُعد الخفي» ركز فيه على هذا البُعد الخفي 
للثقافة الذي يفترض الكشف عنه”*. وربما يكون هال متأثرًا بالتصور الثقافي 
الغربي الذي يفرض أن «يتحرك كل داخل فقاعته». 0 
علاقة الإنسان بالفضاءء. من جهة أن كل ثقافة تنظم الفضاء بطريقة مختلفة 
أساس حيواني متماثل؛ فلكل حيوان حدوده الخاصة. 


Yves Winkin, La Nouvelle communication (Paris: Edition Seuil, 1981), p. 27. (42) 
Birdwhistell. (43) 
Edward T, Hall, Le Langage silencieux (Paris: Edition Seuil, [1959] 1984). (44) 
Edward T. Hall, La Dimension cachée (Paris: Edition Seuil, [1966] 1971). (45) 


594 


يقترح هال أربعة أنماط من المساحات بين الأفراد: حميمية وشخصية 
واجتماعية وعامة؛ وتحتوي كل مساحة على وضعيتين: قريبة وبعيدة. بيد أن 
كل ثقافة تحدد» بطريقة مختلفة» هذه المساحات أو هذه الدوائر/ «الفقاعات». 
وإذا طبقنا هذه السلمية على الثقافة العربية» فإننا نجد مثا أن علاقة Le‏ 
المزارع العربي بشيخه أو بالله ليست علاقة عامة» بل بالعكس» هي علاقة حميمية 
وشخصية؛ ولا يتوسطها أي وسيط. ويدرس هال بنية الفضاء ودلالاته أيضّاء مثل 
الأبواب والأثاث؛ فهي بالنسبة إليه تمنح مثالا دقيًا للتنوع الثقافي للدلالات 
المرتبطة بالفضاء؛ فعند الأميركي مثلاء ينبغي أن يكون الباب مفتوحًاء أما عند 
الفرنسي أو الألماني؛ فالباب ينبغي أن يكون مغلقًا. كما اهتم هال بالفضاء ذي 
التنظيم الثابت» مثل «البناءات»» وبالرقصء أو ما يسميه «رقصة الحياة» ©" (The‏ 
of Life)‏ عهمهط التي تبرز بُعدّا آخر متخفيًا من أبعاد الاتصال: الزمن. 


هكذاء يبرز ذا التداخل العميق بين الثقافة والاتصال فى المجتمعات الاتصالية 
الراهنة التي اخترقت الزمان والمكان. وحتى لا نسقط في معترك المصطلحات 
التي تطلع علينا كفقاقيع المياه» والمتعلقة بال «عن بعد» وال «مابعدا» فنحن 
0 إلى القول إن المصطلحات الحديثة هي مفاتيح ليس إلاء أو شعارات تفسر 
مستوى الحيرة والقلق والكآبة التى تعصف بالفكر. فمثلاء تقترن مابعد الحداثة 
بأزمة فى التمثيل؟ أزمة ما عاد لها أي صدقية للطرائق القديمة لتعريف الأشياء بلغة 
علم الاجتماع. هناء نرى اختفاء الحدود نفسها بين اللغة والشيء الذي تصوره. 
وبطريقة مماثلة» جعل علم اجتماع مابعد الحداثة من الصور إشكالية؛ فالطريقة 
التي ينظر بها أحدنا إلى نفسه. وإلى الآخرء تتأثر بدرجة كبيرة بمناعة إنتاج الصور 
الإعلامية وصناعة الإعلانات والدعاية... 


ظهر مصطلح «الثقافة الجماهيرية»» تمييرًا من ثقافة النخبة» في عُقب الحرب 
العالمية الثانيةء قبل أن يتضاعف وقعه اليوم بفعل انتشار استخدام الإنترنت التي 
تجاوزت أثر التلفزيون فى المجتمعات المعاصرة؛ و«الثقافة الجماهيرية هى الثقافة 


Edward T, Hall, La Dance de la vie, temps culturel, temps vécu (Paris: Edition Seuil, [1983] (46) 
1984). 


595 


التي يجري إنتاجها وفمًا لمعايير العمل الصناعي الآلي الذي يهدف بالدرجة الأولى 
إلى تحقيق المزيد من الأرباح والإنتاج الاستهلاكي؛ وهي موجهة بالأساس إلى 
الجمهور العريض عبر وسائل الاتصال الجمعية. وهو ما يغير وجهة الثقافة من 
مجال المعرفة والتربية إلى مجال المتعة والتسلية» بما يتلاءم مع منطق المجتمع 
الاستهلاكي» حتى بات الاستهلاك الثقافي سلعة تشبه أي سلعة تجارية»””*)؛ وهو 
ما أحدث» من ثم» الوعي المعلب والوعي الجاهز والوعي المفصل ...إلخ. 


إن هذا المنطق» السائد أكثر عبر الإنترنت والبلاغة الإلكترونيةء يقود 
النص المكتوب إلى الانقراض والاضمحلال» ومن ثم يقود إلى القطع مع عصر 
المكتوب. وفي هذا الصدد» يقول ريجيس دوبريه «إن الكتاب هو مجموع مغلق 
على نفسه. وبهذاء فهو في تضاد مع انفتاح النص الإلكتروني» وثمة في ثبات 
الكتابة ما يخالف ميوعة النص الإلكتروني وسيولته. فالكتاب زمنه زمن السرد 
والخبر والقصة؛ وله ابتداء» ويجري إلى خاتمة0*». ففي عصر الإنترنت» «كل 
الناس يحتفظون بحقهم في المشاركة في النص والدخول إليه» من فوق إلى تحت 
وبالعکس» فلا مرکز ولا مرجع جامع»“. وهذا يعني أن الجميع يساهمون 
في تأليف النص وصوغه» وأن الجميع مثقفون ومبدعون» وأنهم نخبة فاعلة في 
المجتمع من دون معرفة حقيقتهم وحقيقة معارفهم» حتى إن كانوا من جماعة 
خفاء الاسم والمجهولية. 

هذه هى إِذا نخب الإنترنت ومثقفوها فى الأدب والفنون التشكيلية 
والموسيقية» وفى الفعل السياسى. إنه إيذان بكسر عقلية النخبة والانتقال إلى 
المجتمع التداولي» حيث الناس فاعلون ومشاركون في أعمال البناء والإنماء كل 
من موقعه وبأدوات تخصصه“. ومن هناء يتكثف الجدل بين المثقف النمطى 
والمثقف الناشئ في العالم السيبراني. | 


(47) حميدة» ص 79-78. 

(48) المرجع نفسه. ص 146. 

(49) المرجع نفسه. ص 146. 

(50) انظر: علي حرب. ثورات القوة الناعمة في العالم العربي.. نحو تفكيك الديكتاتوريات 
والأصوليات (بيروت: الدار العربية للعلوم - ناشرون» 2011). 


596 


خاتمة 


إن السياق العالمي الراهن» بمنطق عولمة الأشياء» وبفروضه التي يسطرها 
صندوق النقد الدولي» ويمليها على الدول «السائرة في طريق الفقرا» ينزع نحو 
تشكيل ثقافة مائعة هشة لا تُعنى بسيرورة المعرفة؛ بل تكتفي بنواتثها وسطوحهاء 
فتنتج مبدعًا ومثقمًا وقائدًا عابرًا «LE‏ وتجعل الفرد مرتهئًا في مرجعياته إلى ما هو 
لحظي عابر» ومنها الصورة التي ينقلها التلفزيون الرقمي والإنترنت. وهذا يتفق 
والفكرة القائلة إن عصر المعرفة والثقافة» بما فيه من نفائس كتب الإبداع ونصوص 
المعرفة وألقاب «العالم» Savant)‏ 6نآ) و«المثقف»». انتهى فعلا؛ وأن عصرًا آخر من 
المعرفة بزِغ» وأخذ يتطور بسرعة فلكية. إنه عصر المعرفة الإلكترونية»؛ وعصر 
المثقف الإلكتروني و«المثقف عن بعد»» وعصر «التيفي - مثقف» و«الميتا - 
مثقف» و«السيبر - مثقف» و«القائد الإلكتروني الافتراضي»» وعصر نخب الميديا 
والوسائط ...إلخ. | 


تحمل هذه التسميات للمثقف الناشئ الذي فرض حضوره في مجتمع المعرفة 
ل 
إلى الأمر بتشاؤم» وإذا تنافذنا مع القراءات القائلة بموت المثقف الأيديولوجي. 
لكن» إذا استوعب المثقف النمطى الواقع الجديدء فربما يستدرك هذا الحراك 
ويتدارك فيدرج ضمن الواقع الافتراضي المتطور باستمرار» حتى لا يجد نفسه 
على هامش الواقع المجتمعي» وحتى لا يتخلى قسرًا عن أداء وظائفه تجاه مجتمعه 
في de‏ اقيم عرف لها لاسا ما في 


يحتاج مجتمع المعرفة إلى مثقف حقيقي» يعيد قراءة هذا المجتمع الموسوم 
بالفجوات التنموية الصارخة» قبل الفجوة الرقمية التى قسمت عالمنا عالمين» 
إن لم نقل عوالم عدة» بدرجات متفاوتة: عالم يتنج تقانة المعلومات والاتصال» 
ويصنع «الملتيميديا» والمعرفة» ويبوجد العلماء والنوابغ؛ وعالم آخر يكتفي 
باستخدام بعض مظاهر التقدم الرقمي واستهلاك المعلومات في حدود ما يخدم 
المصالح الجيوستراتيجية والاقتصادية للقوى المهيمنة على العالم. وإن أدوار 


597 


المثقف تتضاعف» اليوم» في كلا العالمين المتناقضين؛ لكن» لمن ستكون الفاعلية 
والدوام في عالمنا الواقعي والافتراضي: للمثقف النمطيء أم اللميتا - مثقف». أم 


لمثقف من صنف آخر يجمع بين النمطي التقليدي والناشئ» حتى لا يكون مثقف» 
اليوم» مثقَفًا هشّاء مائعاء عابرّاء وعابر الاستعمال» وزائلا؟ 


1- العربية 


براهيم» سعد الدين. «عوامل قيام الثورات العربية». المستقا | . العدد 399 
براهيم ين. "عو ۴ : بي 
(أيار/ مايو 2012). 


أومليل» على. السلطة الثقافية والسلطة السياسية. بيروت: مركز دراسات الوحدة 


العربية» 1996. 


بشارة» عزمی. المجتمع المدنى: دراسة نقدية. بيروت/ الدوحة: المركز العربى 
للبحوث ودراسة السياسات» 2. 


البوعزيزي. محسن . فرضيات في الثورة التونسية. صفاقس: دار محمد علي 
الحامى للنشر» 2011. 

الجابري» محمد عابد. المثقفون في الحضارة العربية: محئة ابن حنبل ونكبة ابن 
رشد. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيةء 1995. 

جدعان؛ فهمي. الطريق إلى المستقبل: أفكارٌ - قوىّ للأزمنة العربية المنظورة. 
بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشرء 1996. 

الجموسي» جوهر. الثقافة الافتراضية. تونس: الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون 
الرسم» 2006. 


598 


حجازي» مصطفى. «ثورة الشباب وتحولاتها الثقافية). مجلة الآخر. العدد 2 
(8 كانون الثانى/ يناير 2013). 

حربء علي. أوهام النخبة أو نقد المثقف. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي 
العربي» 1996. 

. ثورات القوة الناعمة في العالم العربي.. نحو تفكيك الديكتاتوريات 

والأصوليات. بيروت: الدار العربية للعلوم - ناشرون» 2011. 

حميدة» مخلوف. مجتمع الصورة: بين ثقافة الفراغ وفراغ الثقافة. . تونس: الشركة 
à‏ 2009. 

دراج» فيصل. السياسة والثقافة: حوار في العلاقات. ط 2. الدار البيضاء: تانسيفت 
بريس» 1993. 

سعيدء إدوارد. صور المثقف. ترجمة غسان غصن. بيروت: دار النهار. 1996. 

شيللرء» هربرت. المتلاعبون بالعقول: كيف يجذب محركو الدمى الكبار في 
السياسة والإعلان ووسائل الاتصال الجماهيري خيوط الرأي العام؟. ترجمة 
عبد السلام رضوان. سلسلة عالم المعرفة 243. الكويت: المجلس الوطني 
للثقافة والفنون والآداب؛ 1999. 

عبيدات» خالد. «دراسة في الفكر العربي». الرأي (عمّان): 29 نيسان/ أبريل 
2007. 

غنيم» وائل. الثورة 2.0: إذا الشعب يومًا أراد الحياة. القاهرة: دار الشروق» 2012. 

لبيب» الطاهر. «في علاقة الثقافة بالمجتمع: تفكك العلاقة وتعليق الدلالة». مجلة 
الفكر المعاصر. العددان 119-118 (2001). 

المازقي» صالح. الثورة والدولة. دعوة إلى فهم ثورة الكرامة 2. تونس: الدار 
المتوسطية للنشرء 2011. 


599 


مجموعة مؤلفين. وسائل الاتصال وثقافة التغيير: بحوث علمية محكمة. عمّان: 
منشورات جامعة فيلادلفيا - الأردن» 2014. 


2- الأجنبية 


Alexandre, Paul (dir.). L'Aventure Humaine: Encyclopédie des sciences de l'homme. 
Paris: Editions de la Grange-Batelière, 1967. 


Ansart, Pierre. Idéologies, conflits et pouvoir. Paris: Presses Universitaires de France, 
1977. 


Debray, Régis. Cours de médiologie générale. Paris: Gallimard 1991. 
. Critique de la raison politique. Paris: Gallimard, 1981. 


«Declaration of Principles: Building the Information Society: A Global Challenge in 
the New Millennium.» World Summit on the Information Society, Geneva 2003 
- Tunis 2005: Document WSIS-03/GENEVA/DOC/4-E (12 December 2003). 


Gramsci, Antonio. Cahiers de prison. Monique Aymard et Paolo Fulchignoni (trad.). 
Bibliothèque de Philosophie. Paris: Gallimard, 1983. 


Habermas, Jurgen. L'Espace public. Paris: Payot, 1978. 


Haddad, Mezri. La Face cachée de la révolution tunisienne: Islamisme et occident, 
une alliance à haut risque. Paris: Apopsix, 2011. 


Hall, Edward T. La Dance de la vie, temps culturel, temps vécu. Paris: Edition Seuil, 
[1983] 1984. 


. La Dimension cachée. Paris: Edition Seuil, [1966] 1971. 
. Le Langage silencieux. Paris: Edition Seuil, [1959] 1984. 


Krug, Gary. Communication, Technology and culture change. London/ Thousand 
Oaks/ New Delhi: SAGE Publications, 2001. 


Leotard, Jean François. La Condition postmoderne. Tunis: Edition Ceres production, 
1996. 


Marcuse, Hebert. L'Homme unidimensionnel: Essai sur l'idéologie de la société 
industrielle avancée. Monique Uritting (trad.). Paris: Edition Minuit, 1968. 


Winkin, Yves. La Nouvelle communication. Paris: Edition Seuil, 1981. 


600 


التصضل العشروون 
سؤال تجديد أدوار المثقف 


في ضوء تحولات الربيع العربي 
دور التواصل الشبكي والميداني كخيار استراتيجي 


إبراهيم القادري بوتشيش 


تطمح هذه الدراسة إلى فتح ملف نعتقد أنه لا يزال في مرحلة المخاض 
وجس النبض» وأن مفاتيح ألغازه المستعصية تستدعي المزيد من التفكر والتدبر» 
والمساءلة والاستنطاق. وتكمن أهميته في كونه يطرح سؤالا راهنيًا على لحظة 
تاريخية جديدة» يُعاد فيها تشكيل دور المثقف بفعل ما أحدثه الربيع العربي من 
تحولات» وما تمخض عن طفرة التشبيك وتقانة التواصل من تغيرات على مستوى 
مفاهيم المثقف وأدواره المطلوبة. كما تتجسد أهميته أيضًا في ارتكازه على إحدى 
قواعد فلسفة التاريخ التي ترى أن رحلة الحضارات وانتقالها من مستوى تواصلي 
إلى مستوى آخرء يستلزم طرح السؤال في شأن كيفية التعبير عن حالة الوعي بتلك 
النقلة عبر الإمكانات الوسائطية المتاحة» وأن كل تحول تاريخي انتقالي يستلزم 
إعادة صوغ القول في مفهوم المثقف ودوره. وتكمن أهمية الموضوع من ناحية 
ثالثة في استناده إلى قاعدة النقد الذاتي التي ترى أن فكر المثقف وآليات اشتغاله 
ينبغي أن تخضع - من مرحلة إلى أخرى - لعملية اختبار وفحص ومساءلة» لكسر 
الرتابة والقيم الجاهزة» ومواكبة تحولات المرحلة الجديدة. ونحسب أن مرحلة 
التحولات التاريخية الكبرى - وضمنها تحولات الربيع العربي الحالية - تمثل 


601 


محكا حقيقيًا لامتحان قيمة الدور الذي يقوم به المثقف, وتشريحه بمبضع النقد 
والمراجعة في ضوء المتغيرات الجديدة» واستخراج مواطن العطب التي تكتنفه 
وضحخه بطاقة جديدة» وإعادة ترتيب آليات اشتغال المثقف بما يجعله أقدر على 
التكيف مع مستجدات الواقع و«نوازل» التطور المعرفي» وترويض أدواره بالصيغة 
الملائمة للتحولات التاريخية). 

إذا كان من المسلّمات المتداولة أن المثقف يُعد محركا أساسيًا للتاريخ» 
ومساهمًا في نحت منعرجاته الكبرى» حتى أن مفكرًا من طيئة بيار بورديو ذهب 
إلى حد الجزم أن «أقوال المثقفين تساهم في صنع التاريخ وفي تغيير التاريخ»*» فإن 
العالم العربي لا يزال على مستوى خريطة البحث والدرس يشكو شح الدراسات 
التي ڌ تختبر هذه المقولات» وتسبر أغوار دور المثقف في زمن التحولات التاريخية 
والمنعطفات الكبرى كحالة الربيع العربي» بهدف استنباط أنجع الخيارات الثقافية 
التي تجعله إيجابيًا وفاعلًا في حفر مجاري تلك التحولات وإبداعها والمساهمة 
في بناء معمارها. 


لتوسيع رقعة مصادر البحث» إضافة إلى بعض الدراسات التي لا تخلو من 
أهمية» بل إن بعض متونها وقاعدة بياناتها يمداننا بمادة دسمة» عوّلنا أيضًا على 
المتن الميداني المتجسد في الشعارات المنطوقة والمكتوبة» وما تحمله لافتات 
حركات احتجاج الربيع العربي من أيقونات وعلامات سيميائية» فضلًا عن 
الكتابات الجدارية والرسوم الغرافيتية والطرائف المتناثرة في مواقع التواصل 
الاجتماعي. وتتجلى جدوى هذه «الحصيلة المصدرية الربيعية» في كونها رسائل 
بلاغية شعبية تعبر عن تحولات في الذهنية والأفكار التي يحتاج إليها المثقف 
كخيوط مرشدة لإعادة تجديد دوره. 


(1) عبد الإله بلقزيزء نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين (بيروت/ الدار الييضاء: 
المركز الثقافي العربي» 2000(« ص 45-44 وإدوارد سعيد» المثقف والسلطةء ترجمة محمد عئاني 
(القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع؛ 2006)» ص 43-42. 

)2( محمد عابد الجابري؛ المسألة الثقافية في الوطن العربي» سلسلة الثقافة القومية 25؛ قضايا الفكر 


العربي 1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 1994)» ص 13 و15. 
Pierre Bourdieu, Questions de sociologie (Paris: Les Editions de Minuit, 1984), p. 67. (3)‏ 


602 


تأسيسًا على ججماع هذه المعطيات النصية؛ فإننا نسعى إلى تفكيك الإشكالية 
الكبرى لهذا البحث» وهي أن دور المثقف في ظل التحولات التاريخية التي يشهدها 
العالم - وضمنها تحول الربيع العربي - لا يكمن في تغيير المجتمع» بل في فهم 
كيفية تغييره. ومن ثم فإن هذه التحولات هي التي تحدد دور المثقف» وليس 
الأخير هو الذي يحدد دوره فيها بناء على مقاسه الخاص. لذلك نقترح بسط النظر 
فى مسألة تجديد دور المثقف انطلاقا من عمق تلك التحولات التاريخية» وهو 
المثلث الإشكالي المتمثل في التواصل الشبكي المنفتح بوصفه علامة للتجديد 
على مستوى آليات الاشتغال» وتعديل المشروعات الفكرية بما يلائم القضايا 
المعرفية المستعجلةء وتطعيمها بأسئلة إبداعية تراعي متغيرات الربيع العربي. في 
حين يرتكز الضلع الثالث من سؤال تجديد دور المثقف العربي على «المكان»» 
وذلك من خلال توسيع مساحات حضور المثقف» لتشمل إلى جانب مدرجات 
الجامعات ومقار الأحزاب والنقابات والميادين والساحات العمومية» للمشاركة 
في الحركات الاحتجاجية والحلقات النقاشية الفكرية. تلك هي الأضلع الثلاثة 
التي سنسعى إلى ل خيوطها في «الخيار الاستراتيجي» الذي نقترحه هدفا 
رئيسًا في هذا البحث. 


من أجل تحقيق يق هذه الأهداف المعرفية» تبنينا منهجحا تركيبيًا يقوم على التنقل 
عبر دوائر الفهم التي تشمل دائرة المثقف ودائرة محيطه العربي» وصولًا إلى داثرة 
محيطه العالمي من أجل فهم كيفية بناء أدوار فاعلة. واستدعى الارتحال بين هذه 
الدوائر الثلاث توظيف المنهج التاريخي المقارن والتحليل النسقي الشمولي 
0 رامي) والمنهج الاستقرائي والمعطيات الإحصائية» مع الحرص على 
ثيق الأفكار والنصوص المستشهد بهاء فضلا عن الاستعانة بالمقاربة السيميائية 
ل الخطاب لاستخراج الدلالات والإيحاءات الخفية في نصوص شعارات 
الميادين» وإبراز المسكوت عنه؛ في تحولات بنية الذهنية العربية. 
يؤسس البحث على مجموعة من الفرضيات المنبثقة من حالة الانسداد التى 
وَل إليها دور المتقف في 'حوادث الربيع الغرني؛ واستشراك الأدوار البديلة. 
ويمكن إجمال تلك الفرضيات في ما يلي: 


603 


- كل تحول تاريخي يُنتج مفاهيم جديدة خاصة بالمثقف» ويعيد تحديد 
أدواره» ومن ثم» فإن تحولات الربيع العربي ستّفرز أدوارًا جديدة للمثقف العربي. 

- ليس المطلوب من المثقف القيام بالدور الصحيحء بل القيام بهذا الدور 
بصورة صحيحة. 

- إن قيمة الأفكار التي يُنتجها المثقف لا قاس بقدرته وبراعته في التنظيء 
بل بالفائدة والفاعلية والابتكارء ومدى تأثيره في الرأي العام والمساهمة في حفر 
مجاري التغيير» ما يطرح أهمية التواصل الشبكي لتحقيق هذه الفاعلية. 

- أهمية التشبيك فى إعادة البناء والتركيب لصورة جديدة للمثقف العربى 
«الملائم» الذي يزاوج بين نشر المعرفة» والانخراط في الحراك الاجتماعي عن 
طريق تنزيل أدوات المعرفة وتبسيطها وتوزيعها من خلال الوسائط الرقميةء 
تسهيلا للانتشار والتداول والحشد والتعبئة. 

- مع اكتساح المصادر الشبكية المجال المعرفي» فإن دور المثقف بوصفه 
منتيجًا للمعرفة سيتقلص بعد أن أصبحت الشبكة خزانًا للمعارف والأفكار. 

- على الرغم مما نتج من الربيع العربي من انتقادات لاذعة لدور ١‏ لہمثقف 
«التقليدي»» يمكن تطوير هذا الدور باستحداث جسر تكاملي مع دور المثقف 
الشبكي والميداني. 

هذه هي أهم الفرضيات التي سنسعى إلى اختبار مدى صحتها في ثنايا 
البحث» بيد أن الأمر يحتاج أيضًا إلى توضيحات نظرية ومفاهيمية» نقتصر فيها 
على ما نراه مفاتيح أساسية. 

أولا: مفهوم المثقف الشبكي 
بين المرجعية النظرية والإجرائية 

1 - مفهوم المثقف الشبكي 


مصطلح «المثقف الشبكي» من المصطلحات التي أنتجتها تحولات الحداثة 
ومابعد الحداثة» خصوصًا في المجال التقاني والرقمي. وهو مصطلح مركب من 


604 


«المثقف». وهو الاسمء و«الشبكي» الذي يرمز إلى الصفة والنعت؟ ولا نتوخى 
في ما يتعلق بمفهوم المثقف الدخول في تفصيلات هذا المفهوم» وما يرتبط به من 
الدلالات اللغوية والاصطلاحية» أو نعالج تاريخية ظهوره» فتلك قضايا أشبعت 
بحمًا ودرسًا من لدّن لفيف من الباحثين» كماكس فيبر وإدوارد شيلز وهشام شرابي 
وبرهان غليون... وغيرهم. ونكتفي بالإحالة على التفسير اللغوي المركب الذي 
أورده عزمي بشارة*)» وعلى المعنى الاصطلاحي المعمق الذي جاد به قلم علي 
شريعتي*» إلى جانب ما تناولته أقلام ثلة من المفكرين العرب والغربيين الذين 
اهتموا بنشأة مصطلح «(intellectual)‏ مع ظهور «قضية ديرفوس» في نهاية القرن 
التاسع عشر وتطورهاء واستحداث مصطلح «الإنتليجنسيا» في روسيا القيصرية”. 
فتلك بحوث شاملة جامعة» تكفينا مؤونة الخوض فيهاء وتفادي اجترار الأفكار 
نفسها؛ بيد أن مصطلح «الشبكي» يحتاج إلى محطة للتأمل بحكم حداثة مفهومه. 
إذا كانت كل لحظة تاريخية تُنتج مفاهيم ومصطلحات جديدة خاصة 
بالمثقف» فمن المنطقي أن يُولد التحول التاريخي المتمثل في ظهور العصر 
الرقمي الذي نعيش على عتبته» مصطلحات ومفاهيم جديدة من قبيل المثقف 
الشبكي والرقمي والوسائطي والمعلوماتي والميديائي والمثقف الناشط ee‏ 
الافتراضي و«المثقف الجديد» و«الفاعل الجديد» والمثقف المنشق... 
من المصطلحات الرديفة التي د تشي بأدوار جديدة تتماهى مع واقع جديدة 
بات العالم يعيش على وقعها. 


يمكن تحديد مفهوم المثقف الشبكي أنه الشخصية الفكرية التي انخرطت في 
عوالم المعرفة من خلال منظومة التبادل الشبكي التي تقوم على استغلال التقانة 


(4) عزمي بشارة المثقف والثورة» منشورات كلية الآداب بالرباط» سلسلة كراسات الكلية رقم 6 
(الرباط: مطبعة الأمئية» 2013)» ص 9-8. 

TASER RU ae An) 
.50 (بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم» 2007)» ص‎ 

(6) على أومليل؛ السلطة الثقافية والسلطة السياسية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية 
1996( ص 239-238« وعبد المالك وردء المثقف وتحولات الربيع العربي (مكناس: برنت شوب» 


Alain Viala, La Naissance de l'écrivain: Sociologie de la littérature à l'âge : NAS » .8 ص‎ «(2013 
classique (Paris: Editions de Minuit, 1985), pp. 270-280. 


605 


التواصلية في الربط والتشبيك لتحقيق تنمية ثقافية ومعرفية» أساسها التواصل 
المستمر لتبادل الأفكار وقاعدة البيانات والمعلومات والمعارف» بين مجموعات 
من البشر» يتصف من ينضوون إليها بأنهم ذوو أفكار متجانسة وأهداف مشتركة» 
يترتب عنها قيام مجتمعات تخيلية أو افتراضية تؤسس بين أعضائها علاقات 
قوية تساهم في حل بعض المشكلات الإنسانية كالمرض أو الأزمات المالية» 
وتستخدم الحقوق الديمقراطية في ممارسة الكثير من الفاعليات والنشاط 
الإيجابي”©. وتجري وسائل التشبيك من خلال مواقع التواصل الاجتماعي؛ مثل 
الفيسبوك وتويتر واليوتيوب والويكي والمنتديات الإلكترونية والمدونات والبريد 
الإلكترونى والمحادثة والدردشة والحوارات والهواتف النقالة... وغيرها من 
أساليب التواصل D‏ 

تحولت هذه الأشكال الإعلامية من وسيلة للترفيه والتسليةء إلى مصدر مولد 
ومنتج للمعرفة وموزع لها*؛ ومعها تبدلت خريطة المفاهيم وطرائق التعامل مع 
القيم» لأنها تتكلم لغة متحررة من المطلقات والمتعاليات» وتتعامل مع الواقع 
بمفردات الاستحداث والتركيب والتحول والبناء". وتتميز بانفتاحها الشمولى 
على المدارك البشرية المختلفة وبطوفانها المعلوماتى. كما تتميز بسرعة البث 
والانتشار» حتى إن أحد الباحثين شبهها ب «الريزومة»'“ وهي النباتات التي 
تمتد وتتوسع أفقيًا تحت الأرض وفوقهاء وتمتلك قدرة كبيرة على التشبيك 
والاتصال22. 


(7) عبد الغني عماد. الثقافة وتكنولوجيا الاتصال: التغيرات والتحولات في عصر العولمة والربيع 
العربي (بيروت: مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع» 2012)» ص 66-65. 

(8) المرجع نفسهء ص 71؛ وعن أصناف مواقع التواصل الاجتماعي وسياق نشأتها وتعريفاتهاء 
انظر: مصعب حسام الدين قتلونيء ثورات الفيسبوك: مستقبل وسائل التواصل الاجتماعي في التغيير 
(بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشرء 2014)ء ص 109-102. 

(9) قتلونى» ص 84. 

(10) علي حربء ثورات القوة الناعمة في العالم العربي: من المنظومة إلى الشبكة؛ ط 2 (ييروت: 
الدار العربية للعلوم - ناشرونء 2012)» ص 223. 

(11) قتلونی» ص 210. 

(12) مجموعة مؤلفينء الثورة المصرية: الدوافع والاتجاهات والتحديات (بيروت/ الدوحة: المركز 
العربي للأبحاث ودراسة السياسات» 2012)» ص 75-74. 


606 


2- المثقف الشبكى بصفته كائنًا وسائطيا وذانًا مفكرة 


يتميز المثقف الشبكي على المستوى التقني بالاشتغال بالقوة الناعمة الذكية» 
واستثمار الوسائط التقانية الجديدة» وتقنية النص المترابط 80:هم:ز1ا). ويتميز من 
المثقف الورقي في آلية الاشتغال» حيث تتصف مهمة الأخير بالسكونية في إنتاج 
المعرفة ونشرها وتداولهاء بينما تتصف مهمة الثانى بالحركية والتجدد إلى حد 
a‏ وبالإبحار في القارة الافتراضية مجيمًا وذهابًا بحا عن المواقع الثقافية 
والخزانات الوسائطية الرقمية التي تشبع نهمه الفكري؛ وهو في الوقت نفسه 
يكتب لغيره من المبحرين في الشبكة. وعند جمع مادة بحثه» لا يتوانى عن إشراك 
المتخصصين في حقل اهتماماته؛ فيصبح القارئ نفسه مشاركا معه في الإنتاج في 
سياق هذه الدورة الواسعة من «الاقتصاد المعرفي»» على حد قول الفيلسوف بيار 
ليفي”*'". ويقدم الروائي والمبدع الفرنسي جان بيار بالب أنموذجًا لهذا التوجه 
التشاركي مع القارئ”" ما يؤكد أن المثقف الشبكي لا ينتج المعرفة بنفسه ولا 
لنفسه. بل يعتمد روح الفريق والتفكير الجماعي؛ إنه عقل مشارك» ومكوّن من 
مكوّنات العقل الكوكبي. 

بيد أن مفهوم المثقف الشبكي لا يختزل في كينونته التقنية» واشتغاله بآليات 
الترابط الشبكي فحسبء بل هو أيضًا ذاتٌ لها مشروع وخطاب فكري يتضمن 
مواقف وقضايا يعاركهاء من دون أن يزعم لنفسه القيام بدور المخلص المنقذى 
أو يفرض في مشروعه سلطة فكرية ويقيئًا فكريّاء أو وصاية على القيم العامة؛ بل 
يعتمد تقنية الحوار والاستعداد لتعديل أفكاره انطلاقًا من اقتراحات قرائه» فضا 
عن انفتاحه على الآخر» واعتناق هوية كوكبية مفتوحة وعابرة تقتسم القيم الثقافية 


(13) محمد أسليم» «(المشهد الثقافي العربي في الأنترنيت: قراءة أولية»» موقع محمد أسليم 
الإلكترو ني» في : bit.ly/1VNkho0.‏ 
Pierre Levy, «Vers une nouvelle économie du savoir: Des arbres de connaissances à la (14)‏ 
programmation comme des beaux-arts, en passant par l’idéographie dynamique,» So/airis, no. 1 (1994),‏ 
at: bit.ly/1OPNSxS.‏ 


(15) زهور كرام الأدب الر قمي: أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيميةء ط 2 (الرباط: دار الأمانء 2013)» 
ص 41. 


607 


الكونية. إنه المثقف الذي استفاد من دروس تشكل مناخ عالمي جديد تكسرت 
فيه الثنائية القطبية» ثنائية الشرق والغرب» وسقطت فيه الأصنام الخاوية» وظهرت 
مفردات جديدة كالديمقراطية التشاركية والتعددية والشفافية والأقليات والمجتمع 
المدني والأفكار العابرة القارات. واستفاد من ذلك ليُعيد توطين نفسه بوصفه 
مواطنًا يفكر ويعمل ويشارك ويبادر ويتحمل المسؤولية» وينخرط في الميادين 
وفي حركات الاحتجاجء وينتقد ويناقش ويتصل ويُنسق ويبتكر ويقترح كي يفعل 
ويؤثر ويغير ويتغير*". 

بعد رصدنا البناء النظري لمفهوم المثقف الشبكي» نتجه إلى حلحلة مفهوم 
الخيار الاستراتيجي كما هو مسطور في عنوان الدراسة لتبرير استخدامها. 


3- المفهوم النظري والإجرائي لمقولة الخيار الاستراتيجي 


يمتح الخيار الاستراتيجي مفهومه من «الاستراتيجيا» التي تحيل في المعنى 
التداولي على خطة محددة لها قواعدها النظرية» ومخططها ووسائلها وأهدافها؛ ما 
يجعلها منظومة فكرية» ومنهجا في الممارسة والتطبيق. والاستراتيجيا كما يُعرّفها 
البعض هي «خطة شاملة» تنطوي على فن استخدام الوسائل المتاحة لتحقيق 
الأهداف»”“. وإذا كانت قد لبست فى طور النشأة عباءة عسكرية» فاهتمت 
بمجال خطط الحروب. فإنها أصبحت توظف اليوم في مجالات حضارية سلمية» 
حتى غدت مادة لتخصيب الفكر ومعتركات السياسة والاقتصاد» بهدف التأثير 
الإريجابي» والاستخدام الرشيد للإمكانات المتاحة والملائمة لمعطيات المرحلة. 


يُحيل مصطلح «خيار» إلى معنى البديل الذي يطرح ضمن البدائل المتاحة. 
ويجري تفضيله واختياره من بين البدائل» لتلاؤمه مع ظرفية المرحلة التي تنفذ 
فيها الاستراتيجيا؛ فيكون بحسب هذا المنظور يجسد أفضل التمثلات المتاحة 
لمواجهة تحديات تحولات المرحلة التاريخية السائدة» ويتميز بليونته وقدرته 
على التكيف مع المستجدات الطارئة. 


(16) حربء ثورات القوة الناعمة. ص 229. 


( سامر مؤيدء «الاستراتيجية من منظور وظيفى إجرائى5» مجلة الفرات,. العدد 6 (2009)» فى: 
bit.ly/1ORRObS. 1 2‏ 


608 


بعد صوغ الفرضيات وتحديد المفاهيم النظرية والإجرائية» نتصدى لمعالجة 
قضيتين مركزيتين فى هذه الدراسة: أولهما التحولات التاريخية» ونقصد بها 
متغيرات القيم الكونية التي نمطتها طفرة تقنيات الاتصال والتشبيك» وما نتج منها 
من تحولات على مستوى الذهنية العربية المتساوقة مع انفجار الربيع العربي؛ 
وثانيهما أثر هذين التحولين المتكاملين في تحديد أدوار جديدة للمثقف حسبما 
تقتضيه المرحلة الراهنة» وهي قضية تطبيقية سنعالجها ضمن محور الخيار 
الاستراتيجي الذي اقترحناه في هذا البحث. 


ثانيًا: التحولات التاريخية الناظمة لسؤال تجديد دور المنقف 
الطفرة التشبيكية وسياقات الربيع العربي 


ننطلق في تحليل هذا المحور من نقد مقولة ظل المثقف العربي 
ا 
دور المثقف يكمن في تغيير العالم؛ ؛ والحال أن المقولة ينبغي أن تنقلب لتسير على 
قدميها بدلا من السير على رأسهاء بمعنى أن دور المثقف ينبغي أن ينصب في شأن 
فهم العالم قبل أن يُمار س أشكاله النضالية لتغييره""» الأمر الذي يستدعي فهم 
مستجدات المحيط الدولي» ولا سيما في مجال تقانة الاتصال. 


1 - تحولات تقنيات الاتصال والتشبيك 

بوصفها خلفية ناظمة لدور المثقف 

انتقل العالم بفعل سرعة إيقاع الثورة الرقمية وتقانة الاتصال إلى مجتمع 
مابعد الحداثة» وتحول من خريطة التعايش الإنساني إلى خريطة التعايش بين 
الكائئات» وارئسمت فى كوكبه مساقات جديدة» وتقلصت حدوده إلى حل 
جعل بعضهم يتحدث عن «نهاية الجغرافيا»”'» على غرار «نهاية التاريخ؟ التي 

(18) علي حربء أوهام النخبة أو نقد المثقف. ط 5 (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي؛ 
2012(« 155 و176» وأومليل» ص 10. 


تقلص المساحات الفاصلة بين البشر. انظر: حرب» أوهام النخبة» ص 208- 


609 


نحتها فرانسيس فوكوياما. ونشأ أول مرة في تاريخ البشرية زمن عالمي متزامن 
على الكرة الأرضية؛ بعد أن كانت الحضارات في الأزمنة الماضية تعيش منفصلة 
في الزمان”**©. وغدت ثلاثة محددات تُشكل الخيوط المؤسسة لبنيته؟ وهي تقانة 
المعرفة واقتصاد المعرفة ثم مجتمع المعرفة”©. وتبعًا لذلك» صار الانتماء 
الثقافي» وليس الطبقيء هو الطابع المميز لساكنته؛ بل إن تقانة الاتصال احتوت 
مقولة الصراع الطبقي لمصلحة الانتماء الثقافي””؛ ما يضع المثقف أمام dei‏ 
جديدة» وزمن جديد يتكلم لغة خاصة. 

لا يخامرنا الشك في أن سقف دور المثقف تغير بفعل اكتساح الشبكة 
المعلوماتية؛ فما عاد هو «سيد المعرفة كما كان من قبل» بل تقرِّم دوره بعد أن 
أصبحت التقنية الرقمية تنتج حوامل جديدة للتخزين المعرفي» وتمارس تحولا 
انقلابيًا في قدرات الإنسان في التذكر والتمثل والإبداع©. وفي معمعة هذا 
التحول الكوني» غدت الثقافة نفسها صنيعة تقانة التواصل؛ ولا تزال إلى اليوم 
تحفر فيها مجاري عميقة لا يمكن تجاهل تأثيرها في المثقف ودوره» وهو ما 
وقف عنده كاستلزء وحلله بعمق ليصل إلى الحسم بأن الحتمية التقئية أصبحت 
قدرًا لا مفر منه'**؛ بل ذهب شيللر إلى حد القول بضرورة وضع استراتيجياتنا في 
المستقبل انطلاقًا من النظام المعلوماتي المتدفق من PLAN‏ 


(20) جيرار ليكيرك؛ العولمة الثقافية: الحضارات على المحك» ترجمة جورج كتورة (بيروت: دار 
الكتاب الجديد» 4) ص 484. 

(0 كمال عبد اللطيف» المعرفي» الأيديولوجي: الشبكي: تقاطعات ورهانات (بيروت/ الدوحة: 
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» 2012( ص 23. 

)22( هربرت شيلرء الاتصال والهيمنة الثقافية» ترجمة وجيه سمعان عبد المسيح (القاهرة: الهيئة 
العامة للكتاب» 2007(« 96. 

(23) تقرير المعرفة العربي للعام 2009: نحو تواصل معرفي متنج (أبو ظبي: برنامج الأمم المتحدة 
الإنمائي/ المكتب الإقليمي للبلدان العربية بالتعاون مع ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم: 2009)» 
ص 33. 


Manuel Castells, L'ère de l'information. vol 1: La Société en réseau (Paris: Fayard, 1998), (24) 
p. 160. 


(25) شيلرء 71 


حلت تقانة المعلومات بوصفها خيطا موجها للثقافة والمثقف مكان 
المنظومة الأيديولوجية المغلقة؛ فما عادت هناك ثقافة رأسمالية وأخرى اشتر اكية» 
أو مثقف «تقدمي» وآخر «رجعي»“؛ بل إن الشبكية المفتوحة أتاحت الفرصة 
أمام الجماعات للتعبير عن آرائها من دون إكراهات أيديولوجية» وأصبح كل واحد 
يساهم في تغيير «الآخرة بصورة من الصورء ما أدى إلى انبلاج واقع جديد له سمة 
مزدوجة سمّاها علي حرب «التشابك والتواطؤ؟ بسبب تداخل مصائر البشرية على 
المستوى الكوكبي”» ما يستدعي مراجعة مواقف المثقف. وإعادة صوغ أدواره 
نتيجة هذا المتغير العالمي. 


تأسيسًا على هذه التحولات التقانية» تحولت المعرفة إلى العالم الافتراضي 
الذي أسست فيه «حياة ثانية» تضم أروقة افتراضية عدة» كالجامعة الافتراضية 
والمعاهد الإلكترونية والتلميذ الرقمي**» والمثقف الرقمي الذي ما عاد في 
حاجة إلى رضى الناشرء أو إلى سمعة علمية تتيح له نشر كتبه» بل صار بإمكانه أن 
ينشر مؤلفاته متى شاء. وإذا كان يمتلك بضاعة فكرية قيمة» فيمكنه أن يزاحم بها 
المثقف الورقي المرموقء أو ربما يربو مكيال وزنه العلمي عليه. 


من تجليات التحولات أيضّاء إعادة تنظيم مصدر المعارف وتوزيعها؛ إذ 
صارت تقانة الاتصال تقوم على مبدأ تجزئة القوة التقليدية لمصدر المعرفة 
وتفتيتها إلى أجزاء يسهل وصول الأفراد إليهاء وتحول دون احتكارها من طرف 
المصدر القوي» ما يعني تعميم المعرفة وتسهيل وصول المجتمعات والأفراد 
إليها”*». وبالمثل» عرف توزيع المعرفة تحولا انتقل بمقتضاه من الهرمية العمودية 
إلى الخطية الأفقية» أي الشبكية» فتحولت من قوة كانت حكرًا على النخب الثقافية 
إلى عموم الناس» ليصبح المتلقي في غنى عن المثقف الذي كان مزوده الرئيس 
بالمعارف؛ إذ أفلحت الثورة المعلوماتية في جعل المعرفة في متناول الجميع› 


(26) الجابري» ص 186-185. 

(27) حرب. ثورات القوة الناعمة.» ص 18. 

Michel Larrory, «L'élève numérique: Comment pensent et agissent les digital natives,» Le (28) 
Monde de l'éducation, no. 368 (Mars 2008), p. 62. 


Clay Shirky, «The Political Power of Social Media, Technology: The public Sphere and (29) 
Politic Change,» Foreign Affairs, vol. 90, no. 1 (2011), at: htips://g00.gHVHOdD. 


611 


وأضعفت سلطة المثقف «التقليدي»» وجعلت «إقطاعه المعرفى» ينهار تحت 
ضربات معاول الشيكة العنكبوتية9 وانتقلت بالمتلقي من مربع قبول سلطة 
المثقف إلى مربع المشاركة في إنتاج المعرفة» بعد أن صار هو نفسه قادرًا على 
تزويد شبكة المعارف بنصوص رقمية أو وثائق أو مذكرات شخصية أو إحصائية 
أو كتب أو مقالات”©. كما غيّرت في تموضعاته من رفوف المكتبة التقليدية إلى 
المكتبة الإلكترونية» الأمر الذي يعكسه أنموذج وثائق ويكيلكس التي أعطت 
المؤرخ وثائق رقمية جديدة على الشبكةء عدَّها أحد الباحثين ثورة حقيقية غير 
مسبوقة في مجتمع المعرفة الرقمي””؛ وبذلك كسر احتكار المثقف «التقليدي» 
مجال المعرفة» ما يحتم عليه تجديد أدواره. 


2- أدوار متحاوزة 


من البدهى أن تؤثر التحولات الجديدة التي لحقت بسوق الثقافة في أدوار 
المثقف. ويمكن في هذا الصدد تسطير بعض الأدوار التي أصبحت متجاوزة 
تحت ضربات هذه التحولات؛ فمن الأدوار التي كسرتها معاول منصات التواصل 
الشبكي» نيابة المثقف عن تمثيل الناس والتعبير عن أفكارهم بلسانه. فبعد أن 
صارت هذه المنصات حاضنة كل الكتاب والمنخرطين» تلاشى دور الوكالة الذي 
كان يقوم به المثقف نيابة عن الجمهور وصار الناس في هذه المواقع يعبرون عن 
أفكار هم بأنفسهم و فقا لأنمو ذج «التمثل الذاتي» + .(Auto - representation)‏ 


بالمثل» ثمة دور آخخر أصبح متجاورًا أيضًا بتأثير التواصل الشبكي؛ وهو 
الدور الفردي الذي وسم أداء المثقف العاجز عن توسيع قاعدة قرائه» وهو العطب 
الذي اشتكى منه المثقفون العرب دائمّاء وتباكوا على غياب القارئ. والحال أنه 
لم يبق في هذا العالم مكان للمثقف المنعزل**؛ فالشبكات التواصلية ولدت 


(0) بلقزيزء ص 80. 

(31) أسليم. 

(32) مجموعة مؤلفينء ظاهرة ويكيلكس: جدل الإعلام والسياسة بين الافتراضي والواقعي (ييروت/ 
الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات؛ 2012)» ص 355-354. 

(33) المرجع نفسه. ص 209. 

(34) ليكيرك» ص 472. 


جمهورًا عريضًا وصفه بعضهم بأنه «ثالث أكبر أمة بعد الصين والهند»”*؛ الأمر 
الذي تعضده الإحصاءات في شأن تزايد الاستخدام العالمي للإنترنت ووسائل 
الاتصال بكثافة في العقد الأول من القرن الحالي*. ولا يساورنا الشك في أن 
هذا التحول ينهي تمامًا دور المثقف المنعزل» وينقله إلى مربع المثقف المتصل» 
أو «المثقف الجماعي» على حد تعبير بيار ED ie)‏ 

من أدوار المثقف التي نحسب كذلك أن التحولات العالمية وتقانة التشبيك 
على الخصوص قلّصت من حجمهاء دوره في الدفاع عن الهوية؛ إذ نتج من 
التحولات الجيو - سياسية ظهور فكرة «السيادة المتقاسمة» التى تعد مناقضة 
مبدأ سيادة الدول» وأصبحت مساحة القانون الدولي تتسع لتتجاوز المعاهدات 
والاتفاقات وتمس القيم المجتمعية الدولية*» ما غير مفهوم الخصوصية والهوية 
التي أصبحت - كما فطن إلى ذلك أحد الباحثين - هوية «مركبة تستمد مقوماتها من 
مصادر مختلفة منفتحة على عوالم متعددة»!*0» وتتلون بألوان التطورات الاقتصادية 
والتقانة الحديثة التى حولتها إلى مفردات النسبية والهوية المهجنة. وصار المثقفون 
افئة اجتماعية عالمية عابرة للأمم»””*» ما ترتب عنه بلورة مفهوم عالمي جديد 
للمواطنة» يتمثل في «المواطنة الرقمية6 أو بالإنسان الرقمي ذي الأنا التواصلي”“؛ 
ما يفرض على المثقف إعادة السؤال في شأن استمرار صلاحية الدور الذي كان 
يقوم به تجاه هذه الأيقونة التي متّلت أبرز الأيقونات في مشروعه المجتمعي. 


(35) السيد ولد أباه الثورات العربية الجديدة: المسار والمصير (بيروت: جداول للنشر والتوزيع» 
71 ص 40. 

(36) انظر الإحصاءات التي وردت في: قتلوني») ص 73 

Levy. (37) 

(38) ولد أباه ص 46. 

(39) مجموعة مؤلفينء الانفجار العربي الكبير: في الأبعاد الثقافية والسياسية (الدوحة/ بيروت: 
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» 2012)» ص 96. 

(40) لا تنفى هذه العالمية التقاليد الوطنية كما عبّر عنها المثقفون الأوروبيون واليايانيون» انظر: 
ليكليرك ص 478 و483. 

(41) حرب» ثورات القوة الناعمة» ص 12 و5 1ء وكمال عبد اللطيف» الثورات العربية: تحديات 
جديدة ومعارك مرتقبةء منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباطء سلسلة بحوث ودراسات رقم 61 
(الرباط: دار أبي رقراق للطباعة والنشرء 2013)» ص 46. 


613 


3- تحولات الربيع العربي: ميلاد ذهنية عربية جديدة 
ولحظة تأسيس أدوار جديدة للمثقف العربى 


يؤكد معظم الدراسات أن الربيع العربي يمثّل علامة فارقة» ومجرى جديدًا في 
تاريخ العالم العربي» الأمر الذي تعكسه دراسة غربية حديثة يحمل عنوانها شحنة 
دلالية على هذا الارتحال نحو زمن عربى جديد2*» لاامن حيث تداعياته السياسية 
فحسبء بل من حيث تشكيله بنية ذهنية جديدة أيضًا جعلت كمال عبد اللطيف 
يموضعها - وفقًا للنمذجة التحقيبية التي يقترحها لتاريخية الفكر العربي - في 
سياق مرحلة متقدمة يسميها «لحظة الوعي بالذات»*» ويؤطرها ضمن المرحلة 
الرابعة من مراحل السياقات التاريخية المؤسسة لمشروعات الإصلاح السياسي 
والفكر النهضوي العربي. 


في المنحى نفسه. عدّ علي حرب الربيع العربي فتحًا لعهد جديد سماه عصر 
Past} ci, An‏ في حين عبّر عزمي بشارة عن هذا الولوج العربي لعصر 
جديد بالقول إن «مرحلة جديدة قد بدأت تلوح في الأفق»”“» وهو حكم استقاه 
من قلب التغيرات التي طرأت في نظام الحكم العربي المتحوّل من قبضة الحزب 
الحاكم وحكم «الحبايب والأقارب» إلى حكم يجري التنافس عليه في سوق 
الانتخابات؛ بل نحت في سياق متابعته وتشريحه ثورات الربيع العربي مقولة غاية 
في الأهمية نحسب أنها مفيدة فى قراءة مجريات هذا التحول» وهى مقولة «القابلية 
للثورة»”*» ويقصد بها ظهور مرحلة جديدة بلغ فيها الوعي العربي درجة عالية 


Lin Noueihed & Atex Warren, The Battle for the Arab Spring: Revolution, Counter-Revolution (42) 
and the Making of a New Era (New Haven, CT: Yale University Press, 2012). 


(43) عبد اللطيف» الثورات العربية» ص 87» وكمال عبد اللطيف» أسثلة الحداثة في الفكر العربى: 
من إدراك المكان إلى وعي الذات (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر» 2009)» الفصل الأول» 
ص 79-59. 

(44) حرب» ثورات القوة الناعمة» ص 9 و156. 

)45( عزمي بشارة الثورة التونسية المجيدة: بنية ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها (بيروت/ 
الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» 2072( ص 15؛ ولو أنه تحفظ إلى حين اتضاح 
معالم ثورات الربيع العربي. 

(46) المرجع نفسه» ص 18-17 و51. 


614 


من الشعور بالمعاناة» يجعل تغييرها ممكنًا بالفعل المضاد لمجراها بفضل توافر 
الشروط الملائمة GES‏ 


على الرغم من مبالغة دراسات رأت في مواقع التواصل الشبكي» ولا سيما 
الفيسبوك محركا لحركات الاحتجاج العربي» في ما أصبح يعرف ب «أسطورة 
الفيسبوك)» فلا يمكن إنكار دوره في زيادة جرعات الوعي والتعبئة للتغيير. ولا 
غرو حين عدّه عزمي بشارة «مكان لقاء» ووسائل لإنتاج الوعي» وإنتاج الجماعات 
الاحتجاجية»» وآلية للحشد والتعبئة وتوليد «الزمن الوطني المتجانس»***» الذي 
يعبر عن سيولة حوادث جهة ما داخل أي وطن نحو باقي الجهات الأخرى. فتوارى 
بسبب ذلك المثقف المناضل» ليحل محله «الناشط الشبكي»» أو «الميديائي» الذي 
يهتدي بمعايير العقل الكوني» ولا يخضع لتوجهات دولة أو PRE pol je‏ 


تكشف معاينة الوقائع والحوادث المرتبطة بالربيع العربي عن تحول آخر 
في عقلية المجتمع العربي؛ ويتعلق الأمر بالتحول الذي أصاب البنية العمرية 
للفاعلين الجدد في التغيير» وهي فئة الشباب الأكثر تمثيلًا في خريطة استخدامات 
منصات التواصل الشبكي والميداني» خصوصًا شباب البطالة المتعلمة التي تملك 
نصيبًا محترمًا من الثقافة» وتحمل شهادات Job CL‏ مرة تدخل هذه الفئة 
باب التاريخ مدفوعة بشعور التهميش الذي شملهاء وبمشهد جديد غير مألوف 
يتجلى في استعدادهاء بل تصميمهاء على التضحية بكل شيء» حتى بشروط بقائها 
الحيوي» وتوظيف سلاح الجسد في أفظع المشاهد المؤلمة (الإحراق) لتحقيق 
مطالبها. 

إذا كانت الفئة العمرية الشابة لا تحدد - كما يذهب إلى ذلك بورديو - 


(47) عزمي بشارة» في الثورة والقابلية للثورة (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة 
السياسات» 2012)» ص 61 و64. 

(48) بشارة» الثورة التونسية المجيدة» ص 150. 

(49) ليكيرك»› ص 473. 

(50) جاك قبانجى» «لماذا ”فاجأتنا“ انتفاضتا تونس ومصر؟: مقاربة سوسيولو جية»» مجلة إضافات» 
العدد 14 (2011)» ص 25. 


615 


بالأعو «pl‏ بقدر Le‏ تتحدد بالحيوية والدلالات السياسية» فإن الربيع العربي أفرز 
معطى جديدًا عمل على خلخلة نظام توزيع الأدوار بين مختلف الأعمار؛ إذ 
إن معظم الأحزاب والتنظيمات المدنية العربية ظل مُخلصًا لنظام يمنح السلطة 
للكهول والزعماء القياديين الذين بلغوا من الكبّر عتيًا. لذلك فإن مقولة «لقد 
هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية» التي راجت في وسائل الإعلام (عبر قناة 
الجزيرة)» تحمل رمزية خاصة تُحيل على تحول في الذهنية العربية نحو تقاسم 
الأدوار بدلا من احتكارها. وتُوحي قراءة ما وراء سطور هذه المقولة باستتتاج أن 
خطابها يرمز إلى ما صار يقتضيها لانتقال الثقافي والسياسي بتسليم القوى الهرمة 
مسؤولية التغيبر للفئات الشابة» ما يشي بتحول من عقلية الحجر والوصاية على 
إبداع الشباب وتعطيل حركيتهم» إلى ضرورة إسناد دور لهم والاعتراف بذلك. 
وأن هذه الفئة التي كان ينظر إليها بوصفها مرادفة للعبث واللامبالاة» ويكيل لها 
المثقف العربي ثم التسرع والمراهقة السياسيةء أثبتت في ظل تحولات الربيع 
العربي أنها على قدر كبير من المسؤولية والوعي والتنظيم والحس السياسي. 

لم تقتصر تحولات الربيع العربي على تغيبر الأدوار تأسيسًا على البنية العمرية 
الشابة فحسب» بل حتى على مستوى الجندر» إذ ارتفع معدل المشاركة النسائية 
في عملية التغيير. ونستحضر في هذا الصدد أنموذج مشاركة النساء اليمنيات 
في قيادة الحراك الاجتماعي» ومن ضمنهن الناشطة المبدعة توكل كرمان. كما 
شملت التحولات عملية الاحتجاج النسوية بظهور أسلوب جديد يتجلى في 
التعري المضاد”'*» ما يعكس بداية انكماش العقلية الذكورية المتسيدة» وحلول 
زمن جديد ينصف المرأة ويُحمّلها مسؤولية إنجاز أدوار التغيير أيضًا. كما تحوّلت 
الأمكنة الجغرافية لتشمل إلى جانب المدن. الأرياف والهوامشر62. 

إننا إِذًا أمام معادلات جديدة» بل أمام تحول بيوسيكولوجي في الذات 
العربية”*» تحول أفرز ظاهرة «الكائن الشبابي» و«الظاهرة النسائية»» كلحظتين 


(51) حرب» ثورات القوة الناعمة» ص 9. 
)52( مجموعة مؤلفين» الثورة المصرية» ص 97. 
(53) مجموعة مؤلفينء الانفجار العربى الكبير» ص 76. 


616 


متميزتين» تؤسسان لوجوب إسناد دور ما إلى هذه الشرائح في مرحلة مابعد الربيع 
العربي؛ الأمر الذي ينبغي أخذه في الحسبان عند تحديد أي دور جديد للمثقف. 
تكون هذه الفثة الشبابية المسنودة إلى رمزية الشجاعة وقيم التضحية 
والمروءة والفتوة» وراء تحول جديد أفرزه الربيع العربي أيضًا: إنه انبثاق «زمن 
مابعد الخوف» الذي هو في نظرنا من أبرز التحولات السيكولوجية الإيجابية التي 
كسبتها الذات العربية» وسيكون لها تأثير في تبني الأدوار المستقبلية للمثقف. 
فالانتصار على عقدة الخوف أخرج الوطن العربي من ثقافة الخنوع والتسليم 
بالأمر الواقع» إلى ثقافة الاحتجاج والتزول إلى ا والاستعداد لتقديم 
الأجساد إلى ألسنة النيران» أو إلى سيوف الطغاة» بغية تحقيق المطالب العادلة. 


ah SS e 
هذا التحول النفسي؟ إذ أصبح كل من يستخدم الفيسبوك أو تويتر أو المدونات‎ 
يشعر بأنه مسنود من جماعة أكبر» ومعضود بقوة معنوية تُحول عالم الافتراض إلى‎ 
واقع. فالمنصات الشبكية ضخت في الشعوب العربية جرعات كبيرة من الجرأة‎ 
وثيات الجنان؛ كما أعادت إحياء الضمير الجمعي المتمرد على الفردية» حيث بدا‎ 
واضحا في مواقع الترابط الشبكي» وترجم في «مليونيات» الميادين التي رفعت‎ 
فيها شعارات تعبر نحويًا بضمائر الجمع (نحنء نحناء إحناء داحنا)**؛ الأمر الذي‎ 
يؤكد تأكل قشرة الخوف مع صعود الروح الجماعية - التآزرية.‎ 


تنامى التآزر الجماعي لكسر شوكة الخوف مباشرة بعد إحراق الشهيد 
البوعزيزي نفسه؛ وهي حادثة لها رمزية ودلالات بعيدة الغور» حيث إنها تحيل 
على عمل «تطهري» و«تطهيري» في الوقت نفسه؛ تطهري لأن حركة استشهاد 
البوعزيزي تعني أنه فقد معنى الحياة والكرامة الإنسانية» فأراد أن يطهّر نفسه. 
و«تطهيري» بالنظر إلى ما أعقب عملية الإحراق التي حدثت بمسمع الملا وبصره. 
وفي سوق عام يمثل ملتقى الناس» اختاره الشهيد ليحمل مكوّنات المجتمع 

(54) من أمثلة ذلك ما كب في الجدارية: #نحن لا نستسلمء نتتصر أو نموت»؛ 9إحنا حنحمي أرض 
النيل». انظر: نادر سراج» مصر الثورة وشعارات شبابها: دراسة لسانية في عفوية التعبير (بيروت/ الدوحة: 


المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» 2014)؛ ص 106. 


617 


المسؤولية”؟» كأنه احتجاج على ثقافة الخوف والخنوع التي غرست أظافرها 
بقوة في جسد المجتمع العربي ردحًا طويلا من الزمن. بيد أن استشهاده حول 
الاحتجاج الفردي إلى حركة تفاعلية تجشدت في انتقال الاحتجاج من الذات 
الفردية اليائسة إلى الذات الجماعية المستنهضة. وأسّس لحظة فاصلة بين زمنين: 
زمن الخوف والرهبة» وزمن الإقدام والجرأة والصرخة في وجه الظالم. 


من جهة أخرىء أفرزت تحوّلات الربيع العربي عقلية جديدة ة تتجاوز في 
رؤيتها مفهوم الزعامات الكاريزمية والنماذج والمثل العليا؛ وحسئنا أن حركات 
CLS gr‏ عن عدم LA‏ التوجيه من «فوق». 
أو الخضوع للتدرج الهرمي في التنظيم» أو البقاء رهن | إشارة «المرشد» أو الزعيم. 
كما ظهرت بوصفها ذهنية متمردة على منطق التسيد والنيابة عن غيرهم في التعبير 
عن المواقف. فالفاعلون في الربيع العربي كانوا في غنى عن أي زعامة تكبل 
روح إبداعهم؛ أو توجه حركتهم بما لا تشتهيه أنفسهم**؟ فهم يرتبط بعضهم 
ببعض » ويتحركون عبر تشبيك مرن قابل للتغيير» من دون أوامر من قيادة أو 
مركز» ومن دون ارتهان بنظرية مثقف أو فتوى فقيه» أو أمر زعيم قبيلة؛ فكانت 
مواقع التواصل الشبكي بمنزلة قائد لا يملك جسدًاء بيد أنه يملك عقلا dde‏ 
وتخطيطًا محكمًاء ويعرف كيف يكسب عطف الرأي المحلي والدولي6. 


على غرار رفض الزعامات والقادة» أماطت حوادث الربيع العربي اللثام 
عن اتجاه جديد في العقلية العربية يتمثل فى رفض الأيديولوجيات الأحادية 
والبراديغمات» في مقابل اختيار مبدأ التوافق؛ فغدت الميادين والساحات العمومية 
وسطا تلتقي فيه التيارات» وتتفاعل فيه الطوائف والديانات؛ إذ امتزجت شعارات 
العلمانيين بالإسلاميين والليبراليين» والمسلمين بالمسيحيين» والاتجاهات التي 

بينها إرادة التغيير 69 وهيّأت لهم منصات التواصل الشبكي تحقيق قيق ما سماه 
00 باه «تزامنية المشاعر» وائتلافية الأهواء والأحاسيس » بعيدًا 2 اثتلافية 


(55) يشارة. الثورة التونسية المجيدة ص 139. 

)56( مجموعة مؤلفينء الانفجار العربي الكبير» ص 74؛ بشارة» في الثورة والقابلية للثورة» ص 67- 
8» وحربء ثورات القوة الناعمة» ص 148. 

(57) مجموعة مؤلفين» الثورة المصرية» ص 68. 

(58) سراجء ص 83 وحرب. ثورات القوة الناعمة» ص 146. 

(59) ولد أباء ص 134. 


المصالح الضيقة التي تعصف بأي حركة احتجاجية؛ وتُعيدها إلى المربع الأول. 
فالعقلية العربية سئمت من الأيديولوجيات والنظريات الفاشلة التي تقذف بها نحو 
مستنقع الوهم» والغد الذي لا تشرق شمسه. 


لعل من أبرز التحولات التي أفرزها الربيع العربي أيضًا على صعيد الذهنية 
العربية» ظهور الثقافة الناعمة التي تجنح نحو التغيير بأسلوب السلم والحوار» 
بل أوجدت إشراقات إبداعية طريفة» تمخضت عنها هندسة أنموذج احتجاجي 
يُعد من أرقى النماذج التي عرفها التاريخ الراهنء وأبهر العالم؛ ا 97 
العمل الفني في إبداعيته وخروجه عن المألوف في تاريخ الثورات؛ بل هو 
إلى «المعجزة»“. فمعظم ثورات الربيع العربي اتسم بطابعه السلمي 00 
بدليل ما رفع في تظاهراته من شعارات وإبداعات فنية سلمية» امتزجت فيها 
حرارة الدفاع عن المطالب. وصيحات المظلومين» بوداعة الكرنفال الراقص» 
والصور واللوحات الفنيةء والنكات الهزلية والخطوبة والأفراح» مقدمة بذلك 
لوحة تختلف عن لوحات ثورات التاريخ قديمه وحديثه» لأنها لم تستعمل مدفعًا 
ولا بندقية؛ بل إن الفاعلين الشبكيين في اليمن اشترطوا على من ينضم إليهم 

من العسكريين وأهل القبائل أن يتخلوا عن أسلحتهه” ويعوضوها بالهتافات 
السلمية؛ إنها خيار "حبي؟ بكلمات أحد الباحثين2. 


النًا: دور التواصل الشبكي والميداني بوصفه خيارًا استراتيجيًا 


ل نزعم أن هذا الخيار الاستراتيعجي !2 يقدم وصفة جاهزة» بقدر ما هو 
ترتيب لتصورات مبنية على التحاليل والاستنتاجات السابقة» وتركيب يُدرج في 
سياق صيرورة متحولة تروم إيجاد صيغة من صيغ العمل لوصل منجزات الثورات 


(60) المرجع نفسه» ص 143» وحرب» ثورات القوة الناعمة» ص 8. 

(61) حرب» ثورات القوة الناعمة» ص 143. 

(62) سراج» ص 91. 

(63) على الرغم من أن عنوان الدراسة يكتفي بذكر تحولات الربيع العربي بوصفها خلفية محدّدة 
لتجديد أدوار المثقف. فإن ذلك يُدرج ضمنئيًا في خحانة التحولات العالمية التي أنتجتها الثورة التقنية 
والتشييك» من جهة الدور الذي قامت به في إنتاج ذهنية عربية جديدة كانت وراء ثورات الربيع العربي. 


619 


السياسية التي جاء بها الربيع العربي» بثورة ذهنية تصيب مراميها البعيدة» ويكون 
المثقف الشبكي هو الفاعل الأساسي في تحقيقها عن طريق الجمع بين الفكر 


يقوم الخيار المقترح على ثالوث يجمع بين التشبيك ونشر المعرفة والمعاينة 
الميدانية؛ بُغية تحقيق جملة أهداف تتجلى في العمل الفكري الجماعي التبادلي؛ 


وتفعيل العقل التداولي التشاركي من خلال منظومة التشبيك الممأسس؛ وتصحيح 
أخطاء ثو رات الربيع العربي» وإتمام معارك إصلاح الذهنيات؛ وتحصين مكتسبات 
الثورات العربية وتعزيز مشروع الربيع العربي ونشر قيمه؛ والمشاركة في معارك 
الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان» ومحاربة الفساد بالحوار والنقاش» وبتبادل 
قاعدة البيانات عبر منصات الترابط الشبكي؛ وتجديد إنتاجات المثقف باقتحام 
الإشكاليات المعرفية المرتبطة بتحولات الربيع العربي» وتبسيط المشروعات 
الفكرية النهضوية» وتحويلها إلى نصوص رقمية واسعة الانتشار والتداول؛ 
وحضور المثقف في الميادين والساحات العمومية. 


نميل إلى الظن أن فاعلية هذا الخيار الاستراتيجى ات بمراعاة بعض 
المعطيات. نذكر منها: | 

- عدم تضخيم دور المثقف الشبكي» حتى لا نحاسبه محاسبة جائرة تتجاوز 
مقدار دوره الحقيقي؛ إذ دأب الجمهور على تمثل صورة نمطية في شأن دور 
المشقف» تجعله في مستوى «مافوق الثقافي»» وتلبسه عباءة المسيح الذي يخلص 
العالم من أزماته وآلامه» ويملك مفاتيح التاريخ وشفرة التغيير» في حين أن دوره» 
كغيره من سائر فئات المجتمع» يكمن في الدفاع عن الحرية والعدالة والتنمية» «ما 
استطاع إلى ذلك سبيلا». 

- إشراك الشباب والفاعلين الشبكيين الذين كان لهم ذراع طويلة في الحراك 
الاجتماعي» والاستفادة من مواهبهم وخبراتهم التقنية والتواصلية. 


620 


- ابتكار الأفكار الجديدة» وتغيير أنماط القراءة وخرائط المعالجةء بما 
يتماشى مع إيقاعات تحولات البُنى الثقافية والسياسية» والمتغيرات التي اخترقت 
نسق القيم في سوق ثقافة متعولمة؛ والاقتناع أن العصر الذي كان المثقف (الفقيه) 
يُعد من «ورثة الأنبياء» ولَّىء وأن دوره اليوم أصبح محكومًا بهذه المتغيرات*“. 

- تجاوز أخطاء المثقف «التقليدي»» ولا سيما ما يتعلق بتحرره من سطوة 
رجل السياسة» وعدم تصميم مشروعاته الفكرية على مقاسه الخاص» وتجاوز 
أمراضه النفسية التي عالجها عبد الإله بلقزيز بنظرة شمولية وبقدر كبير من 
الموضوعية. ما يكفينا مؤونة الولوج إلى تفصيلاتها*“. 


- المشاركة في إنجاز ثورة العقل في مرحلة مابعد الربيع العربي» عن طريق 
التوعية الشبكية والاستنهاض والتنوير. 

- اعتماد مبدأ التكامل الذي مثل إحدى فرضيات هذا البحث» بمعنى أن 
الخيار الاستراتيجي الذي نقترحه لا يلغي دور المثقف «التقليدي» ونضاله الذي 
امتد عقودًا من الزمن؛ بل تبدو الحاجة إلى منابع مرجعياته الفكرية» وإلى خبرته 
النضالية مهما تقادمت» لكن بأداء جديد يتشرب من الزمن التقاني» ويحيّن نفسه 
مع مستجدات النظم الفكرية وسوق القيم الثقافية» ويتماهى مع تحولات الربيع 
العربي. 

لا مشاحة في أن سياقات انفجارات الربيع العربي وضعت المثقف «التقليدي» 
في قفص الاتهام» خصوصًا ما يتعلق بعدم تنبؤه وقوعها''*؛ وعدم الانضمام إلى 
حركات الاحتجاج» وبقائه في مقعد المتفرج. لكن يبدو على الرغم من صدقية هذه 


(64) بلقزيزء ص 16 و19. 

(65) المرجع نفسه» ص 49-37 و151-150. 

(66) في شأن عدم تنبؤ المثقفين العرب بائتفاضات الربيع العربي» وفي سياق التاريخ المقارن 
الذي يثبت أن المثقفين الأوروبيين أنفسهم لم يتنيأوا بالثورة الفرنسية» انظر: ولد أباء ص 78-77 و143. 
وللأمانة» إن المفكر عزمي بشارة كان قد تنا منذ 2007 بما سيقع في تونس من تحوّل ديمقراطي» ولو 
في الجانب النظري. انظر: عزمي بشارة» في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي (بيروت: مركز 
دراسات الوحدة العربية» 2007)» ص 222. 


621 


الأحكام؛ أن موقفه يّدرِجٍ في سيرورة تاريخية متكررة» وفي سياق أزمة مجتمعية 
م ال PUR do‏ 
حقبة من الحقب التاريخية0””». وبقدر ما كشفت انفجارات الربيع عن تقا 

و«زلاته»ء أظهرت الحاجة إليه. a‏ 
لتدبير إدارة مرحلة الانتقال» وضمان عبور آمن من مرحلة الإدارة الشخصية (فكر 
الزعيم المُلهم)ء إلى الإدارة المؤسسة (الفكرة المُلهمة)*» وتفادي انزلاق 
الثورات نحو مستنقع الفوضى والفتن. كما أن التحول الديمقراطي يحتاج إلى 
hdi‏ يكون موضع اتفاق بين القوى الاجتماعية والسياسية 
المختلفة. وفي المقابل» فإن شباب الانتفاضات في حاجة ملحة إلى المثقف لعدم 
تمرسهم في العمل السياسي, وافتقارهم إلى التجربة؛ الأمر الذي يتجلى على 
سبيل المثال في افتقار شباب تنسيقيات الثورة السورية إلى الخبرة فى ضبط الحوار 
في داخل اتحاد التنسيقيات69. | 


2- خطة العمل 


تقوم خطة العمل على مجموعة من الأساليب التي تتبح للمثقف الشبكي 
الحضور الفاعل» والإجابة عن أسئلة مرحلة مابعد الربيع العربي. ونقترح في 
هذا الصدد بداية التفكير الجماعي التشاركي» وتفعيل العقل التداولي الشبكي 
الممأسس» حيث تشمل خطة الخيار الاستراتيجي المقترح تمطيط دائرة نشاط 
المثقف الفرد» ليتحول إلى مثقف جماعي شبكي اعتمادًا على مقولة «توسيع 
المساحات وتقريب المسافات»”» لتحقيق دور فاعل؛ ذلك أن الدفاع عن القيم 
والمثل رهن بالمساحات المتاحة للعمل» والمساحات الفكرية المتخيلة التى 
يفكر فيها الناس. فكلما تقلصت المسافات واتسعت مساحة الالتقاء والحوار 


(67) عبد الله العروي» ثقافتنا في ضوء التاريخ (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي» 
3 ) ص 171. 

(68) مجموعة مؤلفينء الثورة المصريةء ص 578. 

(69) حمزة المصطفىء المجال العام الافتراضي في الثورة السورية: : الخصائص» الاتجاهات. آليات 

صنع الرأي العام (بيروت/ الدوحة : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» 2072( ص 151. 

(70) مجموعة مؤلفين. الثورة المصريةء» ص 567-566. 


622 


بينهم» أصبح التغيير ممكنّاء والفاعلية أكثر نجاعة» وتمخض عنه «العقل الجمعي» 
القادر على إنتاج مفهوم جديد للمجال العام" . فالمثقف الشبكي يصبح في هذا 
المشهد الجماعي جزءًا من مؤسسة شبكية تملك قوة الفاعلية في تبادل الإنتاج 
المعرفي وتوزيعه. وتسويق الأفكار وتداولهاء وإبداع رؤى جديدة. ويقوم المثقف 
الشبكي في نسيج هذه الشبكية المؤسساتية» بدور الوسيط الفكري الذي يحول 
الأفكار نحو المجتمع؛ لأن المؤسسات المعرفية الشبكية تحتاج إلى وسطاء 
يمدونها بالأفكار» ويساهمون في إنشاء بيئة للتفكير» وتوسيع مساحة المعرفة 
والتواصل. 


من البدهي أن يتحوّل هذا النمط من التواصل بين المثقف الشبكي والرأي 
العام إلى منظومة جديدة للسلوك بين طرفين: مُرسل يُرسل ليستقبل» ومُستقبل 
يستقبل ليُرسل؛ إنه نوع من السلوك الارتدادي التفاعلي في عالم المثقفين 
الشبكيين التبادليين» لا السلوك الأحادي المألوف الذي ينسج هالة من التقديس 
على المثقف. ويهبه سلطة فكرية تفرض على المتلقي القبول والامتثال. بذلك 
يحول المثقف الشبكي «سلطة المتكلم» التي كان يحتكرها المثقف» والتي كانت 
«لا تنتج إلا مونولوجًا ممتدًا في العبث6*” إلى عملية تفاعل اجتماعي تبني معاني 
جديدة» تؤدي إلى إنتاج المعرفة وتوزيعها توزيعًا تشاركيًا في سياق ما يسميه 
جان بودريار «انبجاس المعنى في الميديا»» أي إعادة إنتاج الأفكار على مستوى 
القاعدة» لا احتكار إنتاجها من فوق””. 


إضافة إلى ذلك» تقوم خطة العمل على تصحيح أخطاء ثورات الربيع العربي 
وإتمام معارك إصلاح الذهنيات؛ إذ إن ثورات الربيع العربي سقطت بسبب طابعها 
الفجائي» وما رافقها من فوران وغليان في أخطاء ذاتية وموضوعية» تجلت في عدم 


(71) مجموعة مؤلفين.ء الانفجار العربي الكبير» ص 1 9. 

(72) بلقزيزء» ص 66 ١‏ 

(73) جان بودريارء المصطنع والاصطناع: ترجمة جوزيف عبد الله (بيروت: المنظمة العربية 
للترجمة 2008)» ص 147. ونود هنا التنويه بدور الموقع الإلكتروني للمركز العريي للبحوث ودراسة 
السياسات» ومؤسسة مؤمنون بلا حدود» وموقع المدونين العرب» وبعض المواقع الأخرى التي تخلق 
تفاعلا بين الكاتب والقارئ. 


623 


تحصين مكتسباتها؛ ما أسفر عن انفلاتها من قبضة مفجريهاء وسطو أياد غير أمينة 
امتدت في جنح الظلام لسرقتها. كما أنهكت وهي في عز فتوتها بفعل النزاع المذهبي 
والطائفي والقبلي؛ وهو أمر لا تخطئ العين السليمة في رؤيته في كل من ليبيا واليمن 
وسورية. وبطبيعة الحال» لا يهمنا في هذه الدراسة تعداد أخطاء ثورات الربيع العربي 
e Re‏ 
بتحوله إلى «ناشط» في مواقع التواصل الاجتماعي والساحات والميادين لنقد 
E aE‏ 
الخاص» بل السعي إلى تصحيحها من خلال طرح أفكاره في صفحات «الويب»» 
وإبداع البدائل المتاحة*”؛ وذلك بفتح نقاش جماعي على صفحات منصات 
التواصل الشبكي لرصد أفضل الخيارات واختيارهاء مع استحضار تجارب الدول 
التي شهدت في التاريخ القريب مراحل الانتقال الديمقراطي في أورويا الشرقية 
وأميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا لفهمها والاستئناس بهاء والاستفادة من دروسها 
لتوجيه بوصلة ثورات الربيع العربي نحو الاتجاه الصحيح. 

من المعارك الذهنية الأساسية التى من المفترض أن ينصب فى شأنها جهد 
المثقف الشبكي من خلال مؤسسات ثقافية افتراضية» مسألة الإصلاح الديني؛ 
بحكم ما للدين من وقع على المجتمع العربي» خصوصًا أن الشبكة العنكبوتية 
لا تخلو من مواقع إلكترونية تعمل على مسخ تعاليم الإسلام السمحاء» وتحرض 
على الإرهاب» أو تنشر قيم ثقافة الخوف والخنوع والطاعة» وإشاعة الخرافة 
والأمية وأشكال السحر والشعوذة. كما تتجسد معركته في تسخير طاقته الفكرية 
لتطوير خطاب ديني حداثي يلاثم بين تطلعات الإسلاميين والعلمانيين» بهدف 
إنتاج «علمانية متصالحة مع الدين»”. 


SS 
ی تیر نار ورف وو‎ LE pe 


(74) بشارة» المثقف والثورة» ص 35-34 و39-38. 
(75) ولد أباه ص 119-8ء وعبد اللطيف. الثورات العربية, ص 90-89 105 و117-116. 


624 


سعت إليها ثورات الربيع العربي» هدفًا وغاية في كتاباته الرقمية» وفي إبحاره عبر 
الشبكة العنكبوتيةء لأن هذه القيم لا تولد دفعة واحدة» بل إن عملية المتابعة عن 
طريق النقد والإصلاح هي التي تؤدي إلى تنميتها وتوسيع مساحتها"”. 


لتفعيل هذه اليقظة» نقترح في سياق الخيار الاستراتيجي المقترح بناء جبهة 
افتراضية من المثقفين الشبكيين لتحصين مكتسبات الربيع العربي وحمايتها؛ ليس 
بالضرورة أن تكون مسنودة بقاعدة «الإجماع الثقافي»» كما اقترح الجابري في 
دعوته إلى بناء كتلة تاريخية في مشروعه الثقافي منذ أعوام» لأن المتغيرات الدولية 
وتحولات الذهنية العربية التي سبق معالجتها تستلزم بناء جبهة ثقافية افتراضية 
تتسع للمتعدد والمختلف والمعارض» بما يمليه منطق الديمقراطيةء خلافًا لما 
استبعدته المشروعات الثقافية السابقة. وتتجلى مهمات هذه الجبهة الافتراضية 
في تطوير الذهنية العربية التي بدأت ملامح تغيراتها تتبلور مع انتفاضات الربيع» 
وكسر القوالب المعرفية الجاهزة» وتعزيز قيم الثورات العربية» والتحفيز على 
معائقة .الثقافة الديمقراطية وحقوق المواطنة» وفضح الفساد وانتهاكات حقوق 
الإنسان» والتعبثة الدائمة للخروج إلى الميادين للاحتجاج كلما تطلب الأمر ذلك 
والتحريض على توقيع العرائض الإلكترونية لإطلاق سجناء الرأي» والتصدي 
لأساليب إعادة إنتاج الاستبداد» أو أسطرة الأشخاصء والعمل بصورة جماعية 
لاقتراحات عقلانية للوصول إلى أفضل النماذج الديمقراطية. أما وسيلة التحقق 
فتكمن فى تعزيز ثقافة الحوار بين المجموعات المكوّنة للجبهة الافتراضية التى 
تواصل عملية الحراك العربي. ٠‏ 

أخيرّاء تقوم خطة العمل على تحيين المشروعات الفكرية وتوجيه بوصلة 
البحث نحو إشكاليات الربيع العربي. ففي خضم التحول التاريخي الذي وقفنا 
على آثاره في المستويين العالمي والمحلي العربي» بات من المنطقي أن يؤسس 
المثقف الشبكي استراتيجية بحثية جديدة يتحول فبها دوره القائم على الانتظارات 
والمراوغات الفكرية والمخاتلات السياسية» إلى دور الفعل المؤسس» انطلاقًا 
من الاهتمام بالمستجدات والتغيرات التي خلفها الربيع العربي. 


(76) بشارة: في الثورة والقابلية للثورة» ص 83 وفي المسألة العربية» ص 226. 


625 


3- دور المثقف الشبكي في الميدان: 
من المراقبة عن بعد إلى المعاينة والإنصات والاحتجاج الثقافي 


على الرغم من أهمية مواقع التواصل الشبكي» كما أبرزناها في الصفحات 
السالفة» فهي لا تمثل إلا نصف الدورة الكاملة لخطة العمل التي طرحناها. 
صحيح أنها تقوم بدور في التوعية» ووسع - بتداولها وانتشارها - قاعدة الجمهور 
الذي يصبح هو نفسه مشاركا في إنتاج المعرفة والتعبئة من أجل تحقيق قيق الحرية 
والديمقراطية والعدالةء بيد أن الرهان عليها لا يكون كافيًا إذا بقيت مقصورة على 
المستوى الافتراضي من دون أن تتفاعل مع الواقع”. ومن ثمء لا بد من تنزيل 
ما أنتجه المثقف الشبكي من أفكار وإبداعات وتصورات إلى الميدان» ليكون 
ممارسًا فاعلاء لا مفكرًا مراقبًا عن بعد فحسب. فلو افترضنا - كما يقول عزمي 
بشارة - أن «جلس الجميع وراقبوا الحاسوب» أو اكتفوا بالمشاركة في الشبكات 
الاجتماعيةء لما نشبت تظاهرات احتجاجية»*. 


تأسيسًا على ذلك» يمكن القول إن التواصل الشبكي يمل الجانب النظري 
الافتراضي؛ بينما يمثل الحضور الميداني الجانب التطبيقي لخطة الخيار 
الاستراتيجي. ويعد كلاهما أداة لتطوير الآخر؛ فالميدان يطور المقترحات 
والتصورات الافتراضية الشبكية؛ وترشده هذه الأخيرة نحو الاتجاه الذي ينبغى 
أن يسير فيه. ولعل ما يعكس الترابط بين التشبيك والميدان: ما لوحظ في اللافتات 
التي حملها المتظاهرون. والرسوم الغرافيتية المنتشرة في الميادين والشوارع 
والمتضمنة كتابات وعلامات تشيد بمواقع التواصل الشبكي كالفيسبوك وتويتر 
وقناة الجزيرة”7» ما يدل على جدلية العلاقة بين الافتراضي والواقعي. 

الحاصل أن الميدان هو المكان الذي يتيح للمثقف الشبكي التقاط الأجوبة 
الصحيحة التي تعثر فيها المثقف التقليدي المتعالي عن الجمهورء ليبدأ دوره في 
بناء الفكر. فثورات الربيع العربي» وما أعقبها من انتقالات» تتطلب من المثقف 


(77) مجموعة مؤلفين» الانفجار العربي الكبير» ص 135. 
(8 7) بشارة» الثورة التونسية المجيدة» ص 150. 
(79) سراج» ص 359. 


إتقان فن الإنصات» والتشخيص الدقيق قبل أي تحليل أو تأمل. كما تحتاج إلى 
تخزين فوري لذاكرة التاريخ بالصوت والصورة؛ وهو أمر لا يكون إلا بانخراط 
المثقف في الميادين» وبجرأته على رصد المشهد ونقله بالكاميرا وآلات 
التسجيل... وغيرها"*؛ ليبدأ بعد ذلك في استخدام معول التحليل وآلة النظر. 


فى الاتجاه نفسه. Éd an‏ حركة «احتلوا وول (Occupy us re‏ 
Wall Street)‏ المتأثر ة بانتفاضات الربيع العربي» وهي حركة مناهضة للرأسمالية 
الليبرالية المتوحشةء تطالب بوقف هيمنة المؤسسات المالية على حياة البشر» 
وتدهور الأوضاع المعيشية لذوي الدخل المحدود. ومن اللافت في هذه الحركة 
أنها جعلت من الميادين فضاءً للمثقفين الذين اقتنعوا بفلسفتهاء من أمثال نعومي 
كلاين وجيفري ساكس والروائية الكندية مارغريت أتوود» وعالم اللسانيات الكبير 
نوام تشومسكي الذي ألقى محاضرة في ساحة الاحتجاج في بوسطن» وغيرهم من 
المثقفين الذين وقعوا عريضة «حركة كتاب احتلوا» على الإنترنت**. وتستند هذه 
الحركة إلى جانب آلية التواصل الشبكي على الحضور في الميادين وأكبر شوارع 
المدن» ما يدل على أن المثقف الغربي اختار هذا الاتجاه لفاعليته. 


4— کوابح دور التواصل الشبكي والميداني 


على الرغم مما يقدمه التواصل الشبكي والميداني من إمكانات قيام المثقف 
بدور يجمع بين إنتاج المعرفة والتغيير» بين التمثل والفعل» بين العقل والجسدء 
فثمة أسئلة مؤرقة وهواجس حارقة تظل ماثلة في مثل هذه القضايا المرتبطة 
باللحظات المفصلية كلحظة مرحلة تحولات الربيع العربي. وتثار تلك الأسئلة 
لتستنطق حزمة من الكوابح التي تعوق مسار التواصل الشبكي والميداني الذي 


(80) هذا ما قام به جماعة من شباب التحرير» وأنشأوا له موقع «الكاميرا هي سلاحي؛ للتواصل مع 
العالم الخارجي. كما جاءت الشعارات المرفوعة في ميدان التحرير لتعلي من قيمتها #الكاميرا والميموري 
والموبايل» إيد واحدة». انظر: سراج» ص 246. 

«Protests Won't Stop Trump: We Need a للمزيد من التفاصيل بشأن هذه الحركة› انظر:‎ )81( 

Movement That Transforms into a Party,» Occupy WallSt {2 February 2017), at: bit.ly/1 Rmv9dH. 


(82) فخري صالح» «المثقفون وحركة احتلواء جريدة الدستور» 26/ 7/ 2014. 


627 


طرحناه خيارًا استراتيجيًا يستجيب لمتطلبات مرحلة التحولات الراهنة. ومع أن 
هذه الكوابح تستعصي على الحصر لتعددها وتعقيداتها وملابساتهاء فإننا سنقتصر 
على تناولها في الحيز المتاح في هذه الدراسة من خلال رؤية ترتكز على ثلاثة 
أبعاد: 


أ- المثقف الشبكي وفخ هيمنة أيديولوجيا مجتمع المعرفة 


إن التحدي الذي يواجه دور المثقف الشبكي يتمحور في الأساس حول ما إذا 
كان هذا الدور المرتبط بمرحلة الانتقال الديمقراطي العربي قادرًا على أن ينفلت 
من قاموس النمط الليبيرالي» وأجندة التضخم المتواصل للرأسمالية المعرفية. 
فالإشكالية لا تنحصر في تحقيق À‏ يق النقلة من دور تقليدي إلى دور تشبيكي» » بل 
ك 
أيديولوجيا مجتمع المعرفة التي على الرغم من كونها أيديولوجية «بلا أعداء»» 
لكنها تظل أيديولوجيا بديلة من الأيديولوجيات السائدة”©. وربما لا تخلو من 
كمائن تجعل العبور نحو المجتمع الديمقراطي عبورًا يصب في مصلحتها إذا لم 
تحضر إرادة الفاعلين في التغيير» وانخراطهم في معركة التقانة والتواصل الشبكي 
بوصفهم مبدعين ومشاركين» لا مستهلكين ومقلدين خطوط مرسومة سلفًا*©. 
فأي خلل في التدبير يجعل الربيع العربي في مهب الريح» وأقرب إلى مقولة 
«الأجندة الخارجية»؛ وإن كنا غير مقتنعين بها على الرغم من القرائن التي يقدمها 
القائلون بها“ . ومع ذلك. فإننا نشدد على يقظة المثقف الشبكيء واستقلاله عن 
أي مصدر يسيع للأمن الثقافي العربي 


(83) فيليب بروتون» وآخرون. ثورة الاتصال: نشأة أيديولوجيا جديدة» ترجمة هالة عبد الرؤوف 
مراد (القاهرة: دار المستقبل العربي» 1993)ء ص 9 و189. 

(84) عبد اللطيف» المعرفي» الأيديولو جي» الشيكي» ص 56 و131. 

(85) يستند طارق رمضان في أطروحته القائلة بالأجندة الخارجية إلى حجة المبادرات الأميركية 
لتدريب المجتمع المدنيٍ المصري على أساليب المقاومة القائمة على استخدام التواصل التقني في التعبثة 


والحشد ضد الأنظمة. مثلاء في: : طارق رمضانء #حقيقة الربيع العربي6» يوتيوب 13/ 1ه في: 
bit. ly/22NScBN.‏ 


628 


ب- المثقف الشبكي وإكراهات القوى المعوقة الحداثة 

إذا كان القول بالمثقف الشبكي لا يطرح أي إشكال في المجتمعات الغربية 
بفضل اندماجها في مرحلة مابعد الحداثة» فإنه لا يزال يطرح علامات استفهام في 
المجتمع العربي بسبب تجذر البُنى التقليدية» على الرغم مما أفرزه الربيع العربي 
من تحولات على مستوى الذهنيات. وحسبنا أن رواسب الذهنية التقليدية لم 
تندثر بترسباتها كلهاء ولا تزال تمارس توجيهًا سلبيًا يلقي بظلال الشك والريبة 
في شأن المثقف الشبكي الذي تتهمه بخدمة أجندة خارجية» وهو تصور تزيد 
من تعميق سمكه نسبة الأمية التي لم تتخلص معظم المجتمعات العربية من 
أوحالها©. 

لا يصطدم المثقف الشبكي بعقلية تقليدية فحسب» بل بقطاع عريض 
من المجتمع أيضًا لا يزال يهتم بالمعيش اليومي أكثر من اهتمامه بالشبكات 
الاجتماعية؛ إذ تثبت الإحصاءات أن 24 في المئة في الشرق الأوسط يستخدمون 
الشبكات الاجتماعية» في مقابل 56 في المئة في أميركا الشمالية”*؛ فضلا عن 
باب إثية تبحنية ثقافية صلبةة وجامعات حديئة تسح جما حلمياة وتخرح مفكدًا 
مبدعًاء ما يعكس صورة أخرى من صور الكوابح المعرقلة للتواصل الشبكي. 

يُضاف إلى عقبة الأمية وهشاشة البنية التحتية» تجذر النزعة القبلية في بتعض 
دول الربيع العربي» ولا سيما في اليمن وليبيا التي توجد فيها 150 قبيلة"*؛ وهي 
ظواهر تشكل معوّقات لآلية التواصل الشبكي وانقطاع خدماته. 

(86) كمال عبد اللطيف. العرب في مواجهة حرب الصور (اللاذقية: دار الحوار للطباعة والنشر 
والتوزيع» 8)» ص 181-179 و184. ويشأن تدني مستوى التعليم في العالم العربي (باستثتاء دول 
الخليج) في ترتيب التنمية البشرية» انظر: تقرير التنمية البشرية 2014 (نيويورك: برنامج الأمم المتحدة 
الإنمائي» 2014), ص 193-190. 


(87) عماد بن يحيىء «تقرير مؤسسة اواء50 452 19/6: إحصاءات عن الشبكات الاجتماعية والإنترنت 


في 42014 عالم التقنية (موقع إلكتروني) (14 كانون الثاني/ يناير 2014)» في: 
bit.ly/l1mVEisM. : 7‏ 
(88) ولد أبامء ص 36. 


629 


ج- التشويش على المثقف الشبكي من لذن التيارات المضادة للتغيير 

إن عالم التشبيك ليس فضاءً رقميًا خاصًا بالمثقف الشبكي فحسب» حتى 
يتاح له نشر قيم المعرفة بما تشتهيه نفسه؛ بل هي قارة مفتوحة للجميع» يوجد فيها 
المثقف إلى جانب الداعية والمجرم الإلكتروني ورجل الاستخبارات و«الكتائب» 
التي تستنبت فيها الأفكار الهدامة» وتزرع بذرة الفتنة والطائفية والمعلومات 
المغلوطة والمضللة. بل إن هذه القارة الشاسعة لا تمانع أيضًا في أن تدخلها فلول 
الأنظمة المستبدة المنهارة» أو تلك التي لا تزال تترنح تحت الضربات الأخيرة 
السابقة على الاحتضار. فغالبًا ما خُر الفيسبوك لمجموعات مؤيدة للأنظمة 
الممانعة ضدًا على المعارضة؛ فلا يزال بعض المجموعات الافتراضية المضادة 
لتيار ثورة 17 شباط/ فبراير في ليبيا مستمرًا حتى بعد سقوط نظام القذافي*. 
وفي المنحى نفسه» لم تتورع مجموعات أخرى عن التشويش على الثوار ورموز 
المعارضة السورية وتخوينهم ونعتهم بالعمالة» على صفحات الويب“. كما 
يجري الترويج في صفحات أخرى للخطابات الشعبوية» كخطاب الشيخ عدنان 
العرعور الذي يصبح أكثر وقعًا في نفسية الشباب الثائر من خطاب برهان غليون 
المعقلت”©, 

على غرار هؤلاء» تسعى الجماعات التكفيرية وبعض القوى السلفية إلى 
استثمار مواقع الترابط الشبكي لتسويق أفكارها التي لا تقبل بالحوار مع الآخرء 
ولا تظهر أي استعداد لتشكيل جبهة شبكية افتراضية متحالفة مع قوى التغيير» لأنها 
ترفض الديمقراطية بمفهومها الغربي وتعدها «لعبة قذرة26©. 


خاتمة مفتوحة على بداية 
tr‏ القول إن منجزنا التركيبي - التحليلي في هذه الدراسة المتواضعة 
سعى إلى ترميم ثغرة من الثغرات المحيطة بسؤال تجديد أدوار المثقف العربي 


(89) منتديات زنقتناء فى: bit.ly/1PMKHUVw.‏ 
(90) المصطفى. ص 120. 

(91) المرجع نفسه» ص 103-102. 

(92) مجموعة مؤلفينء الثورة المصرية» ص 247» وحرب» ثورات القوة الناعمة» ص 230. 


630 


في ضوء التحولات التاريخية» انطلاقًا من تحول تاريخي يُدرج في عتبات التاريخ 
الراهن» وهو حدث الربيع العربي الذي يمثل بحق منعطفًا حاسمًا في مسار التاريخ 
العربي. ولإبجاد الخيوطل الناظمة للإجابة عن سؤال الأدوار المنوطة بالمثقف في 
خضم هذا التحول الكبير» سعينا إلى ربطه بالتحولات العالمية» ولا سيما في 
مجال ثورة الاتصالات ومنصات التواصل الشبكي؛ فاتضح أن التطور المعرفي 
المرتبط بمجتمع المعلومات أعاد بناء مفاهيم جديدة للمثقف» وحدد له أدوارًا 
لم تكن مألوفة؛ وأن افجار الزبيع العربي الذي ste‏ مع ثورة الاتضالات 
ري E‏ عر جديا وي حتمت على المثقف العربي إعادة توجيه أدواره 
أيضاء وترويضها بما يتلاءم مع مستجدات الواقع» وسياقات التطور المعرفي. 


تأسيسًا على هذه الرؤية الكونية التي مثلت منظورنا في صوغ دور المثقف» 
دافعنا عن الأطروحة التي ترى أن نجاح هذا الدور يكمن في فهم هذا العالم أولاء 
ne‏ بره بخ لين وال درا ا لامر اللي ززه فر ات اد الي 
أكدت أن كل لحظة تاريخية ت تنتج مفاهيم وأدوارًا جديدة للمثقف» وأن لغة الزمن 
D à‏ 


بعد تشخيص معالم التحولات الذهنية الناتجة من الربيع العربي» ومعالجتها 
pe Uno y‏ مرشدة لفهم الأدواز التي يمكن أن يضطلع بها المثقف العر 
وسقفهاء صوبت الدراسة النظر نحو اقتراح مجموعة أدوار تتلاءم مع ظرفية 
المتغيرات Fe‏ وتؤسس على التشبيك والتواصل الميداني بوصفه خيارًا 
استراتيجيا مرتاء قابلا للتغيير بحسب المستجدات» يروم تكميل منجزات الثورات 
السياسية التي جاء بها الربيع العربي» بثورة ذهنية تمثّل المادة الخام «لربيع عربي 
OU‏ يعتمد «خطة عمل؛ اقترحنا أن تتألف من ثالوث يجمع بين التشبيك ونشر 
المعرفة والمعاينة الميدانية. وتتلخص أبرز أهدافها في العمل الجماعي التبادلي» 
وتفعيل العقل التداولي التشاركي من خلال التشبيك الممأسس» وتأسيس جبهة 
افتراضية شبكية تجمع طاقات المثقفين» وتوسع قاعدة الرأي العام؛ بإشراك فئة 
الشباب والفاعلين «الميديائيين»» وذلك لإبداع سلوك ثقافي تفاعلي يتحول 
pes‏ المنتف من دور القيادة الموهوم إلى دور لناشطة في منضبات التواضل 
الشبكي» ومكون من مكونات العقل الكوكبي» ومشارك في إنتاج المعرفة» مع 


631 


التشبث بروح التفكير الجماعي ونظام الفريق» بدلا من الانعزال والتأمل الطوباوي. 
وعدم إحداث قطيعة مع دور المثقف «التقليدي». لذلك وقفنا على صحة فرضية 
التكامل التي لا تلغي دور الأخير ونضاله الممتد عبر عقود من الزمن» بل تنحو به 
نحو تشرب موجة الزمن التقاني الذي يُعد أرقى مكسب وصل إليه الفكر البشري» 
ومواكبة مستجدات النظم الفكرية» والتماهي مع تحولات الربيع العربي. 
إضافة إلى ذلك. بيّنا في هذا البحث أن دور المثقف الشبكى لا يكتمل إلا 
بحضوره الميداني الذي يتيح له الإنصات إلى نبضات المجتمع والتشخيص 
الدقيق لمشكلاته ومطالبه» وتخزين ذاكرته التاريخية عبر الصورة؛ ليبدأ عقب ذلك 
في استخدام معول الاستنباط وبناء الفكر. واستخلصنا في نهاية التحليل أن دور 
التواصل الشبكي والميداني هو حالة انتقالية» ولحظة صعود تاريخي» وتفكير في 
قلب الحداثة؛ ومع ذلك فإن الأمر لا يخلو من مطبات سطرناها في ثنايا البحث. 
ولتطوير الطموح» نقترح توصية بإنشاء مؤسسة عربية مشتركة للثقافة الرقمية» 
قادرة على المنافسة العالمية» ومساهمة في تحديث دور المثقف العربي» وتعزيز 
القيم الكونية. كما نقترح تحفيز المثقفين على معالجة القضايا المرتبطة بثورات 
ار العربي سياسة وفكرّاء وإنشاء مكتبة إلكترونية تضم كل ما كتب في شأنها. 
نختم بالقول إن هذه الدراسة سعت إلى تقديم رُؤى وأفكار تروم المساهمة 
ي رااش في شان ملف دای پیک مول اي مسار انکر اليه ورس 
الخطوط الأولية للإجابة عن سؤال تجديد أدوار المثتقف في ضوء الهزات 
والتحولات التي أحدثها الربيع العربي» ولو إجابة موقتة» في انتظار أن تمتد إليها 
أيادي النقد. 


المراجع 
1- العربية 


أومليل» على. السلطة الثقافية والسلطة السياسية. بيروت: مركز دراسات الوحدة 
العربيةء 1996. 


بروتون» فيليب وآخرون. ثورة الاتصال: نشأة أيديولوجيا جديدة. ترجمة هالة عبد 
الرؤوف مراد. القاهرة: دار المستقبل العربى» 1993 . 

بشارة» عزمي. الثورة التونسية المجيدة: بنية ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها. 
بيروت/ الدوحة: المركز العربى للأيحاث ودراسة السياسات» 2012. 


. في الثورة والقابلية للثورة. بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث 
ودراسة السياسات» 2012. 


. فى المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطى عربى. بيروت: مركز دراسات 
الوحدة العربية» 2007. 
. المثقف والثورة. منشورات كلية الآداب بالرباط. سلسلة كراسات الكلية 
رقم 6. الرباط: مطبعة الأمنية» 2013. 
بلقزيز» عبد الإله. نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين. بيروت/ 
الدار البيضاء: المركز الثقافى العربى» 2000. 
العربية للترجمة» 2008. 
تقرير التنمية البشرية 2014. نيويورك: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» 2014. 
الأمم المتحدة الإنمائي/ المكتب الإقليمي للبلدان العربية بالتعاون مع 
ومؤسسة محمد بن راشد آل مکتوم» 2009. 
الجابري» محمد عابد. المسألة الثقافية فى الوطن العربى. سلسلة الثقافة القومية 25؟ 
قضايا الفكر العربى 1. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية» 1994. 
حرب» علی. أوهام النخبة أو نقد المثقف. ط 5. بيروت/ الدار البيضاء: المركز 
الثقافي العربي» 2012. 
. ثورات القوة الناعمة في العالم العربي: من المنظومة إلى الشبكة. ط 2. 
بيروت: الدار العربية للعلوم - ناشرون» 2012. 


633 


سراج» نادر. مصر الثورة وشعارات شبابها: دراسة لسانية فى عفوية التعبير. 
بيروت/ الدوحة: المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات» 2014. 
سعيد» إدوارد. المثقف والسلطة. ترجمة محمد عنانى. القاهرة: رؤية للنشر 
والتوزيع» 2006. 

شريعتي» علي. مسؤولية المثقف. ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا. سلسلة الأفكار 
الكاملة 37. ط 2. بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم» 2007. 

شيلر» هربرت. الاتصال والهيمنة الثقافية. ترجمة وجيه سمعان عبد المسيح. 
القاهرة: الهيغة العامة للكتاب» 2007. 

عبد اللطيف. كمال. أسئلة الحداثة فى الفكر العربى: من إدراك المكان إلى وعى 
الذات. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر» 2009. 

. الثورات العربية: تحديات جديدة ومعارك مرتقبة. منشورات كلية الآداب 
والعلوم الإنسانية بالرباط» سلسلة بحوث ودراسات رقم 61. الرباط: دار أبي 
رقراق للطباعة والنشر»ء 2013. 

. العرب فى مواجهة حرب الصور. اللاذقية: دار الحوار للطباعة والنشر 
والتوزيع» 2008. 

. المعرفى. الأيديولوجى, الشبكى: تقاطعات ورهانات. بيروت/ الدوحة: 

المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات» 2012. 

العروي» عبد الله. ثقافتنا في ضوء التاريخ. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي 
العربي» 1983. 

عماد» عبد الغنى. الثقافة وتكنولوجيا الاتصال: التغيرات والتحولات فى عصر 
العولمة والربيع العربي. بيروت: مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر 
والتوزيع» 2012. 

قبانجى» جاك. «لماذا ”فاجأتنا“ انتفاضتا تونس ومصر؟: مقاربة سوسيولوجية». 
مجلة إضافات. العدد 14 (2011). 





634 


قتلوني» مصعب حسام الدين. ثورات الفيسبوك: مستقبل وسائل التواصل 
الاجتماعي في التغيير. بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشرء 2014. 

كرام» زهور. الأدب الرقمي: أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية. ط 2. الرباط: دار 
الأمان» 2013. 

ليكيرك» جيرار. العولمة الثقافية: الحضارات على المحك. ترجمة جورج كتورة. 
بيروت: دار الكتاب الجديد» 2004. 

مجموعة مؤلفين. الانفجار العربي الكبير: في الأبعاد الثقافية والسياسية. الدوحة/ 
بيروت: المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات» 2012. 

مجموعة مؤلفين. الثورة المصرية: الدوافع والاتجاهات والتحديات. بيروت/ 
الدوحة: المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات» 2012. 

مجموعة مؤلفين. ظاهرة ويكيلكس: جدل الإعلام والسياسة بين الافتراضي 
والواقعي. بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» 
2012. 

المصطفى. حمزة. المجال العام الافتراضي فى الثورة السورية: الخصائص. 
الاتجاهات. آليات صنع الرأي العام. بيروت/ الدوحة: المركز العربي 
للأبحاث ودراسة السياسات» 2012. 

وردء عبد المالك. المثقف وتحولات الربيع العربي. مکناس: برنت شوب» 
2013. 

ولد أباه. السيد. الثورات العربية الجديدة: المسار والمصير. بيروت: جداول 
للنشر والتوزيع» 2011. 


1 - الأجنبية 
Bourdieu, Pierre. Questions de sociologie. Paris: Les Editions de Minuit, 1984.‏ 


Castells, Manuel. L'ère de l'information. vol 1: La Société en réseau. Paris: Fayard, 
1998. 


Larrory, Michel. «L'élève numérique: Comment pensent et agissent les digital 
natives.» Le Monde de l'éducation: no. 368 (Mars 2008). 


Levy, Pierre. «Vers une nouvelle économie du savoir: Des arbres de connaissances à la 
programmation comme des beaux-arts, en passant par l’idéographie dynamique.» 
Solairis: no. 1 (1994), at: bit.Iy/IOPNSxS. 


Noueihed, Lin & Alex Warren. The Battle for the Arab Spring: Revolution, Counter- 
Revolution and the Making of a New Era. New Haven, CT: Yale University 
Press, 2012. 


«Protests Won’t Stop Trump: We Need a Movement That Transforms into a Party.» 
OccupyWailSt (2 February 2017), at: bit.ly/1Rmv9dH. 


Shirky, Clay. «The Political Power of Social Media, Technology: The Public Sphere 
and Politic Change.» Foreign Affairs. vol. 90. no. 1 (2011), at: https://g00.gl/ 
HVHOdD. 


Viala, Alain. La Naissance de l'écrivain: Sociologie de la littérature à l'âge classique. 
Paris: Editions de Minuit, 1985. 


636 


فهرس عام 


ابن الراوندي» أبو الحسن أحمد بن 

ابن رشد» أبو الوليد محمد بن أحمد: 
7 170غ» 2.294 301 

ابن عبد السلامء العز: 166» 240 

ابن منظورء أبو الفضل جمال الدين 
محمد بن مكرم: 129 

أبو إسماعيل» حازم: 241 

أبو بكر الصديق: 210-209« 220- 
2 232 


أبو بكر عثمان: 178 

أبو ربيع» إبراهيم: 439 

أبو زيد» نصر حامد: 2177 214 516» 
518 

أبو عفشء نزيه: 6 48 


السوري) 


أبو النجاء شيرين: 194 


6237 


5 

آرون» ريمون: 350 

آسيا: 521260 

آل رشی» محمد: 496 

آل الشيخ» صالح بن عبد العزيز: 164- 
167« 180 

آل الشيخ» عبد العزيز بن عبد الله (مفتي 
السعودية): 239-238 

آيكان انظر هيئة إدارة أسماء النطاقات 
والعناوين على الإنترنت (آيكان) 

آينشتاين» ألبرت: 155 

الأبارتايد انظر نظام الفصل العنصري 

إبراهيم» صنع الله: 518 

إبراهيم (النبي): 193 

ابن تيمية الحراني» تقي الدين أبو العباس 
أحمد بن عبد الحليم: 166 


ابن خلدون» أبو زيد عبد الرحمن بن 
محمد: 445« 650 4128 173» 
4294 4297« 367 


الاحتلال النازي لفرنسا (1940): 457 

الاحتواء: 50 

الأحزاب السياسية: 354: 366 

الأحكام الأخلاقية الحرة: 40 

أحكام التنزيل: 146 

أحمد» أحمد يوسف: 320 3310329 

إحياء الخلافة الإسلامية: 434 

الاختلاف السياسي: 418 

الاختلاف الفكري: 418 

اختلال علاقات القوى: 55 

إخلاصي» وليد: 489 

إخوان الصما: 114 

505 «479 :0 sal أدب‎ 

الأدب العربي القديم: 288 

الأدب الفرنسي: 56 

أدب النصيحة: 220 

أدبيات التحرر الوطني: 277 

الادعاءات الهوياتية: 292-91 98 

أدورنو» تيودور: 2517 592 

أدونيس انظر سعيد» علي أحمد 
(أدونيس) 

الأرجل السود: 56 

الأردن: 2333 553 

أرسطو: 2135 26 25 569 

أرسلان» شكيب: 163 


أبو يعلى الفراء. محمد بن الحسين: 25 


236-23128 

الإبيستمولوجيا: 201 

الأتاسي» جمال: 479 

أتاسي» محمد علي: 490 

الاتحاد السوفياتي: 63ء 444 

الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: 237 

الاتصال الإلكتروني: 570 

اتفاق إعلان المبادئ بشأن ترتيبات 
الحكومة الذاتية الانتقالية 
الفلسطينية (1993: واشنطن): 62 

أتوود» مارغريت: 627 

الاجتهاد: 238 243» 404 

الاجتهاد السياسي: 224-223 

الاجتهاد الفكري: 223 

الاجتهاد في الأصول: 178 

الاجتهاد في الفروع: 179-178 


الاجتياح الإسرائيلي للبنان (1982): 
6 


الإجماع الثقافي: 25 6 

الاحتجاج السلمي: 471 
الاحتجاج الفردي: 618 

احتكار وسائل الإعلام: 588 
احتلال الإنكليز مصر (2 188): 51 


احتلال الفرنسيين الجزائر (1830): 
116« 379 


الاستعمار الإلكتروني: 30» 549- 
551« 558« 563-562 
الاستعمار الأوروبي: 435-434 
الاستعمار البريطاني (الهند): 168 
الاستعمار الثقافي والفكري: 168 

الاستعمار الحديث: 508 

الاستعمار الديني: 550 

الاستعمار العسكري: 550 

الاستعمار الفرنسي الاستيطاني: 034 
115 

استقلال الدولة الوطنية القطرية: 518 

الاستقلال الفكري: 120-119 298 

الاستقلال المهني: 109 

الاستقلالية السياسية: 298 

الاستقلالية المادية: 298 

استقلالية المثقف: 353-352 

الاستلاب التغريبي: 381 

الاستلاب الثقافي: 529 

الاستلاب المعرفي: 199 

الاستهلاك الثقافي: 596 

استهلاك المعلومات: 597 

الاستثثار الإلكتروني: 30 5524550« 
563-2 

اسحق بن حنين: 135 

«479«364-363 4238 : Lt AN 


-498 «489-488 46 3 
502.499 


أركون. محمد: 46« 454 2144177« 
307« 437« 479 


أرندت» حنة: 20 5 
الإرهاب: 6 418 4559 4593 
624 


الإرهاب الفكري: 414 

الإرهاب المادي: 414 

الأزمة الثقافية: 425 

الأزمة السورية: 1363 499-498 

أزمة المثقف: 425-423 

أزمة الهوية: 27» 81-80 373-372» 
382-9 389 434 

أزمة هوية المثقف: 380 

أزمة الواقع الثقافي: 423 

أسباب النزول (نزول الآيات القرآنية): 
145-144« 149 

إسبانيا: 99 407-406« 417 


الاستيداد: 34» 39« 51-50« 137« 
9 2224 348« 4357 367« 
391« 4412« 419 467-466« 
507-505 510-509« 514« 
516« 4518 2523 527-526 


الاستبداد السياسى: 444» 6 47» 526 
الاستبداد القبلى: 173 
الاستخبارات الأميركية: 357 


الاستعمار: 51 284« 507« 6509 
517-516 


الاستعمار الاقتصادي: 550 


الأصالة: 387 

الأصالة الثقافية: 380 

أصالة (الفنانة): 490 

3204315:311:7 Xl 

الإصلاح الاجتماعي: 511 

الإصلاح البروتستانتي والكالفيني: 188 
إصلاح التربية: 325 331 

الإصلاح الثقافي والفكري: 23» 69 


«187 «140 «80 الدينى:‎ cel 
«433-432 64214-21713 6 
624 511-510 .443 


الإصلاح السياسى: 71 168« 433« 
0 614 


إصلاح المناهج التربوية: 316 

الأصولية الدينية: 515 

الاعتراف المتبادل: 90 

الإعلام الاجتماعي: 577 

الإعلام الجديد: 564 

إعلام النحن: 545 

الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: 212» 
6508-7 5422513 

الاغتراب: 446 

الاغتراب الروحي: 199 

الاغتراب الواقعي - الثقافي: 391 


اغتيال الرئيس المصري أنور السادات 
)1981(: 333 


الأسدء حافظ: 478-477 
إسرائيل: 260-59 262 2212 573 


اسطنبول: 2162 168 

الإسكندرية: 51 

الإسلام: 60« 87« 97« 4116 127« 
132/9 135-134 137- 
171 148-143 159 164- 
5 2169 1771“ 174« 178« 
182-7 193-192 208- 
0 221 327« 3814377« 
8 393-392 4419 434« 
9 443 515 624 


الإسلام التاريخي: 179 
الإسلام الحركي: 163 
الإسلام السياسي: 80-79« 176« 


«357 4333 4213 4201 4196 
552 «447 


إسلامية الثقافة في المجتمعات العربية: 
328 

إسلامية الدولة التونسية: 88 

أسلمة حقوق الإنسان: 516-515 

إسماعيل (خديوي مصر): 51» 285» 
297 

إسماعيلء بشار: 486 

الأسواني» علاء: 386» 392 

الاشتراكية: 445-444 

الأشعريء أبو الحسن: 135-134 

إشكالية الأصالة والمعاصرة: 313 


الإلحاد: 2193 3916205 

ألمانيا: 2139 2151 358: 2400 466 

الإلهام: 2170 174 

إمارة الاستكفاء: 2226 233 

إمارة الاستيلاء: 227: 229» 233 

إمارة التغلب: 234229 

الأمازيغ: 115 

الإمامة: 6134 224-219« 232- 
235« 356 


الإمبراطورية الرومانية: 50 

الإمبراطورية العثمانية: 436 

إمبراطورية الهابسبرغ: 407 

الإمبريالية: 50 587 

أمة قوس - قزح: 360 

الأمة المواطنية: 352» 362 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 

237 

الأمم المتحدة: 54 61٠58‏ 
- الميثاق: 354 

الأمن الإلكتروني: 2551 54 

الأمن الثقافي العربي: 628 

الأمن السيبراني: 556 


الأمية: 287› 326-325 330 2386 
0 629 


الأمية الثقافية: 326 


الإغريق: 50 

أغسطينوس: 50 

أفاية» محمد نور الدين: 83 

فريقيا: 55 

الأفغاني» جمال الدين: 138» 140- 


“171 “169-167 161 1 
378 4183 3 


الأفكار الإصلاحية الأوروبية: 429 
الأفكار العابرة القارات: 608 
أفلاطون: 590 

الأفندي» عبد الوهاب: 15124 


إقبال» محمد: 171-169« 173« 


183-182 
الاقتباس: 130-129 
الاقتصاد الإسلامي: 166 
اقتصاد السوق: 199 
الاقتصاد السياسي: 77 
الاقتصاد المعرفي: 610607 
الاقتصادات الريعية: 529 
الأقليات: 608 
الأقليات الدينية: 91 
أقيور» سعيد: 28-27» 397 
الأكاديمي المتخصص: 22» 35 
ألتاميرانو» كارلوس: 425 
الالتزام: 505 


الانتماء القبلي: 365 
الانتماء القومي: 89 
الانتماء اللغوي: 89 

الانتماء الوطني: 435 
الانتماءات العصبية: 369 
الإنتيلكتويل الفرنسي: 22» 34 
الأنثروبولوجيا: 204 
الأنثروبولوجيا الثقافية: 204 
الاندماج الاجتماعي: 21 
أنزورء نجدت: 4916486 
الإنسانوية: 459 

انسحاب المثقف: 72 


الأنصاري» محمد جابر: 2317 321- 
322 


أنصاف المثقفين: 47 
أنطون» فرح: 2378 510 
أنظمة الاستبداد: 352» 2357 359« 


2520 467 417 409 3 
530 2 


أنظمة الربيع العربي: 1 9 

الأنظمة الشمولية: 83: 200« 358 
الأنظمة العربية: 322 

أنظمة مابعد الربيع العربي: 80 
أنظمة ماقبل الثورات: 88 
الانفتاح الفكري: 299 


أمير كا الجنوبية: 348 

أميركا الشمالية: 407 

أميركا اللاتينية: 399-398: 435 24 6 
أمين» جلال: 68 

أمين» سمير: 277 586 

أمين» قاسم: 378 

الأمين» محمد: 490 

الإنتاج الثقافي أو الفكري الفاعل: 108 


الانتخابات التشريعية فى مصر (2012): 
79 


الانتقال الديمقراطى: 71« 73« 99« 
478-477 484 523-521« 
8 530 2.624 628 


الإنتليجنسيا: 2157 459-458» 2476 
7 605 


الإنتليجنسيا الروسية: 2 35-9 
الإنتليجنسيا الغربية: 586 
الانتماء الوثنى: 89 


الانتماء الثقافى: 40ء 469 89« 97« 
610 


الانتماء الجندري: 89 
الانتماء الحزبى: 404 


201 


الانتماء الدينى: 87 89 
الانتماء الطائفى: 365 


أوروبا 45,2: 347« 399-398« 
521« 624 


أولبرايت» مادلين: 59 
أومليل» علي: 116» 160-157 187 
الاتتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة 

السورية: 493 
الأيديولوجيا: 70ء 86» 98 
أيديولوجيا الاستبداد: 477 
الأيديولوجيا الاستعمارية: 53 
الأيديولوجيا الثورية: 71 
الأيديولوجيا العربية المعاصرة: 100 
أيديولوجيا مجتمع الثورة: 628 
:d|‏ 59 166 171 176» 179 
إيرلندا: 407 
إيطاليا: 407 
أيوب» ساشا: 490 
الأيوبي» نزيه: 462 

-ب- 

باريس: 35› 136› 273› 478 
باريليي» إيتيان: 426 
بازرغان» مهدي: 166 
الباطنية: 219 
الباقلاني» أبو بكر محمد بن الطيب بن 

محمد بن جعقر: 219 
بالب» جان بیار: 607 


الانفجار الثوري: 85 


الانفجار العريى الكبير (2011): 69- 
70« 74« 86« 98« 100 


انفجار الهويات المتقاطبة: 90 


الانقسامية: 49 
الانقلاب العسكري في السودان 
(1989): 351 


الانقلاب فى العراق (1968): 2 46 

إنكلترا: 5622509 

امكو ذج التمشل الذاتى (Auto-‏ 
:(representation‏ 612 

أنموذج الدولة المتضخمة: 462 

انهيار الاتحاد السوفياتي: 4266 278« 
415 

انهيار الخلافة العثمانية: 434 

انهيار المعسكر الاشتراكى: 2 27 

انهيار نظام زين العابدين بن علي 
(تونس): 88 

انهيار اليسار: 266» 276,274 

أهل الحل والعقد: 222-221 224- 
4226 233-232 

أوياماء باراك: 551 

«162 «139 «130 «113 :Lool 
«2124208 «199 «189 «171 
«407 4291 «290 «285 «283 


«440 4436 «432 429-428 
529 4525 .468 4458 3 


البستانى» نجیب: 286 
البستانى» نسيب: 286 


بشارة» عزمى: 222 2.33 45 274 77» 
187« 201« 4 2206 211» 
214« 4346 4392« 406« 573« 
605« 615-614« 626 


بطولة المثقف: 181 
بغداد: 220 232-231 


طاهر: 219 


بقدونس» دانا: 490 
بل» دانييل: 268 

بلاد الشام: 284 

بلبل» نوار: 491 
بلزاك» أونوريه دو: 120 


بلقزيز» عبد الإله: 9 061 263» 
326« 386-385« 621 


البلقنة: 359 


بن باديس» Le‏ الحميد: 454 163« 
166 


بن حنبل» أحمد: 2166 236-235 
بن عاشورء الطاهر: 2138 163 
بن عاشور. عياض: 516 

بن علي» زين العابدين: 382 


بن نبى» مالك: 2166 174-172« 
2183-2 324 


بانياس: 486 

باور» برونو: 36 

البحث العلمي: 326 

بحرة» عزة: 496 

البحرين: 554 

براديغم الحداثة: 189 204 214 
البراغماتية اللاهوتية: 200 
البرجوازية: 459 

بردويستال» راي: 2569 2583 594 
برکات» حلیم: 24 5 

بركوفيتز» هيرب: 271 

برلسون. برنارد: 310 

برهامي» ياسر: 240 

بروس» شارل دو: 291 
بروميثيوس: 160 

بريطانيا: 407 

بريميوء نانسي: 412 


البساسيري» أبو الحارث أرسلان بن 
عبد الله المظفر: 232 


البستانى» بطرس: 2286-5 288« 
0 2295-5992 4297 299« 
302 


البستانى» سليمان: 286» 288 
البستاني» فؤاد أفرام: 286 


البويهيون: 4220 2464223 

بيات» آصف: 176 

بياجيه» جان: 591 

بيان «تجمع فناني ومبدعي سورية من 
أجل الحرية؛ (2011): 490 

بيان 99 (سورية): 502479 

97 0« نورماند: 262 

بيرك» جاك: 434-433 

بيرنز» روبرت: 152 

بيروت: 478 

بيطارء هيفا: 499 


البيعة: 2224-222 2232 241-240» 
243 


بيغوفيتش» علي عزت: 180 
دت- 

تاريخ الأفكار: 449 

التاريخ السياسي: 449 

التاريخ العربي الإسلامي: 2218 220 

التاريخ المسيحي الأوروبي: 79 

التاريخانية: 116» 478 

تامرء زکریا: 479› 487 

التبعية: 64 

تبعية المثقف للسياسي: 462 

التتريك: 288 

التثاقف المجتمعي: 196 


البناء حسن: 3 174 


بنداء جوليان: 151 155-153 257» 
262-259 


بندر بن سلطان: 499 
بنو أمية: 222 

بنو العباس: 222 
البني» أكرم: 481 
البني» أنور: 481 


بوتشيش» إبراهيم القادري: 31-30« 
601 


بوتفليقة» عبد العزيز: 54 

بوتومور» توم: 307 

بودریار» جان: 623 

البوذية: 87 

بورديوء بيار: 45» 155« 255« 308« 
324« 375« 602« 615 


بورقيبة» الحبيب: 88 

بوزنر» ريتشارد: 154 

البوسنة: 180 

بوش (الأب)» جورج: 50ء 61:59 
بوش (الابن)» جورج: 50» 467 
البوشي» براء: 496 


البوطى» محمد سعید رمضان: 165- 
6 240-239 


البوعزيزي» محمد: 2400 617 


بوفون» جورج دو: 297 


الترابى» حسن: 163» 176-175« 
351 


التراث الإسلامى: 1934116113« 
510 


التراث العربي: 188 

التراث العربي الإسلامي: 346 
التراث المسيحي: 193 

التراث اليهودي: 193 

التراث اليوناني: 112 510 
التربية: 314-33 324 326 
التربية التغييرية: 325 

التربية العربية: 325 

الترك» رياض: 485 

تركيا: 59» 140 

تروتسكيء ليون: 457 
التسرب من المدرسة: 325 
تسلط الدولة: 189 

تسليع الفكرة: 212 

تسليع القيم: 271 


تشومسكى» نوام: 419 4155445437 
262-261 2268 1273 458« 


464« 627 
التصحّر الفكري والثقافي: 289-288 
التصنيع الثقافي الآلي: 570 
التصوف: 174 
التصوف المسيحي: 191 


التجديد الديني: 2140 145 214 

التجربة اليهودية - المسيحية: 209 

التجسس الإلكتروني: 552 

تجمع الفن والحرية - أماجي (سورية): 
496 


491 «479-478 

تجمع اليسار الماركسي في سورية 
(تيم): 494 

التحديث الاجتماعي والسياسي: 159 

التحديث الثقافي: 99 

التحديث الثوري: 417 

التحديث في العالم الإسلامي: 180 

3564354: ) il 

التحرر الجماعي: 5194505 

التحرر الفردي: 505 519 

تحليل الموضوع: 310 

التحول الثوري: 2312 320 

التحول الديمقراطي: 468-467« 
480« 512« 523« 622 

التحول السياسي: 99 

التحولات 
609« 625« 631 

التخزين المعرفي: 610 

593,34 : all 


التداول السلمى للسلطة: 94« 97« 
218« 222« 225« 4244 246« 
409« 415 


التاريخية: 603-602« 


تقانة المعرفة: 610 

تقانة المعلومات والاتصال: 558» 
562 569 2.585 6114593 

التقدم التقني: 204 

التقدم الرقمي: 597 

التقدم المادي: 204 

التقدمية: 447 

تقسيم العمل: 428 

تقنية تحليل المحتوى: 26 

تقنية تحليل المضمون الكيفي: 310 

607 :(Hypertext) Lui il al 2:35 

تكثيف الزمنية: 541 

التلميذ الرقمي: 611 

تليمة» عصام: 241 

التمدن: 204 

التمييز العرقي: 361 

التمييز العنصري: 2557 559 

التنافس الاجتماعي: 106 

التنشئة الاجتماعية: 2312 324 

تنظيم الدولة الإسلامية في العراق 


والشام (داعش): 4,167 493« 
1 555 


تنظيم القاعدة: 167« 494-493« 
555-554 


التنمية الاجتماعية: 2325 585 
التنمية البشرية: 44» 314غ» 325 


التضليل السياسي: 577 

التطهير العرقي: 365 

التظاهرات في سوق الحميدية (2011» 
دمشق): 481 

تظاهرة المثقفين (2011» سورية): 490 

تعدد الهويات: 2350 355 360-359 

التعددية: 608 

التعددية السياسية والحزبية: 94» 367 

التعليم: 2314 326 

التعليم التقليدي: 441434 

التعليم العربي: 325 

التعليم العصري الحديث: 441434 

التغريب: 3912379 

التغير الاجتماعي: 222-21 325 

التغيير السياسي: 6318 320 

التغيير المجتمعي: 314-305» 316- 


334-330 328-324 «319 
549 : SUN التفاعل‎ 

التفاعلية: 539 

التفاعلية الشبكية: 548 

تفكك الأحزاب السياسية: 581 
التقاطب الهوياتي الحاد: 90 

تقانة الإنترنت: 541 

تقانة الثقافة: 569 

التقانة الرقمية: 538» 547 


تيار الإسلام السياسي: 87 
التيار الإسلامي: 73» 87» 383 

تيار بناء الدولة (سورية): 498 

تيار التنظيمات في الدولة العثمانية: 116 
التيار السلفي (مصر): 92ء 94« 240 
التيار الشعبي الحر (سورية): 2 49 

تيار الشيخ جودت سعيد السلمي 


(سورية): 492 
التيار الليبرالي: 87 
تيار مابعد الإسلامية: 176 
تيار المحافظين الجدد: 467 
التيار المدني: 383 
التيارات القومية: 73ء 175 
التيارات اليسارية: 73ء 175 
تيزيني» الطيب: 487 
تيللي» جيمس: 89 

à — 

ثقافة الاتصال: 570 
ثقافة الإجماع: 341 
ثقافة الاحتجاج: 617 
ثقافة الاختلاف: 350 
الثقافة الأدبية: 301 
ثقافة الاستسلام للمستبدين: 367 
الثقافة الإسلامية: 4332161134 
الثقافة الإصلاحية: 433 


التنمية الثقافية: 423 
التنميط الثقافي: 22 
التنوع SD!‏ 366 
التنوع الثقافي: 91:89 
التنوع الطائفي: 366 
التنوع العقائدي: 366 
التنوير: 414 433» 447 


التواصل الشبكى: 17 03 619- 
620« 629-627« 632 

التواصل الميداني: 619601 627« 
632 

تود» إيمانويل: 22» 62 

التوريث: 479 

تورين» آلان: 276-75 85-84: 90 

توسيديد: 50 

التوعية الشبكية: 21 6 

توفيق (خديوي مصر): 51 

توفيق» زهير: 2197» 206 

«180417661624117-115: 555 
«400 ,383-382 ,333-332 
«519 4488 481 «457 «446 


«546 528-527 2523-2 
5714554 


التونسى» خير الدين: 117« 130« 
6-ق163-1612138غ 509- 
510 


توينبى» أرنولد: 60 


ثقافة العابر: 568 
الثقافة العراقية: 464-463 


الثقافة العربية: 112-111« 188» 
191-190« 194-193« 341« 
346 401« 433 445 457- 
459 461« 463« 560« 595 


الثقافة العربية الإسلامية: 24« 131« 
6 458 


الثقافة العربية التقليدية: 289 

الثقافة العربية الحديثة: 461 

ثقافة العولمة: 549 

الثقافة الغربية الليبرالية: 435» 457- 
9 464 

ثقافة «غير الواقع»: 568 

الثقافة الفرنسية: 113-112 117 

ثقافة مجتمع الاتصال: 593 

ثقافة مجتمع الحداثة: 582 

الثقافة المجتمعية الأميركية: 271 

ثقافة المخزن (المغرب): 117 

الثقافة المسيحية: 79 

ثقافة المشاركة: 356 

الثقافة المصرية: 112 

الثقافة المعاصرة: 590 

الثقافة المغربية: 115 

ثقافة المنفعة: 272 


649 


الثقافة الافتراضية: 2»585-584 624 
الثقافة الأميركية: 279 

الثقافة الانقسامية: 342» 2365 419 
الثقافة الأوروبية: 401» 432. 475 
ثقافة التغيير: 320 

ثقافة التقانة الحديثة: 560 

الثقافة الجماهيرية: 2580 595 

الثقافة الجماهيرية التجارية الشائعة: 


592 
ثقافة الجيل الرقمي: 562 


الثقافة الحديغة: 21ء 570 
ثقافة الحرية والمواطنة: 572 


ثقافة حقوق الإنسان: 30» 507-505« 
529 


ثقافة الحوار: 258 25 6 

ثقافة الخضوع: 356 

ثقافة الخوف: 618-617 624 

الثقافة الديمقراطية والحقوقية: 507» 
4 625 

الثقافة الزائفة: 570 

ثقافة الزعامة والاستبداد: 572 

ثقافة السلام: 6123 

الثقافة السياسية: 410-409 

الثقافة السياسية السائدة: 84» 466 

الثقافة السياسية العربية: 409 


الثورة البلشفية (1917): 359 


ثورة تموز/ يوليو الفرنسية (1830): 
135 


الثورة التونسية (2011-2010): 385» 
480« 493« 571« 574-573« 
577 


الثورة الثقافية: 23» 99 

الثورة الجزائرية (1954): 405 
الثورة الدائمة: 457 

الثورة الديمقراطية: 74 

الثورة الرقمية: 578-577» 609 


«486 «480 «476-475 3 
622 4501 «495-494 


الثورة الصناعية: 289» 2459 562 
ثورة الطلاب والشباب في فرنسا 
)1968(: 199« 350-349« 

403 


الثورة الفرنسية (1789): 6289 291» 
8 429 512 526 
الثورة الليبية (2011): 481-480 


الثورة المصرية (2011): 68) 94« 
237« 386-385« 389« 480« 


493« 573 
ثورة المعلومات: 6116414110 
الثيوقراطية: 469 


الثقافة الناعمة: 619 

ثقافة النخبة: 595 

ثقافة الهيمنة الغربية: 52 

ثقافة وسائل الاتصال: 4568 583« 
592 


الثقافة الوطنية: 583 
ثلاثية «الحرية والمساواة واللإخاء»: 417 
ثنائية الأصالة/ المعاصرة: 345 


ثنائية الأيديولوجيا والديمقراطية: 23› 
98 


ثنائية التقليد/ التحديث: 345 

ثنائية الدين/ العلمانية: 345 

ثنائية الشرق والغرب: 608 

ثنائية الشورى/ الديمقراطية: 345 

ثنائية المثقف والسلطة: 411 

ثنائية نحن/ هم: 365 

ثنائية الهوية والمواطنة: 23» 98 

الثورات العالمية: 68 

الثورات العربية: 27« 72-69« 80- 
2 6 420372241236 

4094389 «365 :55L 20) «1, 


الثورة الإسلامية فى إيران )1979(: 
6» 176» 181غ» 333 359غ» 
3 469 488 

ثورة الإعلام :JlasYls‏ 391« 476« 
8 585 631 


الجبهة الوطنية التقدمية (سورية): 477» 
492 


جحاء عثمان: 490 

جدعان» فهمي: ۰132 190 

جدلية الإصلاح والثورة: 73 

الجراح» نوري: 489 

جرائم الفضاء السيبراني: 556 

جربان» فرزات يحيى: 494 

الجرجاني» علي بن محمد الشريف: 
141 

جريدة الأهرام المصرية: 386 

جريدة المدينة السعودية: 335 

جريدة المصري اليوم: 386 

جريدة الوطن المصرية: 386 

الجريمة الإلكترونية: 540 

الجزائر: 54-53 115-114 554 

جعيط» هشام: 48-46› 116» 586 


الجماعات الافتراضية: 4538 573« 
581 


جماعات التطرف: 356 
الجماعات الخفية الاسم: 581 


جماعة اللإخوان المسلمين: 279 331» 
2 478 491 493 552- 
554 


جماعة اللاعنف (سورية): 492 


جمعة» حسين: 497 


اج - 
الجابر» إيمان: 490 


الجابري» محمد عايد: 47-45» 78« 
116-5 6118 4161 346« 
4 41 458 479« 518« 
625 


جاكوبي» رسل: 154 

جامع الأزهر (مصر): 294 237» 432 

جامع الزيتونة (تونس): 432 

جامع القرويين (المغرب): 432 

الجامعة الافتراضية: 611 

جامعة بنسلفانيا (الولايات المتحدة): 
275 

جامعة دمشق: 478 

جامعة هارفرد (الولايات المتحدة): 61 


61 


جاويش» عبد العزيز: 2139 143-142» 
148-6 


الجباعي» جاد الكريم: 498 

الجبر والاختيار: 134 

جبران» جبران خليل: 55» 120-119 
جبرون. امحمد: 371227 

الجبهة الإسلامية (سورية): 493 
جبهة التحرير الوطني الجزائرية: 53 
الجبهة الثقافية الافتراضية: 625 


«1904188 182 «180 4166 
«213-212 202-200 ,198 
«379 «324 4299 «297 «4283 
«468 447.412 393 1 

632 4 


الحداثة الثقافية: 159 

الحداثة الزائفة: 194 

الحداثة السياسية: 80 

الحداثة السياسية الغربية: 461 
الحداثة العربية: 190 

الحداثة الغربية: 212 2300 467 
الحدادء الطاهر: 141 


الحراك الاجتماعى: 31ء 6352 414« 
457« 571« 604 


الحراك الثوري العربي: 382» 411« 
575-574 


الحراك السلمي للشعوب: 356 
الحراك الشعبي: 349 

الحراك العربي: 31 4130332 
الحراك في البحرين: 413 

الحراك في سورية: 413 

حراك المثقفين: 98 

الحراك المدني: 469 

الحرب الاستباقية: 50 

حرب إسلي في المغرب (1844): 379 
الحرب الافتراضية: 551 


جمعة» على (مفتى مصر السابق): 238 

جمعية حقوق الإنسان في العراق: 519 

جمهورية جنوب أفريقيا: 2179 4212 
361-360 


الجمود الكنسي: 345 
الجموسي» جوهر: 30: 567 
جندلي» مالك: 490› 494 

جهاد النكاح: 555 

الجوالي المسلمة في الغرب: 177 
جونسون» سامويل: 152 


الجيش السوري الحر: 1238 492- 


501 3 


الجيل الرقمي العربي: 549» 562- 
563 


الجيل الرقمي الغربي: 549 
جیمس» سیریل لیونیل: 52 

-ح - 
حاج حمد» محمد أبو القاسم: 214 
الحاج صالح» ياسين: 481 
الحاخامات اليهود: 427 
الحافظ, ياسين: 440› 478 
حبیب» کاظم: 319-318› 331 
الحتمية التقنية: 610 
الحجوي» محمد بن الحسن: 141 


الحداثة: 75» 78-77« 87« 100« 
221217 139 165- 


حرب. على: 2187 265-264: 614 


الحرب على غزة (2014) (عملية 
«الجرف الصامدة): 59 


حرب فيتنام (1975-1955): 61:44 


الحركات الاحتجاجية: 572» 603» 
618 


حركات الإحياء الإسلامي: 174 
حركات الإسلام السياسي: 552 
الحركات الأصولية: 562 

حركات التحرر الوطني: 507 513 
الحركات الثورية اليسارية: 517 
حركة «احتلوا وول ستريت6: 627 


حركة الاشتراكيين العرب (سورية): 
485 


الحر كة الإإنسيa :(Humanisme)‏ 373 
حركة حماس: 333 

حركة «كفاية4 (مصر): 481 
الحركة الماركسية العربية: 73 
حركة المؤمنين (سورية): 493 
حركة النهضة (تونس): 180 
حركة النهضة العربية: 284» 302 
الحركة الوطنية المغربية: 115 
حروب الاستقلال: 512 
الحروب الصليبية: 289 
الحريات: 195« 5116318 


حرب الأفكار: 272 

حرب الانفصال الأميركية )1861- 
1865(: 270 

الحرب الأهلية اللبنانية (1975): 477»› 
527 

الحرب الباردة: 23» 64ء 278« 358« 
514 


حرب تطوان فى المغرب (1860): 
379 


حرب الجزائر (1962-1954): 3 5 


الحرب الأهلية الجزائرية (1992): 
333 


حرب الخليج )1991-1990(: 29« 
8 2279 2351 464-463 

الحرب العالمية الأولى (1914- 
1918(: 421 457 4271 284« 
508 

الحرب العالمية الثانية (1939- 
5 21 271 5126348 
517« 4521 595 

الحرب العراقية - الإيرانية (1980- 
8 229 464-463 

الحرب العربية - الإسرائيلية (1948): 
437« 507 

الحرب العربية - الإسرائيلية (1967): 
9 23333 439 443-442« 
518 


الحرب العربية - الإسرائيلية (1973): 
496 


حرية المثقف: 2368 444 

حرية ممارسة الشعائر الدينية: 97 

حرية النشر: 93 

حزب الاتحاد الاشتراكي العربي 


الديمقراطىي (سورية): 479 
492-491 


حزب الأحرار الدستوريين (مصر): 
113 


حزب البعث العربي الاشتراكي 

حزب البعث العربي الاشتراكي 
(العراق): 29« 462« 465 

حزب البعث العربى الديمقراطي 
(سورية): 491 


الحزب الجمهوري (سورية): 494« 
497 


حزب الحرية والعدالة (مصر): 79 

حزب الشعب الديمقراطي (سورية): 
5 8 491« 494 

الحزب الشيوعي السوري: 491 

حزب العمال الثوري (سورية): 491 

حزب العمل الشيوعي (سورية): 494 

الحزب الوطني (مصر): 237 

حسن» مجدولين: 490 

حسن» نضال: 490 


486-485 


الحريات الأكاديمية والمعرفية: 527 
الحريات الخاصة: 509 

الحريات الصحافية: 477-476 
الحريات العامة: 2509 588 


الحرية: 621 23« 28« 67« 129 
130« 139-133 146-145« 
۰192,49 196 211 276- 
27 342-341 351-350« 
354. 356 4365 383.368 
8 404 4154412-411« 
7 419“ 436 448 474« 
499-498, 4502 506« 508« 
4510 4525 4532 620 624« 
626 


الحرية الاجتماعية: 559 

حرية الاعتقاد: 297 2139 146-144 
حرية التعبير: 19» 2160 2542 588 
الحرية الجماعية: 75 

الحرية الديمقراطية: 90 

الحرية الدينية: 24» 2139 145-143 
حرية الرأي: 2109 542 

الحرية السياسية: 356» 2476 513 

الحرية الشخصية: 513 

حرية الصحافة: 93 

حرية الضمير: 97 

حرية الطباعة: 93 


الحرية الفردية: 75 


الحقوق السياسية: 520 

الحقوق المدنية: 520 

حقوق المواطنة: 625 

حقي» هيثم: 496 

الحكم الأموي: 219» 246 
حكم الحزب الواحد: 480 
الحكم العباسي: 220-219», 246 
الحكم العثماني: 286: 288 
حلب: 493 

حلبون (سورية): 485 

الحلوء فارس: 490 

حمادة» وائل: 5 49 

حمادي» سعدون: 318 
الحمادي» ناظم: 495 

حماه: 478 

حمدء النور: 224 187 

حمدان» حسن (مهدي عامل): 45 
الحملات الصليبية: 510 


الحملة الفرنسية على مصر (1798- 
1801(: 510 


حميدة» مخلوف: 589 
حمیش» بنسالم: 302+ 
حنفى» حسن: 436 


حوادث 11 أيلول/ سبتمبير 2001 
(الولايات المتحدة الأميركية): 
267« 274« 276 


حسين» صدام: 4664457 


حسين» طه: 2112 132-131 161غ» 
5 2289 378 433 459 


الحصار الدولي للعراق: 29ء 464 

الحضارة الإسلامية: 2172 37 

الحضارة الأوروبية: 116 189 

الحضارة العربية: 61912187 290 

الحضارة العربية الإسلامية: 181» 
201« 208« 376« 401 

الحضارة الغربية: 60ء 129 

حفيظ (سلطان المغرب): 51 

حق التفكير الحقيقي: 180 

حق النقض (الفيتو): 62 

حقبة مابعد الإسلامية: 175 

حقبة مابعد الكولونيالية: 189 

الحقل الاقتصادي: 256 

الحقل الثقافي: 263 

الحقل الديني: 256 

الحقل السياسي: 256 

حقوق الأفراد والجماعات في المشاركة 
في العمليات الاتصالية: 559 

حقوق الأقليات: 78 

حقوق الإنسان: 29ء 59« 94« 97« 
137« 178« 212-211« 318« 
357« 4367 494« 507-505« 
509« 516-511« 519-518« 


«530 4528 526-525 2 
624 620 588-587 32 


الخطاب الثقافي والإعلامي المحلي: 
584 


خطاب الحركات الإسلامية: 176 
خطاب حقوق الإنسان: 513 
الخطاب الديني: 190 

الخطاب الشرعي في الإسلام: 145 
الخطاب العربي الإسلامي: 274 
الخطاب العربي المعاصر: 110107 
الخطاب الليبرالي: 176 

خطاب المثقف العربي: 2342 507 
خطاب مقاومة الجور: 2517 519 
خطاب النهايات: 69 

خطاب النهضة العربية الحديثة: 346 
خطاب الهوية: 514 

خطاب الوحدة: 359 

الخطابات السلفية: 1 9 

الخطيب» حمزة: 484 

الخطيب» محمد كامل: 500 
الخلافة: 243 

خلافة الاستيلاء: 234 

الخلافة الراشدة: 158 

الخلافة العباسية: 220 

الخلافة العثمانية: 140 

الخلفاء الراشدون: 192 

الخلفاء العباسيون: 223 


حوراني» أكرم: 491 
حوراني» آلبرت: 132-131 
حوراني» فدوى: 485 
الحوكمة الرشيدة: 470 
حويجة. أمل: 496 

خخ 
خان» سید أحمد: 167 
خدام» منذر: 499 
de‏ إبراهیم: 496-495 
خسروخافار» فرهاد: 470-469 
الخصوصيات الثقافية العربية: 190 
الخصوصية الإسلامية: 515 


الخصوصية الثقافية: 190 460-459» 
584 


الخصوصية الثقافية المحلية: 583 
الخصوصية الحضارية: 2380 584 
الخصوصية المجتمعية: 2307 327 
الخصوصية الواقعية: 319 

خضرء سلام: 466 

الخطاب الإسلامي: 166 

الخطاب الإسلامي المعاصر: 143 
الخطاب الأكاديمي: 36 

الخطاب الإلهي: 141» 148 
خطاب التجديد الديني: 140 
خطاب الثقافة: 588-586 


- المادة 19: 93 

- المادة 219: 95 
الدستور الحقوقي: 91 
الدستور الديمقراطي: 368 
دستور السياسات العامة: 1 9 
الدستور السياسي: 91 
دستور الغلبة الثقافية: 93 
دستورانية الربيع العربي: 91 
الدعوة السلفية: 240 
دليلة» عارف: 478 
دمشق: 479: 485 


الدمقرطة: 198.» 412» 467» 469- 
471 


دمقرطة التربية: 2314-313 325 
دمقرطة المجتمع: 367 


دوبريه») ريجيس: 245 2.302 375» 
2587-6 596 


دوبنتون» لويس جان ماري: 291 
دوركهايم» إميل: 324 

الدوس» يوسف محمود: 494 

الدول الأمم: 530 

دول الربيع العربي: 341» 629362 
الدول المارقة: 50 

دولباك» بول - هنري (البارون): 291 
الدولة: 23» 1007067 


الخليل» سالم عبد الرحمن: 495-494 
خليل» سمير ٠‏ 495 


الخميني» روح الله الموسوي: 166« 
175-174 


الخوارج: 210ء 219 

خوري» رئیف: 513 

خوري» كوليت: 482 

الخيال السيبراني: 547 

خيانة المثقفين: 2784260 
وت 

داروين» تشارلز: 120 

داريا (سورية): 4912484 

الداعية الإسلامي: 163 

دالمبير» جان لورون: 291 

دالي» ماري: 200 

دانتي: 120 

الدانمارك: 407 

درعا: 7 48» 489 

دريداء جاك: 236 464 


دريفوسء ألفرد: 419 151« 254« 
4257 4343 4374 400 


دستور التسوية الثقافية: 95 
الدستور التونسى: 292 97-95 
الدستور الثقافى: 92-91 


دستور الثورة المصرية (2012): 92- 
95 


دیانی» مراد: 17 

ديبو» محمد: 481 

ديدروء دئنيس: 293-290 301 

ديركي» طلال: 490 

دیکارت» رینیه: 203 

الديمقراطية: 21« 423 428 459 67« 
۰75-70 91082078 94-93« 
0 11 116 119 121- 
2 4152 4160 42114180 
277-276« 4318« 325« 4353 
4356 367-366« 388-386« 
9 43 410-408 412- 
4415 417« 4419 4436 445 
8 7-466 246 2469 477- 
479« 4486 492(« 494« 498« 
2 2506-05 508 519« 
522« 527-526 624620 
4626 630 

الديمقراطية التشاركية: 6084353 

الديمقراطية الت لتمثيلية: 99» 353 

ديمقراطية الرأي: 99 

الديمقراطية الليبرالية السياسية: 201 

الدين: 623 67, 4100 139« 4170 
4 41824176 189.187« 
205« 4212 4217 329 

دين الانقياد: 367 

ديوي» جون: 324 

as 


الذات الجماعية: 84 


658 


دولة الاستبداد العربية: 2274 356 
الدولة اللإسلامية: 79ء 129 

الدولة الافتراضية: 539 

الدولة الأمنية: 480» 487 

الدولة التسلطية: 3 8» 465 

الدولة الحديثة: 35» 366» 436 

دولة الحريات: 478 

الدولة الريعية: 29ء 4641462 466 
الدولة العباسية: 227 

الدولة العربية الأمنية: 312 

الدولة العميقة: 95» 420 

الدولة الفلسطينية: 61 

دولة القانون: 506-505 5222512 
الدولة القطرية: 321 

الدولة القومية: 243 2416 439-437 


الدولة المدنية: 70ء 77« 80-79« 87« 
91 48741335295 


دولة المدينة: 191:96 
دولة الموحدين فى المغرب والأندلس: 
172 


الدولة الوطنية: 111» 243ء 277« 
431« 437« 441 


الدولة الوطنية الحديثة: 434 439« 
512 


الدولة الوطنية القطرية: 410 


495 (سورية):‎ L 95 


الرأي العام: 19« 348430 

الرأي العام الافتراضي: 560 

الرأي العام الشعبي: 409 

الرأي العام الواقعي: 560 

ربيع دمشق (2001-2000): 480- 


481 
الربيع العربي (ثورات 2011): 23« 
28-26« 31-30« 72-70« 


«100-98 485 «483 «80 .78 
«2744218 4195 4121 9 
«316 4308 «306-305 .276 
+347 342 4332-330 .320 
«358-356 4353 2350-9 
«368-367 365 «362-360 
«392 4389 387-381 «371 
«408-406 403 «400-397 
«448-447 416 411-410 
4530 4521 «481 473 4457 
«604-601 4581 559 2 
«629-623 «621-614 «609 

632-631 


الربيعي» مجيد: 518 

رجال الدين التقليديون: 433 

رجال الدين اليهود: 426 

الردة: 24ء 147-144 

رشدي» سلمان: 179 

الرشدية اللاتينية: 294 

رضاء محمد رشید: 34» 163« 6166 
4.174 431-430 


659 


الذات العربية التاريخية: 193 
الذات الفاعلة: 85-84 97 
الذات الوطنية: 434 
ذاكرة الأقوى: 53 
ذاكرة المستتبعين: 53 
الذكاء الجمعي (الجماهيري): 557 
ذكرى» سمير: 496 
الذهبي» أبو عبد الله محمد بن أحمد: 
231 
sie‏ 
الرابطة السورية للدفاع عن حقوق 
الإنسان: 519 
رابطة الصحافيين السوريين: 497-496 
رابطة الكتاب السوريين: 496 
راجحء كريم (الشيخ): 493 
رأس المال الاجتماعي: 105 
رأس المال البشري: 2325 326 
رأس المال الرمزي: 423 
راسلء برتراند: 19» 37» 44 
الرأسمالية: 266 
الرأسمالية الجديدة: 76 
الرأسمالية المالية الافتراضية: 44 
الرأسمالية المتوحشة المعولمة: 212 
الرأسمالية المعرفية: 628 
الراهب» هاني: 479» 497 


ريلكيء ريني ماريا: 45 
-ز- 
الزراعي» عدنان: 496 
الزعبي» لؤي: 3 49 
الزمخشريء أبو القاسم جار الله محمود 
بن عمر: 18 
زمن الصحابة: 224 
الزهاوي. جميل صدقي: 459 


زولاء إميل: 2255-69 
3438258-27 


الزيات» محمد حسن: 437 

زيتونة» رزان: 495 

زيدان» يوسف: 3926386 
داس - 

ساخاروف» أندريه: 219 155 

490 4481 : 50 «3 Le 


«53 «44 636 419 : Ju Ole سارتر»‎ 
«2544199157 4155 4109 
4273 4268 «262 2258-7 
«403 4375 «350 «348 ,343 
586 «440 418 5 


ساکس» جيفري: 627 
سبنسر» هربرت: 307 
سبينوزاء باروخ: 590 


مصعب السوري): 493 


ستروسء ديفيد: 36 


رغدة (الفنانة): 2486 489 
الرفاعي» أسامة: 493 

الرفاعي» سارية: 3 49 

الرقابة والتعتيم الإعلامي: 579 
رمضان. زهير: 486 

رمضان. طارق: 246 2.177 407 
رنان» إرنست: 120 

الرواية الأدبية السياسية: 518 
روبلي» محمد رشيد: 496 


الروحانية: 193-192 205-202« 
8 212 


الروحانية العربية: 189. 191. 2.193 
196 


الروحانية المسيحية: 192 
الروحانية اليهودية: 192 

رودس» سيسيل: 51 

رودني» والتر: 52 

رورتي» ریتشارد: ۰156-155 200 


«291160 4152 : Se Ole 699) 
526.348 «293 


روسيا: 234 260 63 2198 407 
روسيا القيصرية: 605 

رولز» جون: 98 

رومانيا: 407 


الريسونى» أحمد: 79 389-388 


سلام» محمد شكري: 330 
سلامة المعلومات: 556 

السلطة الأخلاقية: 34 

السلطة الثقافية السياسية: 158 
سلطة الجماعة الأهلية: 34 
السلطة الحاكمة: 341 

السلطة الديئية: 2158 182٠160‏ 
السلطة السياسية: 158 

السلطة الفلسطينية: 59» 62 
السلفية: 132 

السلقيني» إبراهيم: 493 

سلیمان» نبیل: 499 

سميث» هيوستن: 204-203 
سنودن. إدوارد: 552 

سؤال الهوية: 270-69 682-81 97 
السودان: 2176 2333 553519 


سوروش» عبد الكريم: 179-176« 
182-181 

سورية: 4119 239-238« 316« 
362:333:331, 4365 473— 
4 479 482 488 492- 
3 495 502.500 2553 
5 624 


سولون: 50 
سويسرا: 6139 407 
سيادة الإرادة الشعبية: 108 


سحر المثقفين اليساريين: 458-457 
السرباجي» المنجي: 229 505 
السرديات الصغرى: 76 

السرديات الكبرى: 76-75 

سعادة» أنطون: 329 

سعدي» محمد: 88 5 

السعودية: 59 164› 351238167 


650 «47-45 4,22 419 :5 95] caen 
«1554153 62-61 55 452 
«182-180 41714163 4157 
«361 «267-266 4260 4187 
«521 4475 4464 4462 .458 
586 


سعيد» جودت: 492 
سعید» حیدر: 28» 457 


سعيدء على أحمد (أدونيس): 50« 
17 489-488« 497« 500 


سقراط: 154 

سقوط أنظمة الاستبداد العربية: 457 
سقوط الأيديولوجيات: 518 

سقوط جدار برلين (1989): 58 
سقوط حسني مبارك: 412 

سقوط نظام زين العابدين بن علي: 574 
سقوط نظام معمر القذافي: 630 
سكاف» مي: 490» 496 

السلاجقة: 232» 246 


الشبكات الرقمية: 544 

شبكة أوغاريت الإخبارية (سورية): 
496 

الشبكة العنكبوتية (الإنترنت): 2538 
0 544. 549-548 2552 
572-8 574 577» 579- 


«597-595 591-589 2 
625-624 4613-2 0 


شبكة المعلومات العالمية انظر الشبكة 
العنكبوتية (الانترنت) 

شبنغلر» أوزوالد: 60 

الشبيحة: 488 

شتيرنر» ماكس: 36 

شحادة» باسل: 494» 496 

شرابيء هشام: 187« 312« 446« 
4511 4529« 605 

شربجيء إياد: 490 

شرعة حقوق الإنسان: 178 

الشرعية: 219+ 2222 226 

الشرعية الدينية للديمقراطية: 392 

شرعية المثقف: 393 

شرق أوروبا: 70 


الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: 193» 
5 573 629 


الشركات متعددة الجنسيات: 550 
شركة داتاكوم (الولايات المتحدة): 
52 


سيادة الدولة: 354» 368 

سيادة الشعب: 355» 368» 409 

السيادة العالمية: 551 

سيادة القانون: 78 

السيادة الوطنية: 417» 551 

سياسات الهوية: 82» 290-89 97 

السياسة الخارجية الأميركية: 1 55 

السيدء أحمد لطفي: 2.131 4604378« 

513 

السيدء رامي: 496 

السيد» رضوان: 518 

سيدي بوزيد (تونس): 572 

سيراليون: 360 

السيسيء عبد الفتاح: 237. 240 
دش - 

شارل» كريستوف: 427 

شارون. أريئيل: 2 6 

الشافعي» أبو عبد الله محمد بن إدريس: 

110 

شايغان» داريوش: 459 

شباب البطالة المتعلمة: 615 

شبستري» محمد مجتهد: 178 


شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية: 
482-481 2579 581, 629« 
631 


الشيكات الخفية الاسم :(Anonyme)‏ 
579 


الشويري» يوسف: 23» 105 
شيراك» جاك: 54 
الشيعة: 219 
شيكاغو: 552 
شيلزء إدوارد: 153» 605 
شيللرء هربيرت: 578» 610 

- ص - 
صالح» فخري: 487 
صالح. نبيل: 2 48 
de‏ جورج: 482 
صبراء محمد: 497 
صبريء يارا: 489» 496 
الصحافة التشاركية: 545 
صحافة التطوع: 545 
الصحافة القائمة على النقاش: 545 
صحافة المصدر المفتوح: 545 
صحافة المواطنة: 575 
صحافة الهواة: 545 
الصحافي المواطن: 545 
الصحف الأوروبية: 429 
الصحوة الإسلامية: 60» 176 
صحيفة أحرار سوريا: 496 
صحيفة أحرار قاسيون: 496 
صحيفة أخبار المندس (سورية): 496 
صحيفة البعث (سورية): 496 


شركة غوغل: 544 
شركة فيسبوك: 544 
شركة فوريستر لبحوث السوق: 544 


الشركة المصرية لخدمات المعلومات: 


553 
الشريعة الإسلامية: 96-93« 6115 
242 


شریعتی» على: 166« 171-170« 
173« 176« 179« 182-181« 
605 


الشريف» فهد: 335 

شعار إسقاط النظام السياسي: 362 
شعار الحرية: 484 

شعار الكرامة: 484 

شعار #مشاركة لا مغالية؟: 412 
الشفافية: 367» 608 


شهدي» يم: 490 

شوبنهاور» آرثر: 36 

الشورى: 25ء 94-93« 4219 221— 
4222 225-224« 4229 244« 
419 

شولتز» جورج: 58 

الشويرف» المدنى: 239 


الصفدي» مطاع: 264 
الصليبيون: 287 

صناعة النشر المصرية: 351 
صندوق النقد الدولي: 597 
الصهيونية: 405 

الصومال: 551 

الصيصانةء أحمد: 493 
صيغة جنيف - 1: 499 


صيغة المثقف الأيديولوجي الحزبي: 
28 


الصين: 59» 63ء 158 
-ض - 
الضفة الغربية (فلسطين): 59 
لت 
طارق» حسن: 23» 67 
الطائفية: 2320 413 
طبقة الكهنوت: 206» 459 
طرابلسي» فواز: 488 
طرابيشي» جورج: 79ء 284» 487 
الطريقة الششتية: 174 
طغرل بك (السطان السلجوقي): 232 
الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين 
(سورية): 478 
طه. محمود محمد: 2142209 


الطهطاوي. رفاعة رافع: 4 130« 
136-5)» 4,161 378 


صحيفة تشرين (سورية): 496 

صحيفة الثورة (سورية): 496 

صحيفة حريات أسبوعية (سورية): 496 

صحيفة زمان الوصل (سورية): 496 

صحيفة سوريتنا (سورية): 496 

صحيفة عنب بلدي (سورية): 496 

صحيفة لوموند (فرنسا): 552 

صحيفة الموقف الديمقراطي (سورية): 
479 

صدر الإسلام: 144: 158 

صدري» أحمد: 156 

الصراع الاجتماعي: 333 

صراع الحضارات: 6150 

الصراع الطائفي: 484 

الصراع الطبقي: 610 

الصراع العربي - الإسرائيلي: 314 

الصراع على السلطة: 106 

الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي: 50 

صراع الهويات: 362 

صرب البوسنة: 180 

الصعيدي» عبد المتعال: 146-144» 
148 

الصفارء محمد: 130 

الصفحات الإلكترونية: 546 

صفحة «الثورة السورية ضد بشار الأسد 
1 482 

صفحة «الشعب السوري عارف طريقه؛: 
496 


عبود» سلام: 466 
العبودية: 134-133 
العبودية الإرادية: 51 

عثمان بن عفان: 224» 226 
عجميء فؤاد: 267 


العدالة: 23ء 67» 4189 4190 192« 
2288-27 448 626 


العدالة الاجتماعية: 628 97« 6191 
38 201« 365. 383,368« 
8 41 419« 436« 528 


العدالة الانتقالية: 523-521 

عدالة توزيع المعرفة والثقافة: 325 
العدل: 136» 210٠208‏ 

عدم تكافؤ الفرص التربوية: 325 
العراق: 29» 59» 316« 318» 457» 


-470 467-464 462-461 
555-554 1 


عرسان» علي عقلة: 497 

العرعور: عدنان: 630 

عرفة» أمل: 486 

العروبة الأيديولوجية: 201 

العروبة الثقافية: 201 

«56 «48-45 423 : de «ss x) 
«116-114 «112 «99-98 


«432 «424,284 196 «187 
622 4446 «440 ,437 45 


العسري» خالد: 341427 


665 


الطويل» جلال: 496 
طيارة» نجاتي: 482-481 
الطيب» أحمد: 237 

ab 
115 :)1930( الظهير البربري‎ 

ع - 
العادات والتقاليد: 327» 330 
العاسمي»ء رامي عادل: 494 
العاشق» رامي: 490 
العالم الافتراضي: 598 
العالم الواقعي: 598 
عبد الدائم» عبد الله: 331.313 
عبد الدائم» مصطفى حسن: 325 
عبد الرحمن» طه: 248 214 
عبد العزيز (سلطان المغرب): 51 
عبد العظيم» حسن: 485 
عبد القادر الجزائري (الأمير): 54 
عبد الكريم» زهير: 486 
عبد اللطيف. كمال: 81» 86» 614 


عبد الله ثناء فؤاد: 312-71 320» 
327 


عبد اللهء» على: 481 
عبد الملكء أنور: 46 
عبدلكى» يوسف: 491.487 


عبده» محمد: 234 47« 64112 138- 
141« 163.161« 167-166« 
4 4378 430 


عصر المعرفة المفتوحة: 524 


عصر المعلومات: 0 537 540- 
71 543 551-547 2555 


9 563 
عصر المكتوب: 596 
العصر المملوكي: 286 
عصر الميتا - مثقف: 597 


عصر النهضة: 133-127» 137- 
139« 145« 148« 1614149« 
208« 375-373« 516« 529« 
532 


العطارء عصام: 493 


العظم» صادق جلال: 161 487- 
8 4494 497« 500 


العظمة» عزيز: 488-487 

العقاد» عباس محمود: 175 

العقد الاجتماعي: 414 

العقل الإسلامي: 46 

العقل البشري: 40 

العقل التداولي التشاركي: 620 22 6 

العقل الحداثي: 203 

العقل الحداثي العلماني العربي: 202 

عقل المصلحة: 271 

العقل النقدي: 34 

العقلانية: 678 116« 170« 433« 
4436 445 


العسكرة: 212 
العصائبية: 50 
العصبية: 40 

عصر الإنترنت: 596 
عصر الانحطاط: 128 


عصر الأنوار (التنوير): 154-152 
199« 285« 374« 4316428« 
449 


عصر التيفي - مثقف: 597 

عصر الثورات: 76 

عصر الثورات الناعمة: 614 

عصر الحداثة: 152 

عصر الراشدين: 218 

العصر الرقمي: 605 

عصر السيبر - مثقف: 597 

عصر الصناعة: 569 

عصر الطباعة: 152 

العصر العباسي: 162 

العصر العثماني: 287 

عصر القائد الإلكتروني الافتراضي: 
597 

العصر الكلاسيكي: 2133 149 

عصر مابعد الهوية: 24 5 

عصر المثقف الإلكتروني: 597 

عصر المثقف عن بعد: 597 


العلوم الاجتماعية والإنسانية: 37-36 
العلوم الإسلامية: 165 

العلوم العقلية: 286 

العلوم النقلية: 286 

العلوي» سعيد بنسعيد: 24» 127 


العلوي» هادي: 7» 189« 208— 
20 214-213 


على بن أبى طالب: 226» 233 
علی» نبيل: 2314 326 
عمارة» محمد: 5152313175 


عمر بن الخطاب: 129» 210« 220 
222« 224« 226« 232 


عمران» أمل: 491 

عمران» حلا: 491 

عمران» رشا: 500 

العمراوي» إدريس: 130 

العمل الحزبي: 353» 367 

العمل السياسي الثوري: 415 

العمل العربي المشترك: 320» 327»› 


332-331 
العمل الفكري: 326 
العمل القطري/ الوطني: 327 
العمل المشترك: 2362 417 
عمليات صيد الساحرات: 212 


العنانى» خليل: 4312 4313 315+ 
7 327 


العقلنة: 75 

عقيدة تفوق الجنس الآري: 51 
العلاقة بين الدين والدولة: 88 
العلاقة بين الفقيه والمثقف: 178 
علاقة الدين بالسياسة: 80» 366 
علاقة المثقف بالسلطة: 22 


علاقة المثقف العربي بالجمهور: 22» 
27 


العلاقة مع الآخر: 448 

علم الاجتماع الثقافي: 310 
علم الاجتماع السيبراني: 540 
علم اجتماع مابعد الحداثة: 595 
علم اجتماع المعرفة: 310 


علم تأصيل الكلمات Etymologie)‏ 
291 


علم الكلام: 134-133 


العلمانية: 2729-78 167» 2193 373» 
1 4194 


العَلمائية التنويرية: 345 
العّلمانية القطاعية: 470-469 
علمانية النظام (سورية): 486 
العَلمئة: 163» 379 

العلموية: 459 

العلواني» طه جابر: 316, 328 
علوش» كندة: 496 


عيسىء راشد: 490 

العيسى» يعرب: 490 

العيش المشترك: 2360 366-365 

ع 

غارودي» روجيه: 264.192 

غاليلي» غاليليو: 294 

غاندي (المهاتما): 4712179 

غرامشيء أنطونيو: 45. 2.109 153» 
157-155« 179« 196« 256« 


«462-461 457 2 5 
586 «567 


الغريانى» الصادق: 239 

الغزالى» أبو حامد محمد بن محمد: 
0 » 153 2163 166غ 170« 
9 515 562 


الغزو الثقافى: 583561 

غضية» محمد: 18 

غلیون» برهان: ۰78 196۰188-187« 
4198 315, 433343314318 
479-478 482(« 4484 487« 


«605 ,529-528 01 4 
630 


الغنوشي» راشد: 176-175» 180» 
354« 515 

غوتنبرغ» يوهان: 569 

غوته» يوهان فولفغانغ فون: 120 

غورباتشوف. ميخائيل: 415 


668 


العنف: 39» 44 1 5 62ء 321.247 
8 487484 


العنف الاجتماعي: 246 
العنف الاستعماري: 53 
العنف الاقتصادي: 246 
العنف السياسي: 246 
العنف الطائفي: 474 
العنف الفكري: 246 
العنف المادي: 418 
العنف المذهبي: 246 
العهود الدولية لحقوق الإنسان: 179 
العواء محمد سليم: 175 
عوام ja‏ : 494« 496 
العودة» سلمان: 388 


عودة المثقف إلى الساحات العمومية: 
67 


العرلمة: 22. 44. 64 199« 206« 
6 590 


عولمة الاقتصاد: 76 
العولمة الإلكترونية: 109 
عولمة الفكر والعلم: 587 
عولمة المجتمعات: 549 
عولمة وسائل الاتصال: 520 
عويدات» حسين: 498 
عيد» عبد الرزاق: 487 


فرودي» فرانك: 156 

فریکر» میراندا: 27 5 

الفساد: 39» 419 625 

الفساد الاقتصادي: 572 

فساد السلطة: 247 

الفساد السياسي: 572 

الفساد المالي: 530 

الفصل بين الدين والسياسة: 139 
الفصل بين السلطات: 94ء 97ء 195 
فصل الدين عن الحياة العامة: 380 
الفصل العنصري: 212 

الفضاء السيبراني: 2539 548-545 
فضل الله» محمد حسين: 166 

الفقر الثقافي: 28-527 5 

الفقه: 133 

الفقه الحنبلي: 231 

الفقه السياسي الشيعي: 356 

فقهاء السلطة: 2236 239 

الفقهاء المعاصرون: 236 

الفقيه: 178» 2212219-218» 2244 


-392 388-387 381-380 
393 


الفقيه التقليدي: 433-431 

فكر الآداب السلطانية: 516 

الفكر الإسلامى: 2148 165-164« 
170-169 


الفكر الإسلامي التقليدي: 177 


غوفمان» إرفينغ: 569 594 
غونكورء إدمون دو: 257 
lun‏ خوان: 45 
غياب الفلسفة: 168 
غياب المثقف: 586 
غيدنز» أنتوني: 83» 570 
غیرفیتش» جورج: 541 
- ف - 
الفارابي» أبو نصر محمد بن محمد: 590 
الفاسي» علال: 47» 138-137 141 
الفاسي» محمد الطاهر: 130 
الفاشية: 212 513٠418‏ 
الفاعلون الجدد: 545 
فانون» فرانز: 22» 53 
الفجوة الرقمية: 547 
الفجوة المعرفية: 325 
الفرانكوفونية: 56 
فرجاني» نادر: 314 
الفردانية: 189 
فرزات» علي: 487» 491» 494 
الفرس: 129 
فرنسا: 34« 51« 54« 116» 151» 
254« 262-261« 273« 291« 


«530 “489 4426 4417 407 
552 


الفكر الكولونيالي: 517 
الفكر اللاتاريخي: 114 
الفكر الليبرالي: 131 

فكر مابعد الحداثة: 675 203 
الفكر المغترب: 180 

فكر المواطنة: 516 

الفكر النهضوي العربي: 614 
فكرة الثورة: 72 

فكرة الحرية: 99 

فكرة الدولة السيدة الراعية: 276 
فكرة #المستبد العادل4: 466 
فكرة نهاية الثورة: 75 
فلسطين: 2277 405 553 
الفلسفة: 169. 201-200 
الفلسفة الإغريقية: 161٠107‏ 
الفلسفة السيبرانية: 547 
الفلسفة الغربية: 203 

فلسفة مابعد الحداثة: 71 
فلوبير» غوستاف: 257 
الفليبين: 360 

فليحان» ريم: 490-489 
الفن الافتراضي: 585 
فواخرجي» سلاف: 486 
فورء فليكس (الرئيس الفرنسي 1895- 


254 9 


670 


الفكر الانتقائي: 114 

الفكر الإنساني: 194 

الفكر الأوروبي: 429 458 
الفكر الأوروبي الحديث: 434 
الفكر التقليدي السلفي: 114 
الفكر التنويري: 285» 345 
الفكر التنويري النقدي: 112 
فكر الحداثة: 212203 
الفكر الديني التقليدي: 433 
الفكر الديني العربي: 202 
الفكر السلفي الجهادي: 493 
الفكر السياسي: 220, 505 
الفكر السياسي العربي: 532 


الفكر العربى: 24« 72ء 74« 111« 
117« 129-127« 133« 149« 


«345 4214 420141934157 
632 614 8 


الفكر العربي الإسلامي: 133» 137- 
138« 149-148 


الفكر العربى المعاصر: 9 74< 110« 
475۰131118 


الفكر العلماني المعاصر: 174 
الفكر الغربي: 113» 1997 
الفكر الفلسفي الحديث: 169 
الفكر الفلسفي اليوناني: 161 
الفكر القومي: 320-319 


قباني» نزار: 479 

قبول الآخر: 412 

قبول الاختلاف: 362 
القبيلة: 312 

القذافي» معمر: 239: 382 
القراءة الطباقية: 53 


قرار تقسيم فلسطين (1947): 507- 
8 513 


القرضاوي» يوسف (الشيخ): 2.80 
163« 237« 241« 389-388 

القرون المظلمة: 285 

قسطون. وائل: 496 

القصرين (تونس): 572 

قضية الإصلاح الديني: 25 


قضية دريفوس (1898): 2018 151- 
2 270 343 3744348« 
402: 4426 4434 605 


«405 463 455 الفلسطينية:‎ à 23h 
418 


قضية الهوية: 83» 87» 98» 366 
قطاع غزة: 59 

قطب» سید: 1754166 
القطرية: 320 

قطنا: 482 

القطيعة الثقافية: 108 

القطيعة مع الدين: 205 


فوضى الاجتهاد: 247 
الفوضى الخلاقة: 384» 407 


فوكوء ميشيل: 436 44« 107« 109« 
199« 4348 4410 464« 517« 


590 


فوكوياماء فرانسيس: 260 610 

فولتير» فرانسوا ماري أرويه: 219 160» 
1 293 348 

فويرباخ» لودفيغ: 36 

فياض»ء نبيل: 2482 5 486-48 


«179 «158-156 «45 : SU فيبر»‎ 
-426 «416 «414 189-188 
605 «427 


الفيبرية: 529 
فئة «رجال الكلمة»: 428 
فیخته» یوهان غوتلیب: 153-152 
الفئوية: 320 
ق 
قابل» أحمد: 178 
القادر بالله (الخليفة العباسي): 219- 
220« 233 
قاشوش» إبراهيم: 494» 496 
القاضي» بسام: 482 
القانون الدولي: 89» 508-507 513 
القاهرة: 168 
القائم بأمر الله (الخليفة العباسي): 232 


كارتر» جيمي: 61 

-179 .153-152 توماس:‎ LYS 
180 

كاستلزء مانويل: 21 5» 610 

کالاس» جون: 19 

كالكوتا: 168 

كاموء ألبير: 222 53 


کانط» إيمانويل: 40« 120« 170« 
6 526 


الكتاب الأبيض حول الشباب (1967) 
(تقرير سنوي للحكومة الفرنسية): 
349 

الكتلة التاربخية الجديدة: 567 

الكتلة التاريخية القديمة: 567 

كديور» محسن: 179-178 

الكرامة: 423 28« 67« 4365 1368« 


«417 «412-411 398 3 
505 .502 «419 


کرمان» توکل: 616 

کروغ» غراي: 80 5 

كريم» فوزي: 5 46 

كسابء. إليزابيث سوزان: 521 
کشك» محمد جلال: 175 

كلاين» نعومي: 627 

كليطوء عبد الفتاح: 48 

كليفرنخاء رودولف: 19 

كليمنصو. جورج: 374 

كمال» مصطفى (أتاتورك): 259 162 


قم (إيران): 469 

قناة الجزيرة: 499» 26 6 

قناة أورينت الإعلامية: 494 

قواعد البيانات: 544 

القوة الصلبة: 551052 

القوة الناعمة: 652 551 

القوة الناعمة الذكية: 607 

القومية: 319 

القومية العربية: 444 

القوميون العرب: 351 

القوى المضادة للثورة: 356› 358 

القيم الإسلامية: 327 

القيم الإنسانية: 271 

قيم التغيير: 20 

القيم الثقافية: 631 

قيم الحداثة: 20, 223 2161٠69‏ 389› 
3 469 


قيم حقوق الإنسان: 506 
القيم الديمقراطية: 445 


القيم الدينية: 327 
القيم في المجال الثقافي الإسلامي: 
132 
قيم الوطنية العراقية: 468-467 
ع لقت 


كابرال» أميكار: 52 
کارادیتش» رادوفان: 180 


اللاوعي الثوري: 574 

اللاوعي الجمعي: 506 

اللائكية: 447 

لاثكية الدولة والمجتمع (تونس): 88 
لينان: 51, 319› 5536360333 
لبيب» الطاهر: 2305 335»› 568: 590 


لجان إحياء المجتمع المدني (سورية): 
479 


لجان التنسيق المحلية (سورية): 483 
اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي 
آسيا (الإسكوا): 558 

- مبادرة المحتوى العربي: 558 
لجنة الخمسين (مصر): 95 
لحام» درید: 466 
اللعبي» عبد اللطيف: 50 
اللغة العربية: 56» 286 288» 295 
لندن: 479 
لواء التوحيد (سورية): 493 
اللوبيات الافتراضية العالمية: 573 
لوثر كينغ» مارتن: 471 
لويسء برنارد: 1 6» 267 


الليبرالية: 266« 4331 414« 447« 
460« 478 


ليبيا: 239» 4332 4382 457« 4871« 
3 624 629 


ليفىء بيار: 2607 613 


الكنبوري» إدريس: 28ء 423 
الكنيسة: 22ء 34ء 192 373 
الكواري» علي خليفة: 317» 322 
الكواكبي» عبد الرحمن: 34» 137- 
8 141« 378« 510-509« 
525 

كوثراني» وجيه: 512 
الكوفة: 116 
كوفمان» غوردون: 200 
كومونة باريس (1871): 257 
كونت» أوغست: 307 
الكويت: 351:59 
كيث. ألكسندر: 552 
الكيلاني» شمس الدين: 29ء 473 
كيلة» سلامة: 494 
كيلسن» هانس: 366 
كيلو» ميشيل: 487: 494 498 
كيناي» فرانسوا: 291 
كييرنان» فيكتور: 58 

ال 
لابويسي» إیتیان دو: 1 5 
اللاتمدن: 204 
اللادينية: 393 
اللاذقية: 486 
اللامنتمي: 446 
لانير» جارون: 544 
لاهوت السيطرة: 192 


مبدأ المصلحة: 278 

مبدأ المواطنة: 435 

المتخيل الديني والثقافي: 85 

المتدين» عبد اللطيف: 217425 
المثاقفة مع الغرب: 379 

المثقف الإسلامي: 24ء 2139 151« 


«178-177 169 7 3 
492 4346 4182 «4180 


المثقف الإسلامي الثوري: 443 


المثقف الإصلاحي: 2 2.430 432- 
4 438 443 


المثقف الأصولي: 442 

المثقف الافتراضي: 605 

المثقف الأميركي: 260» 273 398 
المثقف الأميركي اللاتيني: 435 
مثقف الإنسيكلوبيديا الفرنسية: 26 
مثقف الأنظمة وأجهزة الأمن: 39 
المثقف الأنموذج: 266 

مثقف الأنوار الباريسي: 276 
المثقف الأيديولوجي: 567 
المثقف - البطل: 180-179 
المثقف التابع: 467 

المثقف التبشيري: 20 

المثقف التحديثي: 3 39 

المثقف التقليدي: 25ء 153« 156« 


«621612604567 181 
632 .626 


یفی - شتراوس» کلود: 204 299» 
350 


ليكلرك جيرار: 38 
لينين» فلاديمير إيليتش: 60» 196 
لیوتار» جان فرانسوا: 76» 5704547« 
586 
ھچ 
مابعد الحداثة: 236 77-75« 595« 
4 629 
مابعد الربيع العربي: 6246622-61 


ماركسء كارل: 236-35 2160 264» 
4 402 457 


الماركسية: 74« 256« 443-442« 
529 


مارکوزه» هربرت: 586» 592 
المازقي» صالح: 574 

ماقبل الحداثة: 158 166» 390 
ماك غان» جيمس: 275 

ماك فيغ» سالي: 200 

مالك» شارل: 6507 513 
مانديلاء نيلسون: 2179 360-359 


الماوردي» أبو الحسن على بن محمك: 
55 134 4218 235-220 


مبارك» حسني: 237» 382 

مبدأ الإجماع: 0 222-221 

مبدأ الالتزام: 47 

مبدأ «التدخل الدولي لأغراض إنسانية»: 
50 


المثقف السلفى: 433-430 


المثقف السوري: 29, 476-473« 
480-479« 487« 502-501 


المثقف السياسى: 581 

المثقف السياسى القومى: 2 49 

المثقف السياسى اليساري: 492 

المثقف السيبرانى: 230 575 

المثقف الشبكى: 2 2537631-30 
2543-0 2545 548-547« 
0 555 564-562 604- 
5 2608-07 4620 622« 
626-624 630-628› 632 

المثقف العالمى: 40 

المثقف العام: 152 

المثقف العام السياسي: 5 47› 483 

المثقف العراقى: 9 461 463- 
465 

المثقف العربى الحداثى: 206 

المثقف العربى الحديث: 348 

المثقف العربي الملتزم: 392 

المثقف العضوي: 3122› 35 7109- 
0 53 157-155 179« 
181, 4196 4266 402,375« 


«567 «520 .460 4457 «436 
586 


المثقف العلمانى: 2160 171» 346« 
443 


675 


المثقف التقليدي النمطي: 430 590 
المثقف التكنو - شبكى: 30» 543- 


4 556-555 
المثقف الثوري: 71ء 74ء 266» 352 


المثقف الثوري - شبكي: 230 6545 
4555 559« 561 


المثقف الجديد: 605 

المثقف الجماعي: 613 
المثقف الجماعي الشبكي: 622 
المثقف الجماهيري: 444 


المثقف الحدائى: 199» 213 371» 
373« 382-380« 4387 443 


المثقف الحديث: 19» 28» 160- 
1 163 425 429 441- 
442 


المثقف الحر: 352 

المثقف الحزبي: 461 491 
المثقف الحزبي اليساري: 493 
المثقف الحقيقي: 180 
المثقف الخبير: 21 

المثقف الدولتي: 467 


المثقف الديمقراطى: 423 435 69« 
98« 478 


المثقف الدينى: 31 442-441 
المثقف الرسالى: 268 
المثقف الرقمى: 611605 


المثقف الملترم: 64157 261 266« 
586 


المثقف المناضل: 615 

المثقف المنعزل: 613-612 

المثقف الميداني: 604 

المثقف الناشط: 605 

المثقف الناشئ (الميتا - مثقف): 567» 


«582-581 2577-575 1 
598-596 2591-0 


المثقف الناصري: 492 

مثقف النظام: 485 

المثقف النقدي: 406 2 46 

المثقف النقدي الحديث: 222-21 29» 
1 35 


المثتقف النمطى: 30« 266« 567« 
4571-0 575 581« 588- 
9 597-596 


المثقف النهضوي: 6 228 285« 
450 


مثقف «الهامش»: 276 


المثقف 53581 3 225 269 98« 
2253-71 256-255 258- 
9 2268-5 2273 277- 
278 


المثقف الورقى: 607 611 
المثقف الويكى شبكى: 30« 555 


561 4558-557 


مثقفو الاستبداد: 522 


المثقف العلمانى الجديد: 152 


المثقف العمومى: 9 358 405- 
46 


المثقف الغربى: 3» 2.138 2348 
517« 627 


المثقف الفرنسى: 2 26. 457 
المثقف الفقيه: 21 6 
المثقف/ الفيلسوف - الشبكى: 547- 


548« 4555 562-561 
المثقف الكلاسيكي: 543-542 
المثقف اللادولتي: 457» 468 
المثقف اللاشبكي: 540 542 


المثقف الليبرالى: 391» 434-431ء 
437-436 


المثقف الليبرالي العربي: 435 
المثقف الماركسي: 391 
المثقف المتصل: 613 
المثقف المثالي: 182 
المثقف المجتّد: 437 
المثقف المحافظ: 39 
المثقف المحمول: 561 
المثقف المخلص: 72 

مثقف المسرح السوري: 490 
المثقف المغربي: 114 
المثقف المغير (الناقد): 458 
المثقف المفكر: 355 


المجال العام (العمومي): 22 36-33» 
68 575 

المجتمع الاستهلاكي: 596 

المجتمع الإسلامي قبل الحداثة: 159 


المجتمع الافتراضي: 539-538« 
3 546 548 554 561- 
3 581 


المجتمع الأميركي: 273 357 

المجتمع الأهلي العربي: 319 

المجتمع التداولي: 596 

المجتمع التونسي: 117 577 

6571 لمجتمع التونسى مابعد الثورة:‎ ١ 
577 

المجتمع الخيائلي: 548 

المجتمع الدولي: 331319-318 

المجتمع الدولي الأكاديمي: 405 
والاجتماعية: 6311 628 

مجتمع الرفاه: 593 

المجتمع السياسي: 353-352» 366 

المجتمع الشبكي: 538 

المجتمع العربي: 2195 312-311« 


629 «624 4392 ,320 


المجتمع الغربي: 553 


مجتمع مابعد الحداثة: 7 609 


مثقفو الثورة العربية: 574 

مثقفو الثورة الفرنسية: 2206 457 

مثقفو الحداثة العربية: 373-371« 
379« 383-382« 385« 393 


مثقفو الدعاية: 357 

مثقفو الدولة: 39 

مثقفو ربيع دمشق: 479 

مثقفو السلطة: 239 2114 2262 528 
مثقفو عصر النهضة الأوروبية: 398 
مثقفو اليسار الديمقراطي: 494 
المثقفون الإسلاميون الليبراليون: 178 
المثقفون غير الأيديولوجيين: 465 
المثقفون الفوضويون: 35 

المثقفون المصريون: 113 

المثقفون المغتربون: 22 

المثقفون المنفيون: 22» 35 


المثقفون اليساريون: 35« 3524199« 
5 443 499 


المثقفية العربية: 196-194« 198- 
199« 205« 211« 213 


المثقفية الغربية: 201» 207 
المثقفية في أوروبا: 195 
المجال الحيوي: 51 

المجال السياسي: 2244 247 


المجال السياسي العربي الإسلامي: 
219 


مجلة سوريا بدا حرية (سورية): 496 
مجلة شبابلك (سورية): 490 
مجلة غرافيتى (سورية): 496 
مجلة «المجاهده التقنية الإلكترونية: 
555 
مجلة المستقبل العربى (لبنان): 26» 
310-308« 330 
مجلة المئار: 431 
مجلس الاتحاد الأوروبي: 556 
- البروتوكول الإضافي لمعاهدة 
تجريم التمييز العنصري وكره 
الأجانب في الفضاء السيبراني رقم 
9 (2003: ستراسبورغ): 556- 
557 


- معاهدة جرائم الفضاء السيبراني 
رقم 185 (2001: بودابست): 556 


292-291 
المجلس الأعلى السوري اللبئاني: 319 
المجلس الوطني السوري (اسطنبول): 


493-492 ,485-484 2 


المجموعات الافتراضية المضادة لتيار 
ثورة 17 شباط/ فبراير فی ليبيا: 
630 

مجموعة المسلمين التقدميين فى أميركا: 
177 

محاربة الفساد: 620 

المحاصصة الإثنية: 366 


678 


مجتمع مابعد الخيال: 548 


المجتمع المدني: 45 58 23 76- 
77« 4111 276 2324 352- 


-403 399 366 603 
«466 «418-417 «415 «405 
«561.527 «494 «471-470 

608 551 5 


المجتمع المدني التطوعي: 353 

المجتمع المدني العالمي: 520 

المجتمع المدني العراقي: 471 

المجتمع المدني العربي: 575 

مجتمع المعرفة: 44» 597» 610 

مجتمع المعرفة الرقمي: 612 

مجتمع المعلومات والاتصال: 541- 
542« 582 


المجتمعات الحديثة: 584-583 
المجتمعات الشمولية: 358 


المجتمعات العربية: 299 190« 310« 
2320-3192 3276325- 
09 8 578 583 


المجتمعات الغربية: 629 
مجتمعات مابعد الحداثة: 541 
المجتمعات المتقدمة: 311 
مجلة الأزمنة الحديثة: 257 
مجلة أوكسيجين (سورية): 496 
مجلة تمرد (سورية): 496 
مجلة الثائر السوري: 496 


مدرسة فراتكفورت: 2466 593-592 
مدرسة كامبردج: 427 

المدني» محمد نمر: 495 

المدنية: 130-129 


المدونات الخاصة :(Blogs)‏ 576« 
9 4606 617 


المدينة الافتراضية: 539 

المدينة العربية: 195 

المدينة العربية الإسلامية: 116 
المذهب الحنبلي: 231 

المذهب الشافعي: 220ء 231 
المذهبية: 320 

المرأة في الإسلام: 177 

المراش» فرانسيس: 34 

مراكز الخبرة والتفكير (كلهذ؟ عادنط1): 


26« 271-267« 279-273 
مراكز صناعة الرأي العام العالمي: 274 
المرجعية الإسلامية: 91 

المرجعية الثقافية الإسلامية: 133 
مرحلة الاستقلال الوطني: 434 
مرحلة مابعد الثورات العربية: 91 
المرزوقي» أحمد: 522 

المرزوقي» منصف: 354 


مرسى» محمد: 238-237« 240« 
6 553 


المحاصصة الطائفية: 366 

المحاصصة القبلية: 366 

المحافظون الجدد: 61250 

المحتوى الرقمي العربي: 559-558 
محسن» مصطفى: 313 

محفوظ» نجيب: 56 

المحكمة الدستورية العليا (مصر): 95 
محكمة العدل الدولية (لاهاي): 58 
محمد أسامة: 490» 496 

محمد الخامس (الملك المغربي): 115 


محمد (رسول الله): 193-192 209- 
213,20 


محمد السادس (الملك المغربي): 54 


محمد على باشا (والى مصر): 57» 
6 4162« 4165 283 


محمد هالة: 486 

محمود الثاني (السلطان العثماني): 162 

محمود» مصطفى: 175 

محو أمية الإنترنت: 560 

محور الشر: 50 

مخيم تل الزعتر (لبنان): 478-477 

مدراس (الهند): 169 

مدرسة بالو ألتو: 594 

المدرسة السلفية: 131 

مدرسة علم الاجتماع الفرنسية: 6261 
263« 278 


المسيح: 4 193-192« 208« 
213 


المسيحية: 87» 193-192 

المسيري» عبد الوهاب: 392-391 

المشاركة الشعبية: 472 

المشاركة المجتمعية: 21 

المشاركة النسائية في عملية التغيير: 616 

المشرع الإسلامي: 179 

المشرق العربي: 362 

مشروع الحداثة العربية: 460 

المشكلة الأفغانية (1979): 333 

المصادر الشبكية: 604 

283 «241 «238 «94 «57 : as 
«383-382 «333 «331 «284 


488 «481,457 412-411 
528 «519 


المطبعة: 429» 569 

مطر غياث: 484, 492 

مطلب تقرير المصير: 89 

المطوع» محمد عبد الله: 317 

المطيري» حاكم: 241 

المعارضة السورية: 630 

المعاهد الإلكترونية: 611 

معاهدة وستفاليا (1648): 530 

معاوية بن أبي سفيان: 221-220« 
226« 233 


المعتزلة: 219 


مركز الجمهورية للدراسات (سورية): 
46 


مركز دراسات الوحدة العربية: 382 


- حلقة «المثقف والربيع العربي» 
(2013: پیروت): 382 


المركز العربى للأبحاث ودراسة 
السياسات: 363 


- مؤشر الرأي العام العربي (2012- 
3 3673 


- مؤشر الرأي العام العربي (2014): 
363 


مركز فجر للوعلام: 555 

مركز كارنيغي للشرق الأوسط: 446 
المرنيسيء فاطمة: 48 

مروة» حسين: 245 458 

المساءلة والمحاسبة: 78 

مسألة الخروج على الحاكم الشرعي: 


236« 242-241 
مسألة الخروج على الحاكم الظالم: 
236 


المساواة: 192» 2104208 
المستشرقون: 46ء 164 
مسرح الثورة الحر: 490 
مسعود» غسان: 486 
المسكيني» فتحي: 84 
مسلمو البوسنة: 180 


مقهوم الاتصال: 569 
مفهوم «الإسلامية»: 76 
مفهوم الإصلاح: 74 


مفهوم تجسير الهوة بين المثقف 
والسلطة: 20 


مفهوم التغلب: 247 

مقهوم التقدم: 108 

مفهوم الثورة: 74 

مفهوم «الدور الاجتماعي»: 258 

مفهوم الدولة: 77» 448 

مفهوم السلطة في الإسلام: 625 217 

مفهوم «الطاعة والجماعة»: 246 

مفهوم المواطنة: 355 

مفهوم نهاية المثقف: 21 

المفهوم الوطني للدولة: 435 

مفهوم الوطنية: 108 

مقاربات مابعد الحدائثة: 206 

المقدس: 154-153 

مقدسيء أنطوان: 502 

مقولة «استقالة المثقف من قضايا 
المجتمع؟: 67 


مقولة «الخيار الاستراتيجي؟: 608- 
609 


مقولة «غياب المثقف»: 71-70 
مقولة «القابلية للثورة»: 614 


المعتصم بالله (الخليفة العباسي): 219 
معتوق» فريدريك: 26» 283 

المعرفة: 2314 326 

المعرفة الدينية: 2176 2 618 219 
معركة صفين (657): 173-172 
معركة ميسلون (1920): 486 
المعري» أبو العلاء: 49 

المعصراني» وصفي: 490 

معلوف» أمين: 81655 


المغرب: 14254 01 5- 
527,523 


المغرب الأقصى: 115 


المفكر الإسلامى: 2 145 163- 
4 4166 417741751169 


182-181 

المفكر الحديث: 158 
المفكر العربي - المسلم: 161 
المفكر العَلماني: 163 
المفكر الليبرالي: 132-131 
المفكر النوراني: 171 
مفكرو التنوير: 222 34 
المفكرون السلفيون: 137 
المفكرون العرب: 193 
مفلح» أحمد: 26» 305 


منطق العودة إلى الأصول: 175 

منطق الهوية: 99 

منظمة شباب حزب الاتحاد الاشتراكي 
(سورية): 481 

منظومة حقوق الإنسان: 509-508» 
4519 532 

منظومة القيم الحدائية: 212 

منظومة القيم في عصر النهضة: 133 

المنهج الاستقرائي: 603 

المنهج التاريخي المقارن: 603 

منيف» عبد الرحمن: 519-518 

مهدي عامل انظر حمدان» حسن 
(مهدي عامل) 

مهنة المثقف: 427 


المواطنة: 1 273 848078 86» 
7 409 2.417 2.485 2505 
4511-510 4519 4527 613 


المواطنة الجامعة: 355» 368 

المواطنة الرقمية: 613 

المواطنة المتعددة الثقافات والإثنيات: 
9 91 

مواقع التواصل الاجتماعى: 606« 
615. 4618 624 626 

موت الإبيستمولوجيا: 200 


موت المثقف: 69ء 275 200» 206» 
259-258 


مقولة (نهاية التاريخ4: 609 

مقولة «نهاية الجغرافيا»: 609 

مقياس التأثير: 43 

مقياس الجودة: 43 

4184212 :45 Sal 

مكافحة الإرهاب: 550 

مكانة المثقف: 261 

مكة: 208 

المكتبة الإلكترونية: 612 

المكسيك: 360 

مل» جون ستیوارت: 562 

الملتيميديا: 597 

ملص» أحمد: 491-490 

ملص» محمد: 491-490» 496 

الممارسة الثقافية الافتراضية: 584- 
585 

المماليك: 2134 287» 289 

المنتديات الاجتماعية على الإنترنت: 
572 

منتظري» حسين علي: 178 

المنجرة» مهدي: 45 

منصات التواصل الاجتماعي انظر 
مواقع التواصل الاجتماعي 

منصوري» ندیم: ۰30 37 5 


منطق التسوية: 97 


مونتسكيوء شارل لوي دو سيكوندا: 


293 «291 

الميتا - مثقف انظر المثقف الناشئ 
(الميتا - مثقف) 

ميدان التحرير (مصر): 389 

الميدياقراطية: 563 


19 أوكتاف:‎ € sl 
257 مير لوبونتي» موريس:‎ 

sue 
3794286451 : > LL 9 0 LU 
406 نابولي:‎ 
517 »212 النازية:‎ 
167 الناشط الإسلامي:‎ 
615 2546 الناشطون الإلكترونيون:‎ 
49 2 الناصرء خالد:‎ 


الناصريء أبو العباس أحمد بن خالد: 
134« 138 


الناصرية: 437 

ناي» جوزف: 52 

نتنياهوء بنيامين: 61 

نخب الإنترنت: 596 

النخب البيروقراطية المثقفة: 198 
النخب الحاكمة: 73 

النخب السورية: 0 48 

النخب العراقية: 467 

النخب العلمانية: 91 


موت المثقف الأيديولوجى: 582» 
6 597 


مؤتمر المستشرقين (1905: الجزائر): 
139 


المودودي» أبو الأعلى: 166» 174- 
175 


الموروثات الثقافية: 292 
مؤسسة الفكر الأمير «The Heritage a‏ 
:Foundation»‏ 271 
موسوعة كامبردج للتاريخ: 89 
موسوعة ويكيبيديا: 557 
موسوليني» بينيتو: 256 
موسىء سلامة: 378 
الموصل: 232 
موقع «إخوان أون لاين»: 553 
موقع (إخوان تيوب»: 554 
موقع اإخوان فايسبوك؛: 554 
موقع «إخوان ويب»: 553 
موقع #إخوان ويكي»: 554 
موقع تويتر: 2606 4617 26 6 
موقع «الدعوة»: 552 


موقع الفيسبوك: 2606 615 617« 
626« 630 


موقع الويكي: 606 
موقع اليوتيوب: 606 


مولى» علي الصالح: 251٠225‏ 


نظرية القطيعة: 117 

نظرية المعرفة: 200 

نظرية المؤامرة: 57» 70 
نظرية النشوء والارتقاء: 108 
نعمان» عصام: 319 

نعيسة» نضال: 486 

النعيم» عبد الله: 516. 518 
نعيمي» مصطفى: 287 
نقاش» جيلبير: 522 


نكبة فلسطين انظر الحرب العربية - 
الإسرائيلية (1948) 


النمرود بن كنعان: 193 

نمط الإنتاج الرأسمالي: 428 
النمو الفكري: 307 

النمو اللامتكافئ: 55 

نهاية الأيديولوجيا: 69: 200:75 206 
نهاية التاريخ: 69» 75 

نهاية الثورة: 75 

نهاية السرديات الكبرى: 71 

نهاية السياسة: 69 

نهاية المثتقف انظر موت المثقف 
النهضة: 70ء 78 

النهضة الإسلامية: 172 


(La Renaissance) النهضة الأوروبية‎ 
373 «283 


النخب المعارضة: 73 
النخبة الثقافية العربية: 197 428 
النخبة السياسية العربية: 428 
النخبة المدينية العربية: 429 
النزعة القبلية: 629 

النساء اليمنيات: 616 
النسبية الثقافية: 528 

نسق القيم الحديث: 459 
النص الإلكتروني: 596 
النص الديني المقدس: 430 
نصارء جمال: 553 


نظام الأسد (سورية): 239-238» 365» 
479 


النظام الإقليمي العربي: 312 
نظام البعث (العراق): 466 
نظام الحماية الفرنسية على المغرب 


)1912(: 51 
النظام العالمي الجديد للمعلومات 
والإعلام: 549 


النظام العربي: 2318 320 

نظام الفصل العنصري: 361-360 
النظام النيوكولونيالي: 2514 517 
نظرية الخلافة: 26 2227-2 244 
نظرية العلم: 200 

نظرية الغرس: 590 

نظرية الفوضى الخلاقة: 50 


الهويات الدينية: 359 
الهويات الطائفية: 417 
الهويات القبلية: 4174359 
الهويات اللغوية: 359 
الهويات المتعددة: 359 
الهويات المتنازعة: 365 
الهويات المتنافسة: 98 
الهويات المحررة: 64 
الهويات المذهبية: 417 


«87 )85-84 «82-80 «27 :à sgh 
«448 217.100 96 ۰90-89 
5154512506 


الهوية التجزيئية: 369 

الهوية السياسية والاجتماعية للمجتمع 
العربي الإسلامي: 159 

الهوية العالمية: 540 

الهوية العالمية الإلكترونية: 544 

الهوية العربية: 2,526 2557 2559 562 

الهوية العربية الإسلامية: 97 

هوية المثقف: 372-371 

الهوية المحلية: 540 

الهوية المركزية: 83 

هوية مصر: 287 92 

الهوية الوطنية: 91ء 366 


الهيجمونيا: 22ء 43» 51-50» 53» 
6258-6 63 


النهضة الحضارية الشاملة: 312 


النهضة العربية: 4276 285-284« 
299 


«160120449436 : él ji 5 نيتشه»‎ 
525.414 


SE 
595-594 هال» إدوارد:‎ 

هبرماس» يورغن: 200» 526 575 
هتلرء أدولف: 57 


هزيمة عام 1967 انظر الحرب 
العربية - الإسرائيلية (1967) 


هزيمة كارلويتز (1699): 287 

همام بن يوسف بن أحمد (شيخ العرب): 
136 

هنتنغتون» صامويل: 261-59 80 

174:1714168-1674158 :xgll 

الهواجس الهوياتية: 92 

هوبز» توماس: 590 

هوبزباوم» إريك: 76 

هو ركهايمر» ماكس: 0517 592 

هوغوء فكتور: 155151 

الهولوكوست: 405 

هوميروس: 286 

هونثء أكسل: 519 

الهووية: 252 

الهويات الإثنية: 359» 467 


وثيقة «العهد الوطني» بين أطراف 
المعارضة السورية (2012: 
القاهرة): 485« 492 


الوحدة الإسلامية: 519 
الوحدة العربية: 97 
الوحدة القومية: 519 


الوحدة المصرية - السورية (1958- 


439 «319 :(1961 

الوحدة المغاربية: 97 

ودودء آمئة: 177 

الوزاني» حسن: 47 

وسائل الاتصال الحديثة: 67» 411» 
521 


وسائل الإعلام: 67 
الوضعية: 459 

الوطنية: 320 

وظيفة المثقف الشامل: 155 
الوعي الاجتماعي: 561 
الوعي الإسلامي: 139 
الوعي الانقسامي: 365 
الوعي التاريخي: 112 
الوعي الثقافي العربي الإسلامي: 130 : 
الوعي الثوري: 574 

الوعي الجماعي: 348 518 
الوعي الجمعي العربي: 341 
الوعي الروحاني: 207 


الهيجمونيا اللينة: 55 

هيرودوت: 50 

هيغل» فريدريش: 402 28 4 

هيكل. محمد حسئين: 2113 175 

الهيمئة الأيديولوجية: 92 

الهيمنة الثقافية: 35 

الهيمنة الهوياتية: 98 

هيئة إدارة أسماء النطاقات والعناوين 
على الإنترنت (آيكان): 557 

هيئة التنسيق الوطني (سورية): 485» 
492« 494« 498 

هيئة الحقيقة والكرامة التونسية: 523 

جو 

واشنطن: 178 

واصف. منى: 489 

الواقع الافتراضي: 580-579 597 

الواقع المجتمعي: 597 

وايمان» غبريال: 554 

وثائق ويكيليكس: 612 


وثيقة «إعلان دمشق للتغيير الوطني 
الديمقراطى» (2005): 480« 
4 491 


وثيقة الألف (سورية): 502.479 


وثيقة الدستور المصري (2014): 93- 
95 


- المادة الخامسة: 94 


ونوسء سعد الله: 2477 497 

ویست» كورنيل: 200 

ويلبر» كين: 203» 207 

ويلز» جيمي: 557 

-دي- 

ياسين» السيد: 476 

ياغي» حسين: 18 

يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (الخليفة 
الأموي): 221-220» 226 

اليسار الجديد: 35 

اليسار العربي: 442 

اليسار العروبي: 190 

اليمن: 332» 2360 457» 554» 624» 
629 


2124209 :5 gl 

اليهودية: 60 158 2193 426 
يوغوسلافيا: 2180 365 
اليونان: 407-406 


الوعي الشعبي: 408 
الوعي العربي: 614 
الوعي الغربي: 198 
الوعي الليبرالي: 435 
الوعي الوطني: 435 
الوعي اليومي: 39 


وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية 
:(CIA)‏ 552 


وكالة الأمن القومي الأميركية: 552 


الولايات المتحدة الأميركية: 259-58 
63-62 470 212« 261« 
2269-8 4272 4357 407« 
486« 494« 4552-5511 555 


ولاية العهد: 240 
ولاية الفقيه: 166 488 
ولد أباه» السيد: 618 
ولسون. كولن: 446 
الولي الفقيه: 180 
وليامزء رايموند: 401 


هذا الكتاب 


يتناول هذا الكتاب عددًا من الأسئلة والإشكالات الأساسية التي تهمٌ المثقف ودوره في 
التحؤلات التاريخية. مثل: أنماط المثقف العربي الحديث والمثقف والتاريخ والتاريخانية 
والمثقفون العرب والتحؤلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية, 
والرمزية والسيميوتيقية الجارية في المرحلة الراهنة من عملية التغيّر الاجتماعي في الوطن 
العربي والعالمء وعلاقة المثقف بالخبير والباحث وأدواره وأخلاقياته وأسثئلة التاريخ ذآت الضّلة, 


وتحؤل المثقف العربي في زمن العولمة والتنميط الثقافي. والإشكالية الأبدية لعلاقة 
المثقف بالسلطة, وتصوّراته ومواقفه وتقاطعاته معها؛ وعلاقة المثقف العربي بالجمهور 
والثورة والنضال من أجل الديمقراطية. فضلًا عن أسئلة كثيرة يطرحها بروز المثقف الشبكيء 
وتحؤلات القيّم والمعنى في عالم متغير 

CIL ETTI E CEE CSET 
الذي عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في مراكش - المغرب (21-19 آذآر/مارس‎ 





المؤلفون المساهمون 

إبراهيم القادري بوتشيش ديدر سعيد علي الصالح مولى 
Cl yo np wall à Nà 3 làa x ai‏ مووق 
إدريس الكنبوري سعيد أقيور ماد دياتني 
امحمد جبرون سعيد بنسعيد العلوي المنجي السرباجي 
بنسالم حميش شمس الدين الكيلاني نديم منصوري 
_2g>‏ لر à ic en wugaail‏ اللظييف المتذيين: Don gg ÿil‏ 
حسن طاق عبدالوهاب الأفندي يوس ف الشويري 


إعداد وتنسيق 
مراد دياني 


السعر:. 26 دولاراآ 


| | Ill | 8 






































المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات 
Arab Center for Research € Policy Studies‏